المحبة
06-08-2003, 11:06 AM
مكارم الأخلاق
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وإنّك لعلى خلق عظيم}، ويقول تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، ويقول سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
لماذا هذا التأكيد في القرآن الكريم على تقديم النبي(ص) إلينا بهذه الصورة، وهو الكامل في كلِّ صفاته كشخصية أخلاقية، تنفتح بأخلاقيتها على مشاعر الإنسان لتحترم تطلعاته في خط الدعوة وفي خط الحياة وفي خط المسؤولية؟ ولماذا كانت الرسالة كلها حركة أخلاق، بحيث يختصر النبي(ص) كلّ الإسلام في مكارم الأخلاق؟
إن هدف الرسالة الإسلامية ـ كما هو هدف الرسالات التي أرسل الله تعالى بها رسله ـ هو أن يعيش الإنسان إنسانيته المودعة في شخصيته في إنسانية الإنسان الآخر، بحيث تحترم إنسانية الإنسان الآخر حتى لو اختلف معك كما تريده أن يحترم إنسانيتك. والأخلاق هي القيمة الإنسانية التي تربط بين الإنسان والإنسان الآخر لتفتح عقله وقلبه وحياته، لأنك عندما تحترم إنسانية الآخر فإن الآخر سوف ينفتح عليك، لأنه يشعر بأنه موجود فيك كما أنت موجود فيه.
أسس العلاقات الأسرية
ولذلك كان الأنبياء والأولياء هم القمّة في المسألة الأخلاقية، التي تجسّدت في بيوتهم مع أهلهم، وقد حدّثنا رسول الله (ص) عن سيرته مع أهله في الحديث المروي عنه: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، لأن النبي(ص) كان يشعر بمسؤوليته في المحافظة على مشاعر أهله الذين يعيشون معه، إن على مستوى زوجاته أو على مستوى الذين ينتسبون إليه، لأنه يعتبر أن العلاقة بالزوجة والأولاد ليست علاقة مالك لمملوك حتى يستغل الإنسان ما يملكه من قوة لاضطهاد الإنسان الآخر وإسقاط إنسانيته، بل هي علاقة إنسان مع إنسان تقوم على أساس التعاقد بينهما كما هي العلاقة الزوجية التي ركزها الله على قاعدة المودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف، وكما في علاقة الإنسان بأولاده، وعلاقة الأولاد بأبيهم، والتي هي علاقة إنسانية، حمّل الله فيها الأب مسؤولية تربية إنسانية أولاده ورعايتها وحمايتها، ولذلك لم يسلّطك الله على أولادك سلطة القوي على الضعيف، وإنما أعطاك الولاية قبل بلوغهم من أجل أن تحوطهم برعايتك، لتمكّنهم من النموّ الطبيعي الذي يجعل منهم رجالاً أو نساءً يشاركون في بناء المجتمع والأمة.
لذلك، أراد الإسلام أن يركّز هذا المفهوم الأخلاقي، وهذا ما نلاحظه في حديث الله تعالى عن العلاقة بين الزوجين: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}، لأنك قد تنطلق من حالة مزاجية تجعلك لا تعرف عنصر الخير في الطرف الآخر، فالمزاج لا يحدد درجة الخير والشر في الإنسان الآخر، لأن المزاج مشاعر، أما مسألة الخير والشر، فإنها تأتي من الدراسة للعناصر الشخصية في الإنسان الآخر، ربما لا يلتقي مزاجك مع شخص ولكنه قد يكون في أعلى درجات الخير، وربما يلتقي مزاجك مع شخص وقد يكون في أعلى درجات الشر، لذلك، فإن القيمة الأخلاقية شيء والمزاج الذاتي شيء آخر، ولذلك لا يمكن أن تجعل حياتك خاضعة لمزاجك، بل تجعل حياتك خاضعة لمعنى الإنسانية في أخلاقك.
الحقوق المتبادلة
وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه حتى في كل مواقعنا، في الحياة العائلية والحياة الاجتماعية وما إلى ذلك، فإذا ما عشت في المجتمع، فإن عليك أن لا تعتبر أنك تمثل الشخصية التي ترى أنه يجب على المجتمع أن يؤدِّي حقوقها، ولا تطلب من ذاتها أن تؤدي حقوق المجتمع، وذلك لأن الحقوق والواجبات متبادلة في كلِّ مجالات الحياة. عندما ندرس خطاب كل من النبي (ص) والإمام عليّ(ع)، فإننا نجد أنه كان يتركز على قاعدة "لي عليكم حق ولكم عليّ حق".. بل أكثر من ذلك، نجد أن الله تعالى ـ وهو إله الكون، ولا حق لأحد عليه لأننا صنعته ـ من رحمته ولطفه، أرادنا أن نقوم بحقه في توحيده وطاعته وعبادته، وجعل لنا حقاً في أن يرزقنا ويرعانا ويلطف بنا ويدخلنا الجنة إذا أحسنّا.
