المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : .. السفر أمتع دائما! ...... أنيس منصور



جمال
04-30-2005, 08:42 AM
أنيس منصور

أنواع ودرجات من البرودة في روسيا: أن تكون وحدك ولا تعرف كلمة روسية ولا يعرفون كلمة اجنبية.. الا يكون أحد في استقبالك فلا تعرف أين تذهب.. أن يكون يوم اجازة للسفارة المصرية في موسكو.. لقد شعرت بالقشعريرة عندما تلقيت دعوة بالسفر وبالدفء عندما تناولت العشاء مع الرئيس بوتين.. وقد زرت موسكو في أيام خروشوف وأيام جورباتشوف أكثر من مرة..

وعلى أيام خروشوف كانت الدعوة من اتحاد الأدباء. وكنا ثلاثة: د.عبد القادر القط والأديب حمدي الكنيسي. وفي المطار وجدنا أنفسنا وحدنا تماما. ولا أحد يهمه كثيرا من تكون ومن الذي أتى بك الى هنا. صحيح أننا شعرنا بالراحة بعد أن غادرنا الطائرة الروسية التي هي نوع من السجون الطائرة. بلا مضيفات. ولا تستطيع أن تطلب شيئا تشربه أو تأكله او تتفرج عليه.. وان وجدت كل ذلك فلا أحد يريد أن يتحدث اليك.. وإذا أراد فلا لغة مشتركة. اذن :انظر إلى السقف. أو انظر من النافذة فكلاهما باهت ليس وراءه شيء!

وعلى ارض المطار اتسعت الدنيا حولنا.. فكلها لا شيء..لا لون ولا معنى. وخطر لي أن انطق كلمة هوتل ـ فندق. هنا خرجت الاصابع غليظة من القفازات. اتجهت الى حيث اشاروا. فندق ولا أحد فيه ولكنها فرصة لخطف ساعات من الدفء حتى يطلع النهار ونسأل عن أحد في السفارة أو في اتحاد الأدباء الذي أصر على دعوتنا يوم رأس السنة.. وتخيلنا أنهم اعدوا لنا برنامجا روسيا ما حصلش.. وفعلا ما حصلش أي شيء: لا أحد جاء لا دعوه ولا أمل..

وأفلحنا في أن نجد أحدا في السفارة وشعرنا بدفء الجنوب.. وظهر الدم في وجوهنا. أخيرا امتدت الينا الجسور وخرجنا من الزنزانة الجليدية.. وكان الكلام نوعا آخر من الجليد تخرج منه ابخرة المياه الساخنة.. كالتي نراها في ميادين موسكو. فقيل لنا: انهم ولا يمكن الاتصال بهم. يعني ايه؟ يعني نصبر قليلا حتى تنتهي أعياد رأس السنة.. وكل شيء بعد ذلك سوف يكون أفضل.

اتصلت بالشاعر محمود درويش، الذي يلقى احتراما عظيما في موسكو. فهو عضو في الحزب الشيوعي الإسرائيلي وقد وجدها فرصة لكي يكون في حوار معهم. فهو يقيم في (داتشا) ـ أي فيلا خاصة. وكما جاء محمود درويش متهللا لطيفا ظريفا، اختفي. وبس!

وبسرعة جاءت لنا مرافقة مسلمة. وقالت لنا إن ستالين قد فرق اسرتها.. ولكي أكون دقيقا فرق المدينة كلها.. قرية.. قرية. بيتا.. بيتا.. فالزوج طرده إلى مكان والزوجة نفاها إلى مكان آخر. وبعد عشر سنوات رأى أبوها أمها في قطاع متجه إلى سيبريا. بالصدفة. وهي الآن لا تعرف أين أبوها وأمها وأخواتها وكل افراد أسرتها. فقد كان من عادة ستالين اذا اخطأ أي انسان أن يعاقب كل البيت.. كل الشارع كل المدينة!

وفي القطار الى ستالينجراد: ظلام وزمهرير وطحن عجلات القطار للقضبان، كل ما اريده من الله، ولا يكتر علي الله، هو كوب شاي أحمر ساخن. فكل شيء هنا أحمر الا الشاي. وقالوا هذا ممكن. فكمسارية القطار تنام في العربة الأخيرة.. أي في العربة رقم 42 ـ ولا بد أن نخترق لها هذا العدد من العربات..

وكنا نتخبط يمينا وشمالا مثل لقمة وقفت في حلق القطار.. ولما بلغنا مكان الكمسارية كانت نائمة.. وطلبت منها المرافقة كيسا من الشاي.. ففتحت أزرار فستانها وأخرجت من اعماقها حافظة صغيرة.. وفي أعماق هذه الحافظة استخرجت كيسا (مفعوصا) من الشاي.. ونفضته حتى تقضي على الكرمشة.. أو تبعث فيه الحياة. وبيد مرتعشة أعطته لنا. وسألت عن سبب الرعشة قالت المرافقة: لأنه عهده ويجب أن نوقع باستلامه!

وازداد الليل ظلاما والجو برودة والنفس قرفا وانسدادا. وقبلت الدعوة إلى روسيا. فلا يزال السفر أجمل وامتع انواع القلق!