بركان
10-03-2015, 06:20 PM
الأربعاء, 23 سبتمبر 2015
http://masralarabia.com/images/thumbs/250/cat_823.jpg
أسامة غريب
اقرأ أيضا:
من خزينة الذكريات (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/746641-من-خزينة-الذكريات)
كائن فظيع لا غنى عنه (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/732333-كائن-فظيع-لا-غنى-عنه)
الحج لإله من عجوة (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/724575-الحج-لإله-من-عجوة)
مهمة مستحيلة (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/716445-مهمة-مستحيلة)
ولو كره الناقدون (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/708465-ولو-كره-الناقدون)
مَن كانت تؤرقه مشكلة، من الطبيعي أن يشعر ببعض المعاناة وقدر من الضيق يتدرج حسب حدّة وطبيعة المشكلة، لكن إحساس المرء بأن لا أحد يشاركه ما يحسه أو يفهم ما يعانيه سيسبب له عذابًا أقسى وأمر من عذاب المشكلة ذاتها، فالإحساس بالاغتراب وسط الناس قاتل.
منذ سنوات عدت لمصر بعد غربة طويلة بالخارج وبدأت أتردد على محل مجاور للمنزل يقوم بتأجير شرائط الفيديو. ولاحظت منذ البداية أن نوعية الشرائط ومستوى الصوت والصورة في غاية الرداءة، مع أن أسعاره مرتفعة، فكنت أعيد له الشريط الذي أصابني بالنكد بدلًا من أن يمنحي سهرة طيبة وأنا مستاء وغاضب، وكنت ألقي عليه دروسًا عن أهمية احترام العميل والمحافظة عليه من خلال تقديم خدمة حسنة وسلعة ذات جودة، خصوصًا وأن عصر الشمولية قد انقضى والتسعيرة الجبرية التي كانت مبررًا للرداءة لم تعد موجودة، كما أن السوق أصبح مفتوحًا والمنافسة علي أشدها، فضلاً عن أن قانون العرض والطلب يحتم عليه أن يرتقي بالخدمة وإلا ضاع!
ولكن كان بروده يثيرني، وعدم اكتراثه لما أقول يزيد من حنقي وغضبي.. لهذا فقد انصرفت عنه واتجهت لمحل اَخر قريب، فوجدت الأمر لا يختلف، واكتشفت أنهم جميعًا يقدمون نفس الخدمة الرديئة، وعرفت كذلك أن مبادئ اَدم سميث عن العرض والطلب والمنافسة وقوانين السوق كلها معطلة وخارج نطاق الخدمة!
واتضح لي أن أصحاب محلات الفيديو كانوا علي حق عندما اتهمني بعضهم بالرغبة في الشغب والبحث عن المشاكل، وأنهم كانوا صبورين معي أكثر من اللازم، ذلك أن بقية الزبائن لم تكن تصدر عنهم بادرة تذمر أو استياء، بالعكس كانوا يبدون السعادة والرضا، ولم يحدث أن اشتكى أحدهم من رداءة الصوت أو الصورة أو قذارة الشريط.
وقد سبق أن رأيت بعيني بعضهم يستأجر عشرة أفلام في المرة الواحدة بعضها هندي وبعضها أمريكي أو عربي، وأشهد أنهم كانوا يتبادلون الضحكات الودودة مع صاحب المحل ويثنون على بضاعته!
من الضروري أن أذكر أن هذا لم يكن يحدث في حي عشوائي أو لدى محلات رخيصة، الأمر الذي جعلني أتوقف طويلاً أمام هذه المعضلة بالتساؤل: ما الذي يجعل أبناء الطبقة الوسطى يقبلون الدنيّة في حاجاتهم؟ وما الذي يدفعهم إلى الرضا بنوعية الحياة الرديئة عندما لا يكون هناك مبرر لهذا الرضا كالفقر مثلا أو الجهل أو انعدام الحيلة؟
إن الرضا بالدنية والقبول بنوعية حياة رديئة بدون عذر قد قام علي نحو واضح بتعطيل قوانين العرض والطلب وجعل التاجر يسىء معاملة الزبون، ومع هذا لا يخسر!. لدرجة أن الفكهاني يبيع بضاعته – ونصفها معطوب - بالسعر الذي يحدده، ولا أستطيع أن أتصدى له بسبب أن الاَخرين راضون!
