على
04-02-2005, 12:26 AM
عباقرة لكنهم مجانين
ثمة علاقة خفية تربط ما بين العبقرية والجنون.. ولا نبالغ إذا قلنا أن بينهما "شعرة" مشدودة على الدوام.. هذه الشعرة قد تنقطع ويصبح العبقري "مجنونًا".
يقال أن الفنون جنون.. وفى هذه الحلقات يتضح أن العبقرية أيضًا جنون.. وإذا رجعنا إلى إرثنا الثقافي العربي القديم نجد أن لفظة "عبقري" كانت تطلق قديمًا على المجنون.. الممسوس الذي مسه الجن في "وادي عبقر" وأصبح شاعرًا فذًا.. إذن فالعبقرية والنبوغ دائمًا ما كانا مرتبطين بنوع من الجنون والشطوح.
في هذه الحلقات نتعرض لمجموعة من العباقرة المجانين.. فهناك هتلر مجنون العظمة, والأديب بلزاك مجنون الشهرة والثراء, كلك مجنون الدعارة والجنس الشاعر الفذ بودلير, بالإضافة إلى مجنون العزلة والانفراد والعلم أينشتين, أما نيتشه فهو بحق مجنون الفكر وكسر التابوهات المقدسة.
تعتبر الحركة النازية التي اجتاحت ألمانيا بزعامة "أودلف هتلر" في النصف الأول من القرن الماضي, بمثابة أخطر الكوارث التي حلت بالبشرية في العصور الحديثة, فقد كانت لشخصية هتلر الجنونية دور فاعل في نشر الموت والدمار في أوروبا, والقضاء على عشرات الملايين من البشر الأبرياء, ومن أبناء ألمانيا نفسها.. وتصنيفه للشعوب تصنيفًا عرقيًا متعسفًا, واحتقار جميع القيم الدينية والإنسانية, والتعصب القومي المتطرف كل هذا يجعل هتلر طاغية دمويًا قل نظيره بين سائر الطغاة الذين ابتليت البشرية بشرهم خلال تاريخها الطويل.
كفاحي
ولد هتلر في أبريل سنة 1889 في مدينة صغيرة تقع على الحدود النمساوية - البافارية, كان والده الويس هتلر موظفًا في إدارة الجمارك.. وكما يقول هتلر في كتابه "كفاحي" يرغب أن يصبح ابنه موظفًا مثله, ولكنه رفض رفضًا قاطعًا:
"لم أكن أريد أبدًا أن أكون موظفًا.. لقد حاول والدي دون جدوى أن يغرس في نفسي حب الوظيفة عندما كان يتحدث أمامي باستمرار عن ظروف عمله المريحة.. ولكني كنت أشعر بالغثيان عندما أفكر أنني سوف أغدو يومًا أسيرًا لمكتب, وأن لا أكون سيد نفسي ومالك وقتي, بل مكرهًا على قضاء حياتي في ملئ الأوراق وتنفيذ الأوامر".
أعلن هتلر رغبته أن يكون رسامًا مرموقًا, وأصر على الرغبة رغم معارضة والده الشديدة, وفى هذه الأثناء مات أبوه وهو يناهز الثانية عشر, فأصبح عالة على أمه الأرملة بضع سنوات, ينتظم في الدراسة فترة, وينقطع عنها فترات.. وسرعان ما أصيب في معيشة التشرد بمرض صدري أعفاه من الدرس والتجنيد, فتمت له رغبته من ترك الدراسة واجتناب الامتحان.
حاول أن يلتحق بمدرسة الفنون في عاصمة النمسا فلم يقبله الأساتذة, لأنهم لم يلمحوا في صوره ما يدل على أي ملكة من ملكات المصور الصانع.
