JABER
05-02-2005, 12:27 PM
آثارها غزتها البضائع المستوردة والشعارات
البصرة ـ د. جمال حسين
الزبير الراهنة نموذج للمدن التي تتغير في روحها رغم حفاظها على جدرانها وعواميدها وهيكلها. فالقصبة الأولى التي ارتفعت في البصرة كانت في الزبير، قبل حلول النهاية الخاسرة للنهر الذي أقيمت عليه.. البصرة الأولى المتممة للزبير الحالية ذات الإلهام الذي جزؤه الأكبر عروق المدينة المتصحرة، وجذورها اليابسة ممسية شبحا مستوية رمادا خداعا بعد أن كانت سطوة ورشاقة وفصحا وصباحات وردية ومساءات بهية.
ما يقترب من المرثية، حاثين الخطى نحو مثوى تلك الأميرة ذات الفيافي والأقراط والقصيدة غير المنجزة.
ما إن نسأل عن أحد من أعيان المدينة أو وجهائها أو تجارها حتى يدلونا على قبره! وليس ثمة من يساعدك على التمحيص وحمل آلام الجذور، سوى تسييس المدينة وكثرة دوائر الأمن والشرطة والحدود وتنظيمات الأحزاب المسلحة.
لا ندري ما الذي تفعله كل هذه الأحزاب الشيعية في المدينة الحنبلية، وما الذي يعتصر قلبها، حين تبرح أماكنها القديمة نزوات الحياة الجديدة التي أثرت حتى على معمار البيوت التي لا يظهر منها شباك للشارع؟
انسحبت كل عائلات الزبير الأصلية، كما دوّنها لنا زبيري قديم، الى المدن العراقية «السنية»، والتحق القسم الآخر بأقاربهم في السعودية والكويت ودول الخليج الأخرى، في هجرة جماعية تشبه تلك التي حلت بيهود البصرة ومسيحييها!
ولعل الزبير أكثر المناطق العراقية أمنا، لم تصل إليها حمى المواجهات والمداهمات وأعمال العنف، الأمر الذي ساعد بدوره على اتجاه البصريين نحوها واختيارهم السكن فيها، مما عزز حالة انحسار المدينة عن سكانها الأصليين.
أثر ذلك كثيرا على المجتمع الزبيري الشديد الخصوصية في السابق، وحولها الى بلدة بصرية عادية، لا تجد فيها المنتجات المحلية التي تميزت بها ولا تحتاج لأن تصحو مبكرا لتدلف إليها وتخرج محملا بالجديد.
الجامعة الأولى
قبل موافاتك الزبير سترى أعمدة ومواد بناء ورافعات وعمال يقومون بتوسيع وتعمير وترميم المسجد الذي يطلق العامة عليه «الخطوة» كون الإمام علي بن أبي طالب مر به وتوقف عنده.
للمسجد ثمانية عشر بابا، وتعمد من بنى هذه الأبواب، أن يكون عددها مساويا لعدد القبائل العربية التي كانت تقطن البصرة آنذاك.
دمر في ثورة الزنج وأحرق بعد تمرد 305 للهجرة وأحرق مجددا على يد قرامطة البحرين وتعرض للخراب عند اندثار البصرة في 800 هجرية وعانى بعد ثورة الطاعون في العهد العثماني. وفي كل مرة مما سبق ذكره يعاد بناؤه أو ترميمه.
ولأن الإمام علي كان أول خليفة يدخله ويؤم الناس فيه، فقد حمل أسمه ليومنا هذا، الذي يفكر فيه البصريون المعاصرون بإعادته الى مكانته الأولى في العلوم الإسلامية والإنسانية.
في مجلس محافظة البصرة يدرسون الآن تحويله الى جامعة على غرار الأزهر، بالرغم من قلة الإمكانات واختــفاء ذلك الجيل الذي يمكن أن يبني الجامعات ويمهد للعلوم طريقـها الى العقول والنفوس.
ومهما يكن مصير الجامع، لكــنه سيــبقى أهــم الآثار التي تبــقت من جيل البنائين الأوائل ومن الصعب الدخول الى الزبير عن طريق البصرة القديمة دون إلقاء التحية والسلام على صاحب «الخطوة».
المدينة المغلقة
لأن الزبيريين الأوائل نزحوا من نجد والسدير وجلبوا معهم عاداتهم ومذهبهم، فقد استمرت الزبير لغاية التسعينات مدينة سنية تتبع المذهب الحنبلي بالكامل تقريبا، قبل أن يصل إليها قرويون من الجوار ليسكنوا ويؤسسوا فيها «حي العرب» (لا ندري لماذا كان سكان المدن يطلقون على القرويين البسطاء مفردة: عرب!).
وبني في أول كيلومتر مربع كانت نواة الزبير المعاصرة 25 مسجدا حتى صارت تسمى مدينة المساجد لكثرتها في المدينة قياسا بمساحتها.
وتميز الزبيريون بملبسهم ولهجتهم الشبيهة بالخليجية وتمسكوا ببعض ورفضوا التصاهر مع «الغرباء»، ولا يستطيع قدماء الزبير استيعاب التطور الديموغرافي الذي طرأ بعد هجرة «العرب» إليهم حيث تحولوا الى أقلية وسط مزيج من أقوام ولهجات لا يستطيعون هضمها.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال بيوتهم فيها خصوصية، تشبه الى حد كبير بيوت الكويت القديمة، في الطراز الهندسي ونوعية المواد المستخدمة وشكل الأبواب والنوافذ.
مدينة الأصابع
الزبيريون تعودوا صناعة كل شيء بأيديهم ولم يشتروا من أحد شيئا، بل العكس، كانوا صناعا ماهرين لكل الأدوات المنزلية والملابس، وهم الذين يبيعون للآخرين. وحتى غذاؤهم كانوا يعتمدون فيه على تعودهم تربية الحيوانات والزراعة. ونجاحهم في الصناعات الشعبية والتجارة يرجع الى أنهم «يخافون الله» ومخلصون وعلى أعلى درجة من النزاهة ولا يعرفون «ألعاب السوق»، لذلك تحولت الزبير في الأربعينات الى منطقة للتجارة الحرة تتعامل مع الهند والصين ودول آسيوية أخرى، وكانت المدينة مركز جذب لكل شعوب الخليج، بما في ذلك «شركة الهند الشرقية» التي افتتحت أول فرع لها في الإقليم في الزبير بالذات، وكانت هذه الخطوة، أكثر ما يؤلم الزبيريين القدماء الآن، فقد كانت فاتحة دخول الغرباء إليها، لكون الشركة كانت تطلب الأيدي العاملة الرخيصة وأعمالا كان يرفض ممارستها السكان الأصليون، المرتاحون بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم، ولم يفكروا حتى في ممارسة الصيد البحري (عرفوا بالصيد البري أو القنص) أو استغلال البحر ولا امتهنوا مهنه ولم يكن فيهم أي بحار ولم تكن لديهم أية سفينة.
