أمان أمان
07-05-2015, 01:56 AM
شخصية عابرة لكل حدود الجغرافيا المكانية والزمانية والدينية والفكرية الضيّقة
خمس سنوات على رحيل المرجع السيد محمد حسين فضل الله: يوم خسر العالم الإسلامي العربي .. أمةً في رجل!
http://www.annaharkw.com/annahar/Resources/ArticlesPictures/2015/07/05/571693_21d212e1w_main_New.jpg
بيروت - غنوة غازي
في أوج الاقتتال الذي تشهده الساحة الإسلامية والعربية.. وفي خضم الحراك التقسيمي الذي ينقاد اليه العالم العربي والإسلامي بصورة عامة، نتطلّع من حولنا فلا نسمع إلا أصوات المزايدة والغلو تُصخب المنابر والساحات والجوامع والكنائس، ولا نشهد سوى أعمال القتل والعنف والإرهاب تبيد الناس من كل لون ودين، باسم الله، والله من كل ذلك براء!
وسط هذا الضجيج القاتل لكل معالم الإنسانية والروحانية فينا، تعود إلينا الذكرى الخامسة لرحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (4 يوليو 2010) عازفة على وترٍ يؤلمنا فراغ ألحانه، ناقرةً على جراح هذا الزمن.. وما اكثرها، ونحن في زمن يكثر فيه رجال الدين ويقلّ العلماء والحكماء..
زمن يتعاظم فيه شأن رجال السياسة ويسقط إلى ما تحت الحضيض شأن الفلاسفة ورجال الحكمة والمنطق، إن وُجدوا.. زمن يتكاثر فيه الكتّاب والمستشعرون ويكاد ينقرض الأدباء والشعراء الحقيقيون.. زمن يكثر فيه المكفّرون ويندر المفكّرون!
نستذكر كل مآسينا، ونحن في حضرة العلامة الراحل محمد حسين فضل الله، تلك الشخصية الإسلامية النادرة التي سطع نجمها من لبنان، بلد الطوائف والمذاهب، وإن كانت معالمها الفكرية والثقافية والفلسفية جسّدت عبوراً لكل حدود الجغرافيا المكانية والزمانية والدينية والفكرية الضيّقة..
فكم نحن اليوم أحوج إليك يا سماحة السيد لنستعيد جوهر الدين الذائب بين النظرية والتطبيق، ونحن نشهد زوراً جرائم قتل الدين باسم الدين، وقتل الإنسان باسم الخالق!
كم نحن اليوم أحوج إليك لنعيش الواقع بانفتاح فكرك، ونتقبل الآخر برجاحة عقلك، ونحاور العالم برزانة صوتك!
كم نحن اليوم أحوج إليك يا سماحة السيد، لنرَ في الدين رجولة حقّة، قوامها الشجاعة والجرأة في قول الحق.. لا شيء إلا الحق!
وكم نحن اليوم أحوج إليك يا سماحة السيد، لنرَ في السياسة كلمة عدلٍ.. ولا نطلب إلا العدل!
كم نحن اليوم أحوج إليك حقاً يا سماحة السيد. وما محاولتنا استحضار لطائف من فكرك وروحك، سوى محاولة تكريمية متواضعة، علّنا بها نردّ القارئ إلى جوهر تهنا جميعاً عنه مذ أعتقنا التعمق في قراءة إرث الكبار من أمثالك، فرحنا نتخبّط في قشور السياسة النفعية ودهاليزها الملأى جوراً وظلماً وكفرا..
اليوم ننهل من محيط إرثك الغني لنكرّمك. ننقل عنك لنكتب عنك.. فهل أرفع لنا من استضافتك في رحاب صفحاتنا؟ وهل أسمى للقارئ من الإستنارة بجواهر أفكارك، علّه بها يهتدي طريقاً نحو تغيير واقعنا السيء نحو الأفضل؟!
عالِم منذ الطفولة!
وُلد المرجع الإسلاميّ الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله (قدس سره)، في مدينة النّجف الأشرف العام 1354هـ/ الموافق 1935 ميلاديّة .
والده هو العالم الربّاني والمجتهد العامل السيّد عبد الرؤوف فضل الله ، الّذي كان من أكابر علماء جبل عامل. ووالدته هي كريمة الحاج حسن بزّي، الّذي يُعتبر من الوجوه الخيِّرة المؤمنة في بلدة بنت جبيل ـ جنوب لبنان. أما عائلته الكبرى (آل فضل الله)، فلطالما كانت ولا زالت معروفة بالعلم والأدب والفكر، وينتهي نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
كانت العائلة تتطلَّع إلى ولادته بشغف، وكانت علامات النشاط والذّكاء باديةً عليه منذ الطّفولة.
وقد نقل عن والدته أنها أجهضت ولديْن قبل مجيئه، لكنّها قبل أن تحمل به، ذهبت إلى مقام الإمام الحسين(ع)، وهناك دعت الله سبحانه وتعالى متوسّلةً بالحسين(ع) أن تنجب ولداً، وستسمّيه محمد حسين أو اسماً آخر فيه الحسين(ع)، وكان أن حملت بهذا الولد الّذي توسّمت فيه العائلة كلّها خيراً.
ويقال إنّ المرحوم السيّد محمد سعيد فضل الله، (عمّ المرجع الرّاحل)، والّذي كان يعدّ من العلماء الكبار في ذلك الوقت، كان يقول إنّ هذا الفتى ( يقصد به سماحة السيّد فضل الله)، سيكون له شأن عظيم، وسيرفع من اسمه واسم عائلته عالياً.
النّشأة والدّراسة
عاش سماحة المرجع الراحل مرحلة الطّفولة الأولى في مدينة النّجف الأشرف بالعراق. بدأ الدراسة في الكتاتيب، واجتاز فيها مرحلة قراءة القرآن الكريم، وتعلُّم القراءة والكتابة، وبعض قواعد الحساب البسيطة. ثم انتقل إلى مدرسة عصريّة أنشأتها جمعيّة منتدى النّشر، ومنها خرج لمتابعة الدّراسة الدينيّة باكراً وهو في سنِّ التاسعة، على يد أستاذه الأوّل والده في دراسة الموادّ الحوزويّة؛ من النّحو، والبلاغة، والمنطق، والأصول والفقه.
ومنذ ذلك الحين، بدأت آفاقه ومداركه تتَّسع خارج الدّرس الدّينيّ، عبر قراءته المبكرة للمجلات والصّحف العربيّة والمؤلفات الأدبية، والّتي كان يصدرها أدباء وكتَّاب مشهورون. هذا وقد تابع سماحته الدّرس الدّينيّ العالي على يد علماء كبار، كالسيّد أبو القاسم الخوئي، والسيّد محسن الحكيم، (خال والدته)، والّذي كانت حركة مرجعيّته منفتحة على الواقع الإسلاميّ العام، في الوقت الّذي كانت أغلب المرجعيّات تعيش في دائرة مغلقة خاصّة. وفي بداية حركته الأدبيّة والعلميّة، تعاون سماحته، وكان في سنِّ الحادية عشرة، مع الشّهيد السيّد محمد مهدي الحكيم، ابن المرجع الدّيني السيّد محسن الحكيم(قدس سره)، بإصدار مجلّة الأدب.
إضافةً إلى هذا النّشاط الأدبيّ، لمعت شاعريّة سماحته في وقت مبكر، ونظم أولى قصائده وهو في العاشرة من عمره، وكان منفتحاً على الأجواء الثّقافيّة والسياسيّة، ما انعكس على شخصيّته مستقبلاً كعالم مصلح، وأديب شاعر، ومجتهد مبدع.
انتقاله إلى لبنان
أوَّل زيارة للسيد الراحل إلى لبنان كانت سنة 1952، حيث وصلت إلى بيروت آنذاك في أجواء وفاة العلامة السيّد محسن الأمين. وقد شارك في إحياء ذكرى أربعينه وألقى قصيدة رثاء نوّهت بها الصحف اللبنانية آنذاك، لأنها لم تكن قصيدة رثاء تقليديَّة، بل كانت تعالج كثيراً من القضايا المطروحة في الساحة يومذاك!
بعدها توالت زياراته الى لبنان، حتّى استقر فيه في العام 1966، حيث أسس الحوزة الدينية لتخريج علماء الدين، تحت اسم المعهد الشرعي الإسلامي، وشرع بمسيرته الإجتماعية ونشاطه السياسي الإنفتاحي.
تعرّض سماحة الراحل السيد محمد حسين فضل الله لأكثر من محاولة اغتيال في لبنان، كان ينجو منها دوماً بتقدير ربّاني. وبعد أن سرد تفاصيلها في كتابه العلامة فضل الله وتحّدي الممنوع، رد عليها مجتمعةً باقتباس الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ عليه السلام: كفى بالأجل حارساً. وأضاف:
نحن عندما اخترنا السّير في هذا الخطّ مع المسلمين المجاهدين، ومع المستضعفين المظلومين، فإنّنا حسبنا كلّ هذه الحسابات في طريق ذات الشّوكة، لأنّنا نعرف أنّ الّذي يقف في مواجهة هذه القوى الّتي تملك كلّ عناصر القوّة الأمنيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، فإنّه من الطبيعيّ أن يكون مستعدّاً لأكثر من عمليّة تفجير أو اغتيال أو خطف، ولذلك فإنّنا لسنا معقّدين من ذلك كلّه، ولم يحدث في أيّ حالة أن خلق ذلك في داخلنا الخوف، بل كنّا نزداد نشاطاً وتحدّياً كلّما ازداد المستكبرون عدواناً ووحشيَّة!
الوحدة الإسلامية
طوال مسيرته، عمل العلامة الراحل على تكريس مفاهيم جديدة للعلاقات الإسلامية الإسلامية، الشيعية السنّية على وجه التحديد. وكان من أوائل الذي تلمّسوا دخول السياسات الدولية على خط تفتيت المنطقة العربية الى كيانات مذهبية، كتلك التي تمّ تأطيرها في لبنان ضمن مجالس ملّية قسّمت الطوائف الى مذاهب كل منها مستقل عن الآخر، ومن ضمنها المجلس الإسلامي الشيعية الأعلى الذي حاول سماحته لكنّه لم يفلح - إقناع رجال الدين الشيعة آنذاك باستبداله بمجلس
إسلامي يجمع الشيعة والسنّة معاً، انطلاقاً من إيمانه بضرورة وحدة المسلمين في مواجهة قضاياهم، والإحساس بشخصيتهم الإسلامية، لتكون المسألة السنية والشيعية مسألة مدرستين في فهم الإسلام والتحرك في الواقع على أساس الإسلام، تماماً كما هي الخطوط الفكرية التي تحكم الواقع الإسلامي الثقافي، كخط المعتزلة وخط الأشاعرة، أو خطوط المذاهب الفقهية لتكون المسألة مسألة اجتهاد في علم الكلام، أو اجتهاد في الفقه لا يعزل الشخصية الإسلامية ليقسمها إلى
شخصيات، بل يوحِّدها في دائرة التنوع، حسب قوله رحمه الله. وهو من قال يوماً: نحن لا نعتقد أنَّ الأخطار التي واجهت الإسلام والمسلمين في عهد الخلفاء، والتي تعاطى معها الإمام عليّ(ع) بروحية اللقاء والتعاون لتحقيق مصلحة الإسلام العليا، هي أشدّ من الأخطار التي تواجه الإسلام الآن، بل نعتقد أنَّها أشدّ من الماضي، وذلك هو وحده الذي يفرض علينا الانفتاح على الساحة الإسلامية الكبرى، لنكون جزءاً من الأمّة في قضاياها الكبيرة، لنلتقي عندما نلتقي من موقع الإسلام، لمصلحة الإسلام، ولنختلف عندما نختلف من موقع الإسلام، لمصلحة الإسلام، ولنعطي قضية الإسلام كلّ ما عندنا من فكر وحركة وجهاد وإيمان، ولنستجيب لنداء اللّه: {إنَّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون} (الأنبياء؛92).
رفضه التكفير
لم يغفل سماحة المرجع الراحل ظاهرة التكفير في الإسلام، التي عبّر عن رفضه لها في أكثر من مناسبة وموقف، مبدياً أسفه لـ أنّ مثل هذه الأحكام بالكفر أو الضّلال تنطلق من مواقع مرجعيّة دينيّة، لا تقبل الجدل أو النّقاش في أحكامها الّتي تمنحها القداسة من دون أيّ أساس، حسب تعبيره. بنظره إنّ المشكلة لدى الاتجاه التكفيريّ، أنّ كثيراً من أصحابه ينطلقون من حالة جهل مغلق لا ينفتح على الآخر من خلال عناصر العلم، وذلك بما أراده الله للمسلمين من الجدال بالّتي هي أحسن، حتّى بالنّسبة إلى غير المسلمين، ومن ردّ الخلافات والمنازعات الفكريّة أو الفقهيّة إلى الله والرّسول، بالرّجوع إلى القواعد العلميّة الموضوعيّة المنفتحة على الحقيقة في الأخذ بحقائق الكتاب والسنّة، بالعقل المفتوح والقلب المنفتح.
ومن جملة ما قاله يوماً في معرض حديثه عن التكفير ان هذا الواقع التّكفيريّ، هو أحد أبرز أسباب الأوضاع التاريخيّة المدمّرة للواقع الإسلاميّ، معتبراً ان هذا الاتجاه السلبيّ الخطير ترك تأثيره على الأمّة الإسلاميّة، فامتنع الحوار الموضوعيّ بينهم فيما دعا إليه تعالى: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ}[النّساء: 59].
وببصيرته الثاقبة رأى ان الأحداث التقسيميّة والأوضاع التكفيريّة الّتي دخلت في النّسيج الثقافيّ الكلاميّ والعقيديّ تطوّرت، وتحرّكت الفتن المذهبيّة بين وقتٍ وآخر، لتخلق حالاً من التمزّق في واقع المسلمين سمح لأعداء الإسلام، في الشّرق والغرب، وأجهزة المخابرات الدوليّة، بالتدخّل في شؤونهم، لإثارة المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة من خلال إثارة المشاكل المذهبيّة، بالمستوى الّذي تطوّر، في بعض المراحل والأماكن، إلى حربٍ أهليّة تتغذّى من فتنة طائفيّة مذهبيّة هنا، أو خلاف فكريّ وثقافيّ هناك؛ الأمر الّذي أدّى إلى إضعاف الأمّة الإسلاميّة في العالم، وسقوطها أمام الدّول الاستكباريّة والمجتمعات الكافرة، وابتعدت الدّعوة إلى الوحدة الإسلاميّة، على الرّغم من منظّمات التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة والمؤتمرات الدّاعية إلى الوحدة الإسلاميَّة، وذلك من خلال محاولة بعض المتعصّبين إثارة مفردةٍ سلبيَّة هنا، ومفردة سلبيَّة هناك، في عمليّة للتّعقيد ضدّ الوفاق
الإسلامي - الإسلامي. واعتبر انه لم تعد لدينا أمّة إسلاميّة موحّدة التطلّعات والأهداف، بل أصبح العالم الإسلامي مِزَقاً متناثرة، يتناهشها الآخرون بأنيابهم، لخدمة مصالحهم الاقتصاديَّة والسياسيّة والأمنيّة والاستراتيجيّة؛ باعتبار الإسلام بالنّسبة إليهم هو العدوّ الّذي لا بدّ من محاربته والتّخطيط لتدميره في كلّ مواقعه.
قالوا عن سماحته
آية الله السيد علي الخامنئي (مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية): صلّوا خلف هذا الفيض الإلهي الكبير، السيّد فضل الله، فهو علمٌ من أعلام المذهب الشيعيّ.
الصّحافيّ والكاتب البريطانيّ المخضرم روبرت فيسك: شخصٌ مثل المرجع الدينيّ السيّد محمّد حسين فضل الله، هو فيلسوفٌ إلى جانب كونه داعيةً إسلاميّاً عالميّاً.
الشّيخ والأديب عبد الله العلايلي (باحث لغويّ وقاموسيّ، متعمّق في التاريخ الإسلاميّ): أردت أن أنعتك بلقبٍ أنت أهله ويكون وقفاً عليك، فترويّتُ مليّاً، وأحسستُ بحميّا ركز سرى دبيبه في كياني، ليتناهى نامة في حرفٍ من حروف الناس، راسمةً هذا اللّقب: حجّة الله البالغة، وكان في الأصل عنوان كتاب لا أعرف له صنواً، مثلما لا أعرف لك صنواً، وعلم ربِّك لا أُحابيك.
وليس بالكثير سيّدي هذا اللّقب، إزاء إمام دون أُفُقِهِ المتنابذون بألقاب تشغف أذان دنياهم، وتروق في أعين أهوائهم، وما لها في جنب الحقّ من خلاق ولا نصيب.
نعتُّك بالإمام، ومعناي به ليس ما يتبادر لأوّل وهلةٍ إلى أفهام النّاس، بل ما عنته اللّغة في الوصليّ لكلمة إمام: وهو شاقول البناء وخيطه الّذي به تقاس استقامة وضع الحجارة وانسجام رصف اللّبنات، وحسبك أنّ بناية وطنك وعمارة أمّتك إنّما تقاس بك، ومائلها لا يعرف مقدار جنوحه وميله إلا بخيطك وخطِّك.
ونعتي إيّاك بالحجّة، لا أعني به ما يُعهد ويؤلف من المفهوم الشّائع، بل ما تعلّق به استشفاف الإشراقيّين للحقيقة العليا المجرّدة عن السّوى والزّيوف، وما أملاه الجذر في دلالته الأصليّة، فثلاثي (الحجّ) يعني القصد، والحجّة عند الأصفياء، هي القصد الأسني لأشواق الإنسان، وتوقه الأسمى إلى الانبلاج في مشكاةٍ مثل نوره الوارد في محكم التنزيل: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النّور:35]. فمن أزاهير هذه الألقاب بهذه المعاني، أرفع إليك باقةً مزدانةً، ومن خلاصها، (أي الأسنس) أترع قارورة طيب.
الكاتب والمفكّر محمّد حسنين هيكل: السيّد فضل الله إنسان لا تستطيع أن تختلف معه، وهو مظلومٌ أن يبقى في لبنان، لأنّه مرجعيّة إسلاميّة كبرى ... عندما زرت لبنان، استفاد الجميع مني، ولكن أنا لم أستفِد إلا من المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله.
المطران الياس عودة (متربوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس): ...إنّه رجل التّأليف والائتلاف، يدعو إلى التّمييز حيث يترصّد النّاس جنوحٌ إلى التشويش أو الخلط، وإلى الانسجام حيث تتهددهم نزعة إلى التبعثر أو ميل إلى الاختزال. روحيّة الحوار عند العلامة فضل الله تخاطب القلب، لأنّها تجيء من السّماحة التي ما برح يستلهمها وقد دعي بحقّ صاحبها.
الرّئيس سليم الحصّ (رئيس مجلس الوزراء اللّبناني الأسبق): السيّد محمّد حسين فضل الله، رجل كبير من رجال الدين في لبنان، ليس ضليعاً في الفقه والاجتهاد فحسب، وإنّما هو أيضاً رجلٌ كبيرٌ من رجال الثّقافة الواسعة والفكر العميق في شتّى المجالات، وهو مرجعٌ من مراجع الموقف السياسيّ، والمتبصّر الحصين المسؤول. ولعلّ أهم ميزات السيّد المفكّر، أنّه واسع الإحاطة في نظرته إلى الأمور، فهو ليس ممّن إذا وقع بصرهم على الشّجر، زاغت بصيرتهم عن رؤية الغابة.
شاعر الإسلام والحياة والثورة والوطن
إلى جانب شخصية العلامة الراحل العلمية والفقهية اللامعة، وإلى جانب حضوره السياسي والاجتماعي الفاعل، تمتّع بوجه إنساني آخر، أدبي شعري عميق، لم يترك مجالاً إلى وعرّج عليه بسعة فكره وثقافته.
وفي معرض نقده للشعر العربي الحديث، قال يوماً إنَّ الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنّه تحوّل إلى شعر نخبة يتحدّث أفرادها بعضهم مع بعض بلغة خاصّة (...) وكأنّ هناك ذهنيّةً أصبحت تقول إنّك بمقدار ما تكون معقّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر!
بنظره ان الدّين في تطلّعاته نحو الله ونحو الحقّ ونحو العدل، هو مصدر إلهام للشّعر.. بل إن الدين عندما يتحول إلى عادات وتقاليد، فإنَّه يجمِّد الإنسان ولا يجمِّد الشِّعر فقط!
هو من قال يوماً ان الدّين يمثِّل انفتاحنا على الله، وانفتاحنا على الحياة من خلال الله، وحركتنا في خطّ المسؤوليّة من خلال الله، والشّعر يمثّل الأسلوب التّعبيريّ الّذي نستطيع من خلاله أن نطلق الصّورة المبدعة والإحسان المرهف والتّجربة العميقة، وان الشّعر هو حالة انسياب فنّي، وهو يتحرّك مع اللّغة التي تنساب لا الّتي تحتاج إلى مجلّدات لشرحها.
وعندما سئل عمّ اكتشفه في الشعر قال: اكتشفت الحياة. فهناك إحساس الإنسان عندما يشمّ العطر، وهناك إحساس الإنسان عندما يعيش أجواء الفكرة في العطر، فهما يتكاملان.
وكما كتب في الدين وله، كتب في الحياة والثورة والحب والمرأة. وهو القائل: أنا أتحسّس المرأة كإنسان، وأفكِّر في أنَّها لا بدَّ أن تعيش إنسانيَّتها، وأن لا تبرز إلى الحياة بأنوثتها...
وهو القائل في نظرته السامية للحب انّ الحبّ يمثّل حيويّة التجدّد الإنساني، حيث يفتح إنسانيّتك ليحرّك العقل عندما تخطِّط لحركة الحبّ في الواقع، ويحرّك القلب في نبضاته وخفقاته، ويحرّك الإحساس والشّعور؛ إنّه يمثّل الصّفاء الّذي يحسّ به الإنسان، وخصوصاً عندما يعيش إنسانيّته في إنسانيّة الآخر. ليس من الضّروريّ أن يكون الحبّ غريزةً في الجانب الحيوانيّ للغريزة، ولكنّ الحبّ ينفتح على كلّ الكون.
وهو من حدّث الوطن في قصائد عدّة منها قصيدة وطني تلفَّت، ضمن ديوان قصائد للإسلام والحياة، ومن جملة ما قال فيها هذه الأبيات التي تنطبق على واقع الأمة الإسلامية والعربية اليوم، حتّى يشعر قارئها وكأن سماحته ما زال حاضراً بكل حواسه ووجدانياته بيننا، ليحاكي الواقع بلغة العقل والمنطق التوّاق للحرية والوحدة والانفتاح!
وطني تلفَّتْ إنَّ شرْذَمةً
عادَتْ إليكَ.. تُؤلِّهُ (الوثَنَا)
وتُهيبُ بالأحْقادِ.. يُلهبُها
ظُلْمُ القوى.. أنْ تزرعَ الفِتَنَا
ستَمُدُّها كفّاً تُهدِّم منْ
مجْدِ الحضَارةِ فيكَ رَمْزَ هَنَا
وتُحطِّمُ الرُّوحَ الّتي انْبَثَقَتْ
عنْ وحْدةٍ تتعهَّدُ الوطَنَا
فاقْطَعْ أنامِلَهَا فقدْ عبَثَتْ
بِحيَاتِنا.. وترشَّفَتْ دَمَنا
وهُناكَ يا وطني ستسْمَعُ مِنْ
حريَّةِ الأجْيالِ لحْنَ غِنَا
ونعودُ نمرحُ في ثَرَاكَ كمَا..
كنّا نُغازِلُ باسْمِكَ الزَّمَنَا
http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=571693&date=05072015
خمس سنوات على رحيل المرجع السيد محمد حسين فضل الله: يوم خسر العالم الإسلامي العربي .. أمةً في رجل!
http://www.annaharkw.com/annahar/Resources/ArticlesPictures/2015/07/05/571693_21d212e1w_main_New.jpg
بيروت - غنوة غازي
في أوج الاقتتال الذي تشهده الساحة الإسلامية والعربية.. وفي خضم الحراك التقسيمي الذي ينقاد اليه العالم العربي والإسلامي بصورة عامة، نتطلّع من حولنا فلا نسمع إلا أصوات المزايدة والغلو تُصخب المنابر والساحات والجوامع والكنائس، ولا نشهد سوى أعمال القتل والعنف والإرهاب تبيد الناس من كل لون ودين، باسم الله، والله من كل ذلك براء!
وسط هذا الضجيج القاتل لكل معالم الإنسانية والروحانية فينا، تعود إلينا الذكرى الخامسة لرحيل العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (4 يوليو 2010) عازفة على وترٍ يؤلمنا فراغ ألحانه، ناقرةً على جراح هذا الزمن.. وما اكثرها، ونحن في زمن يكثر فيه رجال الدين ويقلّ العلماء والحكماء..
زمن يتعاظم فيه شأن رجال السياسة ويسقط إلى ما تحت الحضيض شأن الفلاسفة ورجال الحكمة والمنطق، إن وُجدوا.. زمن يتكاثر فيه الكتّاب والمستشعرون ويكاد ينقرض الأدباء والشعراء الحقيقيون.. زمن يكثر فيه المكفّرون ويندر المفكّرون!
نستذكر كل مآسينا، ونحن في حضرة العلامة الراحل محمد حسين فضل الله، تلك الشخصية الإسلامية النادرة التي سطع نجمها من لبنان، بلد الطوائف والمذاهب، وإن كانت معالمها الفكرية والثقافية والفلسفية جسّدت عبوراً لكل حدود الجغرافيا المكانية والزمانية والدينية والفكرية الضيّقة..
فكم نحن اليوم أحوج إليك يا سماحة السيد لنستعيد جوهر الدين الذائب بين النظرية والتطبيق، ونحن نشهد زوراً جرائم قتل الدين باسم الدين، وقتل الإنسان باسم الخالق!
كم نحن اليوم أحوج إليك لنعيش الواقع بانفتاح فكرك، ونتقبل الآخر برجاحة عقلك، ونحاور العالم برزانة صوتك!
كم نحن اليوم أحوج إليك يا سماحة السيد، لنرَ في الدين رجولة حقّة، قوامها الشجاعة والجرأة في قول الحق.. لا شيء إلا الحق!
وكم نحن اليوم أحوج إليك يا سماحة السيد، لنرَ في السياسة كلمة عدلٍ.. ولا نطلب إلا العدل!
كم نحن اليوم أحوج إليك حقاً يا سماحة السيد. وما محاولتنا استحضار لطائف من فكرك وروحك، سوى محاولة تكريمية متواضعة، علّنا بها نردّ القارئ إلى جوهر تهنا جميعاً عنه مذ أعتقنا التعمق في قراءة إرث الكبار من أمثالك، فرحنا نتخبّط في قشور السياسة النفعية ودهاليزها الملأى جوراً وظلماً وكفرا..
اليوم ننهل من محيط إرثك الغني لنكرّمك. ننقل عنك لنكتب عنك.. فهل أرفع لنا من استضافتك في رحاب صفحاتنا؟ وهل أسمى للقارئ من الإستنارة بجواهر أفكارك، علّه بها يهتدي طريقاً نحو تغيير واقعنا السيء نحو الأفضل؟!
عالِم منذ الطفولة!
وُلد المرجع الإسلاميّ الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله (قدس سره)، في مدينة النّجف الأشرف العام 1354هـ/ الموافق 1935 ميلاديّة .
والده هو العالم الربّاني والمجتهد العامل السيّد عبد الرؤوف فضل الله ، الّذي كان من أكابر علماء جبل عامل. ووالدته هي كريمة الحاج حسن بزّي، الّذي يُعتبر من الوجوه الخيِّرة المؤمنة في بلدة بنت جبيل ـ جنوب لبنان. أما عائلته الكبرى (آل فضل الله)، فلطالما كانت ولا زالت معروفة بالعلم والأدب والفكر، وينتهي نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
كانت العائلة تتطلَّع إلى ولادته بشغف، وكانت علامات النشاط والذّكاء باديةً عليه منذ الطّفولة.
وقد نقل عن والدته أنها أجهضت ولديْن قبل مجيئه، لكنّها قبل أن تحمل به، ذهبت إلى مقام الإمام الحسين(ع)، وهناك دعت الله سبحانه وتعالى متوسّلةً بالحسين(ع) أن تنجب ولداً، وستسمّيه محمد حسين أو اسماً آخر فيه الحسين(ع)، وكان أن حملت بهذا الولد الّذي توسّمت فيه العائلة كلّها خيراً.
ويقال إنّ المرحوم السيّد محمد سعيد فضل الله، (عمّ المرجع الرّاحل)، والّذي كان يعدّ من العلماء الكبار في ذلك الوقت، كان يقول إنّ هذا الفتى ( يقصد به سماحة السيّد فضل الله)، سيكون له شأن عظيم، وسيرفع من اسمه واسم عائلته عالياً.
النّشأة والدّراسة
عاش سماحة المرجع الراحل مرحلة الطّفولة الأولى في مدينة النّجف الأشرف بالعراق. بدأ الدراسة في الكتاتيب، واجتاز فيها مرحلة قراءة القرآن الكريم، وتعلُّم القراءة والكتابة، وبعض قواعد الحساب البسيطة. ثم انتقل إلى مدرسة عصريّة أنشأتها جمعيّة منتدى النّشر، ومنها خرج لمتابعة الدّراسة الدينيّة باكراً وهو في سنِّ التاسعة، على يد أستاذه الأوّل والده في دراسة الموادّ الحوزويّة؛ من النّحو، والبلاغة، والمنطق، والأصول والفقه.