وقنع بالنقش والتخطيط, وظهر له في بعض هواجسه إحساس بأنه عبقري على مثال "مايكل أنجلو" وليس بمصور لوحات.. ولكن رغم هذا الشعور عاش حياة مريرة مليئة بالكره لكل الناس, وممزوجة بالغرور المصدوم, ثم ماتت أمه وهو في نحو الثامنة عشر, ففقد مورد رزقه الوحيد عن طريقها, فأوى إلى بيوت الصدقة ومد يده بالسؤال, واجتهد في جمع قوته بنسخ الصور ونقش تذاكر البريد, فلم يظفر من هذه الصناعة بطائل, ولجأ أحيانًا إلى جرف الثلج في الشتاء من البيوت وحمل الحجارة في العمارات, وهو الرجل الذي كان يعتقد أنه خليفة مايكل أنجلو في هندسة البناء.
خيانة
والمثير في حياة هتلر أنها انتهت وليس فيها أثر من رحم القرابة أو أنس الصداقة, فمضى عليه في الحرب العظمى أربع سنوات لم يكتب رسالة لأحد, ولم ترد إليه أية رسالة.. ولاحظ زملاؤه أنه كان يرقب توزيع الرسائل والهدايا بشيء من "القرف".. ولعلنا نذكر أنه كتب مرة رسالة إلى صديقه وزميله "روهم" في ذكرى الثورة النازية الأولى يقول فيها:
"يهز نفسي في هذه الذكرى الأولى - يا عزيزي أرنست روهم - أن أشكر لك خدماتك التي لا تفنى للحركة الوطنية الاشتراكية والأمة الجرمانية جمعاء, وأن أؤكد لك مبلغ شكري للعناية الإلهية التي أتاحت لي أن أدعو رجلاً مثلك صديقي وعزيزي".
وبعد أشهر قليلة قتل هتلر هذا الصديق والزميل ومئات من رجاله شر قتلة, ووصمه بكل رذيلة من الرذائل التي كان يعلمها, ولم يتقدم هتلر بوثيقة واحدة تبيح له تلك المجزرة الدموية فيما بين يوم وليلة.
وكان هتلر يقول عن القائد "فون بلومبرغ" أنه هو الصديق "الذي لو تركني لقذفت بنفسي من النافذة".. ولم تمر أيام حتى يحمل هتلر صديقه هذا ويلقيه هو من النافذة لسبب أنه تزوج من فتاة قيل عنها أنها سهلة الأخلاق تعمل في خدمة "هيملر" رئيس الجواسيس المشهور.
وأيًا كان ذنب روهم وبلومبرغ وعشرات الأصدقاء الذين انقلب عليهم هتلر مثل هذا الانقلاب.. فهناك أمثلة كثيرة على هوان الصداقة عند الرجل, وليس هناك مثل واحد على صداقة واحدة بينه وبين إنسان غير صداقة المتآمرين المشتركين في مكيدة واحدة.
علاقته بالنساء
أما عن النساء فكانت علاقاته بهن محفوفة بالغرابة والغموض.. فلم يتزوج ولم يعاشر امرأة معاشرة الأزواج, وقيل أنه لا يزيد على لمس أجسادهن ومناطق حساسة عند المرأة, وأنه لا يتعلق بعاطفة من قبيل الألفة والمحبة.
الحادث الوحيد الذي يذكر في ترجمته من قبيل المحبة الغرامية وقد يزيد الغرابة والغموض على علاقاته بالنساء ونعني به حادث انتحار الآنسة "جريت روبال" بنت أخته التي كانت تعيش معه في مسكنه.
وجملة ما يفهم من هذه الأحوال أنها أحوال رجل غريب الأطوار, منقطع الصلة بينه وبين أبناء جنسه, مستعد للبغضاء, وليس بمستعد للمودة والوفاء, ولم تؤثر في سيرته من طفولته مأثرة واحدة مآثر اللطف والنبل, وليس في كلامه ولا عمله إلا العداء والتعاون على الانتقام والإيذاء والغدر والخيانة.
روى بعض المقربين إليه أنه كان يحب الكلاب والعصافير والأطفال ويحمل صورة أمه حيث سار.
شجاعته
كان هتلر يلبس نوطًا واحدًا على صدره, هو نوط الصليب الحديدي الذي يقول بعضهم إنه من الطبقة الأولى, ويروي أتباعه أنه استحقه بعمل من أعمال الشجاعة النادرة في الحرب العظمى, وهو أن هبط مع زميل له على اثني عشر جنديًا فرنسيًا في خندق قريب من الخطوط الألمانية, وفساقهم إلى الأسر جميعًا بسلام واحد وهو الرامية التي يحملها الجنود.
