yasmeen
04-25-2005, 08:38 AM
أنيس منصور
على مقهى (فوكيه) في شارع الشانزلزيه جلست، وأصحاب المقهى جعلوا اسمه أميركياً: فوكت، وقد حاول أحد الأثرياء العرب أن يشتريه فاعترضت الحكومة الفرنسية لأنه من معالم المدينة، تماماً ككثير من المقاهي التاريخية في وسط المدينة وضواحيها. هل البن الفرنسي مختلف عن الذي نشربه؟ ان أحسن البن يجيء إلينا في مصر من السعودية، فالحقائب تمتلئ بالبن والشاي، هل البن الذي نشربه قد أفسده حب الهيل؟ - في مصر يسمونه الحبهان.. هل هذا الحبهان يجعل طعم البن ألطف وأرق؟ والبن الفرنسي فيه لسعة وله رائحة جميلة، أنا لست ممن يشربون البن، وانما أشرب الشاي، إلا إذا ذهبت إلى باريس.. فأنا أستخدم كل حواسي في تذوق البن، بل أحياناً أذهب إلى المقهى وأدخل إلى أعماقها وأملأ صدري ببخار البن، هل هذا البخار هو الذي يجعل العين ترى اكثر والذهن أنشط ويملأني بالحيوية والنشاط، أنا اتصور ذلك او أتوهمه، ويسعدني أن يكون هذا حالي.
امتلأت القهوة بخاراً، وجلست على الرصيف، المقاعد صغيرة، الناس متزاحمون لا يقولون شيئاً، وانما ينظرون، كل واحد عينه على شيء أو عينه في الفضاء على لاشيء، تحركت فجأة فسقط فنجان البن على ملابسي، أخرجت المنديل أمسح البن، وفوجئت بسيدة إلى جواري أسرعت وأخرجت منديلاً ورقياً تساعدني، وتقترح أن يكون استخدام الماء أفضل، وفي ارتباكي اصطدمت بالترابيزة فسقط الماء عليها، وبسرعة جاء رجل ونفض الماء عن فستانها وامتدت الأيدي تحاول أن تساعد السيدة العجوز.
وفجأة قفزت الأسئلة في رأسي: ما هذا؟ هل نحن إلى هذه الدرجة حريصون على مساعدة الآخرين؟ وهذا هو الفرق بين الانسان والحيوان، فالحيوان يساعد أقاربه، زوجته وأولاده وأفراد قبيلته، أما الانسان فيساعد من لا يعرف، فنجد جمعيات لمساعدة المرضى واليتامى واللقطاء لا في هذا البلد وانما في أي بلد من الدنيا، إلى هذه الدرجة نجد الانسان محباً ومتعاطفاً مع الغير، كيف ولماذا؟
فنحن نعيش في عصر نظرية دارون: البقاء للأصلح، للأقوى، وفي زمن يقول: ان الانسان للانسان ذئب، ونقول يا روحي ما بعدك روح، يا جاري انت في حالك وأنا في حالي، بلدك فين يا جحا قال: اللي فيها مراتي، ساعدني أساعدك، تبص لي بعين أبص لك باثنين، أي زمن المصالح المتبادلة، شيء مقابل شيء، ولكن في حالتي هذه: لا مصالح، ولا نظرة بعين، وانما قد امتدت الأيدي تلقائياً ولن يكون بيننا مصالح مشتركة لا اليوم ولا غداً، فما المعنى؟
ان في الانسان خيراً واستعداداً غريزياً للمساعدة، مساعدة من لا يعرف، ولكنه جاهز للنجدة، جاهز للخير، ودون أي تفكير فليس صحيحاً أن الانسان اكثره شر، وأقله خير، وأن الانسان طيب بطبعه، ولكن الظروف هي التي تفسده وتجعله يمسك يده ويغض طرفه ويتجه إلى الناحية الاخرى من دون أن يعبأ بما حدث لمن حوله.
وفي نفس الوقت نجد انساناً جالساً وفجأة وقف كالعفريت لكي يفعص صرصاراً عابراً، مع أن هذا الصرصار لم يسبب له ضرراً، ولن يسبب أيضاً، ونجد أيضاً من يضع في جيبه سكيناً صغيراً فاذا نهض من كرسيه الناعم الرقيق في احدى دور السينما أو احدى الفنادق غرز السكين في بطن الكرسي، لماذا؟ لا يوجد أي سبب إلا أنه شرير!
فأي نوع من الناس أنت وأنا وهو؟ نحن نحمل هاتين الصفتين معا، أما متى يقفز الشرير من بطن الانسان الطيب، او ينهض الانسان الطيب من أحضان الشيطان، فلا أنت تعرف ولا أنا، وانما حسب الأحوال، وأحوال الإنسان مفروضة، فالانسان ـ أنت وانا ـ كائنات معقدة ، وإذا أنت حكيت عن نفسك انك ناعم كالحرير، فإنني أقول لك: ان الحرير نفسه ليس إلا ملايين العقد الصغيرة المتراصة والمضغوطة بعضها إلى جوار بعض!