ومنذ ذلك الحين، بدأت آفاقه ومداركه تتَّسع خارج الدّرس الدّينيّ، عبر قراءته المبكرة للمجلات والصّحف العربيّة والمؤلفات الأدبية، والّتي كان يصدرها أدباء وكتَّاب مشهورون. هذا وقد تابع سماحته الدّرس الدّينيّ العالي على يد علماء كبار، كالسيّد أبو القاسم الخوئي، والسيّد محسن الحكيم، (خال والدته)، والّذي كانت حركة مرجعيّته منفتحة على الواقع الإسلاميّ العام، في الوقت الّذي كانت أغلب المرجعيّات تعيش في دائرة مغلقة خاصّة. وفي بداية حركته الأدبيّة والعلميّة، تعاون سماحته، وكان في سنِّ الحادية عشرة، مع الشّهيد السيّد محمد مهدي الحكيم، ابن المرجع الدّيني السيّد محسن الحكيم(قدس سره)، بإصدار مجلّة الأدب.
إضافةً إلى هذا النّشاط الأدبيّ، لمعت شاعريّة سماحته في وقت مبكر، ونظم أولى قصائده وهو في العاشرة من عمره، وكان منفتحاً على الأجواء الثّقافيّة والسياسيّة، ما انعكس على شخصيّته مستقبلاً كعالم مصلح، وأديب شاعر، ومجتهد مبدع.
انتقاله إلى لبنان
أوَّل زيارة للسيد الراحل إلى لبنان كانت سنة 1952، حيث وصلت إلى بيروت آنذاك في أجواء وفاة العلامة السيّد محسن الأمين. وقد شارك في إحياء ذكرى أربعينه وألقى قصيدة رثاء نوّهت بها الصحف اللبنانية آنذاك، لأنها لم تكن قصيدة رثاء تقليديَّة، بل كانت تعالج كثيراً من القضايا المطروحة في الساحة يومذاك!
بعدها توالت زياراته الى لبنان، حتّى استقر فيه في العام 1966، حيث أسس الحوزة الدينية لتخريج علماء الدين، تحت اسم المعهد الشرعي الإسلامي، وشرع بمسيرته الإجتماعية ونشاطه السياسي الإنفتاحي.
تعرّض سماحة الراحل السيد محمد حسين فضل الله لأكثر من محاولة اغتيال في لبنان، كان ينجو منها دوماً بتقدير ربّاني. وبعد أن سرد تفاصيلها في كتابه العلامة فضل الله وتحّدي الممنوع، رد عليها مجتمعةً باقتباس الكلمة المأثورة عن الإمام عليّ عليه السلام: كفى بالأجل حارساً. وأضاف:
نحن عندما اخترنا السّير في هذا الخطّ مع المسلمين المجاهدين، ومع المستضعفين المظلومين، فإنّنا حسبنا كلّ هذه الحسابات في طريق ذات الشّوكة، لأنّنا نعرف أنّ الّذي يقف في مواجهة هذه القوى الّتي تملك كلّ عناصر القوّة الأمنيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، فإنّه من الطبيعيّ أن يكون مستعدّاً لأكثر من عمليّة تفجير أو اغتيال أو خطف، ولذلك فإنّنا لسنا معقّدين من ذلك كلّه، ولم يحدث في أيّ حالة أن خلق ذلك في داخلنا الخوف، بل كنّا نزداد نشاطاً وتحدّياً كلّما ازداد المستكبرون عدواناً ووحشيَّة!
الوحدة الإسلامية
طوال مسيرته، عمل العلامة الراحل على تكريس مفاهيم جديدة للعلاقات الإسلامية الإسلامية، الشيعية السنّية على وجه التحديد. وكان من أوائل الذي تلمّسوا دخول السياسات الدولية على خط تفتيت المنطقة العربية الى كيانات مذهبية، كتلك التي تمّ تأطيرها في لبنان ضمن مجالس ملّية قسّمت الطوائف الى مذاهب كل منها مستقل عن الآخر، ومن ضمنها المجلس الإسلامي الشيعية الأعلى الذي حاول سماحته لكنّه لم يفلح - إقناع رجال الدين الشيعة آنذاك باستبداله بمجلس
إسلامي يجمع الشيعة والسنّة معاً، انطلاقاً من إيمانه بضرورة وحدة المسلمين في مواجهة قضاياهم، والإحساس بشخصيتهم الإسلامية، لتكون المسألة السنية والشيعية مسألة مدرستين في فهم الإسلام والتحرك في الواقع على أساس الإسلام، تماماً كما هي الخطوط الفكرية التي تحكم الواقع الإسلامي الثقافي، كخط المعتزلة وخط الأشاعرة، أو خطوط المذاهب الفقهية لتكون المسألة مسألة اجتهاد في علم الكلام، أو اجتهاد في الفقه لا يعزل الشخصية الإسلامية ليقسمها إلى
شخصيات، بل يوحِّدها في دائرة التنوع، حسب قوله رحمه الله. وهو من قال يوماً: نحن لا نعتقد أنَّ الأخطار التي واجهت الإسلام والمسلمين في عهد الخلفاء، والتي تعاطى معها الإمام عليّ(ع) بروحية اللقاء والتعاون لتحقيق مصلحة الإسلام العليا، هي أشدّ من الأخطار التي تواجه الإسلام الآن، بل نعتقد أنَّها أشدّ من الماضي، وذلك هو وحده الذي يفرض علينا الانفتاح على الساحة الإسلامية الكبرى، لنكون جزءاً من الأمّة في قضاياها الكبيرة، لنلتقي عندما نلتقي من موقع الإسلام، لمصلحة الإسلام، ولنختلف عندما نختلف من موقع الإسلام، لمصلحة الإسلام، ولنعطي قضية الإسلام كلّ ما عندنا من فكر وحركة وجهاد وإيمان، ولنستجيب لنداء اللّه: {إنَّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون} (الأنبياء؛92).
رفضه التكفير
لم يغفل سماحة المرجع الراحل ظاهرة التكفير في الإسلام، التي عبّر عن رفضه لها في أكثر من مناسبة وموقف، مبدياً أسفه لـ أنّ مثل هذه الأحكام بالكفر أو الضّلال تنطلق من مواقع مرجعيّة دينيّة، لا تقبل الجدل أو النّقاش في أحكامها الّتي تمنحها القداسة من دون أيّ أساس، حسب تعبيره. بنظره إنّ المشكلة لدى الاتجاه التكفيريّ، أنّ كثيراً من أصحابه ينطلقون من حالة جهل مغلق لا ينفتح على الآخر من خلال عناصر العلم، وذلك بما أراده الله للمسلمين من الجدال بالّتي هي أحسن، حتّى بالنّسبة إلى غير المسلمين، ومن ردّ الخلافات والمنازعات الفكريّة أو الفقهيّة إلى الله والرّسول، بالرّجوع إلى القواعد العلميّة الموضوعيّة المنفتحة على الحقيقة في الأخذ بحقائق الكتاب والسنّة، بالعقل المفتوح والقلب المنفتح.
ومن جملة ما قاله يوماً في معرض حديثه عن التكفير ان هذا الواقع التّكفيريّ، هو أحد أبرز أسباب الأوضاع التاريخيّة المدمّرة للواقع الإسلاميّ، معتبراً ان هذا الاتجاه السلبيّ الخطير ترك تأثيره على الأمّة الإسلاميّة، فامتنع الحوار الموضوعيّ بينهم فيما دعا إليه تعالى: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ}[النّساء: 59].
وببصيرته الثاقبة رأى ان الأحداث التقسيميّة والأوضاع التكفيريّة الّتي دخلت في النّسيج الثقافيّ الكلاميّ والعقيديّ تطوّرت، وتحرّكت الفتن المذهبيّة بين وقتٍ وآخر، لتخلق حالاً من التمزّق في واقع المسلمين سمح لأعداء الإسلام، في الشّرق والغرب، وأجهزة المخابرات الدوليّة، بالتدخّل في شؤونهم، لإثارة المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة من خلال إثارة المشاكل المذهبيّة، بالمستوى الّذي تطوّر، في بعض المراحل والأماكن، إلى حربٍ أهليّة تتغذّى من فتنة طائفيّة مذهبيّة هنا، أو خلاف فكريّ وثقافيّ هناك؛ الأمر الّذي أدّى إلى إضعاف الأمّة الإسلاميّة في العالم، وسقوطها أمام الدّول الاستكباريّة والمجتمعات الكافرة، وابتعدت الدّعوة إلى الوحدة الإسلاميّة، على الرّغم من منظّمات التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة والمؤتمرات الدّاعية إلى الوحدة الإسلاميَّة، وذلك من خلال محاولة بعض المتعصّبين إثارة مفردةٍ سلبيَّة هنا، ومفردة سلبيَّة هناك، في عمليّة للتّعقيد ضدّ الوفاق
الإسلامي - الإسلامي. واعتبر انه لم تعد لدينا أمّة إسلاميّة موحّدة التطلّعات والأهداف، بل أصبح العالم الإسلامي مِزَقاً متناثرة، يتناهشها الآخرون بأنيابهم، لخدمة مصالحهم الاقتصاديَّة والسياسيّة والأمنيّة والاستراتيجيّة؛ باعتبار الإسلام بالنّسبة إليهم هو العدوّ الّذي لا بدّ من محاربته والتّخطيط لتدميره في كلّ مواقعه.
قالوا عن سماحته
آية الله السيد علي الخامنئي (مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية): صلّوا خلف هذا الفيض الإلهي الكبير، السيّد فضل الله، فهو علمٌ من أعلام المذهب الشيعيّ.
الصّحافيّ والكاتب البريطانيّ المخضرم روبرت فيسك: شخصٌ مثل المرجع الدينيّ السيّد محمّد حسين فضل الله، هو فيلسوفٌ إلى جانب كونه داعيةً إسلاميّاً عالميّاً.
الشّيخ والأديب عبد الله العلايلي (باحث لغويّ وقاموسيّ، متعمّق في التاريخ الإسلاميّ): أردت أن أنعتك بلقبٍ أنت أهله ويكون وقفاً عليك، فترويّتُ مليّاً، وأحسستُ بحميّا ركز سرى دبيبه في كياني، ليتناهى نامة في حرفٍ من حروف الناس، راسمةً هذا اللّقب: حجّة الله البالغة، وكان في الأصل عنوان كتاب لا أعرف له صنواً، مثلما لا أعرف لك صنواً، وعلم ربِّك لا أُحابيك.
وليس بالكثير سيّدي هذا اللّقب، إزاء إمام دون أُفُقِهِ المتنابذون بألقاب تشغف أذان دنياهم، وتروق في أعين أهوائهم، وما لها في جنب الحقّ من خلاق ولا نصيب.
نعتُّك بالإمام، ومعناي به ليس ما يتبادر لأوّل وهلةٍ إلى أفهام النّاس، بل ما عنته اللّغة في الوصليّ لكلمة إمام: وهو شاقول البناء وخيطه الّذي به تقاس استقامة وضع الحجارة وانسجام رصف اللّبنات، وحسبك أنّ بناية وطنك وعمارة أمّتك إنّما تقاس بك، ومائلها لا يعرف مقدار جنوحه وميله إلا بخيطك وخطِّك.
ونعتي إيّاك بالحجّة، لا أعني به ما يُعهد ويؤلف من المفهوم الشّائع، بل ما تعلّق به استشفاف الإشراقيّين للحقيقة العليا المجرّدة عن السّوى والزّيوف، وما أملاه الجذر في دلالته الأصليّة، فثلاثي (الحجّ) يعني القصد، والحجّة عند الأصفياء، هي القصد الأسني لأشواق الإنسان، وتوقه الأسمى إلى الانبلاج في مشكاةٍ مثل نوره الوارد في محكم التنزيل: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النّور:35]. فمن أزاهير هذه الألقاب بهذه المعاني، أرفع إليك باقةً مزدانةً، ومن خلاصها، (أي الأسنس) أترع قارورة طيب.
الكاتب والمفكّر محمّد حسنين هيكل: السيّد فضل الله إنسان لا تستطيع أن تختلف معه، وهو مظلومٌ أن يبقى في لبنان، لأنّه مرجعيّة إسلاميّة كبرى ... عندما زرت لبنان، استفاد الجميع مني، ولكن أنا لم أستفِد إلا من المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله.
المطران الياس عودة (متربوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس): ...إنّه رجل التّأليف والائتلاف، يدعو إلى التّمييز حيث يترصّد النّاس جنوحٌ إلى التشويش أو الخلط، وإلى الانسجام حيث تتهددهم نزعة إلى التبعثر أو ميل إلى الاختزال. روحيّة الحوار عند العلامة فضل الله تخاطب القلب، لأنّها تجيء من السّماحة التي ما برح يستلهمها وقد دعي بحقّ صاحبها.
الرّئيس سليم الحصّ (رئيس مجلس الوزراء اللّبناني الأسبق): السيّد محمّد حسين فضل الله، رجل كبير من رجال الدين في لبنان، ليس ضليعاً في الفقه والاجتهاد فحسب، وإنّما هو أيضاً رجلٌ كبيرٌ من رجال الثّقافة الواسعة والفكر العميق في شتّى المجالات، وهو مرجعٌ من مراجع الموقف السياسيّ، والمتبصّر الحصين المسؤول. ولعلّ أهم ميزات السيّد المفكّر، أنّه واسع الإحاطة في نظرته إلى الأمور، فهو ليس ممّن إذا وقع بصرهم على الشّجر، زاغت بصيرتهم عن رؤية الغابة.
شاعر الإسلام والحياة والثورة والوطن
إلى جانب شخصية العلامة الراحل العلمية والفقهية اللامعة، وإلى جانب حضوره السياسي والاجتماعي الفاعل، تمتّع بوجه إنساني آخر، أدبي شعري عميق، لم يترك مجالاً إلى وعرّج عليه بسعة فكره وثقافته.
وفي معرض نقده للشعر العربي الحديث، قال يوماً إنَّ الشّعر العربيّ في تجاربه الأخيرة، ابتعد عن أن يكون شعراً عربيّاً يعبّر عن الإنسان العربي أو يخدمه، لأنّه تحوّل إلى شعر نخبة يتحدّث أفرادها بعضهم مع بعض بلغة خاصّة (...) وكأنّ هناك ذهنيّةً أصبحت تقول إنّك بمقدار ما تكون معقّداً أكثر، تكون مبدعاً أكثر!
بنظره ان الدّين في تطلّعاته نحو الله ونحو الحقّ ونحو العدل، هو مصدر إلهام للشّعر.. بل إن الدين عندما يتحول إلى عادات وتقاليد، فإنَّه يجمِّد الإنسان ولا يجمِّد الشِّعر فقط!
هو من قال يوماً ان الدّين يمثِّل انفتاحنا على الله، وانفتاحنا على الحياة من خلال الله، وحركتنا في خطّ المسؤوليّة من خلال الله، والشّعر يمثّل الأسلوب التّعبيريّ الّذي نستطيع من خلاله أن نطلق الصّورة المبدعة والإحسان المرهف والتّجربة العميقة، وان الشّعر هو حالة انسياب فنّي، وهو يتحرّك مع اللّغة التي تنساب لا الّتي تحتاج إلى مجلّدات لشرحها.
وعندما سئل عمّ اكتشفه في الشعر قال: اكتشفت الحياة. فهناك إحساس الإنسان عندما يشمّ العطر، وهناك إحساس الإنسان عندما يعيش أجواء الفكرة في العطر، فهما يتكاملان.
وكما كتب في الدين وله، كتب في الحياة والثورة والحب والمرأة. وهو القائل: أنا أتحسّس المرأة كإنسان، وأفكِّر في أنَّها لا بدَّ أن تعيش إنسانيَّتها، وأن لا تبرز إلى الحياة بأنوثتها...
وهو القائل في نظرته السامية للحب انّ الحبّ يمثّل حيويّة التجدّد الإنساني، حيث يفتح إنسانيّتك ليحرّك العقل عندما تخطِّط لحركة الحبّ في الواقع، ويحرّك القلب في نبضاته وخفقاته، ويحرّك الإحساس والشّعور؛ إنّه يمثّل الصّفاء الّذي يحسّ به الإنسان، وخصوصاً عندما يعيش إنسانيّته في إنسانيّة الآخر. ليس من الضّروريّ أن يكون الحبّ غريزةً في الجانب الحيوانيّ للغريزة، ولكنّ الحبّ ينفتح على كلّ الكون.
وهو من حدّث الوطن في قصائد عدّة منها قصيدة وطني تلفَّت، ضمن ديوان قصائد للإسلام والحياة، ومن جملة ما قال فيها هذه الأبيات التي تنطبق على واقع الأمة الإسلامية والعربية اليوم، حتّى يشعر قارئها وكأن سماحته ما زال حاضراً بكل حواسه ووجدانياته بيننا، ليحاكي الواقع بلغة العقل والمنطق التوّاق للحرية والوحدة والانفتاح!
وطني تلفَّتْ إنَّ شرْذَمةً
عادَتْ إليكَ.. تُؤلِّهُ (الوثَنَا)
وتُهيبُ بالأحْقادِ.. يُلهبُها
ظُلْمُ القوى.. أنْ تزرعَ الفِتَنَا
ستَمُدُّها كفّاً تُهدِّم منْ
مجْدِ الحضَارةِ فيكَ رَمْزَ هَنَا
وتُحطِّمُ الرُّوحَ الّتي انْبَثَقَتْ
عنْ وحْدةٍ تتعهَّدُ الوطَنَا
فاقْطَعْ أنامِلَهَا فقدْ عبَثَتْ
بِحيَاتِنا.. وترشَّفَتْ دَمَنا
وهُناكَ يا وطني ستسْمَعُ مِنْ
حريَّةِ الأجْيالِ لحْنَ غِنَا
ونعودُ نمرحُ في ثَرَاكَ كمَا..
كنّا نُغازِلُ باسْمِكَ الزَّمَنَا
http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=571693&date=05072015