لذلك، فإن الإنسان الذي يعتبر نفسه هو العالم وكل الناس غثاء، هو إنسان يعيش العقدة ويحبس نفسه في زنزانة ذاته من الناحية المادية، لأن الإنسان كلما كان يحمل سمات إنسانية أكثر، كلما انفتح على مسؤولياته في الحياة أكثر، وقد قال النبي (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، بقدر ما تخدم الناس وترعاهم وتتواضع لهم وتعيش معهم كواحد منهم، بقدر ما تكون قائداً ورسالياً، ومن هو أفصل من النبي (ص)؟ رسول الله (ص) كان يعيش مع أصحابه كواحد منهم، لا يميّز نفسه أبداً ، ويقول أحد أصحابه: "كان فينا كأحدنا"، حتى إن القادم إلى النبي (ص) وهو جالس مع أصحابه كان يسأل: "أيكم محمد"؟ ويقال إن النبي (ص) كان سائراً والتقته امرأة فارتعدت لهيبته، فقال (ص): "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد في مكة".
هذا الخطّ الأخلاقي العظيم هو الذي يعطينا الحسّ الإنساني، لأننا بدأنا بفعل السيطرة المادية واعتبار المنفعة والمصلحة والمطامع أساس العلاقات الإنسانية، بدأنا نفقد هذا الحسّ والقيم الإنسانية في علاقاتنا السياسية والدينية والاجتماعية، ووصلنا إلى وضع صار فيه العقل والقلب والإحساس والشعور عملةً، وأصبح تكويننا يدخل في حسابات البورصة لا في حسابات القيم الأخلاقية..
إعادة النظر في القيم الاجتماعية
لذلك، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في قيمنا الاجتماعية، ومن المؤسف أننا بدأنا نربي أطفالنا على هذا الأساس، وافتقدنا ـ كظاهرة ـ في مجتمعنا معنى المحبة، نحن لا نربي بعضنا بعضاً على المحبة بل على الحسابات، أما أن تحبّ إنساناً لإنسانيته فهذا غير وارد، وأصبحنا ننتج الحقد ونعلّم أولادنا على مقاطعة فلان والحقد على فلان، وعندما دخلت الأحزاب ـ كل الأحزاب ـ بدأت تبث ثقافة المقاطعة: لا تتكلموا عن فلان ولا تصلّوا عند فلان، ولا تذهبوا إلى المسجد الفلاني، حتى أصبحنا مجتمعاً يربي الأجيال في المسألة السياسية والدينية والاجتماعية على الحقد، ويدّعي أن هذا الحقد مقدّس، ولا أدري كيف يكون الحقد مقدّساً؟
إن مجتمعنا يتخبط في مشاكل لا عدّ لها ولا حصر، ادرسوا كل الواقع من حولكم لتجدوا من منا يعيش الراحة في هذا المجتمع، والمشكلة أن هذه التعقيدات الداخلية المتعبة تنعكس على تخطيط الآخرين ضدنا. الآخرون في كل جامعاتهم يدرسون بشكل واسع وعميق عادات الشعوب وتقاليدها والعلاقات بين بعضها البعض، واختلاف الأديان والمذاهب والخطوط السياسية، ويقدّمونها كدراسات من خلال اختصاصيين، ليقدّموا هذه الدراسات إلى المخابرات لتعرف كيف توسّع الثغرة بين الناس لتزيد من الحقد الطائفي والمذهبي والحزبي، حتى أصبحت القضايا تتصل بقضايا الاستقرار والحرية ومواجهة الاستكبار العالمي ضد الأمة.