مدينة الأثل
تستقبلك الزبير الآن كما في السابق، بطريقها الخاص الذي تظلله أشجار الأثل البرية. بقيت على حالها مع قلة في اكتظاظها ولصلابتها لم تندثر لحسن الحظ، فمقبل المدينة هذا، واحد من أكثر ما يميزها، بإضافة تلك البيوت البيضاء والنوافذ المشبكة بالحديد وسقوف «الشيلمان» والأبواب الخشبية الضخمة ذات المطارق الحديدة وومضات النور التي تنقلك للزر الأول للمدينة.
سيحيطها الأثل من كل الجهات ليمتد حتى الدريهمية و البرجسية التي لم يبق بصري قديم إلا واستراح فيها واستنشق هوائها الصحراوي النقي تحت ظلال الأثل.
تأثرت المنطقتان لأن النظام السابق حولهما الى معسكرات ومقار فيالقه الحربية، وبدلا من فسحة الجمال التي كانت تجتذب الأهالي، شم الأثل وسممت أوراقه المرة وتناثرت على جذوعه زخات رصاص إعدام الفارين من الجيش.
لقد اهتم الزبيريون بزراعة الأثل لأنه يتحمل الملوحة وفي المواسم التي لا يجني فيها المزارع شيئا يمكنه تقطيع الأثل وبيعه حطبا والعيش من هذا المورد لغاية موسم جاف آخر على أرض غير خصبة.
المدينة الإمارة
كانت الزبير إمارة كما باقي الإمارات في الخليج، تناوب على حكمها آل الراشد بتنافس من آل السميط، وضمت مساحة كبيرة من البصرة الحالية. فقد امتدت مناطقها لتشمل أم قصر والمجدم المطلة على خور الزبير والمدفار والمربد وصفوان وجبل سنام والقريطية واللحيس والنجمي والرميلة التي تعد أغنى منطقة في العالم نفطيا.
لم يهتم احد على الإطلاق بهذه المناطق، وتحاول مقاومة الاندثار وتساقط شعرها وهزال جدرانها وتخطي عوامل تعرية مزقت البلد إربا.
تنسج الزبير الآن محلات الرشيدية وهي أحدثها على الأرجح، فيها جوامع منها الرشيدية الذي بناه محمد الصبيح والذكير المشيد من أبناء محمد الذكير، والصوالح الذي بناه ناصر الفرج، وتقسمها المحلات الى الرشيدية الأولى والثانية، فيما تعتبر «الكوت» أقدم محلة في الزبير وفيها قبر الزبير بن العوام الذي تجمع حوله النجديون ليشكلوا نواة الزبير.
وهناك الزهيرية التي تحمل اسم العائلة العريقة والميصة المشهورة بالأسواق ومحلة ديم الخزام التي تحافظ على مدرسة الحسن البصري ومحلة العرب التي يقيم فيها المهاجرون من القرى الذين استولوا على أراضي العنيزي.
المدينة المختلفة
بوسع من يفتح الباب الارتطام بورقة خضراء أو زهرة تطفو على السطح بحفيف شبابيكهم المنفتحة داخل البيوت لطرد الضوضاء وتلصص الفضول وكنس الغبار، فلا شباك يطل على الشارع.
سيقضي أفراد البيت وخاصة النسوة كل وقتهم في «الحوش» الذي يعتبر المساحة المفتوحة بين الغرف وهو عادة ما ينفتح على السماء وثمة من يغلقه بشكل وقتي بطرق مختلفة.
هكذا تنفرد بيوت الزبير، في انتصاب سدرة وأحيانا نخلة في منتصف الحوش وبين الغرف المطلة على الفناء بعتبات سيـّالة على فيض الندى والملابس المعطرة بالغسيل وابتسامات من هبّ صباحا ليرتب آنية الزهور ويملأ «الشراب» بالماء الذي عرفه الزبيريون نقيا عام 1936 فقط.
سيمر بعض الوقت وتنتهي آخر معارك الحرب العالمية الثانية في الزبير بالذات، لتعلق في «شيلمانات» الخشب الزاهية في السقف المراوح الأولى وتؤجل رعشة «المهافيف»، ما أن تنسحب الأضواء كالنواميس على الجباه لتفعل في وهجها سبلا وأكاليل ومجد الذين عاشوا في المدينة وملأوا الدنيا نجاحا وعطاء وأموالا ازدهار، لم يصل الى مدينتهم الأم ولا لثراها، ولا لأقدامها المثقلة بالخفّ والنعل وجلود الجمال.
سينغلق الباب تلو الآخر، وستذبل سدرة منتصف الحوش ما ان تفقد أنفاس أهل البيت، سيتناقصون تدريجيا، هجرة الصغير قبل الكبير، ليتركوا المدفن و«الحب» لسقاة جدد، وستهتز لمفارقتهم المدينة كثيرا، وستبطل المقاهي من «زهيريات» القرن الذهبي، وسيتلاشى صوت طبل عبد الجبار موقظ المدينة وساعتها المنبهة في السحور والإمساك والصلاة والنهوض.
اختفى «الشاوي» من أطراف المدينة ولم تعد ماعزه الى مضرب الخيام وإن غابت الشمس، لم يصاحب الأطفال مسرى الماعز والخراف برقص مداعبة الحيوانات المنيرة مع نفوس المدينة، مجدولة معها كصياغة معطرة بحجر ثمين.
تناست مقاهي الزبير الراهنة تخوتها وأهلها وشبانها و« دامتهم» التي لو نظموا فيها بطولة عالمية لما نافسهم عليها خيرة أبطال الشطرنج، تفرقت «الدامات» وأصحابها، ونهشت المقاهي حمى المطاعم الجوالة والبناطيل التركية والمولدات الهندية و الهواتف الصينية والشعارات المحسوبة على الرب.
غاصت الجوامع العتيقة بصور الرموز الجدد ولحى المستشهدين قتلا، تحيطها كأفق دوائر المعرفة المنبثقة من كل باحة مسجد، رسوخ في العلوم وتأرجح في الاجتهاد.
سيؤذن الغرباء في مساجد أهل البيت الغائبين وسيعيدون الآذان، دون ذاك التدافع القديم المتعقب لرقة القارئ والملا الذي إن مر على حشد تماسكوا بالصلاح.
فاضت نغمات «الوكس» وزادت حلقات الرجال حوله، سيدق على دفـّه لتناشده دفوف أخرى في ساحة «العرضة» المحلقة عليها الصقور، قابعة في هذا الجزء من العالم ذي الأفق الذي ان أبصرت فيه ترى مسيرة نصف يوم للقادمين والغزاة والراحلين من غير رجعة.
اختفى لمعان سيوف «العرضة» ما ان غمدت في الصناديق التي رحلت جنوبا وشرقا وغربا وتركت دوائر الزبير وحلقاتها للظلام والحدس.
