جمال
04-25-2005, 09:00 AM
الصادق المهدي
المسلمون اليوم هم الملة الأكثر عددا والأسرع زيادة، ولكنها من حيث المعرفة، والرفاء المادي، والعدل الاجتماعي، والإرادة المستقلة راسبة في قاع العالم.
بعض المسلمين ضاق بهذا الحال ذرعا فأقدم على خطط هجومية تستهدف الماسكين بمفاتيح النظام الدولي الراهن. هؤلاء المستهدفون بدورهم قادوا غضبة انتقامية مضادة.. هكذا صارت الأمة مع سوء الحال محصورة بين فكي الرحى. ولا مخرج من هذا الحصار بين هجمة الداخل وغضبة الخارج إلا في خطة ذات جدوى وصدقية ينفذها حماة ينشدون الخلاص من سوء الحال ويتجاوزون أساليب الهجمة، ويتصدون للماسكين بمفاتيح العالم بأسلوب يستخلص الحقوق بكل الوسائل ما عدا «الإرهاب».
الخطوة الأولى في الطريق لهذه الخطة هي خلع قميص الحديد الذي ألبسناه الأقدمون الذين انطلقوا باجتهاد مقدر في نصوص الوحي وأعملوا فيها منطقا صوريا قياسا وإجماعا، فاستنبطوا مبادئ وأحكاما في كل جوانب الحياة، واعتبر من خلفهم هذا الجهد الوضعي مقدسا بقدسية الوحي. اجتهادات الأقدمين حفظت واقعهم الفكري والثقافي والاجتماعي مصحوبا بنصوص الوحي، بينما نصوص الوحي نفسها تمنع هذه الديمومة لأنها تحث الناس على أن يُعملوا الحكمة، والعقل، والمصلحة، والمقاصد، وأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، والسياسة الشرعية، والتدبر، وسائل لفهم المبادئ وتطوير الأحكام ومراعاة ظروف الزمان والمكان: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا).
القرآن معجزة لا ينتهي أثرها بزمان وقوعها مثلما هو حال المعجزات التي قال عنها المولى تعالى (وما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ).
خطاب القرآن نص علوي من ذات مستكبرة فيه من الشعر جمال العبارة، ومن النثر ضبط المعنى ومن السجع تتابع النغم، ولكنه ليس شعرا ولا نثرا ولا سجعا، بل هو نص فني لا يجارى (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ).
وحفظ القرآن نصا واحدا مع اختلاف كافة نصوص الكتب المقدسة الأخرى معجزة مستمرة، وتعاليمه، وعلومه، وأمية مبلغه، تشد المسلم إليه شدا لا يدانيه تأثير أي نص ديني أو فني أو أدبي آخر في قلوب الناس. خلب القرآن لب غير المسلمين حتى أن ثلاثة من عتاة المشركين ـ أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي ـ كانوا يذهبون ليلا خلسة ليستمعوا للنبي وهو يقرأ القرآن. وحتى قال الأستاذ آربري مترجم معاني القرآن في مقدمة ترجمته «إني شكور لتلك الروح التي أوحت هذا السفر الفريد».
وشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كذلك آسرة لا تدانيها علاقة قائد بأصحابه حبا وثقة وتصديقا. وفي مقدمة كتابه عن السيرة المحمدية، قال الأستاذ منتغمري واط، وهو عالم اجتماع ولاهوت مسيحي، «إن افتراض أن محمدا كاذبا افتراض غير معقول». وتصدى عالم الاجتماع الأمريكي مايكل هارت للمائة الأكثر تأثيرا في العالم تاريخيا، فوضع محمدا أولهم وقال: «لأنه كان ناجحا في عالمين معا; رجل دين ورجل دولة من الطراز الأول».
كتب السيرة المحمدية لا تحصى، أحصيت منها مئات.. ولكن كثيرا منها تأثر كتابه بما حولهم من بيئات دينية، وثقافية، واجتماعية، فألقوا على السيرة ظلالها. أذكر من تلك الظلال الآتية:
أولا: الإسرائيليات: فالتوراة (العهد القديم) تبرز صورة يهوا إله الجنود قائدا حربيا غطت عسكريته على روحانيته.. وعلى نمط مماثل نجد كثيرا من كتاب السيرة أبرزوا عسكرية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى سموا السيرة نفسها «المغازي» يجارون جندية إله الجنود. نعم كانت للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عبقرية عسكرية. ولكن الحرب بينه وبين قريش كانت سجالا، وامتازت عبقرية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كرجل دولة لأنه حقق أهم ثلاثة إنجازات في سيرته بوسائل مدنية; أقام الدولة في المدينة المنورة سلميا، واستمال الجزيرة العربية للإسلام أثناء عامي صلح الحديبية سلميا، وفتح مكة سلميا.