وللآن عندما أذهب إلى السينما وأدفع أربعين جنيهًا في التذكرة أجد أحيانًا مقعدي مشغولًا بأحد الأنطاع الذي جلس مكاني ويرفض أن يقوم، فإذا أصررت علي موقفي أسمع في الظلام همهمات الحاضرين من عينة: "ما كل الأماكن زي بعضها يا أخي" أو "ما تعملكش حكاية واقعد في أي حتة".. هنا يجتاحني شعور ممض بالألم والاغتراب والرغبة في الفرار من المكان ومن البلد كلها.
أنا أعلم أنهم لا يقصدون إيلامي ولا يعرفون أنهم بما يفعلون يجعلونني أكره الحياة.. لهذا أرثي لهم، و أتمنى أن أعيش حتي أراهم يعرفون الاختراع العجيب الذي عرفته الدنيا كلها و اسمه "النوعية" أو "الكواليتي" ويجدّون في طلبه.. ويندرج تحته كل الأمور المتعلقة بالذوق في المعاملة والذوق في المنتج، وهو لا يرتبط بالفقر أو الغنى.. يرتبط فقط بالإحساس ونظرة الإنسان إلى نفسه وشعوره بالجدارة والاستحقاق.
ما أشد شعوري بالحنق عندما أقرأ عن المعتمرين والحجاج الذين يتم إلقائهم على أرصفة المواني والمطارات في انتظار السفن والطائرات التي تنقلهم لأداء العمرة أو الحج.. ومرة أخرى أنا لا أتحدث عن الفقراء الذين يتم التعامل معهم بالجزمة 24 ساعة في اليوم، أنا أتحدث عن أناس مقتدرين ماليًا ولديهم فائض للقيام بالرحلات السياحية، ومع هذا يعتقدون أنه كلما زادت البهدلة علي يد الموظفين السفلة كلما زاد ثواب العمرة!
ما الذي يجعل أبناء الطبقة الوسطي لا يتصورون وجود نوعية للحياة أرقى مما هم فيه، هم طبعًا يحلمون بالصعود الاجتماعي ويرغبون في المال الذي من المفترض أن يحميهم من الذل، لكن هذا للأسف لا يحدث، إذ أنهم مع الصعود الطبقي ووفرة المال لا تتحسن نوعية حياتهم ولا يفرون من الذل.. هم فقط يجدون العزاء في إذلال عدد أكبر ممن دونهم!
ومهما يحدث لا يرتفع مستوى توقعاتهم من الحياة.. ما يرتفع هو نهمهم الاستهلاكي الذي يزيد الجلافة ويغيّب الروح ويسحق الذوق فيجعلهم يستهلكون كل إنتاج الدنيا التافه والردئ من السلع، ويجعلهم يملأون جيوب تجار الخردة السينمائية والغنائية، ويحطمون حياة أي باحث عن الهدوء والخصوصية، كما يقتلون كمدًا كل من يتوقع منهم المساندة أو المشاركة في الشأن العام وكل من يتمسك بحقه في أن يحصل علي معاملة واحترام لائقين بالبشر.
