المحبة
06-06-2003, 05:43 PM
إضاءات على أفكار سياسية واجتهادية عند الإمام الخميني(قده)
شخصية شمولية
قد يكون الحديث عن الخط الفكري السياسي للإمام الخميني بصورة شاملة، متعسراً أو متعذراً؛ لأن المجالات التي تحدث عنها، أو خاض فيها، أو حارب من اجلها ليست محصورة في حدود معينة، أو دوائر ضيقة، بل كانت تتسع للعالم كله، في دائرة الإسلام كله؛ لأنه كان ينطلق في عمق فلسفته العرفانية إلى الله في أوسع الآفاق، حتى كان يتجاوز الشكليات التقليدية في حركة هذا الخط، وكان يتحرك في وعيه الإسلامي للمسألة الإنسانية في واقع الاستضعاف والاستكبار، فيما هي آلام المستضعفين في حركة امتيازات المستكبرين، فكان يتألم لتألم الإنسان أيَّا كان انتماؤه، ويفكر أن الآلام الإنسانية لا تمثل في إيحاءاتها الشعورية مجرد مشاعر حزينة، أو أصوات صارخة، بل لا بد لها من أن تتمثل في حركة فاعلة من أجل إزالة هذه الآلام، وكان يرى أن مسألة الإسلام في وعي المؤمنين به، على مستوى القيادة أو القاعدة، هي مسألة الدعوة المتحركة في غير صعيد، لتملأ فراغ الفكر الإنساني بالفكر الإسلامي، وتشحن روحية العاطفة الإنسانية بالعمق الروحي للعاطفة في الإسلام، وتحرّك الواقع الإنساني بالتشريعات الحركية للإنسان في الحياة، ما يجعل مسألة الدعوة تنفتح على السياسة كما تنفتح على الفكر، كما يدفع مسألة المعاني الروحية نحو القيم الإنسانية في الحياة.
عرفان منفتح على الواقع
وهذه هي الميزة البارزة في شخصيته التي استطاعت أن تجعل ملامحها الداخلية والخارجية وحدة في الفكر والسلوك، على أساس وحدة الخط الإسلامي الذي لا يبتعد فيه العرفان عن الشريعة، بل ينفذ إليها ليزيدها عمقاً في الحركة، ولا تتجمَّد الشريعة لديه في نطاق فردي، بل تنطلق لتشمل الحياة كلها بأبعادها العامة والخاصة في جميع المجالات.
وفي ضوء ذلك لم يكن العرفان لديه استغراقاً في الله، بحيث ينسى الحياة التي تضجُّ من حوله بكل آلام المستضعفين ومشاكلهم، وينعزل عن ذلك كله، بل كان ينطلق من الآية الكريمة التي تتحدث عن الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}[الحشر؛ 19]، ليستوحي منها أن ذكر الله بالمعنى القلبي للحضور الإلهي في النفس يدفع الإنسان إلى أن يتذكر نفسه، وذلك بالانفتاح على كل آفاق المسؤولية التي تحدِّد له وجوده إنساناً مسؤولاً عن الإنسان والحياة فيما أراد الله لهما أن يكونا على الخط الذي يحبه، ولم يفهم التذكر بالمعنى الجامد الذي ينغلق فيه الإنسان على المعنى الذاتي في روحيته، التي تجعله يهرب من التجربة الحية التي تدفعه إلى الاقتراب من المواقع المحرّمة في الحياة، ثم يعبِّر عن ذلك بالعزلة عن الناس وعن المسؤولية، وعن كل المشاكل الإنسانية الكبيرة التي تحاصر الإنسان في حياته الخاصة والعامة، كما يفعله الكثيرون من العرفانيين الذين استغرقوا في الجانب الفلسفي للعرفان فعاشوا في خيالاته التي تصوَّروها حقائق، وابتعدوا عن واقعهم الذي يمثل حقيقة الوجود الذي لا ينفصل في حركة المسؤولية في داخله عن الله، فتحوّلوا إلى كائنات إنسانية قد تستوحي منها بعض القداسات الروحية، لكنك لن تستوحي منها حركة الحياة في روحية المسؤولية الحركية.