على مقهى (فوكيه) في شارع الشانزلزيه جلست، وأصحاب المقهى جعلوا اسمه أميركياً: فوكت، وقد حاول أحد الأثرياء العرب أن يشتريه فاعترضت الحكومة الفرنسية لأنه من معالم المدينة، تماماً ككثير من المقاهي التاريخية في وسط المدينة وضواحيها. هل البن الفرنسي مختلف عن الذي نشربه؟ ان أحسن البن يجيء إلينا في مصر من السعودية، فالحقائب تمتلئ بالبن والشاي، هل البن الذي نشربه قد أفسده حب الهيل؟ - في مصر يسمونه الحبهان.. هل هذا الحبهان يجعل طعم البن ألطف وأرق؟ والبن الفرنسي فيه لسعة وله رائحة جميلة، أنا لست ممن يشربون البن، وانما أشرب الشاي، إلا إذا ذهبت إلى باريس.. فأنا أستخدم كل حواسي في تذوق البن، بل أحياناً أذهب إلى المقهى وأدخل إلى أعماقها وأملأ صدري ببخار البن، هل هذا البخار هو الذي يجعل العين ترى اكثر والذهن أنشط ويملأني بالحيوية والنشاط، أنا اتصور ذلك او أتوهمه، ويسعدني أن يكون هذا حالي.
امتلأت القهوة بخاراً، وجلست على الرصيف، المقاعد صغيرة، الناس متزاحمون لا يقولون شيئاً، وانما ينظرون، كل واحد عينه على شيء أو عينه في الفضاء على لاشيء، تحركت فجأة فسقط فنجان البن على ملابسي، أخرجت المنديل أمسح البن، وفوجئت بسيدة إلى جواري أسرعت وأخرجت منديلاً ورقياً تساعدني، وتقترح أن يكون استخدام الماء أفضل، وفي ارتباكي اصطدمت بالترابيزة فسقط الماء عليها، وبسرعة جاء رجل ونفض الماء عن فستانها وامتدت الأيدي تحاول أن تساعد السيدة العجوز.
وفجأة قفزت الأسئلة في رأسي: ما هذا؟ هل نحن إلى هذه الدرجة حريصون على مساعدة الآخرين؟ وهذا هو الفرق بين الانسان والحيوان، فالحيوان يساعد أقاربه، زوجته وأولاده وأفراد قبيلته، أما الانسان فيساعد من لا يعرف، فنجد جمعيات لمساعدة المرضى واليتامى واللقطاء لا في هذا البلد وانما في أي بلد من الدنيا، إلى هذه الدرجة نجد الانسان محباً ومتعاطفاً مع الغير، كيف ولماذا؟
فنحن نعيش في عصر نظرية دارون: البقاء للأصلح، للأقوى، وفي زمن يقول: ان الانسان للانسان ذئب، ونقول يا روحي ما بعدك روح، يا جاري انت في حالك وأنا في حالي، بلدك فين يا جحا قال: اللي فيها مراتي، ساعدني أساعدك، تبص لي بعين أبص لك باثنين، أي زمن المصالح المتبادلة، شيء مقابل شيء، ولكن في حالتي هذه: لا مصالح، ولا نظرة بعين، وانما قد امتدت الأيدي تلقائياً ولن يكون بيننا مصالح مشتركة لا اليوم ولا غداً، فما المعنى؟
ان في الانسان خيراً واستعداداً غريزياً للمساعدة، مساعدة من لا يعرف، ولكنه جاهز للنجدة، جاهز للخير، ودون أي تفكير فليس صحيحاً أن الانسان اكثره شر، وأقله خير، وأن الانسان طيب بطبعه، ولكن الظروف هي التي تفسده وتجعله يمسك يده ويغض طرفه ويتجه إلى الناحية الاخرى من دون أن يعبأ بما حدث لمن حوله.
وفي نفس الوقت نجد انساناً جالساً وفجأة وقف كالعفريت لكي يفعص صرصاراً عابراً، مع أن هذا الصرصار لم يسبب له ضرراً، ولن يسبب أيضاً، ونجد أيضاً من يضع في جيبه سكيناً صغيراً فاذا نهض من كرسيه الناعم الرقيق في احدى دور السينما أو احدى الفنادق غرز السكين في بطن الكرسي، لماذا؟ لا يوجد أي سبب إلا أنه شرير!
فأي نوع من الناس أنت وأنا وهو؟ نحن نحمل هاتين الصفتين معا، أما متى يقفز الشرير من بطن الانسان الطيب، او ينهض الانسان الطيب من أحضان الشيطان، فلا أنت تعرف ولا أنا، وانما حسب الأحوال، وأحوال الإنسان مفروضة، فالانسان ـ أنت وانا ـ كائنات معقدة ، وإذا أنت حكيت عن نفسك انك ناعم كالحرير، فإنني أقول لك: ان الحرير نفسه ليس إلا ملايين العقد الصغيرة المتراصة والمضغوطة بعضها إلى جوار بعض!