ويروي عباس العقاد في كتابه "هتلر في الميزان" أن الرواية لم تثبت قط في سجل من سجلات الحرب الألمانية, وهي أقرب إلى الهزل منها إلى الجد, وأنه كان جبانًا.. مؤيدًا ذلك بأن في تاريخ هتلر واقعة مؤيدة في المحاكم والسجلات, وهي واقعة "ميونج" التي حاول بها إسقاط الحكومة ثم صدمته طلقات النار من حراسها فلاذ بالفرار.
قال شهود العيان في تلك الواقعة أن "لدندروف" و"غورنغ" صمدا لطلقات النار, أما هتلر ما أن سمع الطلقة الأولى حتى طرح نفسه على الأرض فجأة بغير احتراس, فانخلعت كتفه لشدة الواقعة, وتقرر ذلك في الكشف الطبي الذي أجري عند اعتقاله, وكأنما كان يحسب حساب الفرار قبل الهجوم, فأوصى سيارة أن تلحق به وركبها وحده دون أن ينتظر فيها أحد من زملائه في تلك المخاطرة, وقد كان فراره حقيقة لا تقبل الجدل, فلما أكثر خصومه تعييره, خطر له بعد بضع سنوات أن يضع سببًا لفراره, فصعد يومًا على منبر الحكومة وإلى جانبه غلام, قدمه إلى السامعين, وقص عليهم أسطورة لا تقبل التصديق, خلاصتها أنه كان قد وجد الغلام في الطريق وكان طفلاً يوم هجمة "ميونخ" فأشفق أن تصيبه النار وحمله مسرعًا لينقذه من الموت.. ونسي هتلر أنه كان مخلوع الكتف في ذلك اليوم, وأن العظام المخلوعة لا تطيق اللمس أو الجري.
وقصارى القول أن شجاعته لم تثبت ثبوت اليقين, وهو يحيط نفسه بالحراس والجواسيس, ويوشك أن يتحصن من أقرب المقربين في سراديب يصعب الوصول إليها.
غرابة الأطوار
تبدو غرابة هتلر في كل شيء.. يقول السفير الفرنسي في برلين مسيو "فرانسوبونسبه" في خطاب كتبه إلى وزير الخارجية الفرنسية في تاريخ 20 من أكتوبر 1938:
"لما طلب المستشار الألماني أن أذهب إليه بأسرع ما أستطيع, وضع رهن مشيئتي طيارة من طياراته الخصوصية, فركبتها, وفى اليوم التالي وصلت إلى "برختسجاد" بصحبتي الكابتن "مستهلن" فوصلت إليه الساعة الثالثة بعد الظهر.. ومنها أخذتني سيارة لم تذهب بي إلى "أوبر سالزبرغ" حيث يسكن هتلر, بل ذهبت إلى مكان عجيب, المكان يلوح على البعد كأنه مرصد فلكي أو صومعة صغيرة فوق أعلى القمم على ارتفاع ستة آلاف قدم, ويلتف الطريق إليها مسافة تسعة أميال منحوتة في الصخور تشهد الجرأة في نحتها بمهارة العمال الذين نحتوها, وينتهي الطريق أمام سرداب يفضي إلى الجبل وينغلق عليه باب مضاعف من الشبهان, ويؤدي في طرفه الآخر إلى مصعد عريض مصفح بالنحاس يرتقي رأسًا إلى 330 قدمًا حيث يقيم هتلر, ويطل الزائر من كل جانب كما يطل من الطائرة المحلقة في الفضاء".
غربة المأكل
ومثل هذا الولع بالغرابة في المسكن كان جنونه بالمأكل, فتارة يقول أنه صائم عن اللحوم, وتارة يقول أنه لا تنزل العبقرية عليه إلا بأصناف الجوز والبذور, ويومًا يقول أنه ترخص فأباح لنفسه البيض وحساء الدجاج, ويوم ينقضي على هذا فيقال أنه عاد فحرم على نفسه ما أباح, وهكذا كان يفعل مع تناوله للتبغ والجعة ووسائل المرطبات.