سرّ شموليته
لقد استطاع أن ينفتح على الأمة كلها، وعلى المستضعفين كلّهم، وهكذا رأينا كيف كانت حياته كلها خاضعةً لعناوين ثلاثة تلخِّص كل العناوين الصغيرة في حركته، وهي "الله"، و "الإسلام"، و"الأمة في دائرة الاستضعاف" ليقابلها "الشيطان" بأحجامه الكبيرة والصغيرة والمتوسطة في عالم الغيب وفي عالم الحسّ والكفر بكل معانيه الفكرية والعملية، وبكل إفرازاته الواقعية في دائرة الضلال والانحراف والظلم، و"الطاغوت" بكل رموزه الشخصية والاجتماعية والسياسية على مستوى الفرد والجماعة والدولة.
وهذا هو سر شمولية النظرة العامة للحياة عنده، وشجاعة الموقف في حياته، وصلابة التمرُّد في مواقفه، وصفاء الشعور في إحساسه، وامتداد الأهداف في كل خطواته، وانفتاح الثورة في مواجهته للواقع على مستوى العالم كله.
فـ"الله" هو رب العالمين، و"الشيطان" هو العدو الرئيس للإنسان كله، و "الإسلام" هو رسالة الله إلى الناس كافة، و"الكفر" هو خط الشيطان الذي يريد أن ينحرف بالحياة كلها، وبالإنسان كله عن خط "الله"، و "الأمة" تمثل العنوان الذي يشمل المسلمين جميعاً، كما أن ارتباط قضاياها بقضايا المستضعفين كلهم جعلها تنفتح على كل قضاياهم في العالم كله، والطاغوت الفردي والجماعي والدولي يمثل كل مواقع الطغيان الفكري والعملي في واقع الإنسان كله.
وهذا هو الذي يجعلنا نلاحظ هذه الكلمات تحضر في كل خطاباته ومواقفه، بحيث لا تغيب عن لسانه في كل مناسبة من مناسبات الصراع.
تربية العلماء
وكان يفكر بأن على الحوزة العلمية أن تتحرك في هذا الاتجاه، فلا يكون العالم الديني مجرد خزانة فكرية للمعلومات الفقهية والأصولية ليحتل مركزه المرموق من خلال ذلك، من دون أن يتمثل الرسالية في حركته، والروحانية في روحه، والأخلاقية في سلوكه، والانفتاح على الله بكل كيانه، لأن التجرد عن ذلك يحوّل العالم الديني إلى مشكلة للإسلام، بدلاً من أن يكون حلاً لها، لأن المسألة ليست في أن يتحوّل الإنسان ـ بالمعرفة ـ إلى كتاب جامدٍ بل إلى حركة واعيةٍ غنيةٍ بالعقل والروح والأخلاق، بحيث تساهم في عملية صنع الإنسان المسلم الفاعل الذي يملأ الحياة إيماناً وخيراً وحبّاً وانطلاقاً في آفاق الله، وخضوعاً لألوهيته في موقع العبودية وجهاداً في سبيله. وهذا ما كان يخاطب به طلاب الحوزات العلمية:
"أمّا إذا لم تصلحوا أنفسكم ـ لا سمح الله ـ في مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمال الخلقي والمعنوي، فإنكم ـ والعياذ بالله ـ ستضلّون الناس وتقدِّمون لهم صورة سيئةً عن الإسلام وعلماء الدين.
إن عالم السوء... العالم الذي يهتم بالدنيا... العالم الذي يفكر في حفظ مركزة وزعامته، لا يستطيع أن يجاهد أعداء الإسلام، وضرره اكثر من ضرر غيره، فلتكن خطواتكم إلهية.. أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، آنذاك يمكنكم أن تجاهدوا.. من الآن ازرعوا هذه النقطة في قلوبكم وربّوها، فليقل كل منكم" أريد أن أكون جندياً مصلحاً مسلماً"، وأريد أن أًضحي للإسلام.. يجب أن اعمل للإسلام.. يجب أن اعمل للإسلام حتى الشهادة".
وهكذا نلاحظ أن هذا النهج في تربية الشخصية المسلمة للطالب الحوزي وللعالم الديني، هو الذي يمكن أن يحقق له القوة الروحية المتمردة على كل عوامل الضعف الداخلي، بحيث يستطيع أن يواجه في حركة الجهاد كل قوى الكفر والاستكبار.
وهذا هو الذي يمثل سر شخصيته، فيما إذا استطاع أن يربِّي به نفسه في الخط الأخلاقي الروحي الذي ينطلق نحو الكمال الإنساني من خلال شريعة الله.
الفكر الحركي
وهكذا بدأت الثورة من الحوزة ضد الطاغوت، وتردد بعض الذين كانوا يعانون الحيرة في شرعية الثورة، وتراجع بعض آخر ممّن كانوا يرون أن الثورة تجتذب الدماء التي لا يرضى الله بأن تسيل حتى في مواجهة الحكم الفاسد في زمن غيبة الإمام (عج)، لأن ذلك هو شأن الإمام(ع) الأصل، لا نوابه، من العلماء الذين يجب عليهم الإخلاد إلى الأرض حتى يظهر القائم من آل محمد، ولكنه كان يرى أن المسألة ليست مسألة القيادة في عصمتها، بل هي مسألتها في وعيها وصدقها وأمانتها ومعرفتها وإخلاصها وشجاعتها ـ في الحق ـ وخبرتها في تحريك الأمة، وأن القضية هي قضية الإسلام الذي يريد الله أن يظهره على الدين كله ولو كره الكافرون؛ لأنه جعل الهدف الكبير للمؤمنين أن يكون الدين كله لله، وأن لا يتحول الضعف في الواقع إلى وسيلة لفتنة المسلمين عن دينهم، وأنَّ الرفق إذا لم يحقق للأمة وصولها إلى أهدافها فلا بدَّ من اللجوء إلى العنف للدفاع عن موقع القوة في الدعوة وفي حركة الإنسان في التمسك بحكم الله، تماماً كما هي سيرة النبي محمد(ص) الذي عاش للدعوة برفق وهدوء وسلام في مكة، ثم عاش للحركة نحو الدولة بقوةٍ وعنف وحركة فاعلة في مواجهة التحدي في المدينة.
وقد كانت محاضراته حول "الحكومة الإسلامية" أثناء إقامته في النجف الأشرف، محاولةً فكرية جادّة من أجل أن يفتح وعي الحوزة التي كانت يعيش أفرادها في عزلة عن مسألة الثورة الشاملة أو عن مسألة الثورة في الأساس، من خلال المفاهيم التجريدية التي كان يحملها بعض من أفرادها، من الكبار والصغار، حول الإسلام في فكره وحركته، ليثير اليأس من إمكانات الوصول إلى نتائج إيجابية على صعيد الواقع، مما يجعل التحرك أمراً غير واقعي لأن اليأس من الوصول إلى الهدف الكبير هو العنوان البارز للمسألة.
وقد تكون قيمة القضية في ملامحها المميزة، أنها انطلقت من موقع المرجعية الدينية التي تملك شرعية الانطلاق بالرأي الفقهي خطاً للتقليد الذي يلتزمه أفراد الأمة الذين يرجعون إليها في الفتيا.
وقد كان المعروف عن المراجع أنهم لا يواجهون العامة من الناس بما يخالف المألوف لديهم، أو بما يدفعهم إلى اقتحام مواطن الخطر، لأن ذلك قد يترك تأثيراته السلبية على مواقعهم في المرجعية القائمة على ثقة الناس بهم، فيما تعارف لديهم من تقاليد المرجعية المتزنة في كلماتها، الهادئة في مواقعها، السلميّة في مضمونها، المنفتحة على الواقع القائم بالسكوت أو التأييد، بعيداً عن كل إرباك وإزعاج للواقع وللناس.
الإحاطة بأمور العصر
ومما كان (رضوان الله عليه) يؤكده دائماً هو أن على أن المجتهد أن يكون محيطاً بأمور زمانه.. وكان يقول: "ليس مقبولاً للناس والشباب وحتى العوام أن يقول مرجعهم ومجتهدهم: "أنا لا أعطي رأياً في المسائل السياسية"، ومن هنا كان الإمام يصرّ أن يكون المجتهد على معرفة بطريقة مواجهة حيل وتزويرات الثقافة المسيطرة على العالم، امتلاك البصيرة والرؤية الاقتصادية، الاطلاع على كيفية التعامل وتعليماتهم التي يملونها… وإدراك ظروف ونقاط القوة والضعف في قطبي الرأسمالية والشيوعية التي ترسم في الحقيقة استراتيجية السلطة على العالم… كل ذلك من خصائص المجتهد الجامع للشرائط.