ومع كل هذه الغلظة تجدهم - ياللعجب - ينكمشون أمام أي موظف، حتي لو كان موظف قطاع خاص هو أصلًا يتمني رضاهم، وينظرون إليه باعتباره سلطة قادرة على العصف بهم، فيتنازلون طواعية عن أبسط حقوقهم لديه حتى أنهم يستحون من مواجهة الجرسون في المطعم لو كان الطعام سيئًا خشية أن يظن أنهم مش وش أماكن نضيفة!
http://masralarabia.com/images/thumbs/250/cat_823.jpg
أسامة غريب
اقرأ أيضا:
من خزينة الذكريات (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/746641-من-خزينة-الذكريات)
كائن فظيع لا غنى عنه (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/732333-كائن-فظيع-لا-غنى-عنه)
الحج لإله من عجوة (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/724575-الحج-لإله-من-عجوة)
مهمة مستحيلة (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/716445-مهمة-مستحيلة)
ولو كره الناقدون (http://masralarabia.com/المقالات/823-أسامة-غريب/708465-ولو-كره-الناقدون)
مَن كانت تؤرقه مشكلة، من الطبيعي أن يشعر ببعض المعاناة وقدر من الضيق يتدرج حسب حدّة وطبيعة المشكلة، لكن إحساس المرء بأن لا أحد يشاركه ما يحسه أو يفهم ما يعانيه سيسبب له عذابًا أقسى وأمر من عذاب المشكلة ذاتها، فالإحساس بالاغتراب وسط الناس قاتل.
منذ سنوات عدت لمصر بعد غربة طويلة بالخارج وبدأت أتردد على محل مجاور للمنزل يقوم بتأجير شرائط الفيديو. ولاحظت منذ البداية أن نوعية الشرائط ومستوى الصوت والصورة في غاية الرداءة، مع أن أسعاره مرتفعة، فكنت أعيد له الشريط الذي أصابني بالنكد بدلًا من أن يمنحي سهرة طيبة وأنا مستاء وغاضب، وكنت ألقي عليه دروسًا عن أهمية احترام العميل والمحافظة عليه من خلال تقديم خدمة حسنة وسلعة ذات جودة، خصوصًا وأن عصر الشمولية قد انقضى والتسعيرة الجبرية التي كانت مبررًا للرداءة لم تعد موجودة، كما أن السوق أصبح مفتوحًا والمنافسة علي أشدها، فضلاً عن أن قانون العرض والطلب يحتم عليه أن يرتقي بالخدمة وإلا ضاع!
ولكن كان بروده يثيرني، وعدم اكتراثه لما أقول يزيد من حنقي وغضبي.. لهذا فقد انصرفت عنه واتجهت لمحل اَخر قريب، فوجدت الأمر لا يختلف، واكتشفت أنهم جميعًا يقدمون نفس الخدمة الرديئة، وعرفت كذلك أن مبادئ اَدم سميث عن العرض والطلب والمنافسة وقوانين السوق كلها معطلة وخارج نطاق الخدمة!
واتضح لي أن أصحاب محلات الفيديو كانوا علي حق عندما اتهمني بعضهم بالرغبة في الشغب والبحث عن المشاكل، وأنهم كانوا صبورين معي أكثر من اللازم، ذلك أن بقية الزبائن لم تكن تصدر عنهم بادرة تذمر أو استياء، بالعكس كانوا يبدون السعادة والرضا، ولم يحدث أن اشتكى أحدهم من رداءة الصوت أو الصورة أو قذارة الشريط.
وقد سبق أن رأيت بعيني بعضهم يستأجر عشرة أفلام في المرة الواحدة بعضها هندي وبعضها أمريكي أو عربي، وأشهد أنهم كانوا يتبادلون الضحكات الودودة مع صاحب المحل ويثنون على بضاعته!
من الضروري أن أذكر أن هذا لم يكن يحدث في حي عشوائي أو لدى محلات رخيصة، الأمر الذي جعلني أتوقف طويلاً أمام هذه المعضلة بالتساؤل: ما الذي يجعل أبناء الطبقة الوسطى يقبلون الدنيّة في حاجاتهم؟ وما الذي يدفعهم إلى الرضا بنوعية الحياة الرديئة عندما لا يكون هناك مبرر لهذا الرضا كالفقر مثلا أو الجهل أو انعدام الحيلة؟
إن الرضا بالدنية والقبول بنوعية حياة رديئة بدون عذر قد قام علي نحو واضح بتعطيل قوانين العرض والطلب وجعل التاجر يسىء معاملة الزبون، ومع هذا لا يخسر!. لدرجة أن الفكهاني يبيع بضاعته – ونصفها معطوب - بالسعر الذي يحدده، ولا أستطيع أن أتصدى له بسبب أن الاَخرين راضون!