وفي العودة إلى الفترة الماضية، نلاحظ كيف كانت أوضاعنا في لبنان، وكيف عشنا الحقد الطائفي والمذهبي والسياسي، حتى كان الصغير والكبير يفكّر كيف يقتل الآخر، وأنا أذكر في أيام الحرب كيف كان بعض الصبية يأتون ليأخذوا الفتوى في قتل فلان وتفجير المحل الفلاني. إن هذه الثقافة شملت كل شرائح المجتمع وطوائفه، فمن أين جاء هذا الواقع؟ جاء من خلال الذهنيات التي تحاول أن تنتج الحقد في الناس، بحيث نحاول دائماً أن نبحث عن الفواصل التي تفصل بعضنا عن بعض لا عن الجوامع التي تجمعنا، ومن الطرائف أن بعض الناس المتعصّبين ـ عند السنّة والشيعة ـ يقول "إن السنّة عندهم إله غير إلهنا ونبيّهم غير نبيّنا"، وبعض آخر يقول إن الشيعة مشركون وما إلى ذلك، أما مواضع اللقاء فإننا لا نبحث عنها، والله تعالى علّمنا كيف نتعامل مع أهل الكتاب، وهل اليهود والنصارى في عقيدتهم أقرب للشيعي من السنّي، أو للسنّي من الشيعي، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}.
التدرب على إنتاج المحبة
إنّ علينا أن نتعلّم من القرآن الكريم ومن النبي (ص) ومن أهل البيت(ع) الذين قد نختلف مع السنّة على حسابهم، مع أنهم (ع) روّاد الوحدة الإسلامية، فهذا الإمام عليّ (ع) ـ وهو صاحب الحق الشرعي ـ نرى أنه عاون الخلفاء الذين تقدّموه وأعطاهم النصيحة والمشورة وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"..
أيها الأحبة: إنكم تتدربون على كثير من المهن وعلى حمل السلاح، فما رأيكم أن نتدرّب كيف نحرك عقولنا بالخير ونتدرب على المحبة والتسامح والحوار، ونتدرب على أن نجعل من مجتمعنا جنّة مصغّرة على الأرض حتى نعيش جوّ الجنة.. إن الجنة جميلة، ولكنها تحتاج إلى جهد، والحديث يقول: "ما رأيت كالجنة نام طالبها، وما رأيت كالنار نام هاربها".
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}. رسول الله (ص) هو قدوتنا في كل شيء، وقد كانت أخلاقه هي القرآن، فليكن (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) وابنته الصدّيقة الطاهرة (ع) قدوتنا في السير في خط القيم الروحية والأخلاقية.
الخطبة الدينية لسماحة السيد فضل الله دام ظله... 6 ربيع الاخر1424ه
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وإنّك لعلى خلق عظيم}، ويقول تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، ويقول سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
لماذا هذا التأكيد في القرآن الكريم على تقديم النبي(ص) إلينا بهذه الصورة، وهو الكامل في كلِّ صفاته كشخصية أخلاقية، تنفتح بأخلاقيتها على مشاعر الإنسان لتحترم تطلعاته في خط الدعوة وفي خط الحياة وفي خط المسؤولية؟ ولماذا كانت الرسالة كلها حركة أخلاق، بحيث يختصر النبي(ص) كلّ الإسلام في مكارم الأخلاق؟
إن هدف الرسالة الإسلامية ـ كما هو هدف الرسالات التي أرسل الله تعالى بها رسله ـ هو أن يعيش الإنسان إنسانيته المودعة في شخصيته في إنسانية الإنسان الآخر، بحيث تحترم إنسانية الإنسان الآخر حتى لو اختلف معك كما تريده أن يحترم إنسانيتك. والأخلاق هي القيمة الإنسانية التي تربط بين الإنسان والإنسان الآخر لتفتح عقله وقلبه وحياته، لأنك عندما تحترم إنسانية الآخر فإن الآخر سوف ينفتح عليك، لأنه يشعر بأنه موجود فيك كما أنت موجود فيه.
أسس العلاقات الأسرية
ولذلك كان الأنبياء والأولياء هم القمّة في المسألة الأخلاقية، التي تجسّدت في بيوتهم مع أهلهم، وقد حدّثنا رسول الله (ص) عن سيرته مع أهله في الحديث المروي عنه: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، لأن النبي(ص) كان يشعر بمسؤوليته في المحافظة على مشاعر أهله الذين يعيشون معه، إن على مستوى زوجاته أو على مستوى الذين ينتسبون إليه، لأنه يعتبر أن العلاقة بالزوجة والأولاد ليست علاقة مالك لمملوك حتى يستغل الإنسان ما يملكه من قوة لاضطهاد الإنسان الآخر وإسقاط إنسانيته، بل هي علاقة إنسان مع إنسان تقوم على أساس التعاقد بينهما كما هي العلاقة الزوجية التي ركزها الله على قاعدة المودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف، وكما في علاقة الإنسان بأولاده، وعلاقة الأولاد بأبيهم، والتي هي علاقة إنسانية، حمّل الله فيها الأب مسؤولية تربية إنسانية أولاده ورعايتها وحمايتها، ولذلك لم يسلّطك الله على أولادك سلطة القوي على الضعيف، وإنما أعطاك الولاية قبل بلوغهم من أجل أن تحوطهم برعايتك، لتمكّنهم من النموّ الطبيعي الذي يجعل منهم رجالاً أو نساءً يشاركون في بناء المجتمع والأمة.