حملة على المتظاهرين بالقداسة
وقد أثار الإمام(قدس سره) حملة على المتظاهرين بالقداسة والمشايخ الأميين الذين جعلوا من أنفسهم حرّاساً للشريعة مع جهلهم بها، فلم يوازنوا بين الفتاوى على أساس مصادرها الاجتهادية، بل حاولوا أن يؤكدوا الفتاوى المألوفة كحقائق شرعية، في الوقت الذي لم ينظر القائلون بها إليها بهذه الدرجة. وتتعاظم ثورة الإمام في هذا المجال ليعلن أن "سقوط موقعه وموقع الثوريين الإسلاميين لدى هؤلاء المتظاهرين بالقداسة، الحمقى والمشايخ الأميين، لا قيمة له، بل إنه يرحب بالمزيد من إعلان الحقائق الشرعية التي يقتنع بها في اجتهاده، للمزيد من ابتعادهم غير المبرر عن خط الثورة".
ولعل قيمة هذه الحملة على مثل هؤلاء أنهم يمثلون في كل المجتمعات الحوزوية، الفئة الجاهلة التي تملك بعض مظاهر التدين، ما يجعل لها الثقة بين الناس، فتبادر إلى فرض الحصار على حركة التجديد في الاجتهاد، من دون وعي للأسس التي ارتكز عليها هذا الرأي الجديد في القاعدة الأصولية أو الفقهية، أو هذه الفتوى الجديدة في الجانب العلمي، وذلك بإثارة الغوغاء ضد هذا المجتهد المجدّد أو ذاك، ليكون ذلك سبباً في تجميده للفتوى أو في تراجعه عنها، في بعض الحالات، خوفاً من تأثير ذلك عليه، لا سيّما إذا كان من الشخصيات المؤهلة للمرجعية في التقليد.
ولهذا فإن الإمام(قدس سره) يرى ضرورة القيام بثورة علمية حوزوية ضد هؤلاء لإبعادهم عن ساحة التأثير المضادّ بالطريقة السلبية الخانقة.
وهذا هو ما عبّر عنه في رسالته للشيخ قديري:
"نحن يجب أن نسعى لكسر حصارات الجهل والخرافة لنصل إلى المعين الزلال للإسلام المحمدي الأصيل، وبخاصة أننا بحاجة إلى قرابين.. وأدعو الله أن أكون أحد هذه القرابين".
نموذج لتصرفات سلبية
وقد حدثت في الحوزات بعض التصرفات السلبية ضد علماء مجتهدين كبار، لأنهم أفتوا ببعض الفتاوى المخالفة للاتجاه العام، كالمرحوم السيد محسن الأمين الذي أفتى بتحريم ضرب الرؤوس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل الحادة في عزاء الإمام الحسين(ع)، ودعا إلى إصلاح المنبر الحسيني بالبعد عن الروايات والأحاديث غير الصحيحة، انطلاقاً من الأدلة الشرعية التي قدّمها أمام فتاواه ونظراته، فقد ثارت عليه الضوضاء من أكثر من جانب في النجف وفي لبنان وفي أماكن أخرى من العالم الشيعي، لأن ذلك كان خلاف التقاليد المألوفة التي درج عليها الناس، تحت عنوان تعظيم شعائر الدين بالطريقة التي تبرر كل الأساليب المتبعة في هذا المجال.
إن الإمام (قدس سره) يريد أن يؤكد حقيقة إسلامية اجتهادية تفرض نفسها على المجتهد، وهي: أن تكون الفتوى منسجمة مع القواعد الاجتهادية التي تصلح أن تكون عذراً له أمام الله، فإذا أحرز ذلك فلا بُد له من الفتيا بعيداً عن غضب الناس ورضاهم ما دامت الحقيقة الإسلامية تفرض نفسها على قناعاته، من خلال الأسس التي تؤكدها وتشير إليها.
وهذا ما ينبغي للمجتهدين أن يعيشوه في الانطلاقات الفقهية المنفتحة على حقائق الإسلام، على أساس الوعي الاجتهادي الذي قد يفتح الكثير من النوافذ على أحكام وحلول جديدة، ما قد لا يرتاح إليه الرأي العام الحوزوي الذي قد يخضع لتأثيرات بعض الصلحاء المقدسين الذين لا يملكون من العلم إلا العناوين الكبيرة، من دون أن يلجأوا إلى ركن وثيق، ولذلك فإن قداستهم قد تتخطى هدفها عندما تهاجم بدون علم، أو تؤيد بدون فقه.