ثانيا: المسيحيات: الأناجيل (أي العهد الجديد) تقيم سيرة عيسى عليه السلام على أساس غيبي معجز، ومفردات حياته حافلة بمعجزات، أثبت بعضها النص القرآني نفسه بدءا بمولده لغير أب وختما بآخرته (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ).. آيات جاراها كثير من كتاب السيرة المحمدية لكيلا تقل المعجزات المحمدية عن العيسوية، هذا مع أن القرآن الكريم واضح كل الوضوح في بيان نوع الحجة المحمدية (وما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) وواضح في هوية صاحب الدعوة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَه وَاحِد). حجة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) اتخذت منهجا آخر: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ).
ثالثا: الحكم: الدولتان الأموية والعباسية حققتا إنجازات حضارية وسياسية واقتصادية عظيمة، ولكنهما في أمر نظام الحكم استحدثتا كثيرا من النظامين القيصري والكسروي لا الحكم النبوي.
كثير من كتب السيرة روت سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رجل الدولة بصورة اقرب إلى الحاكم المطلق الذي عهدوه، مع أن الحقيقة هي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دوَّن صحيفة المدينة، وهي دستور للحكم ليقيم نظاما لا مركزيا في الشؤون الدينية والمالية، وذا واجبات دفاعية ودبلوماسية. نظاما لحمته الشورى. والحقيقة في هذا الصدد أن هدى النبوة لم يترك نظام حكم معينا بل ترك مبادئ سياسية وأحكاما. وترك أمر نظام الحكم لاجتهاد المسلمين فاجتهدوا وأقاموا ما أقاموا من نظم مواكبة في زمانهم غير ملزمة لمن بعدهم.
رابعا: النمط الذكوري: كثير من كتب السيرة تصور النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رب الأسرة بصورة النمط الذكوري المتأمر الذي يفضله كثير من الرجال في علاقاتهم بالنساء والعيال. مع أن الحقيقة هي أن صورة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرته إنسانية تقوم على المودة والرحمة والشورى والمؤانسة والدعابة، لا سيما علاقته بالسيدة خديجة ثم السيدة عائشة بعدها.
هذه المجالات الأربعة مجرد نماذج لوجوه من سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لوثها بعض كتاب السيرة وجاراها بعض رواة الأحاديث، فرسمت صورة غير صحيحة لحياة نبي الإنسانية التي لا أجد فيما بين أيدينا من قطعيات الوحي وصفا لها إلا قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ).
المسلمون اليوم هم الملة الأكثر عددا والأسرع زيادة، ولكنها من حيث المعرفة، والرفاء المادي، والعدل الاجتماعي، والإرادة المستقلة راسبة في قاع العالم.
بعض المسلمين ضاق بهذا الحال ذرعا فأقدم على خطط هجومية تستهدف الماسكين بمفاتيح النظام الدولي الراهن. هؤلاء المستهدفون بدورهم قادوا غضبة انتقامية مضادة.. هكذا صارت الأمة مع سوء الحال محصورة بين فكي الرحى. ولا مخرج من هذا الحصار بين هجمة الداخل وغضبة الخارج إلا في خطة ذات جدوى وصدقية ينفذها حماة ينشدون الخلاص من سوء الحال ويتجاوزون أساليب الهجمة، ويتصدون للماسكين بمفاتيح العالم بأسلوب يستخلص الحقوق بكل الوسائل ما عدا «الإرهاب».
الخطوة الأولى في الطريق لهذه الخطة هي خلع قميص الحديد الذي ألبسناه الأقدمون الذين انطلقوا باجتهاد مقدر في نصوص الوحي وأعملوا فيها منطقا صوريا قياسا وإجماعا، فاستنبطوا مبادئ وأحكاما في كل جوانب الحياة، واعتبر من خلفهم هذا الجهد الوضعي مقدسا بقدسية الوحي. اجتهادات الأقدمين حفظت واقعهم الفكري والثقافي والاجتماعي مصحوبا بنصوص الوحي، بينما نصوص الوحي نفسها تمنع هذه الديمومة لأنها تحث الناس على أن يُعملوا الحكمة، والعقل، والمصلحة، والمقاصد، وأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، والسياسة الشرعية، والتدبر، وسائل لفهم المبادئ وتطوير الأحكام ومراعاة ظروف الزمان والمكان: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا).
القرآن معجزة لا ينتهي أثرها بزمان وقوعها مثلما هو حال المعجزات التي قال عنها المولى تعالى (وما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ).
خطاب القرآن نص علوي من ذات مستكبرة فيه من الشعر جمال العبارة، ومن النثر ضبط المعنى ومن السجع تتابع النغم، ولكنه ليس شعرا ولا نثرا ولا سجعا، بل هو نص فني لا يجارى (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ).