لذلك، أراد الإسلام أن يركّز هذا المفهوم الأخلاقي، وهذا ما نلاحظه في حديث الله تعالى عن العلاقة بين الزوجين: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}، لأنك قد تنطلق من حالة مزاجية تجعلك لا تعرف عنصر الخير في الطرف الآخر، فالمزاج لا يحدد درجة الخير والشر في الإنسان الآخر، لأن المزاج مشاعر، أما مسألة الخير والشر، فإنها تأتي من الدراسة للعناصر الشخصية في الإنسان الآخر، ربما لا يلتقي مزاجك مع شخص ولكنه قد يكون في أعلى درجات الخير، وربما يلتقي مزاجك مع شخص وقد يكون في أعلى درجات الشر، لذلك، فإن القيمة الأخلاقية شيء والمزاج الذاتي شيء آخر، ولذلك لا يمكن أن تجعل حياتك خاضعة لمزاجك، بل تجعل حياتك خاضعة لمعنى الإنسانية في أخلاقك.
الحقوق المتبادلة
وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلّمه حتى في كل مواقعنا، في الحياة العائلية والحياة الاجتماعية وما إلى ذلك، فإذا ما عشت في المجتمع، فإن عليك أن لا تعتبر أنك تمثل الشخصية التي ترى أنه يجب على المجتمع أن يؤدِّي حقوقها، ولا تطلب من ذاتها أن تؤدي حقوق المجتمع، وذلك لأن الحقوق والواجبات متبادلة في كلِّ مجالات الحياة. عندما ندرس خطاب كل من النبي (ص) والإمام عليّ(ع)، فإننا نجد أنه كان يتركز على قاعدة "لي عليكم حق ولكم عليّ حق".. بل أكثر من ذلك، نجد أن الله تعالى ـ وهو إله الكون، ولا حق لأحد عليه لأننا صنعته ـ من رحمته ولطفه، أرادنا أن نقوم بحقه في توحيده وطاعته وعبادته، وجعل لنا حقاً في أن يرزقنا ويرعانا ويلطف بنا ويدخلنا الجنة إذا أحسنّا.
لذلك، فإن الإنسان الذي يعتبر نفسه هو العالم وكل الناس غثاء، هو إنسان يعيش العقدة ويحبس نفسه في زنزانة ذاته من الناحية المادية، لأن الإنسان كلما كان يحمل سمات إنسانية أكثر، كلما انفتح على مسؤولياته في الحياة أكثر، وقد قال النبي (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، بقدر ما تخدم الناس وترعاهم وتتواضع لهم وتعيش معهم كواحد منهم، بقدر ما تكون قائداً ورسالياً، ومن هو أفصل من النبي (ص)؟ رسول الله (ص) كان يعيش مع أصحابه كواحد منهم، لا يميّز نفسه أبداً ، ويقول أحد أصحابه: "كان فينا كأحدنا"، حتى إن القادم إلى النبي (ص) وهو جالس مع أصحابه كان يسأل: "أيكم محمد"؟ ويقال إن النبي (ص) كان سائراً والتقته امرأة فارتعدت لهيبته، فقال (ص): "ما عليك، إنما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد في مكة".
هذا الخطّ الأخلاقي العظيم هو الذي يعطينا الحسّ الإنساني، لأننا بدأنا بفعل السيطرة المادية واعتبار المنفعة والمصلحة والمطامع أساس العلاقات الإنسانية، بدأنا نفقد هذا الحسّ والقيم الإنسانية في علاقاتنا السياسية والدينية والاجتماعية، ووصلنا إلى وضع صار فيه العقل والقلب والإحساس والشعور عملةً، وأصبح تكويننا يدخل في حسابات البورصة لا في حسابات القيم الأخلاقية..
إعادة النظر في القيم الاجتماعية
لذلك، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في قيمنا الاجتماعية، ومن المؤسف أننا بدأنا نربي أطفالنا على هذا الأساس، وافتقدنا ـ كظاهرة ـ في مجتمعنا معنى المحبة، نحن لا نربي بعضنا بعضاً على المحبة بل على الحسابات، أما أن تحبّ إنساناً لإنسانيته فهذا غير وارد، وأصبحنا ننتج الحقد ونعلّم أولادنا على مقاطعة فلان والحقد على فلان، وعندما دخلت الأحزاب ـ كل الأحزاب ـ بدأت تبث ثقافة المقاطعة: لا تتكلموا عن فلان ولا تصلّوا عند فلان، ولا تذهبوا إلى المسجد الفلاني، حتى أصبحنا مجتمعاً يربي الأجيال في المسألة السياسية والدينية والاجتماعية على الحقد، ويدّعي أن هذا الحقد مقدّس، ولا أدري كيف يكون الحقد مقدّساً؟
إن مجتمعنا يتخبط في مشاكل لا عدّ لها ولا حصر، ادرسوا كل الواقع من حولكم لتجدوا من منا يعيش الراحة في هذا المجتمع، والمشكلة أن هذه التعقيدات الداخلية المتعبة تنعكس على تخطيط الآخرين ضدنا. الآخرون في كل جامعاتهم يدرسون بشكل واسع وعميق عادات الشعوب وتقاليدها والعلاقات بين بعضها البعض، واختلاف الأديان والمذاهب والخطوط السياسية، ويقدّمونها كدراسات من خلال اختصاصيين، ليقدّموا هذه الدراسات إلى المخابرات لتعرف كيف توسّع الثغرة بين الناس لتزيد من الحقد الطائفي والمذهبي والحزبي، حتى أصبحت القضايا تتصل بقضايا الاستقرار والحرية ومواجهة الاستكبار العالمي ضد الأمة.
وفي العودة إلى الفترة الماضية، نلاحظ كيف كانت أوضاعنا في لبنان، وكيف عشنا الحقد الطائفي والمذهبي والسياسي، حتى كان الصغير والكبير يفكّر كيف يقتل الآخر، وأنا أذكر في أيام الحرب كيف كان بعض الصبية يأتون ليأخذوا الفتوى في قتل فلان وتفجير المحل الفلاني. إن هذه الثقافة شملت كل شرائح المجتمع وطوائفه، فمن أين جاء هذا الواقع؟ جاء من خلال الذهنيات التي تحاول أن تنتج الحقد في الناس، بحيث نحاول دائماً أن نبحث عن الفواصل التي تفصل بعضنا عن بعض لا عن الجوامع التي تجمعنا، ومن الطرائف أن بعض الناس المتعصّبين ـ عند السنّة والشيعة ـ يقول "إن السنّة عندهم إله غير إلهنا ونبيّهم غير نبيّنا"، وبعض آخر يقول إن الشيعة مشركون وما إلى ذلك، أما مواضع اللقاء فإننا لا نبحث عنها، والله تعالى علّمنا كيف نتعامل مع أهل الكتاب، وهل اليهود والنصارى في عقيدتهم أقرب للشيعي من السنّي، أو للسنّي من الشيعي، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}.
التدرب على إنتاج المحبة
إنّ علينا أن نتعلّم من القرآن الكريم ومن النبي (ص) ومن أهل البيت(ع) الذين قد نختلف مع السنّة على حسابهم، مع أنهم (ع) روّاد الوحدة الإسلامية، فهذا الإمام عليّ (ع) ـ وهو صاحب الحق الشرعي ـ نرى أنه عاون الخلفاء الذين تقدّموه وأعطاهم النصيحة والمشورة وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة"..
أيها الأحبة: إنكم تتدربون على كثير من المهن وعلى حمل السلاح، فما رأيكم أن نتدرّب كيف نحرك عقولنا بالخير ونتدرب على المحبة والتسامح والحوار، ونتدرب على أن نجعل من مجتمعنا جنّة مصغّرة على الأرض حتى نعيش جوّ الجنة.. إن الجنة جميلة، ولكنها تحتاج إلى جهد، والحديث يقول: "ما رأيت كالجنة نام طالبها، وما رأيت كالنار نام هاربها".
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}. رسول الله (ص) هو قدوتنا في كل شيء، وقد كانت أخلاقه هي القرآن، فليكن (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) وابنته الصدّيقة الطاهرة (ع) قدوتنا في السير في خط القيم الروحية والأخلاقية.
الخطبة الدينية لسماحة السيد فضل الله دام ظله... 6 ربيع الاخر1424ه