سماحة اية الله السيد محمد حسين فضل الله
شخصية شمولية
قد يكون الحديث عن الخط الفكري السياسي للإمام الخميني بصورة شاملة، متعسراً أو متعذراً؛ لأن المجالات التي تحدث عنها، أو خاض فيها، أو حارب من اجلها ليست محصورة في حدود معينة، أو دوائر ضيقة، بل كانت تتسع للعالم كله، في دائرة الإسلام كله؛ لأنه كان ينطلق في عمق فلسفته العرفانية إلى الله في أوسع الآفاق، حتى كان يتجاوز الشكليات التقليدية في حركة هذا الخط، وكان يتحرك في وعيه الإسلامي للمسألة الإنسانية في واقع الاستضعاف والاستكبار، فيما هي آلام المستضعفين في حركة امتيازات المستكبرين، فكان يتألم لتألم الإنسان أيَّا كان انتماؤه، ويفكر أن الآلام الإنسانية لا تمثل في إيحاءاتها الشعورية مجرد مشاعر حزينة، أو أصوات صارخة، بل لا بد لها من أن تتمثل في حركة فاعلة من أجل إزالة هذه الآلام، وكان يرى أن مسألة الإسلام في وعي المؤمنين به، على مستوى القيادة أو القاعدة، هي مسألة الدعوة المتحركة في غير صعيد، لتملأ فراغ الفكر الإنساني بالفكر الإسلامي، وتشحن روحية العاطفة الإنسانية بالعمق الروحي للعاطفة في الإسلام، وتحرّك الواقع الإنساني بالتشريعات الحركية للإنسان في الحياة، ما يجعل مسألة الدعوة تنفتح على السياسة كما تنفتح على الفكر، كما يدفع مسألة المعاني الروحية نحو القيم الإنسانية في الحياة.
عرفان منفتح على الواقع
وهذه هي الميزة البارزة في شخصيته التي استطاعت أن تجعل ملامحها الداخلية والخارجية وحدة في الفكر والسلوك، على أساس وحدة الخط الإسلامي الذي لا يبتعد فيه العرفان عن الشريعة، بل ينفذ إليها ليزيدها عمقاً في الحركة، ولا تتجمَّد الشريعة لديه في نطاق فردي، بل تنطلق لتشمل الحياة كلها بأبعادها العامة والخاصة في جميع المجالات.
وفي ضوء ذلك لم يكن العرفان لديه استغراقاً في الله، بحيث ينسى الحياة التي تضجُّ من حوله بكل آلام المستضعفين ومشاكلهم، وينعزل عن ذلك كله، بل كان ينطلق من الآية الكريمة التي تتحدث عن الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}[الحشر؛ 19]، ليستوحي منها أن ذكر الله بالمعنى القلبي للحضور الإلهي في النفس يدفع الإنسان إلى أن يتذكر نفسه، وذلك بالانفتاح على كل آفاق المسؤولية التي تحدِّد له وجوده إنساناً مسؤولاً عن الإنسان والحياة فيما أراد الله لهما أن يكونا على الخط الذي يحبه، ولم يفهم التذكر بالمعنى الجامد الذي ينغلق فيه الإنسان على المعنى الذاتي في روحيته، التي تجعله يهرب من التجربة الحية التي تدفعه إلى الاقتراب من المواقع المحرّمة في الحياة، ثم يعبِّر عن ذلك بالعزلة عن الناس وعن المسؤولية، وعن كل المشاكل الإنسانية الكبيرة التي تحاصر الإنسان في حياته الخاصة والعامة، كما يفعله الكثيرون من العرفانيين الذين استغرقوا في الجانب الفلسفي للعرفان فعاشوا في خيالاته التي تصوَّروها حقائق، وابتعدوا عن واقعهم الذي يمثل حقيقة الوجود الذي لا ينفصل في حركة المسؤولية في داخله عن الله، فتحوّلوا إلى كائنات إنسانية قد تستوحي منها بعض القداسات الروحية، لكنك لن تستوحي منها حركة الحياة في روحية المسؤولية الحركية.
سرّ شموليته
لقد استطاع أن ينفتح على الأمة كلها، وعلى المستضعفين كلّهم، وهكذا رأينا كيف كانت حياته كلها خاضعةً لعناوين ثلاثة تلخِّص كل العناوين الصغيرة في حركته، وهي "الله"، و "الإسلام"، و"الأمة في دائرة الاستضعاف" ليقابلها "الشيطان" بأحجامه الكبيرة والصغيرة والمتوسطة في عالم الغيب وفي عالم الحسّ والكفر بكل معانيه الفكرية والعملية، وبكل إفرازاته الواقعية في دائرة الضلال والانحراف والظلم، و"الطاغوت" بكل رموزه الشخصية والاجتماعية والسياسية على مستوى الفرد والجماعة والدولة.
وهذا هو سر شمولية النظرة العامة للحياة عنده، وشجاعة الموقف في حياته، وصلابة التمرُّد في مواقفه، وصفاء الشعور في إحساسه، وامتداد الأهداف في كل خطواته، وانفتاح الثورة في مواجهته للواقع على مستوى العالم كله.
فـ"الله" هو رب العالمين، و"الشيطان" هو العدو الرئيس للإنسان كله، و "الإسلام" هو رسالة الله إلى الناس كافة، و"الكفر" هو خط الشيطان الذي يريد أن ينحرف بالحياة كلها، وبالإنسان كله عن خط "الله"، و "الأمة" تمثل العنوان الذي يشمل المسلمين جميعاً، كما أن ارتباط قضاياها بقضايا المستضعفين كلهم جعلها تنفتح على كل قضاياهم في العالم كله، والطاغوت الفردي والجماعي والدولي يمثل كل مواقع الطغيان الفكري والعملي في واقع الإنسان كله.
وهذا هو الذي يجعلنا نلاحظ هذه الكلمات تحضر في كل خطاباته ومواقفه، بحيث لا تغيب عن لسانه في كل مناسبة من مناسبات الصراع.
تربية العلماء
وكان يفكر بأن على الحوزة العلمية أن تتحرك في هذا الاتجاه، فلا يكون العالم الديني مجرد خزانة فكرية للمعلومات الفقهية والأصولية ليحتل مركزه المرموق من خلال ذلك، من دون أن يتمثل الرسالية في حركته، والروحانية في روحه، والأخلاقية في سلوكه، والانفتاح على الله بكل كيانه، لأن التجرد عن ذلك يحوّل العالم الديني إلى مشكلة للإسلام، بدلاً من أن يكون حلاً لها، لأن المسألة ليست في أن يتحوّل الإنسان ـ بالمعرفة ـ إلى كتاب جامدٍ بل إلى حركة واعيةٍ غنيةٍ بالعقل والروح والأخلاق، بحيث تساهم في عملية صنع الإنسان المسلم الفاعل الذي يملأ الحياة إيماناً وخيراً وحبّاً وانطلاقاً في آفاق الله، وخضوعاً لألوهيته في موقع العبودية وجهاداً في سبيله. وهذا ما كان يخاطب به طلاب الحوزات العلمية:
"أمّا إذا لم تصلحوا أنفسكم ـ لا سمح الله ـ في مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمال الخلقي والمعنوي، فإنكم ـ والعياذ بالله ـ ستضلّون الناس وتقدِّمون لهم صورة سيئةً عن الإسلام وعلماء الدين.
إن عالم السوء... العالم الذي يهتم بالدنيا... العالم الذي يفكر في حفظ مركزة وزعامته، لا يستطيع أن يجاهد أعداء الإسلام، وضرره اكثر من ضرر غيره، فلتكن خطواتكم إلهية.. أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، آنذاك يمكنكم أن تجاهدوا.. من الآن ازرعوا هذه النقطة في قلوبكم وربّوها، فليقل كل منكم" أريد أن أكون جندياً مصلحاً مسلماً"، وأريد أن أًضحي للإسلام.. يجب أن اعمل للإسلام.. يجب أن اعمل للإسلام حتى الشهادة".
وهكذا نلاحظ أن هذا النهج في تربية الشخصية المسلمة للطالب الحوزي وللعالم الديني، هو الذي يمكن أن يحقق له القوة الروحية المتمردة على كل عوامل الضعف الداخلي، بحيث يستطيع أن يواجه في حركة الجهاد كل قوى الكفر والاستكبار.
وهذا هو الذي يمثل سر شخصيته، فيما إذا استطاع أن يربِّي به نفسه في الخط الأخلاقي الروحي الذي ينطلق نحو الكمال الإنساني من خلال شريعة الله.
الفكر الحركي
وهكذا بدأت الثورة من الحوزة ضد الطاغوت، وتردد بعض الذين كانوا يعانون الحيرة في شرعية الثورة، وتراجع بعض آخر ممّن كانوا يرون أن الثورة تجتذب الدماء التي لا يرضى الله بأن تسيل حتى في مواجهة الحكم الفاسد في زمن غيبة الإمام (عج)، لأن ذلك هو شأن الإمام(ع) الأصل، لا نوابه، من العلماء الذين يجب عليهم الإخلاد إلى الأرض حتى يظهر القائم من آل محمد، ولكنه كان يرى أن المسألة ليست مسألة القيادة في عصمتها، بل هي مسألتها في وعيها وصدقها وأمانتها ومعرفتها وإخلاصها وشجاعتها ـ في الحق ـ وخبرتها في تحريك الأمة، وأن القضية هي قضية الإسلام الذي يريد الله أن يظهره على الدين كله ولو كره الكافرون؛ لأنه جعل الهدف الكبير للمؤمنين أن يكون الدين كله لله، وأن لا يتحول الضعف في الواقع إلى وسيلة لفتنة المسلمين عن دينهم، وأنَّ الرفق إذا لم يحقق للأمة وصولها إلى أهدافها فلا بدَّ من اللجوء إلى العنف للدفاع عن موقع القوة في الدعوة وفي حركة الإنسان في التمسك بحكم الله، تماماً كما هي سيرة النبي محمد(ص) الذي عاش للدعوة برفق وهدوء وسلام في مكة، ثم عاش للحركة نحو الدولة بقوةٍ وعنف وحركة فاعلة في مواجهة التحدي في المدينة.
وقد كانت محاضراته حول "الحكومة الإسلامية" أثناء إقامته في النجف الأشرف، محاولةً فكرية جادّة من أجل أن يفتح وعي الحوزة التي كانت يعيش أفرادها في عزلة عن مسألة الثورة الشاملة أو عن مسألة الثورة في الأساس، من خلال المفاهيم التجريدية التي كان يحملها بعض من أفرادها، من الكبار والصغار، حول الإسلام في فكره وحركته، ليثير اليأس من إمكانات الوصول إلى نتائج إيجابية على صعيد الواقع، مما يجعل التحرك أمراً غير واقعي لأن اليأس من الوصول إلى الهدف الكبير هو العنوان البارز للمسألة.
وقد تكون قيمة القضية في ملامحها المميزة، أنها انطلقت من موقع المرجعية الدينية التي تملك شرعية الانطلاق بالرأي الفقهي خطاً للتقليد الذي يلتزمه أفراد الأمة الذين يرجعون إليها في الفتيا.
وقد كان المعروف عن المراجع أنهم لا يواجهون العامة من الناس بما يخالف المألوف لديهم، أو بما يدفعهم إلى اقتحام مواطن الخطر، لأن ذلك قد يترك تأثيراته السلبية على مواقعهم في المرجعية القائمة على ثقة الناس بهم، فيما تعارف لديهم من تقاليد المرجعية المتزنة في كلماتها، الهادئة في مواقعها، السلميّة في مضمونها، المنفتحة على الواقع القائم بالسكوت أو التأييد، بعيداً عن كل إرباك وإزعاج للواقع وللناس.
الإحاطة بأمور العصر
ومما كان (رضوان الله عليه) يؤكده دائماً هو أن على أن المجتهد أن يكون محيطاً بأمور زمانه.. وكان يقول: "ليس مقبولاً للناس والشباب وحتى العوام أن يقول مرجعهم ومجتهدهم: "أنا لا أعطي رأياً في المسائل السياسية"، ومن هنا كان الإمام يصرّ أن يكون المجتهد على معرفة بطريقة مواجهة حيل وتزويرات الثقافة المسيطرة على العالم، امتلاك البصيرة والرؤية الاقتصادية، الاطلاع على كيفية التعامل وتعليماتهم التي يملونها… وإدراك ظروف ونقاط القوة والضعف في قطبي الرأسمالية والشيوعية التي ترسم في الحقيقة استراتيجية السلطة على العالم… كل ذلك من خصائص المجتهد الجامع للشرائط.
