المهدى
05-03-2005, 10:19 AM
تعددت التسميات والمكان واحد
البقاع ـ من عفيف دياب
هنا,,, معمل البصل!
هنا,,, مقر «النبي يوسف»!
هنا,,, سجن عنجر!
اسماء ثلاثة اشتهر بها معتقل جهاز الامن والاستطلاع في القوات السورية التي كانت في لبنان حتى 26 ابريل الماضي.
في بداية الحرب اللبنانية تحول «معمل البصل» غرب بلدة عنجر خراباً بعدما هجرته الايدي العاملة في تجفيف البصل الاخضر الذي كان يزرع في سهل البقاع, هذا السهل المفتوح على كل الجراح والالام، من الحرمان والمعاناة الى كساد المواسم الزراعية.
عرف سهل البقاع معملين فقط لتجفيف البصل، الاول غرب عنجر لم يعد احد يتذكر من صاحبه, والثاني في منطقة الفيضة شرق مدينة زحلة، وكان يديره النائب الياس الهراوي قبل ان يصبح رئيساً للجمهورية مع نهاية الحرب اواخر 1989.
تحول معمل تجفيف البصل سجناً كبيراً مع بداية الدخول السوري الى سهل البقاع في السادس من يونيو العام 1976. وحولته الاستخبارات السورية، او جهاز الامن والاستطلاع لاحقاً، او الاستخبارات العسكرية قبلاً، اهم سجن لها على الاراضي اللبنانية, وتحول مع الايام مركزاً امنياً استراتيجياً لاعتقال كل من يعادي او يعترض او يرفض الوجود السوري في لبنان, وتحولت هنغارات المعمل غرف تحقيق وتعذيب وزنازين كبيرة وصغيرة افرادية ولمجموعات كبيرة، وصار اليوم موقعاً عسكرياً للجيش اللبناني يمنع الاقتراب منه.
يروي بعض من زار سجن عنجر، ان التوقيف في سورية كان عنواناً «للراحة والاستجمام» مقارنة بالتوقيف في عنجر, فالسجن كان للتحقيق وانتزاع الاعترافات، ومن ثم تمضية العقوبة في سجون «فرع فلسطين» في سورية.
لا احد يعرف بعد «سر» اعطاء اسم فلسطين على بعض السجون في سورية, ولكن الاسماء التي اطلقت على معمل البصل في عنجر معروفة المصدر و«الحسب والنسب», ولا احد يعرف كم من الاشخاص «مروا» في غرف «النبي يوسف»، ولا احد يعرف ما هو عدد الذين دخلوا ولم «يخرجوا» بعد!
«تجفيف البشر»
كان معمل تجفيف البصل في عنجر معملاً حقيقاً لـ «تجفيف البشر»، على قول ابو علي الذي كان من زوار «المعمل» بصورة دورية: «عندما تقع مشكلة في قريتي لا يجد عناصر الاستخبارات السورية غيري لتوقيفه، ربما انتمائي سابقاً الى جبهة التحرير العربية (كانت موالية لنظام صدام حسين) كان عنواناً وحيداً لتوقيفي الدائم والمتكرر».
يرفض «ابو علي» ان يتحدث عن مراحل التعذيب في معمل البصل: «يا اخي، مرحلة مضت واتمنى الا تتكرر، سورية دولة عربية وجيشها عربي الانتماء والعقيدة، وتصرفات بعض الضباط السلبية بحق الشعب اللبناني لا تعني ان سورية معادية او دولة عدوة».
رغم تكرار زيارات « ابو علي» لمعمل البصل وتلقيه «جرعات» من التعذيب والاهانات، فهو اصر على رفضه التحدث عن «اسرار» المعمل التي يعرفها: «الله يستر عليك ويخليك لاهلك، ما بدي احكي تنذكر ايام المعمل ولا تنعاد».
ربما الخوف، او المجهول، هو الذي منع هذا المواطن اللبناني الذي قاتل على محاور عدة في جنوب لبنان ضد اسرائيل، وعلى محاور الداخل اللبناني ضد سورية، من تناول «سيرة» سجن عنجر او معمل البصل او «النبي يوسف».
و«النبي يوسف» اسم اشتهر به «المعمل» في عنجر نسبة الى العقيد يوسف الذي كان يديره ويشرف عليه خلال الاعوام الماضية وحتى الخروج النهائي من لبنان, كان مجرد ذكر اسم «العقيد يوسف» امام اي موقوف سابق في عنجر يدخل الرعب الى النفوس، كما يقول سمير ع, الذي امضى ثلاثة اشهر في المعمل قبل ان ينقل الى سورية.