ومن خصائص هتلر أن كل صفاته النفسية تجمع بين الاضطراب والجنون الذي لا نجد له تفسيرًا.. فقد أبى هتلر أن يصافح الأوائل السابقين من الزنوج في الألعاب الرياضية العالمية وهم ضيوفه, لأنه كان يتشاءم من الزنوج.
والمعروف عن هتلر أيضًا أنه كان مغرورًا حتى يتخيل أنه سينجح في الحرب لأنه يريد ذلك والعناية لا تريد إلا ما يريد, وكان يقول أن العناية الإلهية قالت له الكثير من أسرارها, والتي منها أنه فهم في شبابه لماذا فشلت أحزاب نمساوية ونجحت أحزاب أخرى, وأنها علمته أن حركات الجماهير لا تتم بغير اشتراك الجماهير.
يقول السير "نيفيل هندرسون" السفير البريطاني الذي كانوا يلقبونه في إنجلترا بالنازي لفرط رغبته في مسالمة الألمان:
"رأيت كثيرًا من اعتزاز الفطرة وتأدباً حيث لقيت هتلر, ولكني طالما تساءلت وما زلت أسأل, كيف صعد إلى هذه المرتبة بهذا الجنون, وكيف أقنع الأمة الألمانية بسلطانه عليها بهذه العبقرية".
ويقول في موضع آخر هذه القدرة على خداع النفس وإقناعها قد كان جزءًا موصولاً بخططه وتدبيراته, وقد ساعدته على إضرام عواطفه وإقناع شعبه بما يريدهم على تصديقه, ويخيل إلي أنه إذا وقف بين يدي الله يوم الحساب فلسوف يجادل يومئذ جدال المؤمن في ظاهر الأمر بأنه كان من الممكن أن يمنع أوروبا من أهوال الحرب لو قبل البولونيون شروطه المعقولة السخية.
ويقول الأستاذ "ستيفن روبرت" في كتابه "هؤلاء الرجال أعرفهم": في الحق أن هتلر لا يخلو أبدًا من هيئة إنسان مدهوش بعض الدهشة, وقد نبهني زميل من كبار أطباء العقول إلى هيئة هتلر وهو يشد نفسه من حين إلى آخر في المحافل الكبرى ليمنع نفسه من الأحلام التي تصيبه وقت اليقظة, كأنما هي حالة من حالات الشخصية المزدوجة, فهو لا يجب أن يبرز فيه صفات الفلاح الشائعة بين جمهرة الفلاحين, ولا ينسى أن يقوم بتمثيل دور الزعيم أو نصف الإله بين شعب عظيم, ونبهني الزميل إلى علامة أخرى من علاماته وهي إسراعه إلى تغيير ملامحه بشكل أقرب إلى الجنون, فهو أبدًا شخص غير شخصه, دائمًا ما يلبس قناعًا من صنع خياله.
أصدقاؤه
أما عن سيرة أصحابه فهم مخلوقون للإجرام, والغريب أن يطلق عليهم هتلر "الأناس الكرام".. ويكفي أن نذكر سيرة أحدهم وهو "غوزينغ", الذي دخل مستشفى أسبودن بعاصمة السويد في عام 1926 للعلاج من آفة المخدرات وعوارض الجنون, وأنه نقل منه إلى مستشفى كاتارينا حيث كانوا يحتجزونه في حجرة مبطنة لفرط هياجه بعد تحريم المورفين عليه, وعجائب جوزينج في حب الظهور ونشوز الأخلاق لا تحصى ولا تفرغ منها فكاهات أهل برلين, حسبك منها أنه كان يلعب بشبل أسد, وأنه كان يلبس ما يزيد على ثلاثين بدلة رسمية, ويملأ كل واحدة منها بالأنواط والأوسمة والشارات.
أما "هيملر" فكان قائد جواسيس هتلر الذي ترجع إليه مكائد الوقيعة ووصمة التعذيب في المعتقلات, وإفساد الأبناء على الآباء, والزوجات على الأزواج, ويخترع الجنايات والأكاذيب, فهو عين هتلر التي لا تغمض.
مصادفة
والغريب أن المصادفة كانت وراء اختياره زعيمًا للحزب النازي, فقد وضع المؤسسون للحزب شروطًا انطبقت على هتلر.. منها ألا يكون من طبقة النبلاء والأثرياء, وأن يكون خاليًا من الروابط الاجتماعية التي تقيده لحياة المظاهرات وخطب الأرصفة والميادين, وموافقاً للبيئة البافارية.. وقد كان هذا الشرط متوافرًا كل التوافر في هتلر أيام نشأة الحركة النازية, حيث كان مشهورًا بالدهان والملق لمن فوقه ولمن يملكون أسباب نجاحه.
وما أن تمكن من السلطة حتى عمل على أن يكون فكره هو الفكر الوحيد الموجود في ألمانيا, بل وقرر أن يحاكم كل ما صدر قبل عصره من كتب وآراء وأفكار, وكان يرى في معظم هذا الإنتاج جريمة فكرية كاملة تستحق العقاب والمقاومة.
حريق الثقافة
يقول الكاتب رجاء النقاش في كتابه "عباقرة ومجانين".. "وهكذا شهدت برلين في العاشر من مايو سنة 1933 حادثًا فريدًا من نوعه في تاريخ الإنسانية, هو حريق الثقافة الذي أقيم, كأنه احتفال وطني برعاية الدولة, حيث وصل ألوف من الطلاب يحملون المشاعل عند منتصف الليل إلى ساحة عامة تقع مقابل جامعة برلين, وسرعان ما اشتعلت النيران في كومة هائلة من الكتب وضعت في الساحة,, ثم بدأ الطلاب يقذون بالكتب في النار المشتعلة إلى أن بلغ عدد ما أحرق منها نحو عشرين ألفًا, ووقعت مناظر مماثلة في عدة مدن أخرى, ويقول البيان الذي أصدره الطلاب:
"إن كل كتاب يعمل في تهديم مستقبلنا أو يضرب بمعادلة جذور ثقافتنا الألمانية, وبيتنا الألماني, وقوى شعبنا المحركة, مصيره إلى الإحراق".
هكذا استطاع هتلر أن يقنع ألمانيا كلها بعبقرية غريبة لا مثيل لها في التاريخ, أنه الفكر والرأي الأوحد لتحقيق هدفه وهو التمكين للطغيان بالقضاء على الفكر الحر والعقل المستنير.
نهاية
ولكن سرعان ما بدأت الضربات تنهال على الطاغية من جميع الجهات, بعد أن جرت في برلين عام 1944 محاولة للقضاء على هتلر وإنقاذ ألمانيا من مصيرها الأسود الذي ينتظرها إذا ما استمر الطاغية في تصرفاته الجنونية المدمرة, وحاول المتآمرون كسب عطف الدول الغربية وذلك بإعلانهم أنهم في حال النجاح سيوقفون القتال فورًا على الجبهات الغربية لتتفرغ الجيوش الألمانية لدحر الاتحاد السوفيتي والقضاء على النظام الشيوعي, ولكن المؤامرة خنقت في المهد وفى الدم, إذ بلغ عدد الذين أعدموا من المتهمين حوالي خمسة آلاف شخص.
وعلى الرغم من الهزائم المتتابعة أبى الطاغية أن يقر بالواقع وأن يتخلى عن جنون العظمة, واستمر يرسل الشباب إلى الموت بمئات الألوف, وأخذت حالته الصحية تسوء تدريجيًا, مما اضطره إلى تناول العقاقير بكميات كبيرة, يتناولها ليستطيع النوم, ويتناولها ليستيقظ ويستعيد نشاطه, وجميع الذين رأوه خلال الأشهر الستة الأخيرة من حياته وصفوه بأنه كان يبدو هرمًا, باهت لون الوجه, مرتجف اليدين, وجعل معقله في الفترة الأخيرة في طابق حصين, وأصبحت نوبات الغضب التي تنتابه أشد عنفًا, فينهال بالشتائم على جنرلاته ومساعديه, ويتهمهم بالتخاذل والخيانة, ويهدد ويتوعد, ثم يعود إلى صفاء ذهنه لفترة قصيرة, فيرى النهاية المحتومة بكل هولها وبشاعتها, ويتشاور حول الخطوات التي يجب اتخاذها, ثم يصله نبأ سيئ بالهزيمة, فيعود إلى حالة الهستريا من جديد..
وقبل انتحاره بيوم واحد قرر الزواج من إيفا براون عشيقته في أيامه الأخيرة, فأقام حفلة صغيرة داخل معقله بين الساعة الواحدة والثالثة من ليل 29 نيسان 1945م, أي قبل يوم واحد من انتحاره.
لغز
وفى مطلع 30 نيسان استدعى السكرتيرة, وأملى عليها أوامره الأخيرة, ووصيته السياسية, ثم أخذ يستعد للانتحار.. وفى الساعة الثانية من ظهر اليوم ذاته تناول طعام الغداء برفقة سكرتيراته, بينما بقيت إيفا براون في غرفتها, فتوجه هتلر إليها وذهب برفقتها لوداع نموبلز وبورمان وغيرهما من كبار مساعديه, ثم عاد الاثنان إلى جناحهما وأغلقا الباب, وبقي الآخرون في الرواق فترة طويلة, ثم سمعوا طلقة رصاص واحدة, وعندما فتحوا الباب وجدوه مسجى جثة هامدة على كنبة كبيرة والدماء تغطي وجهه وصدره.. لقد أنهى حياته بإطلاق رصاصة واحدة داخل فمه, بعدما سبقته إيفا براون إلى الموت بواسطة السم, فتم نقل الجثتين إلى حديقة المنزل وتم إلقاء 180 لترًا من البترول على الجثتين, ولكن عندما جاءت القوات الروسية راحت تفتش بين الجثث عن هتلر, لكن دون جدوى, فقد اختفت, وليس هناك أي تأكيد عن سبب الاختفاء, خاصة أنها لم تحترق كاملة مثل بقية الجثث, بل إن جثة إيفا براون أيضًا قد اختفت, ولا أحد يدري حتى الآن مصير الجثتين.
ثمة علاقة خفية تربط ما بين العبقرية والجنون.. ولا نبالغ إذا قلنا أن بينهما "شعرة" مشدودة على الدوام.. هذه الشعرة قد تنقطع ويصبح العبقري "مجنونًا".
يقال أن الفنون جنون.. وفى هذه الحلقات يتضح أن العبقرية أيضًا جنون.. وإذا رجعنا إلى إرثنا الثقافي العربي القديم نجد أن لفظة "عبقري" كانت تطلق قديمًا على المجنون.. الممسوس الذي مسه الجن في "وادي عبقر" وأصبح شاعرًا فذًا.. إذن فالعبقرية والنبوغ دائمًا ما كانا مرتبطين بنوع من الجنون والشطوح.
في هذه الحلقات نتعرض لمجموعة من العباقرة المجانين.. فهناك هتلر مجنون العظمة, والأديب بلزاك مجنون الشهرة والثراء, كلك مجنون الدعارة والجنس الشاعر الفذ بودلير, بالإضافة إلى مجنون العزلة والانفراد والعلم أينشتين, أما نيتشه فهو بحق مجنون الفكر وكسر التابوهات المقدسة.
تعتبر الحركة النازية التي اجتاحت ألمانيا بزعامة "أودلف هتلر" في النصف الأول من القرن الماضي, بمثابة أخطر الكوارث التي حلت بالبشرية في العصور الحديثة, فقد كانت لشخصية هتلر الجنونية دور فاعل في نشر الموت والدمار في أوروبا, والقضاء على عشرات الملايين من البشر الأبرياء, ومن أبناء ألمانيا نفسها.. وتصنيفه للشعوب تصنيفًا عرقيًا متعسفًا, واحتقار جميع القيم الدينية والإنسانية, والتعصب القومي المتطرف كل هذا يجعل هتلر طاغية دمويًا قل نظيره بين سائر الطغاة الذين ابتليت البشرية بشرهم خلال تاريخها الطويل.
كفاحي
ولد هتلر في أبريل سنة 1889 في مدينة صغيرة تقع على الحدود النمساوية - البافارية, كان والده الويس هتلر موظفًا في إدارة الجمارك.. وكما يقول هتلر في كتابه "كفاحي" يرغب أن يصبح ابنه موظفًا مثله, ولكنه رفض رفضًا قاطعًا:
"لم أكن أريد أبدًا أن أكون موظفًا.. لقد حاول والدي دون جدوى أن يغرس في نفسي حب الوظيفة عندما كان يتحدث أمامي باستمرار عن ظروف عمله المريحة.. ولكني كنت أشعر بالغثيان عندما أفكر أنني سوف أغدو يومًا أسيرًا لمكتب, وأن لا أكون سيد نفسي ومالك وقتي, بل مكرهًا على قضاء حياتي في ملئ الأوراق وتنفيذ الأوامر".
أعلن هتلر رغبته أن يكون رسامًا مرموقًا, وأصر على الرغبة رغم معارضة والده الشديدة, وفى هذه الأثناء مات أبوه وهو يناهز الثانية عشر, فأصبح عالة على أمه الأرملة بضع سنوات, ينتظم في الدراسة فترة, وينقطع عنها فترات.. وسرعان ما أصيب في معيشة التشرد بمرض صدري أعفاه من الدرس والتجنيد, فتمت له رغبته من ترك الدراسة واجتناب الامتحان.
حاول أن يلتحق بمدرسة الفنون في عاصمة النمسا فلم يقبله الأساتذة, لأنهم لم يلمحوا في صوره ما يدل على أي ملكة من ملكات المصور الصانع.
وقنع بالنقش والتخطيط, وظهر له في بعض هواجسه إحساس بأنه عبقري على مثال "مايكل أنجلو" وليس بمصور لوحات.. ولكن رغم هذا الشعور عاش حياة مريرة مليئة بالكره لكل الناس, وممزوجة بالغرور المصدوم, ثم ماتت أمه وهو في نحو الثامنة عشر, ففقد مورد رزقه الوحيد عن طريقها, فأوى إلى بيوت الصدقة ومد يده بالسؤال, واجتهد في جمع قوته بنسخ الصور ونقش تذاكر البريد, فلم يظفر من هذه الصناعة بطائل, ولجأ أحيانًا إلى جرف الثلج في الشتاء من البيوت وحمل الحجارة في العمارات, وهو الرجل الذي كان يعتقد أنه خليفة مايكل أنجلو في هندسة البناء.
خيانة
والمثير في حياة هتلر أنها انتهت وليس فيها أثر من رحم القرابة أو أنس الصداقة, فمضى عليه في الحرب العظمى أربع سنوات لم يكتب رسالة لأحد, ولم ترد إليه أية رسالة.. ولاحظ زملاؤه أنه كان يرقب توزيع الرسائل والهدايا بشيء من "القرف".. ولعلنا نذكر أنه كتب مرة رسالة إلى صديقه وزميله "روهم" في ذكرى الثورة النازية الأولى يقول فيها:
"يهز نفسي في هذه الذكرى الأولى - يا عزيزي أرنست روهم - أن أشكر لك خدماتك التي لا تفنى للحركة الوطنية الاشتراكية والأمة الجرمانية جمعاء, وأن أؤكد لك مبلغ شكري للعناية الإلهية التي أتاحت لي أن أدعو رجلاً مثلك صديقي وعزيزي".
وبعد أشهر قليلة قتل هتلر هذا الصديق والزميل ومئات من رجاله شر قتلة, ووصمه بكل رذيلة من الرذائل التي كان يعلمها, ولم يتقدم هتلر بوثيقة واحدة تبيح له تلك المجزرة الدموية فيما بين يوم وليلة.
وكان هتلر يقول عن القائد "فون بلومبرغ" أنه هو الصديق "الذي لو تركني لقذفت بنفسي من النافذة".. ولم تمر أيام حتى يحمل هتلر صديقه هذا ويلقيه هو من النافذة لسبب أنه تزوج من فتاة قيل عنها أنها سهلة الأخلاق تعمل في خدمة "هيملر" رئيس الجواسيس المشهور.