حملة على المتظاهرين بالقداسة
وقد أثار الإمام(قدس سره) حملة على المتظاهرين بالقداسة والمشايخ الأميين الذين جعلوا من أنفسهم حرّاساً للشريعة مع جهلهم بها، فلم يوازنوا بين الفتاوى على أساس مصادرها الاجتهادية، بل حاولوا أن يؤكدوا الفتاوى المألوفة كحقائق شرعية، في الوقت الذي لم ينظر القائلون بها إليها بهذه الدرجة. وتتعاظم ثورة الإمام في هذا المجال ليعلن أن "سقوط موقعه وموقع الثوريين الإسلاميين لدى هؤلاء المتظاهرين بالقداسة، الحمقى والمشايخ الأميين، لا قيمة له، بل إنه يرحب بالمزيد من إعلان الحقائق الشرعية التي يقتنع بها في اجتهاده، للمزيد من ابتعادهم غير المبرر عن خط الثورة".
ولعل قيمة هذه الحملة على مثل هؤلاء أنهم يمثلون في كل المجتمعات الحوزوية، الفئة الجاهلة التي تملك بعض مظاهر التدين، ما يجعل لها الثقة بين الناس، فتبادر إلى فرض الحصار على حركة التجديد في الاجتهاد، من دون وعي للأسس التي ارتكز عليها هذا الرأي الجديد في القاعدة الأصولية أو الفقهية، أو هذه الفتوى الجديدة في الجانب العلمي، وذلك بإثارة الغوغاء ضد هذا المجتهد المجدّد أو ذاك، ليكون ذلك سبباً في تجميده للفتوى أو في تراجعه عنها، في بعض الحالات، خوفاً من تأثير ذلك عليه، لا سيّما إذا كان من الشخصيات المؤهلة للمرجعية في التقليد.
ولهذا فإن الإمام(قدس سره) يرى ضرورة القيام بثورة علمية حوزوية ضد هؤلاء لإبعادهم عن ساحة التأثير المضادّ بالطريقة السلبية الخانقة.
وهذا هو ما عبّر عنه في رسالته للشيخ قديري:
"نحن يجب أن نسعى لكسر حصارات الجهل والخرافة لنصل إلى المعين الزلال للإسلام المحمدي الأصيل، وبخاصة أننا بحاجة إلى قرابين.. وأدعو الله أن أكون أحد هذه القرابين".
نموذج لتصرفات سلبية
وقد حدثت في الحوزات بعض التصرفات السلبية ضد علماء مجتهدين كبار، لأنهم أفتوا ببعض الفتاوى المخالفة للاتجاه العام، كالمرحوم السيد محسن الأمين الذي أفتى بتحريم ضرب الرؤوس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل الحادة في عزاء الإمام الحسين(ع)، ودعا إلى إصلاح المنبر الحسيني بالبعد عن الروايات والأحاديث غير الصحيحة، انطلاقاً من الأدلة الشرعية التي قدّمها أمام فتاواه ونظراته، فقد ثارت عليه الضوضاء من أكثر من جانب في النجف وفي لبنان وفي أماكن أخرى من العالم الشيعي، لأن ذلك كان خلاف التقاليد المألوفة التي درج عليها الناس، تحت عنوان تعظيم شعائر الدين بالطريقة التي تبرر كل الأساليب المتبعة في هذا المجال.
إن الإمام (قدس سره) يريد أن يؤكد حقيقة إسلامية اجتهادية تفرض نفسها على المجتهد، وهي: أن تكون الفتوى منسجمة مع القواعد الاجتهادية التي تصلح أن تكون عذراً له أمام الله، فإذا أحرز ذلك فلا بُد له من الفتيا بعيداً عن غضب الناس ورضاهم ما دامت الحقيقة الإسلامية تفرض نفسها على قناعاته، من خلال الأسس التي تؤكدها وتشير إليها.
وهذا ما ينبغي للمجتهدين أن يعيشوه في الانطلاقات الفقهية المنفتحة على حقائق الإسلام، على أساس الوعي الاجتهادي الذي قد يفتح الكثير من النوافذ على أحكام وحلول جديدة، ما قد لا يرتاح إليه الرأي العام الحوزوي الذي قد يخضع لتأثيرات بعض الصلحاء المقدسين الذين لا يملكون من العلم إلا العناوين الكبيرة، من دون أن يلجأوا إلى ركن وثيق، ولذلك فإن قداستهم قد تتخطى هدفها عندما تهاجم بدون علم، أو تؤيد بدون فقه.
سماحة اية الله السيد محمد حسين فضل الله