ستشحب رؤياك عند بوابة إبراهيم وسينظر لك حاجب الشيخ عبد الله آخر أمراء الزبير المغدورين، ستتعقب يداه المترددتان وحلقه الملتئم بالصرخة وعيناه الضجرتان من غياب الشيخ، غيابه الطويل، مع أعيان شعـّوا الحياة وبنوا ألف بئر وعين في أي مكان عدا الزبير المكثرة من إنجاب العظماء والمقلة من المطالب، حتى من فلذة قلبها الذين، فتتتها غربتها عنهم وآذتهم غربتهم عنها، لحين تفجر الينبوع الآخر من الذي أنهى جدل الشعراء في وصفها الزبير بن العوام بقوله الأثير: «الدنيا بصرة»!
مدينة الأسواق
لألأة المدينة، أسواقها. فهي تنازلت عن ثقافة البحر ومهنه، وارتدت ثقافة الصحراء وتجارتها وأسدلت أشرعتها على الرغم من اقترابها من البحر، لتنير هوادجها ولمعان عيون نسورها.
سيقذفك السوق لآخر، دون أن تعثر على شخص واحد في المدينة يغشك ولو بمثقال، بنفس أو إيماءة، فهي مدينة الصحابة المغدورين وكل شخص فيها وضاء: سيتوقف الكذب والغش ما أن تدخل الزبير!
ستتفق على أن يكون دليلك «خزان» المياه في ملقى سوق البراهيم الذي سيفضي بك الى سوق المسامير. وفي لحظة تعتقد بأن لا منفذ لديك لتكمل، ستجد ممرا ضيقا كله قاذورات، عليك أن تقفزه وتعبر الزقاق كله فتكون مقابل سوق سويلم الذي سيتقد قلبك فيه أكثر وتضطر لفحص وسطك ما أن يهطل عليك سوق الحزم.
ستحسب رؤاك الكثير من الزخارف وستسفك انبساطك سيارات كراج التاكسي القبيحة الكثيرة الزعيق، فتقرر الانحراف نحو اليمين لتندس في سوق البنات الذي كان مخصصا لهنّ، لكنه الآن كله رجال في رجال، فتقرر العودة، لكن سيارة زبالة محصورة في المنفذ تعيق هروبك.
الباعة غير المألوفين أبدا سيصادفونك في سوق الحمام وستشم رائحة بيض نصف فاسد، قبل أن تمنحك المدينة هدية التنزه في سوق الخرازين وتشغلك أصوات سوق الندافين قبل أن تخنقك روائح سوق السمك.
هادرة أصوات سعفات النخيل في سوق الحصران والحبال والزبلان التي لا يمكنك العثور على منتج واحد فيه خارج جسد النخلة وشيماء تفردها وسطوة تأهبها وجمال ملبسها.
كم من الرجال تركوا أقدامهم في هذه الأسواق، وكم من العباءات لفحت أرصفتها، وكم من حطام ذكريات وصبيات نحيلات غبن ذات يوم عن جمهرة الأضاحي لمواساة الكحل والديرم ودأب التجوال عن برقع أقل وجعا.
مدينة الطرب
وطنت روحها بلملمة الأحاسيس وانتشت للصوت المسرف في إخراج المفردة وإظهارها كما ولجت في الفؤاد، كرية بيضاء، كعين رمل وبهاء ناقة ممعنة بحلقة الرجال الحافرين مؤانستهم في حصيلة : الصوت واللحن الخارق والشدو إن استعار أحلى المفردات.
سيصدرون طلاقة اللسان بدفق «الدنيا لو زهت» وسيغري الجلسة مطربها لو كرر عليهم «سود الليالي» ليكسو الراحات نغما وهتافا: يا أبو العوف!
سينبعث صوته مذعنا لبهجة لحن «على جبين الترف» وسيسبر حزنهم وآلامهم أكثر ما أن يردد «يا دمعة بين الجفون» ليقذف الراقصون بأجسادهم وسط الحلقة المحشوة بالغناء المذاب في الإيقاع الملازم لرقصة «يا أبو عيون الصبغ».
الأغاني الزبيرية لا تزال تسري مع قلوبهم أينما حلوا، ومهما كساهم المشيب لن ينسوا «أقعد يمي ونادمني» و«خدك ورد زاهي» و«بحار» و تلك الأغنية التي ترثي الشجرة الوحيدة «عفنا المنازل» وعناقيد العتب في «لولا الغرام حاكم» وتساقط الغربة و خواء المقل في «نازل يا قطار الشوق» وزوال الأمل في «العين هلت دمعها» وأفاع الروح الضاربة حين يعلو الصوت «جلب الكأس جاليات الهموم» ومرح الوصف ومداعبة المروج في «يا غزالا بالفلا» ونشوة المجموعة حين تضحك على الزمن «جوزي تجوز عليه وانا لسه الحنه بايديه» و تسامره «صغيـّر يا صغيـّر» وبراءة شكوى «سابتني حلوة البنية وما خلت عقل بيه» لينضم الجميع وقت الانحدار الى البيوت بالنشيد الوطني: «أحيا وأموت على البصرة»!
مدينة المقبرة
أنشئت الزبير على قبر وبئر، وعلت قبورها شيئا فدهرا حتى صارت المدينة المتداخلة في المقبرة والأموات الدائرين على الأحياء المختارين أرنبة الصحراء وصدرها المؤاخذ.
محافظون على الواجب والأصول، بدأنا بالسلام على الأهل والأصدقاء والعظام الذين يخلدون في مقبرة الزبير. كانت زيارة كلها مرارة ولولا أجنة الطباع وكروموسومات المهنة لتمرغت الأفكار وتبعثرت المخططات، حين تبدأ يومك في مقبرة.
حارسها ودفانها الأقدم ورئيس تشريفات الأموات، ذلك الزبيري القديم والمحافظ للآن على اللهجة والملبس ونظافة الجبين وعمق الصدق في العيون والعفة وحسن النية واحترام الموتى.
لم نستطع التصديق بأن العمر تقدم بنا هكذا بسرعة لنرى قبور أصدقائنا الذين اكتشفنا موتهم في المقبرة فقط. لم يتوقف الزبيري من تعداد سكان منطقته، قائمة من الصحابة والولاة والأمراء ورؤساء الوزراء، المصلحين والشعراء، التجار وبناة المساجد وأرامل وأطفال وقتلى حروب عديدة. هنا يرقد مالك بن دينار ومرضعة الرسول حليمة السعدية وقاضي المدينة أحمد الأنصاري والثائر الكبير طالب النقيب مؤسس الحركة الأكثر ديمقراطية في المنطقة وبدر شاكر السياب الذي التحق الى جانبه محمود البريكان ومزيد من الصفحات العميقة التأثير في المدينة وعلومها وآدابها.
قرّت أعيننا، بتنظيمها الحسن وحفاظها على نظافتها وترتيبها القديم لم يمسسه، ولحسن الحظ، أي تدمير وخراب.
فتح لنا الزبيري الأصيل مرقد الحسن البصري المدفون قربه أبو بكر محمد الأنصاري وهما من أعمق المفكرين وفقهاء الإسلام والأخير له الكتاب الفظيع الأهمية «تفسير الرؤية».