وحفظ القرآن نصا واحدا مع اختلاف كافة نصوص الكتب المقدسة الأخرى معجزة مستمرة، وتعاليمه، وعلومه، وأمية مبلغه، تشد المسلم إليه شدا لا يدانيه تأثير أي نص ديني أو فني أو أدبي آخر في قلوب الناس. خلب القرآن لب غير المسلمين حتى أن ثلاثة من عتاة المشركين ـ أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي ـ كانوا يذهبون ليلا خلسة ليستمعوا للنبي وهو يقرأ القرآن. وحتى قال الأستاذ آربري مترجم معاني القرآن في مقدمة ترجمته «إني شكور لتلك الروح التي أوحت هذا السفر الفريد».
وشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كذلك آسرة لا تدانيها علاقة قائد بأصحابه حبا وثقة وتصديقا. وفي مقدمة كتابه عن السيرة المحمدية، قال الأستاذ منتغمري واط، وهو عالم اجتماع ولاهوت مسيحي، «إن افتراض أن محمدا كاذبا افتراض غير معقول». وتصدى عالم الاجتماع الأمريكي مايكل هارت للمائة الأكثر تأثيرا في العالم تاريخيا، فوضع محمدا أولهم وقال: «لأنه كان ناجحا في عالمين معا; رجل دين ورجل دولة من الطراز الأول».
كتب السيرة المحمدية لا تحصى، أحصيت منها مئات.. ولكن كثيرا منها تأثر كتابه بما حولهم من بيئات دينية، وثقافية، واجتماعية، فألقوا على السيرة ظلالها. أذكر من تلك الظلال الآتية:
أولا: الإسرائيليات: فالتوراة (العهد القديم) تبرز صورة يهوا إله الجنود قائدا حربيا غطت عسكريته على روحانيته.. وعلى نمط مماثل نجد كثيرا من كتاب السيرة أبرزوا عسكرية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى سموا السيرة نفسها «المغازي» يجارون جندية إله الجنود. نعم كانت للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عبقرية عسكرية. ولكن الحرب بينه وبين قريش كانت سجالا، وامتازت عبقرية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كرجل دولة لأنه حقق أهم ثلاثة إنجازات في سيرته بوسائل مدنية; أقام الدولة في المدينة المنورة سلميا، واستمال الجزيرة العربية للإسلام أثناء عامي صلح الحديبية سلميا، وفتح مكة سلميا.
ثانيا: المسيحيات: الأناجيل (أي العهد الجديد) تقيم سيرة عيسى عليه السلام على أساس غيبي معجز، ومفردات حياته حافلة بمعجزات، أثبت بعضها النص القرآني نفسه بدءا بمولده لغير أب وختما بآخرته (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ).. آيات جاراها كثير من كتاب السيرة المحمدية لكيلا تقل المعجزات المحمدية عن العيسوية، هذا مع أن القرآن الكريم واضح كل الوضوح في بيان نوع الحجة المحمدية (وما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) وواضح في هوية صاحب الدعوة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَه وَاحِد). حجة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) اتخذت منهجا آخر: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ).
ثالثا: الحكم: الدولتان الأموية والعباسية حققتا إنجازات حضارية وسياسية واقتصادية عظيمة، ولكنهما في أمر نظام الحكم استحدثتا كثيرا من النظامين القيصري والكسروي لا الحكم النبوي.
كثير من كتب السيرة روت سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رجل الدولة بصورة اقرب إلى الحاكم المطلق الذي عهدوه، مع أن الحقيقة هي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دوَّن صحيفة المدينة، وهي دستور للحكم ليقيم نظاما لا مركزيا في الشؤون الدينية والمالية، وذا واجبات دفاعية ودبلوماسية. نظاما لحمته الشورى. والحقيقة في هذا الصدد أن هدى النبوة لم يترك نظام حكم معينا بل ترك مبادئ سياسية وأحكاما. وترك أمر نظام الحكم لاجتهاد المسلمين فاجتهدوا وأقاموا ما أقاموا من نظم مواكبة في زمانهم غير ملزمة لمن بعدهم.
رابعا: النمط الذكوري: كثير من كتب السيرة تصور النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رب الأسرة بصورة النمط الذكوري المتأمر الذي يفضله كثير من الرجال في علاقاتهم بالنساء والعيال. مع أن الحقيقة هي أن صورة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرته إنسانية تقوم على المودة والرحمة والشورى والمؤانسة والدعابة، لا سيما علاقته بالسيدة خديجة ثم السيدة عائشة بعدها.
هذه المجالات الأربعة مجرد نماذج لوجوه من سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لوثها بعض كتاب السيرة وجاراها بعض رواة الأحاديث، فرسمت صورة غير صحيحة لحياة نبي الإنسانية التي لا أجد فيما بين أيدينا من قطعيات الوحي وصفا لها إلا قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ).