المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بغداد.. تاريخ مدينة عبر تجربة خاصة



فاطمة
04-19-2005, 04:09 PM
صدى الطفولة والمكان والتاريخ في كتاب عن بغداد

لندن: رشيد الخيون

أغرت بغداد، شأنها شأن المدن العريقة الأخرى، الكتاب والباحثين، ذلك بما تبوأته من مكانة تاريخية وحضارية خلال مجدها العباسي، وموضعها على بعد خمسة وثلاثين كيلومتراً عن المدائن، عاصمة الدولة الساسانية لأكثر من خمسة قرون، وهي واحدة من الدائر البابلي، ففيها آثار الى وجودها كمدينة قبل ان يخط ابو جعفر المنصور ويبنى بكرخها مدينته المدورة العام 145هـ. فهي محصورة بين اثرين مهمين في تاريخ العراق، زقورة عقرقوف شمالا وايوان المدائن جنوباً، كذلك ارتادها العرب المسلمون عند فتحهم للكوفة والمدائن والبصرة، ووجدوا فيها سوقاً عرفوه أهلها بسوق الثلاثاء.

ووجدوها مزدحمة بالأديرة والمعابد، غير ان مجدها العباسي، بقصوره وسفنه ودوره العلمية ومجالسه الفكرية وأسواقه هيمن على تاريخها، فتظهر في التاريخ حاضرة عباسية منذ التأسيس، وما ذكر عن اسمها ووصفها، قبل الزمن العباسي، كانت اشارات متناثرة في معاجم البلدان والمدن فحسب. في «بغداد.. ملامح مدينة في ذاكرة الستينات» (بيروت، المركز الثقافي العربي، 2001) يضيف جمال حيدر كتابا جديدا لبغداد، سرد فيه تاريخها المعاصر، مع عودة أصولها القديمة كلما اقتضت الحاجة، متخذاً من الأمكنة البغدادية دليلاً في سرده الممتع، غير انه لم يخرج عن اطار ذاكرته الشخصية، وهذا هو الجديد في الكتاب، ولولا مراعاة ذلك لأصبح كتابه رقماً آخر في مكتبة بغداد العامرة.

ولعل أول من وضع اسم «بغداد» عنواناً لكتابه هو الكاتب العباسي ابن طيفور (ت 280هـ) «تاريخ بغداد» ولم يصلنا منه غير عصر المأمون، وفيه ما فيه من اخبار القصور والمجالس وما بين الطبقة المثقفة والعامة، ورسائل المأمون بخصوص امتحان الفقهاء والقضاة في ما عُرف بمحنة خلق القرآن.

أما أهم وأخص كتاب تراثي حول بغداد، ما زال يحتفظ بحيويته الأدبية الوصفية، هو كتاب «الرسالة البغدادية» لأبي حيان التوحيدي (ت 414هـ)، ولأن في الكتاب ما فيه من قرض وثلب لوجهاء العصر آثر التوحيدي توقيعه باسم ابي المطهر محمد بن احمد الازدي، وان تلف صفحته الاولى جعل آدم متز يصدره باسم «حكاية ابي القاسم البغدادي»، الذي يصبح بطل الرواية. والكتاب بمجمله عبارة عن مشاهدات التوحيدي ببغداد ليوم واحد، حصر فيها مجالسها وسفنها وجواريها ومغنياتها وما يحدث في قصور وزرائها وقضاتها، ويظهر قسم من الرسالة مقارنة بين اصفهان، التي كرهها التوحيدي وبين بغداد التي أحبها، ولا يُنسى كتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (463 هـ)، الذي أرخ لبغداد عبر اعلامها من مختلف الطبقات، وهداية به كتب ابن عساكر «تاريخ دمشق» فيما بعد، ثم توالدت تواريخ المدن عبر شخوصها. ويذكر لابن الجوزي (597هـ) الفقيه الحنبلي المعروف، فضله في الكتابة عن بغداد، فقد صنف فيها «مناقب بغداد»، جمع فيه أقوالاً من ذمها ومن مدحها، وحدود العراق وهي صرته وصرة الدنيا آنذاك.