يجاور الحسن البصري مدفن بيت النقيب الذي تجري العائلة فيه حاليا بعض الصيانة والترميمات. وثمة الكثير جدا من القبور لأشخاص ولدوا وتوفوا في الكويت.
يتجدد إحساسنا ذاته كلما زرنا مقبرة وهو أنها تتحول برمتها الى قبر واحد لعزيز دق جرس موته قبل الأوان.
المدينة المداومة
هي الزبير كما كانت، لم يتغير فيها شيء ولم تزل منها شرفة ولا شجرة، سنديان أو سدر، كلها موجودة، عدا أناسها وروحها وقولها وطياتها وخصوصيتها وتحركها ونطقها ووشاحها.
تغيرت لهجتها وملبسها وحنابلتها صاروا مختلفي الألوان والأجناس وبدلا من مكتبتها التي زارها كل ملوك الإقليم، ملأتها مقار الأحزاب التي دوختها بالإسمنت والمسلحين ورائحة مختلفة تفقدها زينتها.
كل شيء على حاله، خزان المياه والمنائر وسقائف الأسواق وبوابة المقبرة والشوارع، عدا جزئها الأهم، ناسها ورؤوسهم، تجوالهم ومضيـّهم أوقات العصر وتلاحمهم في صلاة المغرب وسهرات ما بعد العشاء.
متفرقة الزبير كأبنائها، كما لو أن تيارا منحوسا أذابهم وفرقهم وقطـّع أعشابهم وطمر آبارهم، بما وهبت من مثقلات الخصائص ومروحات العادات، زاحمت الجنوح والأخطاء في السلسلة التي دارت وهوت بإعصارها فلم تبق عليهم باقية.
تلاشى مسك الزبير وعطرها الأخاذ، واندثرت المسافة الشاسعة بين الكوة والصرير والشباك المستحي ووعود الشبان الملثمين لنساء أكثر تلثيما، في الديوان المتناثر الأسئلة، عن فصلها وأصلها، بنت المدينة المدورة، التي ما اتكأت على غريب ولم يحك قصصها جوال عابر، إلا وكان مستنشقا رملها منذ الرمق الأول والصيحة البكر.
رحل اسكافي الزبير الأخير على عربة حصان جائع جدا وتاهت أقدام من بقى في المدينة، الجائرة بلا صبيانها وشيوخها وعوانسها وحشدها أن تفرح ومواكبها إن تودع ابنها.
لم يمر غريب فيها إلا واستنسخت عثراته وألقت عليه المدينة كلها التحية وفتحت صدرها وقلبها لتجيبه وتعينه وتدله وترضيه، باللحظة والمائدة والجواب لكل سؤال، متأهبة كنسيمها، سائرة بلا تبعات.
على حالها الزبير لكن بلا زبيريين، يا لها من نهاية للمدينة!
الزبيريون أسرى الفضيلة وعادات الصقور التي لا تستكن بصحراء وسماء واحدة، هاموا عنها وإن سيحشرون عند عتباتها فاتورة للعذاب لا الحصر.
تعثرت المدينة العجوز ولم تجد أبناءها لكي تستند إليهم. ومع أنها في موضعها محافظة على سلـّمها ورواقها وبئرها وحوانيتها، إلا أن الغرباء داهموا أشجارها وجدرانها وجذوعها واستبدلوا الساقية بالصنبور وجلسات الكيف بعواء لا مراء في تطفله على انشودة المدينة وهبوبها واسترسالها الجاف.
نحيلكم لكي نكف الدمع، لشريطها الجديد ما بعد هجرة روحها وأقمشتها وخفـّها «بشوتها» وصوانيها.
تفرســوا بمدينتــكم كيف كانت وكيف داهنــها الزمــن، لـغاية اليوم الذي تتوقف فيه عربة حديثة، ينفجر مــنها نســيم الابن العائد، فتنبض حينها أوردتها بالدماء وتتحرك أصابعها نحوه، ملقية عليه السلام، كما كانت دوما : لا أزال على قيد الحياة من أجلك!
مدينة المدارس
افتتحت فيها أول مدرسة في المنطقة وتخرج من مدرسة الدويحس طلاب من الكويت ونجد والأحساء، تلتها المدرسة الأولية في عهد شيخ الزبير إبراهيم العبد الله الراشد وصفوفها في بيت علي الزهير، ثم انتقلت الى بيت المنديل وتخرج منها علماء كالشيخ عبد المحسن البابطين ويوسف الزهير ويوسف الشرهان وابراهيم العرفج وعبد الكريم السويدان وغيرهم.
شجرة العلماء
في العشرينات ظهرت «مدرسة الشنقيطي» (نسبة الى مؤسسها محمد امين الشنقيطي) التي خرجت أهم رعيل من علماء الزبير والكويت ونجد والأحساء منهم : ناصر الأحمد، عبد الرزاق الدايل، جاسم العقرب، أحمد الخميس، عبد الله الوهيب، أحمد العرفيج، عيسى الشرهان، عبد المحسن البابطين، عبد الله السند، عبد الكريم الصانع، يعقوب العقيلي، مقبل الرماح، محمد الشماس، يوسف الحميدان، عثمان الدليجان، عبد اللطيف الرشيد، صقر البعيجان، وقائمة طويلة ممن سيعذروننا إن نسينا أو أخطأنا لكونهم صاروا علماء وتجارا كبارا، وروافد فكر، أسسوا اسم المنطقة و نفثوا فيها الروح وزينوها بالعلم، حتى صارت على ما هي عليه الآن.
مدينة المكتبات
أسست أول مكتبة في الخليج في الزبير عام 1921 في دكان صغير سميت ولغاية تدهورها في الثمانينات «مكتبة الزبير الأهلية»، سرعان ما تحولت الى أهم مؤسسة ثقافية في الخليج بعد تبرع الأهالي والعائلات الأصلية بالمبنى والأثاث وما يلزمها، حيث كانت تعقد فيها الندوات وتراسل كل مكتبات العالم وتشترك فيما كان ينشر في ذلك الوقت من دوريات ومجلات وكتب حديثة. تألفت هيئة التأسيس من بدر خالد العون ويوسف الزهير وسعد الربيعة وعبد الرحمن العودة وناصر الثاقب ومحمد العقيل. وتألفت أول هيئة إدارية لها من : عبد العزيز المطير وناصر المجموعي وأحمد الصالح وناصر المطير وعبد الرزاق الصانع وعبد العزيز العلي. وأعقبهم عبد الله الطبطبائي وعبد القادر الصانع ويوسف الشرهان وحمد البسام.
وبعد تحولها الى منبر ثقافي في الخليج، فقد زارها ملوك وأمراء منهم الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود والملك غازي الأول والملك عبد الله بن الحسين والملك فيصل الثاني والكثير من رؤساء وزراء العراق مثل نوري السعيد ومزاحم الباجه جي وطه الهاشمي وغيرهم.
البصرة ـ د. جمال حسين
الزبير الراهنة نموذج للمدن التي تتغير في روحها رغم حفاظها على جدرانها وعواميدها وهيكلها. فالقصبة الأولى التي ارتفعت في البصرة كانت في الزبير، قبل حلول النهاية الخاسرة للنهر الذي أقيمت عليه.. البصرة الأولى المتممة للزبير الحالية ذات الإلهام الذي جزؤه الأكبر عروق المدينة المتصحرة، وجذورها اليابسة ممسية شبحا مستوية رمادا خداعا بعد أن كانت سطوة ورشاقة وفصحا وصباحات وردية ومساءات بهية.
ما يقترب من المرثية، حاثين الخطى نحو مثوى تلك الأميرة ذات الفيافي والأقراط والقصيدة غير المنجزة.
ما إن نسأل عن أحد من أعيان المدينة أو وجهائها أو تجارها حتى يدلونا على قبره! وليس ثمة من يساعدك على التمحيص وحمل آلام الجذور، سوى تسييس المدينة وكثرة دوائر الأمن والشرطة والحدود وتنظيمات الأحزاب المسلحة.
لا ندري ما الذي تفعله كل هذه الأحزاب الشيعية في المدينة الحنبلية، وما الذي يعتصر قلبها، حين تبرح أماكنها القديمة نزوات الحياة الجديدة التي أثرت حتى على معمار البيوت التي لا يظهر منها شباك للشارع؟
انسحبت كل عائلات الزبير الأصلية، كما دوّنها لنا زبيري قديم، الى المدن العراقية «السنية»، والتحق القسم الآخر بأقاربهم في السعودية والكويت ودول الخليج الأخرى، في هجرة جماعية تشبه تلك التي حلت بيهود البصرة ومسيحييها!
ولعل الزبير أكثر المناطق العراقية أمنا، لم تصل إليها حمى المواجهات والمداهمات وأعمال العنف، الأمر الذي ساعد بدوره على اتجاه البصريين نحوها واختيارهم السكن فيها، مما عزز حالة انحسار المدينة عن سكانها الأصليين.
أثر ذلك كثيرا على المجتمع الزبيري الشديد الخصوصية في السابق، وحولها الى بلدة بصرية عادية، لا تجد فيها المنتجات المحلية التي تميزت بها ولا تحتاج لأن تصحو مبكرا لتدلف إليها وتخرج محملا بالجديد.
الجامعة الأولى
قبل موافاتك الزبير سترى أعمدة ومواد بناء ورافعات وعمال يقومون بتوسيع وتعمير وترميم المسجد الذي يطلق العامة عليه «الخطوة» كون الإمام علي بن أبي طالب مر به وتوقف عنده.
للمسجد ثمانية عشر بابا، وتعمد من بنى هذه الأبواب، أن يكون عددها مساويا لعدد القبائل العربية التي كانت تقطن البصرة آنذاك.
دمر في ثورة الزنج وأحرق بعد تمرد 305 للهجرة وأحرق مجددا على يد قرامطة البحرين وتعرض للخراب عند اندثار البصرة في 800 هجرية وعانى بعد ثورة الطاعون في العهد العثماني. وفي كل مرة مما سبق ذكره يعاد بناؤه أو ترميمه.
ولأن الإمام علي كان أول خليفة يدخله ويؤم الناس فيه، فقد حمل أسمه ليومنا هذا، الذي يفكر فيه البصريون المعاصرون بإعادته الى مكانته الأولى في العلوم الإسلامية والإنسانية.
في مجلس محافظة البصرة يدرسون الآن تحويله الى جامعة على غرار الأزهر، بالرغم من قلة الإمكانات واختــفاء ذلك الجيل الذي يمكن أن يبني الجامعات ويمهد للعلوم طريقـها الى العقول والنفوس.
ومهما يكن مصير الجامع، لكــنه سيــبقى أهــم الآثار التي تبــقت من جيل البنائين الأوائل ومن الصعب الدخول الى الزبير عن طريق البصرة القديمة دون إلقاء التحية والسلام على صاحب «الخطوة».
المدينة المغلقة
لأن الزبيريين الأوائل نزحوا من نجد والسدير وجلبوا معهم عاداتهم ومذهبهم، فقد استمرت الزبير لغاية التسعينات مدينة سنية تتبع المذهب الحنبلي بالكامل تقريبا، قبل أن يصل إليها قرويون من الجوار ليسكنوا ويؤسسوا فيها «حي العرب» (لا ندري لماذا كان سكان المدن يطلقون على القرويين البسطاء مفردة: عرب!).
وبني في أول كيلومتر مربع كانت نواة الزبير المعاصرة 25 مسجدا حتى صارت تسمى مدينة المساجد لكثرتها في المدينة قياسا بمساحتها.
وتميز الزبيريون بملبسهم ولهجتهم الشبيهة بالخليجية وتمسكوا ببعض ورفضوا التصاهر مع «الغرباء»، ولا يستطيع قدماء الزبير استيعاب التطور الديموغرافي الذي طرأ بعد هجرة «العرب» إليهم حيث تحولوا الى أقلية وسط مزيج من أقوام ولهجات لا يستطيعون هضمها.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال بيوتهم فيها خصوصية، تشبه الى حد كبير بيوت الكويت القديمة، في الطراز الهندسي ونوعية المواد المستخدمة وشكل الأبواب والنوافذ.
مدينة الأصابع
الزبيريون تعودوا صناعة كل شيء بأيديهم ولم يشتروا من أحد شيئا، بل العكس، كانوا صناعا ماهرين لكل الأدوات المنزلية والملابس، وهم الذين يبيعون للآخرين. وحتى غذاؤهم كانوا يعتمدون فيه على تعودهم تربية الحيوانات والزراعة. ونجاحهم في الصناعات الشعبية والتجارة يرجع الى أنهم «يخافون الله» ومخلصون وعلى أعلى درجة من النزاهة ولا يعرفون «ألعاب السوق»، لذلك تحولت الزبير في الأربعينات الى منطقة للتجارة الحرة تتعامل مع الهند والصين ودول آسيوية أخرى، وكانت المدينة مركز جذب لكل شعوب الخليج، بما في ذلك «شركة الهند الشرقية» التي افتتحت أول فرع لها في الإقليم في الزبير بالذات، وكانت هذه الخطوة، أكثر ما يؤلم الزبيريين القدماء الآن، فقد كانت فاتحة دخول الغرباء إليها، لكون الشركة كانت تطلب الأيدي العاملة الرخيصة وأعمالا كان يرفض ممارستها السكان الأصليون، المرتاحون بتجارتهم وصناعتهم وزراعتهم، ولم يفكروا حتى في ممارسة الصيد البحري (عرفوا بالصيد البري أو القنص) أو استغلال البحر ولا امتهنوا مهنه ولم يكن فيهم أي بحار ولم تكن لديهم أية سفينة.
مدينة الأثل
تستقبلك الزبير الآن كما في السابق، بطريقها الخاص الذي تظلله أشجار الأثل البرية. بقيت على حالها مع قلة في اكتظاظها ولصلابتها لم تندثر لحسن الحظ، فمقبل المدينة هذا، واحد من أكثر ما يميزها، بإضافة تلك البيوت البيضاء والنوافذ المشبكة بالحديد وسقوف «الشيلمان» والأبواب الخشبية الضخمة ذات المطارق الحديدة وومضات النور التي تنقلك للزر الأول للمدينة.
سيحيطها الأثل من كل الجهات ليمتد حتى الدريهمية و البرجسية التي لم يبق بصري قديم إلا واستراح فيها واستنشق هوائها الصحراوي النقي تحت ظلال الأثل.
تأثرت المنطقتان لأن النظام السابق حولهما الى معسكرات ومقار فيالقه الحربية، وبدلا من فسحة الجمال التي كانت تجتذب الأهالي، شم الأثل وسممت أوراقه المرة وتناثرت على جذوعه زخات رصاص إعدام الفارين من الجيش.
لقد اهتم الزبيريون بزراعة الأثل لأنه يتحمل الملوحة وفي المواسم التي لا يجني فيها المزارع شيئا يمكنه تقطيع الأثل وبيعه حطبا والعيش من هذا المورد لغاية موسم جاف آخر على أرض غير خصبة.
المدينة الإمارة
كانت الزبير إمارة كما باقي الإمارات في الخليج، تناوب على حكمها آل الراشد بتنافس من آل السميط، وضمت مساحة كبيرة من البصرة الحالية. فقد امتدت مناطقها لتشمل أم قصر والمجدم المطلة على خور الزبير والمدفار والمربد وصفوان وجبل سنام والقريطية واللحيس والنجمي والرميلة التي تعد أغنى منطقة في العالم نفطيا.
لم يهتم احد على الإطلاق بهذه المناطق، وتحاول مقاومة الاندثار وتساقط شعرها وهزال جدرانها وتخطي عوامل تعرية مزقت البلد إربا.
تنسج الزبير الآن محلات الرشيدية وهي أحدثها على الأرجح، فيها جوامع منها الرشيدية الذي بناه محمد الصبيح والذكير المشيد من أبناء محمد الذكير، والصوالح الذي بناه ناصر الفرج، وتقسمها المحلات الى الرشيدية الأولى والثانية، فيما تعتبر «الكوت» أقدم محلة في الزبير وفيها قبر الزبير بن العوام الذي تجمع حوله النجديون ليشكلوا نواة الزبير.
وهناك الزهيرية التي تحمل اسم العائلة العريقة والميصة المشهورة بالأسواق ومحلة ديم الخزام التي تحافظ على مدرسة الحسن البصري ومحلة العرب التي يقيم فيها المهاجرون من القرى الذين استولوا على أراضي العنيزي.
المدينة المختلفة
بوسع من يفتح الباب الارتطام بورقة خضراء أو زهرة تطفو على السطح بحفيف شبابيكهم المنفتحة داخل البيوت لطرد الضوضاء وتلصص الفضول وكنس الغبار، فلا شباك يطل على الشارع.
سيقضي أفراد البيت وخاصة النسوة كل وقتهم في «الحوش» الذي يعتبر المساحة المفتوحة بين الغرف وهو عادة ما ينفتح على السماء وثمة من يغلقه بشكل وقتي بطرق مختلفة.
هكذا تنفرد بيوت الزبير، في انتصاب سدرة وأحيانا نخلة في منتصف الحوش وبين الغرف المطلة على الفناء بعتبات سيـّالة على فيض الندى والملابس المعطرة بالغسيل وابتسامات من هبّ صباحا ليرتب آنية الزهور ويملأ «الشراب» بالماء الذي عرفه الزبيريون نقيا عام 1936 فقط.
سيمر بعض الوقت وتنتهي آخر معارك الحرب العالمية الثانية في الزبير بالذات، لتعلق في «شيلمانات» الخشب الزاهية في السقف المراوح الأولى وتؤجل رعشة «المهافيف»، ما أن تنسحب الأضواء كالنواميس على الجباه لتفعل في وهجها سبلا وأكاليل ومجد الذين عاشوا في المدينة وملأوا الدنيا نجاحا وعطاء وأموالا ازدهار، لم يصل الى مدينتهم الأم ولا لثراها، ولا لأقدامها المثقلة بالخفّ والنعل وجلود الجمال.
سينغلق الباب تلو الآخر، وستذبل سدرة منتصف الحوش ما ان تفقد أنفاس أهل البيت، سيتناقصون تدريجيا، هجرة الصغير قبل الكبير، ليتركوا المدفن و«الحب» لسقاة جدد، وستهتز لمفارقتهم المدينة كثيرا، وستبطل المقاهي من «زهيريات» القرن الذهبي، وسيتلاشى صوت طبل عبد الجبار موقظ المدينة وساعتها المنبهة في السحور والإمساك والصلاة والنهوض.
اختفى «الشاوي» من أطراف المدينة ولم تعد ماعزه الى مضرب الخيام وإن غابت الشمس، لم يصاحب الأطفال مسرى الماعز والخراف برقص مداعبة الحيوانات المنيرة مع نفوس المدينة، مجدولة معها كصياغة معطرة بحجر ثمين.
تناست مقاهي الزبير الراهنة تخوتها وأهلها وشبانها و« دامتهم» التي لو نظموا فيها بطولة عالمية لما نافسهم عليها خيرة أبطال الشطرنج، تفرقت «الدامات» وأصحابها، ونهشت المقاهي حمى المطاعم الجوالة والبناطيل التركية والمولدات الهندية و الهواتف الصينية والشعارات المحسوبة على الرب.
غاصت الجوامع العتيقة بصور الرموز الجدد ولحى المستشهدين قتلا، تحيطها كأفق دوائر المعرفة المنبثقة من كل باحة مسجد، رسوخ في العلوم وتأرجح في الاجتهاد.
سيؤذن الغرباء في مساجد أهل البيت الغائبين وسيعيدون الآذان، دون ذاك التدافع القديم المتعقب لرقة القارئ والملا الذي إن مر على حشد تماسكوا بالصلاح.
فاضت نغمات «الوكس» وزادت حلقات الرجال حوله، سيدق على دفـّه لتناشده دفوف أخرى في ساحة «العرضة» المحلقة عليها الصقور، قابعة في هذا الجزء من العالم ذي الأفق الذي ان أبصرت فيه ترى مسيرة نصف يوم للقادمين والغزاة والراحلين من غير رجعة.
اختفى لمعان سيوف «العرضة» ما ان غمدت في الصناديق التي رحلت جنوبا وشرقا وغربا وتركت دوائر الزبير وحلقاتها للظلام والحدس.