«شراء الحرية»
تهمة سمير لم تكن سوى «تهمة سخيفة»، ويقول: «في صيف 1990 صدمت بسيارتي جندياً سورياً على الطريق الدولية في برالياس، ونقلته فوراً الى المستشفى للمعالجة من جروح طفيفة, وحين حضرت الاستخبارات للتحقيق تم توقيفي ونقلي الى عنجر وهناك كنت اتعرض للتعذيب المختلف, لم اكن اعرف ان صدمي جندياً سيؤدي بي الى مجهول».
المجهول الذي دخله سمير قسرا حول حياته جحيماً لم اعد استطيع تحملها, وحوله متهماً كبيراً وخطيراً جداً على الامن القومي العربي: «اتهمت في التحقيق انني من كبار قادة البعث العراقي، وانني امول عمليات ضد الجيش السوري في لبنان», نقل سمير الى «فرع فلسطين» في سورية، خضع للتحقيق وتبين انه ليس سوى مواطن بسيط لا يقوى على شيء ولا يفهم في السياسة، امضى عشرة ايام في الفرع واعيد مجدداً الى «معمل البصل» في عنجر, لكن المعمل لم يقتنع انه بريء.
«قالوا لي في التحقيق ان معلوماتهم تقول انني من جماعة عرفات, ولما فشلت التهمة ابلغوني ان الجندي الذي صدمته مات وعليّ دفع فدية لاهله, اتصلوا باسرتي واعلموها بالامر، استدان اهلي لمعمل البصل وافرج عني».
يعرف سمير ان «خبرية» موت الجندي غير صحيحة, ويقول: «دفعت فدية اطلاقي من سجن عنجر، استبدلت تعذيبي بحفنة من المال لقد اشتريت حريتي».
احمد «المقاوم»
لم يكن احمد سوى مقاوم ضد الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان, كانت مناطق حاصبيا ومرجعيون من مهماته, كان يتسلل مع رفاقه عبر اودية جبل الشيخ للوصول الى المنطقة المحتلة وتنفيذ عمليات ضد الاحتلال الاسرائيلي.
في ربيع العام 1987 كان احمد في مهمة استطلاعية لموقع اسرائيلي في جبل الشيخ تمهيدا لمهاجمته لاحقاً, انجز مهمته على اكمل وجه، وصل الى قرية عين عطا (قضاء راشيا) التي كانت على خط التماس مع الجنوب المحتل: «كنا خلال عودتنا من المناطق المحتلة نسلك طرقاً توصلنا الى محيط بلدة عين عطا المحررة، ومن هناك تصل سيارة تابعة للمقاومة وتقوم بنقلنا الى قاعدتنا, صودف يوم عودتي من المهمة الاستطلاعية ان السيارة تأخرت عن موعدها فقررت متابعة سيري نحو راشيا، وعلى الطريق اوقفني حاجز متنقل (طيار) للمخابرات السورية، تم نقلي الى مفرزة راشيا التابعة لهم، ومن هناك الى عنجر, في عنجر خضعت للتحقيق وكانت التهمة انني اهرب الاسلحة الى سورية عبر مسالك ومعابر جبل الشيخ وحين قلت لهم من انا وما هي مهماتي والتنظيم الذي انتمي اليه وانني من رجال المقاومة، انهالوا عليّ بالتعذيب والضرب تحت عنوان انني اكذب وادعي شرفاً لا استحقه»,
ويتابع احمد قصته: «كانت الاستخبارات السورية في منطقة راشيا تعرف اننا نمر من هناك نحو المناطق المحتلة لتنفيذ عمليات ضد اسرائيل والحاجز الذي اوقفني كان منصوباً لنا عمداً وقصداً لان السيارة التي كانت ستحضر لنقلي لم تأت لان سائقها كان ينتظر نقل الحاجز ليتسنى له العبور وبمجرد توقيفي الغي الحاجز فوراً، وعرف السائق انني اصبحت في عهدة الاستخبارات السورية لانه شاهدني من بعيد خلال مراقبته».
لم تنفع اتصالات تنظيم احمد في فك اسره من عنجر, فالتهمة كبيرة وخطيرة: «علموا لحقيقة امري، وعرفوا من تحرياتهم انني لا اكذب، والحزب ابلغهم بذلك وبالدلائل، لكن المطلوب كان امراً اخر، خضوع الحزب لارادتهم في تنظيم العمليات ضد الاحتلال الاسرائيلي، او على الاقل معرفتهم المسبقة بموعدها, تعرضت لتعذيب ادخلني لاحقاً المستشفى، انهم يعلمون من انا، لا ادري لماذا فعلوا بي ذلك».
زين ,,, على طول الخط
كان مقاوماً في الاردن مع التنظيمات الفلسطينية اواخر 1969. وشارك في عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي منذ 1970 في جنوب لبنان, كان من قادة «المقاومة الشعبية» في سفوح جبل الشيخ الغربية اثناء حرب اكتوبر 1973. يفتخر بانتمائه الى «القومية العربية» ويعتز بتاريخه المقاوم ضد الاحتلال وبدوره في العمل الاهلي الداعم لقضايا العرب,,, لكن اكثر ما يحز في نفسه انه تعرض للتوقيف اكثر من 6 مرات في السجون السورية، الموجودة في الاراضي اللبنانية والسورية,
رفض «زين» مراراً وتكراراً محاولات اقناعه بالتحدث عن مرحلة في حياته يعتبرها «شديدة الالم والوجع والحزن»، وبعدما اقتنع اخيراً، وقرر ان يروي «حزنه» لكل «العرب» من المحيط الى الخليج, وقال: تركت مدرستي في العام 1969 والتحقت مع المقاومة الفلسطينية في الاردن، وشاركت في معظم المواجهات مع العدو الاسرائيلي هناك, ثم عدت الى لبنان وتابعت عمل الفدائي في جنوب لبنان حتى العام 1972، في حرب اكتوبر العام 1973 بقيت نحو مئة يوم في سفوح جبل الشيخ الغربية، كنت مسؤولاً مع احد الرفاق عن منع قوات العدو الاسرائيلي من انزال قوات مجوقلة في السفوح الغربية».
في العام 1976 دخل الجيش السوري الى لبنان, كان «زين» في جنوب لبنان يقاوم العدو في العرقوب, ويقول: «لم اكن يوما في حياتي معادياً لسورية ونهجها وخطها القوميين، لكن كان عندي ملاحظات على الاداء السوري في لبنان,,, الاداء الاستخباراتي فقط».
ربما ملاحظات «زين» كانت قاسية او «غير مستحبة» فاعتقل للمرة الاولى العام 1977 في سجن سوري في بيروت, لم يعرف بعد اسباب اعتقاله, لم يتعرض للتعذيب او الاهانة,, فقط مجرد اعتقال لاسابيع عدة.
خرج «زين» سليماً من الاعتقال الاول, تابع مسيرة نضاله وحمل السلاح ضد العدو في جنوب لبنان, شارك في مواجهات اجتياح العام 1978 لجنوب لبنان, لم تقف حدود نضاله «ضد العدو القومي والاخلاقي والديني» عند حدود اجتياح 1978، بل واصل مقاومته مدعوماً من سورية, وعندما جاء اجتياح لبنان من قبل اسرائيل في صيف 1982. قاوم خلال حصار بيروت الغزاة وخرج منتصراً مع الجندي السوري الذي كان في بيروت، وعاد الى منزله في البقاع.
تهمة زين,,, «الخيانة»
لم يسترح «زين» من النضال، وهو القومي العربي على «طول الخط», وجد في انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية شمعة تضيء ليل «العرب», شكل لجان دعم لهذه المقاومة,,, امن لها السلاح والرجال، وفي صيف العام 1983 نأى بنفسه عن المشاركة في الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني في البقاع، ويقول: «اعلنت رفضي للدور السوري في هذا الاقتتال, ورفضت ايضاً ان اكون مع طرف ضد آخر فاعتقلت من قبل الاستخبارات السورية».
الاعتقال الثاني لـ «زين» كان اليماً جداً: «اعتقلت لمدة 3 اشهر متنقلاً بين سجن عنجر وسجن فرع فلسطين في سورية, لم اتعرض للتعذيب او الاهانة على الاطلاق، ولم توجه الي اي تهمة, فقط كنت في السجن، ولا ادري لماذا؟ انا واحد منهم، اعتبر نفسي هكذا على الاقل، كانت مرحلة اليمة جداً على معنوياتي, كنت اتساءل دوماً، لماذا انا هنا»؟
خرج «زين» من «فرع فلسطين» وعاد الى قريته البقاعية, واصل نشاطه الاهلي والاجتماعي الى ان جاء العام 1992، وإذ به يعتقل «ظلماً وعدوانا»,,, «في مايو 1992 خرجت في لبنان تظاهرات ضد حكومة الرئيس عمر كرامي, عبرت شوارع قريتي وتابعت سيرها نحو منزل رئيس الجمهورية انذاك الياس الهراوي في زحلة، حاول المتظاهرون الاعتداء على قصر الرئيس لكن لم ينجحوا في ذلك, انا ولأول مرة في تاريخ تظاهرات منطقتي لم اكن موجوداً في كل المنطقة، الاستخبارات السورية لم تعرف من نظم التظاهرة، علماً انها تظاهرة عفوية, وحين لم يعثروا على المنظم الصقوا التهمة بي».
واذ بدورية من الاستخبارات السورية تداهم منزل «زين» وتنقله الى مركزها في شتورة, خضع للتحقيق وتبين ان لا علاقة له في تنظيم التظاهرة و«للاسف الشديد اتهموني بأنني اتاجر بالحشيشة, ووضعوا في صندوق سيارتي كمية من المخدرات واصبحت متهماً بهذه المادة الممنوعة».
نقل «زين» الى سجن عنجر او سجن معمل البصل, بقي اكثر من اسبوع مقيد اليدين الى الخلف ومعصوب العينين: «تعرضت لابشع انواع التعذيب الجسدي والنفسي,,, تحولت الى كيس ملاكمة وكرة قدم وكرة مضرب، والى دجاجة تشوى يومياً حتى الاحتراق, كنت اتعرض للتعذيب ثلاث مرات في اليوم كوجبات الطعام، صباحا ًوظهراً ومساءً, اصبح جسدي مخدراً ومتعوداً على الضرب والركل, رفضت التوقيع على اي محضر تحقيق,,, ورفضت التهمة التي الصقوها بي ظلماً وعدواناً».
لم تنجح كل المحاولات في اقناع «زين» بالتوقيع على محضر ادانته بتجارة المخدرات, يئست الاستخبارات منه فحولته الى القضاء اللبناني، بناء على طلب شخصية لبنانية نافذة، رفض الافصاح عن اسمها, ويتابع: «نقلوني الى سجن وزارة الدفاع اللبنانية، وتم تحويلي الى المحكمة العسكرية وخضعت لجلسات تحقيق مطولة كان يجريها معي القاضي نصري لحود (شقيق الرئيس اميل لحود)، وقد قلت له انني لا اتاجر بالمخدرات، وان المقدم (,,,) من الاستخبارات السورية هو الذي وضعها في سيارتي، واطالب بأحضاره للتحقيق معه».
ايقن لحود ان التهمة ضد «زين» ملفقة ومركبة, لكن لم يخرج من سجنه اللبناني هذه المرة, عندها تحرك اهالي قريته وضغطوا على «مرجعية لبنانية نافذة» جداً لاطلاق سراحه.
اشترطت «المرجعية» على الاهالي اطلاق «زين» مقابل ايصاله الى قريته بسيارة نجله, رفض «زين» هذا العرض واصر على رفضه: «لن ابيع حريتي لشخص تسبب باعتقالي عند الاستخبارات السورية واللبنانية».
خرج من الاعتقال اخيراً, لكن لم يطل الامر به حتى اعتقل مجدداً وبتهمة «رفع صورة جمال عبد الناصر في نشاط شعبي في البقاع الغربي», ويروي: «في احتفال رياضي كبير في البقاع الغربي، شاركت على رأس وفد من قريتي بهذا الاحتفال الذي سمي باسم جمال عبد الناصر، لم تكن هناك صور مرفوعة في الاحتفال, فقط صورة جمال عبد الناصر، وهي كبيرة جداً, يبدو ان الصورة ازعجت بعض اللبنانيين والسوريين، فاعتقلتني الاستخبارات السورية».
لم يكن يعتقد «زين» ان صورة عبد الناصر ستودي به الى سجن عربي: «فور انتهاء المهرجان تم اعتقالي ونقلت الى عنجر وتعرضت للتعذيب».
يرفض «زين» مواصلة الحوار والتحدث عن اعتقالاته المتعددة,,, يصمت طويلاً ثم يشعل سيجارة و«يشتت» بقلق ظاهر جداً دخان سيجارته «العربية» بامتياز, وبعدما يرتشف من فنجان قهوته المرة القليل، يقف فجأة ويقول: «شو ما صار راح ظل عربي، الاستخبارات السورية في لبنان حطمت حلماً, قتلت علاقات بين شعبين، اساءت كثيراً لسورية ولبنان, انهم يعرفونني جيداً ويعرفون من انا، لم اكن يوماً ضد سورية فكراً وممارسة كان همهم (الاستخبارات) المال وجمع الثروات وتكديسها، تعاونوا مع فاسدين, وقتلوا فينا روحنا العربية, سورية في لبنان لم تشتغل عروبياً وقومياً، اشتغلت فقط الاستخبارات، لماذا؟ السلام عليكم, انا رايح على بيتي,,, بدك شي بعد»؟
البقاع ـ من عفيف دياب
هنا,,, معمل البصل!
هنا,,, مقر «النبي يوسف»!
هنا,,, سجن عنجر!
اسماء ثلاثة اشتهر بها معتقل جهاز الامن والاستطلاع في القوات السورية التي كانت في لبنان حتى 26 ابريل الماضي.
في بداية الحرب اللبنانية تحول «معمل البصل» غرب بلدة عنجر خراباً بعدما هجرته الايدي العاملة في تجفيف البصل الاخضر الذي كان يزرع في سهل البقاع, هذا السهل المفتوح على كل الجراح والالام، من الحرمان والمعاناة الى كساد المواسم الزراعية.
عرف سهل البقاع معملين فقط لتجفيف البصل، الاول غرب عنجر لم يعد احد يتذكر من صاحبه, والثاني في منطقة الفيضة شرق مدينة زحلة، وكان يديره النائب الياس الهراوي قبل ان يصبح رئيساً للجمهورية مع نهاية الحرب اواخر 1989.
تحول معمل تجفيف البصل سجناً كبيراً مع بداية الدخول السوري الى سهل البقاع في السادس من يونيو العام 1976. وحولته الاستخبارات السورية، او جهاز الامن والاستطلاع لاحقاً، او الاستخبارات العسكرية قبلاً، اهم سجن لها على الاراضي اللبنانية, وتحول مع الايام مركزاً امنياً استراتيجياً لاعتقال كل من يعادي او يعترض او يرفض الوجود السوري في لبنان, وتحولت هنغارات المعمل غرف تحقيق وتعذيب وزنازين كبيرة وصغيرة افرادية ولمجموعات كبيرة، وصار اليوم موقعاً عسكرياً للجيش اللبناني يمنع الاقتراب منه.
يروي بعض من زار سجن عنجر، ان التوقيف في سورية كان عنواناً «للراحة والاستجمام» مقارنة بالتوقيف في عنجر, فالسجن كان للتحقيق وانتزاع الاعترافات، ومن ثم تمضية العقوبة في سجون «فرع فلسطين» في سورية.
لا احد يعرف بعد «سر» اعطاء اسم فلسطين على بعض السجون في سورية, ولكن الاسماء التي اطلقت على معمل البصل في عنجر معروفة المصدر و«الحسب والنسب», ولا احد يعرف كم من الاشخاص «مروا» في غرف «النبي يوسف»، ولا احد يعرف ما هو عدد الذين دخلوا ولم «يخرجوا» بعد!
«تجفيف البشر»
كان معمل تجفيف البصل في عنجر معملاً حقيقاً لـ «تجفيف البشر»، على قول ابو علي الذي كان من زوار «المعمل» بصورة دورية: «عندما تقع مشكلة في قريتي لا يجد عناصر الاستخبارات السورية غيري لتوقيفه، ربما انتمائي سابقاً الى جبهة التحرير العربية (كانت موالية لنظام صدام حسين) كان عنواناً وحيداً لتوقيفي الدائم والمتكرر».
يرفض «ابو علي» ان يتحدث عن مراحل التعذيب في معمل البصل: «يا اخي، مرحلة مضت واتمنى الا تتكرر، سورية دولة عربية وجيشها عربي الانتماء والعقيدة، وتصرفات بعض الضباط السلبية بحق الشعب اللبناني لا تعني ان سورية معادية او دولة عدوة».
رغم تكرار زيارات « ابو علي» لمعمل البصل وتلقيه «جرعات» من التعذيب والاهانات، فهو اصر على رفضه التحدث عن «اسرار» المعمل التي يعرفها: «الله يستر عليك ويخليك لاهلك، ما بدي احكي تنذكر ايام المعمل ولا تنعاد».
ربما الخوف، او المجهول، هو الذي منع هذا المواطن اللبناني الذي قاتل على محاور عدة في جنوب لبنان ضد اسرائيل، وعلى محاور الداخل اللبناني ضد سورية، من تناول «سيرة» سجن عنجر او معمل البصل او «النبي يوسف».
و«النبي يوسف» اسم اشتهر به «المعمل» في عنجر نسبة الى العقيد يوسف الذي كان يديره ويشرف عليه خلال الاعوام الماضية وحتى الخروج النهائي من لبنان, كان مجرد ذكر اسم «العقيد يوسف» امام اي موقوف سابق في عنجر يدخل الرعب الى النفوس، كما يقول سمير ع, الذي امضى ثلاثة اشهر في المعمل قبل ان ينقل الى سورية.
«شراء الحرية»
تهمة سمير لم تكن سوى «تهمة سخيفة»، ويقول: «في صيف 1990 صدمت بسيارتي جندياً سورياً على الطريق الدولية في برالياس، ونقلته فوراً الى المستشفى للمعالجة من جروح طفيفة, وحين حضرت الاستخبارات للتحقيق تم توقيفي ونقلي الى عنجر وهناك كنت اتعرض للتعذيب المختلف, لم اكن اعرف ان صدمي جندياً سيؤدي بي الى مجهول».
المجهول الذي دخله سمير قسرا حول حياته جحيماً لم اعد استطيع تحملها, وحوله متهماً كبيراً وخطيراً جداً على الامن القومي العربي: «اتهمت في التحقيق انني من كبار قادة البعث العراقي، وانني امول عمليات ضد الجيش السوري في لبنان», نقل سمير الى «فرع فلسطين» في سورية، خضع للتحقيق وتبين انه ليس سوى مواطن بسيط لا يقوى على شيء ولا يفهم في السياسة، امضى عشرة ايام في الفرع واعيد مجدداً الى «معمل البصل» في عنجر, لكن المعمل لم يقتنع انه بريء.
«قالوا لي في التحقيق ان معلوماتهم تقول انني من جماعة عرفات, ولما فشلت التهمة ابلغوني ان الجندي الذي صدمته مات وعليّ دفع فدية لاهله, اتصلوا باسرتي واعلموها بالامر، استدان اهلي لمعمل البصل وافرج عني».
يعرف سمير ان «خبرية» موت الجندي غير صحيحة, ويقول: «دفعت فدية اطلاقي من سجن عنجر، استبدلت تعذيبي بحفنة من المال لقد اشتريت حريتي».
احمد «المقاوم»
لم يكن احمد سوى مقاوم ضد الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان, كانت مناطق حاصبيا ومرجعيون من مهماته, كان يتسلل مع رفاقه عبر اودية جبل الشيخ للوصول الى المنطقة المحتلة وتنفيذ عمليات ضد الاحتلال الاسرائيلي.
في ربيع العام 1987 كان احمد في مهمة استطلاعية لموقع اسرائيلي في جبل الشيخ تمهيدا لمهاجمته لاحقاً, انجز مهمته على اكمل وجه، وصل الى قرية عين عطا (قضاء راشيا) التي كانت على خط التماس مع الجنوب المحتل: «كنا خلال عودتنا من المناطق المحتلة نسلك طرقاً توصلنا الى محيط بلدة عين عطا المحررة، ومن هناك تصل سيارة تابعة للمقاومة وتقوم بنقلنا الى قاعدتنا, صودف يوم عودتي من المهمة الاستطلاعية ان السيارة تأخرت عن موعدها فقررت متابعة سيري نحو راشيا، وعلى الطريق اوقفني حاجز متنقل (طيار) للمخابرات السورية، تم نقلي الى مفرزة راشيا التابعة لهم، ومن هناك الى عنجر, في عنجر خضعت للتحقيق وكانت التهمة انني اهرب الاسلحة الى سورية عبر مسالك ومعابر جبل الشيخ وحين قلت لهم من انا وما هي مهماتي والتنظيم الذي انتمي اليه وانني من رجال المقاومة، انهالوا عليّ بالتعذيب والضرب تحت عنوان انني اكذب وادعي شرفاً لا استحقه»,
ويتابع احمد قصته: «كانت الاستخبارات السورية في منطقة راشيا تعرف اننا نمر من هناك نحو المناطق المحتلة لتنفيذ عمليات ضد اسرائيل والحاجز الذي اوقفني كان منصوباً لنا عمداً وقصداً لان السيارة التي كانت ستحضر لنقلي لم تأت لان سائقها كان ينتظر نقل الحاجز ليتسنى له العبور وبمجرد توقيفي الغي الحاجز فوراً، وعرف السائق انني اصبحت في عهدة الاستخبارات السورية لانه شاهدني من بعيد خلال مراقبته».
لم تنفع اتصالات تنظيم احمد في فك اسره من عنجر, فالتهمة كبيرة وخطيرة: «علموا لحقيقة امري، وعرفوا من تحرياتهم انني لا اكذب، والحزب ابلغهم بذلك وبالدلائل، لكن المطلوب كان امراً اخر، خضوع الحزب لارادتهم في تنظيم العمليات ضد الاحتلال الاسرائيلي، او على الاقل معرفتهم المسبقة بموعدها, تعرضت لتعذيب ادخلني لاحقاً المستشفى، انهم يعلمون من انا، لا ادري لماذا فعلوا بي ذلك».
زين ,,, على طول الخط
كان مقاوماً في الاردن مع التنظيمات الفلسطينية اواخر 1969. وشارك في عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي منذ 1970 في جنوب لبنان, كان من قادة «المقاومة الشعبية» في سفوح جبل الشيخ الغربية اثناء حرب اكتوبر 1973. يفتخر بانتمائه الى «القومية العربية» ويعتز بتاريخه المقاوم ضد الاحتلال وبدوره في العمل الاهلي الداعم لقضايا العرب,,, لكن اكثر ما يحز في نفسه انه تعرض للتوقيف اكثر من 6 مرات في السجون السورية، الموجودة في الاراضي اللبنانية والسورية,
رفض «زين» مراراً وتكراراً محاولات اقناعه بالتحدث عن مرحلة في حياته يعتبرها «شديدة الالم والوجع والحزن»، وبعدما اقتنع اخيراً، وقرر ان يروي «حزنه» لكل «العرب» من المحيط الى الخليج, وقال: تركت مدرستي في العام 1969 والتحقت مع المقاومة الفلسطينية في الاردن، وشاركت في معظم المواجهات مع العدو الاسرائيلي هناك, ثم عدت الى لبنان وتابعت عمل الفدائي في جنوب لبنان حتى العام 1972، في حرب اكتوبر العام 1973 بقيت نحو مئة يوم في سفوح جبل الشيخ الغربية، كنت مسؤولاً مع احد الرفاق عن منع قوات العدو الاسرائيلي من انزال قوات مجوقلة في السفوح الغربية».
في العام 1976 دخل الجيش السوري الى لبنان, كان «زين» في جنوب لبنان يقاوم العدو في العرقوب, ويقول: «لم اكن يوما في حياتي معادياً لسورية ونهجها وخطها القوميين، لكن كان عندي ملاحظات على الاداء السوري في لبنان,,, الاداء الاستخباراتي فقط».
ربما ملاحظات «زين» كانت قاسية او «غير مستحبة» فاعتقل للمرة الاولى العام 1977 في سجن سوري في بيروت, لم يعرف بعد اسباب اعتقاله, لم يتعرض للتعذيب او الاهانة,, فقط مجرد اعتقال لاسابيع عدة.
خرج «زين» سليماً من الاعتقال الاول, تابع مسيرة نضاله وحمل السلاح ضد العدو في جنوب لبنان, شارك في مواجهات اجتياح العام 1978 لجنوب لبنان, لم تقف حدود نضاله «ضد العدو القومي والاخلاقي والديني» عند حدود اجتياح 1978، بل واصل مقاومته مدعوماً من سورية, وعندما جاء اجتياح لبنان من قبل اسرائيل في صيف 1982. قاوم خلال حصار بيروت الغزاة وخرج منتصراً مع الجندي السوري الذي كان في بيروت، وعاد الى منزله في البقاع.
تهمة زين,,, «الخيانة»
لم يسترح «زين» من النضال، وهو القومي العربي على «طول الخط», وجد في انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية شمعة تضيء ليل «العرب», شكل لجان دعم لهذه المقاومة,,, امن لها السلاح والرجال، وفي صيف العام 1983 نأى بنفسه عن المشاركة في الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني في البقاع، ويقول: «اعلنت رفضي للدور السوري في هذا الاقتتال, ورفضت ايضاً ان اكون مع طرف ضد آخر فاعتقلت من قبل الاستخبارات السورية».
الاعتقال الثاني لـ «زين» كان اليماً جداً: «اعتقلت لمدة 3 اشهر متنقلاً بين سجن عنجر وسجن فرع فلسطين في سورية, لم اتعرض للتعذيب او الاهانة على الاطلاق، ولم توجه الي اي تهمة, فقط كنت في السجن، ولا ادري لماذا؟ انا واحد منهم، اعتبر نفسي هكذا على الاقل، كانت مرحلة اليمة جداً على معنوياتي, كنت اتساءل دوماً، لماذا انا هنا»؟
خرج «زين» من «فرع فلسطين» وعاد الى قريته البقاعية, واصل نشاطه الاهلي والاجتماعي الى ان جاء العام 1992، وإذ به يعتقل «ظلماً وعدوانا»,,, «في مايو 1992 خرجت في لبنان تظاهرات ضد حكومة الرئيس عمر كرامي, عبرت شوارع قريتي وتابعت سيرها نحو منزل رئيس الجمهورية انذاك الياس الهراوي في زحلة، حاول المتظاهرون الاعتداء على قصر الرئيس لكن لم ينجحوا في ذلك, انا ولأول مرة في تاريخ تظاهرات منطقتي لم اكن موجوداً في كل المنطقة، الاستخبارات السورية لم تعرف من نظم التظاهرة، علماً انها تظاهرة عفوية, وحين لم يعثروا على المنظم الصقوا التهمة بي».
واذ بدورية من الاستخبارات السورية تداهم منزل «زين» وتنقله الى مركزها في شتورة, خضع للتحقيق وتبين ان لا علاقة له في تنظيم التظاهرة و«للاسف الشديد اتهموني بأنني اتاجر بالحشيشة, ووضعوا في صندوق سيارتي كمية من المخدرات واصبحت متهماً بهذه المادة الممنوعة».
نقل «زين» الى سجن عنجر او سجن معمل البصل, بقي اكثر من اسبوع مقيد اليدين الى الخلف ومعصوب العينين: «تعرضت لابشع انواع التعذيب الجسدي والنفسي,,, تحولت الى كيس ملاكمة وكرة قدم وكرة مضرب، والى دجاجة تشوى يومياً حتى الاحتراق, كنت اتعرض للتعذيب ثلاث مرات في اليوم كوجبات الطعام، صباحا ًوظهراً ومساءً, اصبح جسدي مخدراً ومتعوداً على الضرب والركل, رفضت التوقيع على اي محضر تحقيق,,, ورفضت التهمة التي الصقوها بي ظلماً وعدواناً».
لم تنجح كل المحاولات في اقناع «زين» بالتوقيع على محضر ادانته بتجارة المخدرات, يئست الاستخبارات منه فحولته الى القضاء اللبناني، بناء على طلب شخصية لبنانية نافذة، رفض الافصاح عن اسمها, ويتابع: «نقلوني الى سجن وزارة الدفاع اللبنانية، وتم تحويلي الى المحكمة العسكرية وخضعت لجلسات تحقيق مطولة كان يجريها معي القاضي نصري لحود (شقيق الرئيس اميل لحود)، وقد قلت له انني لا اتاجر بالمخدرات، وان المقدم (,,,) من الاستخبارات السورية هو الذي وضعها في سيارتي، واطالب بأحضاره للتحقيق معه».
ايقن لحود ان التهمة ضد «زين» ملفقة ومركبة, لكن لم يخرج من سجنه اللبناني هذه المرة, عندها تحرك اهالي قريته وضغطوا على «مرجعية لبنانية نافذة» جداً لاطلاق سراحه.
اشترطت «المرجعية» على الاهالي اطلاق «زين» مقابل ايصاله الى قريته بسيارة نجله, رفض «زين» هذا العرض واصر على رفضه: «لن ابيع حريتي لشخص تسبب باعتقالي عند الاستخبارات السورية واللبنانية».
خرج من الاعتقال اخيراً, لكن لم يطل الامر به حتى اعتقل مجدداً وبتهمة «رفع صورة جمال عبد الناصر في نشاط شعبي في البقاع الغربي», ويروي: «في احتفال رياضي كبير في البقاع الغربي، شاركت على رأس وفد من قريتي بهذا الاحتفال الذي سمي باسم جمال عبد الناصر، لم تكن هناك صور مرفوعة في الاحتفال, فقط صورة جمال عبد الناصر، وهي كبيرة جداً, يبدو ان الصورة ازعجت بعض اللبنانيين والسوريين، فاعتقلتني الاستخبارات السورية».
لم يكن يعتقد «زين» ان صورة عبد الناصر ستودي به الى سجن عربي: «فور انتهاء المهرجان تم اعتقالي ونقلت الى عنجر وتعرضت للتعذيب».
يرفض «زين» مواصلة الحوار والتحدث عن اعتقالاته المتعددة,,, يصمت طويلاً ثم يشعل سيجارة و«يشتت» بقلق ظاهر جداً دخان سيجارته «العربية» بامتياز, وبعدما يرتشف من فنجان قهوته المرة القليل، يقف فجأة ويقول: «شو ما صار راح ظل عربي، الاستخبارات السورية في لبنان حطمت حلماً, قتلت علاقات بين شعبين، اساءت كثيراً لسورية ولبنان, انهم يعرفونني جيداً ويعرفون من انا، لم اكن يوماً ضد سورية فكراً وممارسة كان همهم (الاستخبارات) المال وجمع الثروات وتكديسها، تعاونوا مع فاسدين, وقتلوا فينا روحنا العربية, سورية في لبنان لم تشتغل عروبياً وقومياً، اشتغلت فقط الاستخبارات، لماذا؟ السلام عليكم, انا رايح على بيتي,,, بدك شي بعد»؟