وفي العصر الحديث زودت مكتبة بغداد بكتب الرحالين الأجانب، ومذكرات ابنائها، منها «بغداد كما عرفتها» لأمين المميز، و«بغداد» لمصطفى جواد ومحمد مكية و«خارطة بغداد» لمصطفى جواد وأحمد سوسة، وكان آخرها «بغداد» لناجي جواد الساعاتي، منطلقاً من ذكرياته الشخصية والعائلية بحدود المحلة والمجالس، غير ان كتاب «بغداد في العشرينات» لعباس البغدادي جاء مفصلاً لمحلاتها ومجالسها وطرقها ودور الترفيه والمكتبات الى جسورها ومجانينها وشقاواتها، كان كتاباً معلوماتياً كتب بلغة بسيطة بعيداً عن الاسلوب الأدبي والروائي، لذا ظهرت مقدمة الروائي عبد الرحمن منيف زائدة في قوامه، فالذي يقرأ المقدمة لا يجد لغة مشتركة بينها وبين بغداد والكتاب، ومنيف لم يكن بغدادياً حتى يتعاطف مع أمكنتها، بل كان زائراً في ضيافة سياسية من قبل الحزب الحاكم.

سجل جمال حيدر ذاكرة بغداد عبر طفولته وصباه وشبابه متخذاً من الأمكنة، كما اسلفنا، رواية ودليلاً، كتبها بأسلوب أدبي مشوق، يتابعه القارئ خطوة خطوة، ينظر، وعينه في الكتاب، يمينا وشمالا لمحلات شارع الرشيد ومقاهيه ويترقب تطور الأمكنة تاريخا وحاضراً، لم يقف عند مسرات الطفولة والصبا بل اعطاء لمصائب بغداد حيزاً لا يفقده الرومانسية ومتعة العيش ببغداد. قال حيدر في احزان مدينته: «تاريخ مكتظ بالحرائق والفيضانات والامراض والحروب التي أراقت سيولاً قانية» ويلخص لك كتابه بالعبارة: «سأقودك الى المدينة العجيبة بغداد، الممتدة في أصرة زمنية بين عقدين»، انها العشرون عاماً التي عاشها جمال حيدر بكنف مدينته، فقد هجرها وهو في طلعة الشباب، ويكتب عنها وهو في مقدمات الكهولة، متذكراً تفاصيل دقيقة، وظل متواصلاً مع الحارة والمدرسة والاصدقاء والمقهى، يبدأ مع الشخوص من بدايتها، عباسية كانت أو عثمانية، ليصل معه الى النهاية، صديق يموت ومقهى يقتلع وشارع يغلق وغير ذلك من النهايات.

أوجد حيدر عن طريق السرد الروائي صلة مشوقة بين الماضي والحاضر، فلا يمر بمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ) دون عودة سريعة الى العصر العباسي، عودة لا تثقل الكتاب بالتاريخ والرواية، ليطنب عند ساعة برج المرقد، فينتزع من صفحات التاريخ انها صنعت في مدينة بونة الهندية القريبة من بومباي، وشيد لها عبد الرحمن النقيب، نقيب اشراف بغداد وأول رئيس وزراء عراقي، برجاً عالياً. وحينما يتحدث عن شارع الرشيد، جادة خليل باشا سابقاً، لم ينس احزان الوالي المذكور مؤسس الشارع، وهو مرمياً بحي من احياء اسطنبول بعد تفسخ الدولة العثمانية، حزنه بسبب اسقاط اسمه من الشارع، اخبر عن ذلك تاجر بغدادي زار الوالي السابق في أواخر حياته.

لم يترك المؤلف زاوية من زوايا ذاكرته إلا ويصبها في كتابه معلومات طرية كونت تشكيلاً جميلاً بين الأدب والتاريخ بمسراته وأحزانه، وان غابت تفاصيل أخرى من كتاب «بغداد..» فعذر مؤلفه ان صندوق الذاكرة لم يحوها، والطفولة لم تفقه عليها، فهو يرى بغداد اليوم «مدينتين، مدينة عشتها تنبض في الذاكرة» وما كتبه كان نبضاً من الذاكرة.