ستشحب رؤياك عند بوابة إبراهيم وسينظر لك حاجب الشيخ عبد الله آخر أمراء الزبير المغدورين، ستتعقب يداه المترددتان وحلقه الملتئم بالصرخة وعيناه الضجرتان من غياب الشيخ، غيابه الطويل، مع أعيان شعـّوا الحياة وبنوا ألف بئر وعين في أي مكان عدا الزبير المكثرة من إنجاب العظماء والمقلة من المطالب، حتى من فلذة قلبها الذين، فتتتها غربتها عنهم وآذتهم غربتهم عنها، لحين تفجر الينبوع الآخر من الذي أنهى جدل الشعراء في وصفها الزبير بن العوام بقوله الأثير: «الدنيا بصرة»!
مدينة الأسواق
لألأة المدينة، أسواقها. فهي تنازلت عن ثقافة البحر ومهنه، وارتدت ثقافة الصحراء وتجارتها وأسدلت أشرعتها على الرغم من اقترابها من البحر، لتنير هوادجها ولمعان عيون نسورها.
سيقذفك السوق لآخر، دون أن تعثر على شخص واحد في المدينة يغشك ولو بمثقال، بنفس أو إيماءة، فهي مدينة الصحابة المغدورين وكل شخص فيها وضاء: سيتوقف الكذب والغش ما أن تدخل الزبير!
ستتفق على أن يكون دليلك «خزان» المياه في ملقى سوق البراهيم الذي سيفضي بك الى سوق المسامير. وفي لحظة تعتقد بأن لا منفذ لديك لتكمل، ستجد ممرا ضيقا كله قاذورات، عليك أن تقفزه وتعبر الزقاق كله فتكون مقابل سوق سويلم الذي سيتقد قلبك فيه أكثر وتضطر لفحص وسطك ما أن يهطل عليك سوق الحزم.
ستحسب رؤاك الكثير من الزخارف وستسفك انبساطك سيارات كراج التاكسي القبيحة الكثيرة الزعيق، فتقرر الانحراف نحو اليمين لتندس في سوق البنات الذي كان مخصصا لهنّ، لكنه الآن كله رجال في رجال، فتقرر العودة، لكن سيارة زبالة محصورة في المنفذ تعيق هروبك.
الباعة غير المألوفين أبدا سيصادفونك في سوق الحمام وستشم رائحة بيض نصف فاسد، قبل أن تمنحك المدينة هدية التنزه في سوق الخرازين وتشغلك أصوات سوق الندافين قبل أن تخنقك روائح سوق السمك.
هادرة أصوات سعفات النخيل في سوق الحصران والحبال والزبلان التي لا يمكنك العثور على منتج واحد فيه خارج جسد النخلة وشيماء تفردها وسطوة تأهبها وجمال ملبسها.
كم من الرجال تركوا أقدامهم في هذه الأسواق، وكم من العباءات لفحت أرصفتها، وكم من حطام ذكريات وصبيات نحيلات غبن ذات يوم عن جمهرة الأضاحي لمواساة الكحل والديرم ودأب التجوال عن برقع أقل وجعا.
مدينة الطرب
وطنت روحها بلملمة الأحاسيس وانتشت للصوت المسرف في إخراج المفردة وإظهارها كما ولجت في الفؤاد، كرية بيضاء، كعين رمل وبهاء ناقة ممعنة بحلقة الرجال الحافرين مؤانستهم في حصيلة : الصوت واللحن الخارق والشدو إن استعار أحلى المفردات.
سيصدرون طلاقة اللسان بدفق «الدنيا لو زهت» وسيغري الجلسة مطربها لو كرر عليهم «سود الليالي» ليكسو الراحات نغما وهتافا: يا أبو العوف!
سينبعث صوته مذعنا لبهجة لحن «على جبين الترف» وسيسبر حزنهم وآلامهم أكثر ما أن يردد «يا دمعة بين الجفون» ليقذف الراقصون بأجسادهم وسط الحلقة المحشوة بالغناء المذاب في الإيقاع الملازم لرقصة «يا أبو عيون الصبغ».
الأغاني الزبيرية لا تزال تسري مع قلوبهم أينما حلوا، ومهما كساهم المشيب لن ينسوا «أقعد يمي ونادمني» و«خدك ورد زاهي» و«بحار» و تلك الأغنية التي ترثي الشجرة الوحيدة «عفنا المنازل» وعناقيد العتب في «لولا الغرام حاكم» وتساقط الغربة و خواء المقل في «نازل يا قطار الشوق» وزوال الأمل في «العين هلت دمعها» وأفاع الروح الضاربة حين يعلو الصوت «جلب الكأس جاليات الهموم» ومرح الوصف ومداعبة المروج في «يا غزالا بالفلا» ونشوة المجموعة حين تضحك على الزمن «جوزي تجوز عليه وانا لسه الحنه بايديه» و تسامره «صغيـّر يا صغيـّر» وبراءة شكوى «سابتني حلوة البنية وما خلت عقل بيه» لينضم الجميع وقت الانحدار الى البيوت بالنشيد الوطني: «أحيا وأموت على البصرة»!
مدينة المقبرة
أنشئت الزبير على قبر وبئر، وعلت قبورها شيئا فدهرا حتى صارت المدينة المتداخلة في المقبرة والأموات الدائرين على الأحياء المختارين أرنبة الصحراء وصدرها المؤاخذ.
محافظون على الواجب والأصول، بدأنا بالسلام على الأهل والأصدقاء والعظام الذين يخلدون في مقبرة الزبير. كانت زيارة كلها مرارة ولولا أجنة الطباع وكروموسومات المهنة لتمرغت الأفكار وتبعثرت المخططات، حين تبدأ يومك في مقبرة.
حارسها ودفانها الأقدم ورئيس تشريفات الأموات، ذلك الزبيري القديم والمحافظ للآن على اللهجة والملبس ونظافة الجبين وعمق الصدق في العيون والعفة وحسن النية واحترام الموتى.
لم نستطع التصديق بأن العمر تقدم بنا هكذا بسرعة لنرى قبور أصدقائنا الذين اكتشفنا موتهم في المقبرة فقط. لم يتوقف الزبيري من تعداد سكان منطقته، قائمة من الصحابة والولاة والأمراء ورؤساء الوزراء، المصلحين والشعراء، التجار وبناة المساجد وأرامل وأطفال وقتلى حروب عديدة. هنا يرقد مالك بن دينار ومرضعة الرسول حليمة السعدية وقاضي المدينة أحمد الأنصاري والثائر الكبير طالب النقيب مؤسس الحركة الأكثر ديمقراطية في المنطقة وبدر شاكر السياب الذي التحق الى جانبه محمود البريكان ومزيد من الصفحات العميقة التأثير في المدينة وعلومها وآدابها.
قرّت أعيننا، بتنظيمها الحسن وحفاظها على نظافتها وترتيبها القديم لم يمسسه، ولحسن الحظ، أي تدمير وخراب.
فتح لنا الزبيري الأصيل مرقد الحسن البصري المدفون قربه أبو بكر محمد الأنصاري وهما من أعمق المفكرين وفقهاء الإسلام والأخير له الكتاب الفظيع الأهمية «تفسير الرؤية».