وللآن عندما أذهب إلى السينما وأدفع أربعين جنيهًا في التذكرة أجد أحيانًا مقعدي مشغولًا بأحد الأنطاع الذي جلس مكاني ويرفض أن يقوم، فإذا أصررت علي موقفي أسمع في الظلام همهمات الحاضرين من عينة: "ما كل الأماكن زي بعضها يا أخي" أو "ما تعملكش حكاية واقعد في أي حتة".. هنا يجتاحني شعور ممض بالألم والاغتراب والرغبة في الفرار من المكان ومن البلد كلها.
أنا أعلم أنهم لا يقصدون إيلامي ولا يعرفون أنهم بما يفعلون يجعلونني أكره الحياة.. لهذا أرثي لهم، و أتمنى أن أعيش حتي أراهم يعرفون الاختراع العجيب الذي عرفته الدنيا كلها و اسمه "النوعية" أو "الكواليتي" ويجدّون في طلبه.. ويندرج تحته كل الأمور المتعلقة بالذوق في المعاملة والذوق في المنتج، وهو لا يرتبط بالفقر أو الغنى.. يرتبط فقط بالإحساس ونظرة الإنسان إلى نفسه وشعوره بالجدارة والاستحقاق.
ما أشد شعوري بالحنق عندما أقرأ عن المعتمرين والحجاج الذين يتم إلقائهم على أرصفة المواني والمطارات في انتظار السفن والطائرات التي تنقلهم لأداء العمرة أو الحج.. ومرة أخرى أنا لا أتحدث عن الفقراء الذين يتم التعامل معهم بالجزمة 24 ساعة في اليوم، أنا أتحدث عن أناس مقتدرين ماليًا ولديهم فائض للقيام بالرحلات السياحية، ومع هذا يعتقدون أنه كلما زادت البهدلة علي يد الموظفين السفلة كلما زاد ثواب العمرة!
ما الذي يجعل أبناء الطبقة الوسطي لا يتصورون وجود نوعية للحياة أرقى مما هم فيه، هم طبعًا يحلمون بالصعود الاجتماعي ويرغبون في المال الذي من المفترض أن يحميهم من الذل، لكن هذا للأسف لا يحدث، إذ أنهم مع الصعود الطبقي ووفرة المال لا تتحسن نوعية حياتهم ولا يفرون من الذل.. هم فقط يجدون العزاء في إذلال عدد أكبر ممن دونهم!
ومهما يحدث لا يرتفع مستوى توقعاتهم من الحياة.. ما يرتفع هو نهمهم الاستهلاكي الذي يزيد الجلافة ويغيّب الروح ويسحق الذوق فيجعلهم يستهلكون كل إنتاج الدنيا التافه والردئ من السلع، ويجعلهم يملأون جيوب تجار الخردة السينمائية والغنائية، ويحطمون حياة أي باحث عن الهدوء والخصوصية، كما يقتلون كمدًا كل من يتوقع منهم المساندة أو المشاركة في الشأن العام وكل من يتمسك بحقه في أن يحصل علي معاملة واحترام لائقين بالبشر.
ومع كل هذه الغلظة تجدهم - ياللعجب - ينكمشون أمام أي موظف، حتي لو كان موظف قطاع خاص هو أصلًا يتمني رضاهم، وينظرون إليه باعتباره سلطة قادرة على العصف بهم، فيتنازلون طواعية عن أبسط حقوقهم لديه حتى أنهم يستحون من مواجهة الجرسون في المطعم لو كان الطعام سيئًا خشية أن يظن أنهم مش وش أماكن نضيفة!