يجاور الحسن البصري مدفن بيت النقيب الذي تجري العائلة فيه حاليا بعض الصيانة والترميمات. وثمة الكثير جدا من القبور لأشخاص ولدوا وتوفوا في الكويت.
يتجدد إحساسنا ذاته كلما زرنا مقبرة وهو أنها تتحول برمتها الى قبر واحد لعزيز دق جرس موته قبل الأوان.
المدينة المداومة
هي الزبير كما كانت، لم يتغير فيها شيء ولم تزل منها شرفة ولا شجرة، سنديان أو سدر، كلها موجودة، عدا أناسها وروحها وقولها وطياتها وخصوصيتها وتحركها ونطقها ووشاحها.
تغيرت لهجتها وملبسها وحنابلتها صاروا مختلفي الألوان والأجناس وبدلا من مكتبتها التي زارها كل ملوك الإقليم، ملأتها مقار الأحزاب التي دوختها بالإسمنت والمسلحين ورائحة مختلفة تفقدها زينتها.
كل شيء على حاله، خزان المياه والمنائر وسقائف الأسواق وبوابة المقبرة والشوارع، عدا جزئها الأهم، ناسها ورؤوسهم، تجوالهم ومضيـّهم أوقات العصر وتلاحمهم في صلاة المغرب وسهرات ما بعد العشاء.
متفرقة الزبير كأبنائها، كما لو أن تيارا منحوسا أذابهم وفرقهم وقطـّع أعشابهم وطمر آبارهم، بما وهبت من مثقلات الخصائص ومروحات العادات، زاحمت الجنوح والأخطاء في السلسلة التي دارت وهوت بإعصارها فلم تبق عليهم باقية.
تلاشى مسك الزبير وعطرها الأخاذ، واندثرت المسافة الشاسعة بين الكوة والصرير والشباك المستحي ووعود الشبان الملثمين لنساء أكثر تلثيما، في الديوان المتناثر الأسئلة، عن فصلها وأصلها، بنت المدينة المدورة، التي ما اتكأت على غريب ولم يحك قصصها جوال عابر، إلا وكان مستنشقا رملها منذ الرمق الأول والصيحة البكر.
رحل اسكافي الزبير الأخير على عربة حصان جائع جدا وتاهت أقدام من بقى في المدينة، الجائرة بلا صبيانها وشيوخها وعوانسها وحشدها أن تفرح ومواكبها إن تودع ابنها.
لم يمر غريب فيها إلا واستنسخت عثراته وألقت عليه المدينة كلها التحية وفتحت صدرها وقلبها لتجيبه وتعينه وتدله وترضيه، باللحظة والمائدة والجواب لكل سؤال، متأهبة كنسيمها، سائرة بلا تبعات.
على حالها الزبير لكن بلا زبيريين، يا لها من نهاية للمدينة!
الزبيريون أسرى الفضيلة وعادات الصقور التي لا تستكن بصحراء وسماء واحدة، هاموا عنها وإن سيحشرون عند عتباتها فاتورة للعذاب لا الحصر.
تعثرت المدينة العجوز ولم تجد أبناءها لكي تستند إليهم. ومع أنها في موضعها محافظة على سلـّمها ورواقها وبئرها وحوانيتها، إلا أن الغرباء داهموا أشجارها وجدرانها وجذوعها واستبدلوا الساقية بالصنبور وجلسات الكيف بعواء لا مراء في تطفله على انشودة المدينة وهبوبها واسترسالها الجاف.
نحيلكم لكي نكف الدمع، لشريطها الجديد ما بعد هجرة روحها وأقمشتها وخفـّها «بشوتها» وصوانيها.
تفرســوا بمدينتــكم كيف كانت وكيف داهنــها الزمــن، لـغاية اليوم الذي تتوقف فيه عربة حديثة، ينفجر مــنها نســيم الابن العائد، فتنبض حينها أوردتها بالدماء وتتحرك أصابعها نحوه، ملقية عليه السلام، كما كانت دوما : لا أزال على قيد الحياة من أجلك!
مدينة المدارس
افتتحت فيها أول مدرسة في المنطقة وتخرج من مدرسة الدويحس طلاب من الكويت ونجد والأحساء، تلتها المدرسة الأولية في عهد شيخ الزبير إبراهيم العبد الله الراشد وصفوفها في بيت علي الزهير، ثم انتقلت الى بيت المنديل وتخرج منها علماء كالشيخ عبد المحسن البابطين ويوسف الزهير ويوسف الشرهان وابراهيم العرفج وعبد الكريم السويدان وغيرهم.
شجرة العلماء
في العشرينات ظهرت «مدرسة الشنقيطي» (نسبة الى مؤسسها محمد امين الشنقيطي) التي خرجت أهم رعيل من علماء الزبير والكويت ونجد والأحساء منهم : ناصر الأحمد، عبد الرزاق الدايل، جاسم العقرب، أحمد الخميس، عبد الله الوهيب، أحمد العرفيج، عيسى الشرهان، عبد المحسن البابطين، عبد الله السند، عبد الكريم الصانع، يعقوب العقيلي، مقبل الرماح، محمد الشماس، يوسف الحميدان، عثمان الدليجان، عبد اللطيف الرشيد، صقر البعيجان، وقائمة طويلة ممن سيعذروننا إن نسينا أو أخطأنا لكونهم صاروا علماء وتجارا كبارا، وروافد فكر، أسسوا اسم المنطقة و نفثوا فيها الروح وزينوها بالعلم، حتى صارت على ما هي عليه الآن.
مدينة المكتبات
أسست أول مكتبة في الخليج في الزبير عام 1921 في دكان صغير سميت ولغاية تدهورها في الثمانينات «مكتبة الزبير الأهلية»، سرعان ما تحولت الى أهم مؤسسة ثقافية في الخليج بعد تبرع الأهالي والعائلات الأصلية بالمبنى والأثاث وما يلزمها، حيث كانت تعقد فيها الندوات وتراسل كل مكتبات العالم وتشترك فيما كان ينشر في ذلك الوقت من دوريات ومجلات وكتب حديثة. تألفت هيئة التأسيس من بدر خالد العون ويوسف الزهير وسعد الربيعة وعبد الرحمن العودة وناصر الثاقب ومحمد العقيل. وتألفت أول هيئة إدارية لها من : عبد العزيز المطير وناصر المجموعي وأحمد الصالح وناصر المطير وعبد الرزاق الصانع وعبد العزيز العلي. وأعقبهم عبد الله الطبطبائي وعبد القادر الصانع ويوسف الشرهان وحمد البسام.
وبعد تحولها الى منبر ثقافي في الخليج، فقد زارها ملوك وأمراء منهم الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود والملك غازي الأول والملك عبد الله بن الحسين والملك فيصل الثاني والكثير من رؤساء وزراء العراق مثل نوري السعيد ومزاحم الباجه جي وطه الهاشمي وغيرهم.