وأيًا كان ذنب روهم وبلومبرغ وعشرات الأصدقاء الذين انقلب عليهم هتلر مثل هذا الانقلاب.. فهناك أمثلة كثيرة على هوان الصداقة عند الرجل, وليس هناك مثل واحد على صداقة واحدة بينه وبين إنسان غير صداقة المتآمرين المشتركين في مكيدة واحدة.
علاقته بالنساء
أما عن النساء فكانت علاقاته بهن محفوفة بالغرابة والغموض.. فلم يتزوج ولم يعاشر امرأة معاشرة الأزواج, وقيل أنه لا يزيد على لمس أجسادهن ومناطق حساسة عند المرأة, وأنه لا يتعلق بعاطفة من قبيل الألفة والمحبة.
الحادث الوحيد الذي يذكر في ترجمته من قبيل المحبة الغرامية وقد يزيد الغرابة والغموض على علاقاته بالنساء ونعني به حادث انتحار الآنسة "جريت روبال" بنت أخته التي كانت تعيش معه في مسكنه.
وجملة ما يفهم من هذه الأحوال أنها أحوال رجل غريب الأطوار, منقطع الصلة بينه وبين أبناء جنسه, مستعد للبغضاء, وليس بمستعد للمودة والوفاء, ولم تؤثر في سيرته من طفولته مأثرة واحدة مآثر اللطف والنبل, وليس في كلامه ولا عمله إلا العداء والتعاون على الانتقام والإيذاء والغدر والخيانة.
روى بعض المقربين إليه أنه كان يحب الكلاب والعصافير والأطفال ويحمل صورة أمه حيث سار.
شجاعته
كان هتلر يلبس نوطًا واحدًا على صدره, هو نوط الصليب الحديدي الذي يقول بعضهم إنه من الطبقة الأولى, ويروي أتباعه أنه استحقه بعمل من أعمال الشجاعة النادرة في الحرب العظمى, وهو أن هبط مع زميل له على اثني عشر جنديًا فرنسيًا في خندق قريب من الخطوط الألمانية, وفساقهم إلى الأسر جميعًا بسلام واحد وهو الرامية التي يحملها الجنود.
ويروي عباس العقاد في كتابه "هتلر في الميزان" أن الرواية لم تثبت قط في سجل من سجلات الحرب الألمانية, وهي أقرب إلى الهزل منها إلى الجد, وأنه كان جبانًا.. مؤيدًا ذلك بأن في تاريخ هتلر واقعة مؤيدة في المحاكم والسجلات, وهي واقعة "ميونج" التي حاول بها إسقاط الحكومة ثم صدمته طلقات النار من حراسها فلاذ بالفرار.
قال شهود العيان في تلك الواقعة أن "لدندروف" و"غورنغ" صمدا لطلقات النار, أما هتلر ما أن سمع الطلقة الأولى حتى طرح نفسه على الأرض فجأة بغير احتراس, فانخلعت كتفه لشدة الواقعة, وتقرر ذلك في الكشف الطبي الذي أجري عند اعتقاله, وكأنما كان يحسب حساب الفرار قبل الهجوم, فأوصى سيارة أن تلحق به وركبها وحده دون أن ينتظر فيها أحد من زملائه في تلك المخاطرة, وقد كان فراره حقيقة لا تقبل الجدل, فلما أكثر خصومه تعييره, خطر له بعد بضع سنوات أن يضع سببًا لفراره, فصعد يومًا على منبر الحكومة وإلى جانبه غلام, قدمه إلى السامعين, وقص عليهم أسطورة لا تقبل التصديق, خلاصتها أنه كان قد وجد الغلام في الطريق وكان طفلاً يوم هجمة "ميونخ" فأشفق أن تصيبه النار وحمله مسرعًا لينقذه من الموت.. ونسي هتلر أنه كان مخلوع الكتف في ذلك اليوم, وأن العظام المخلوعة لا تطيق اللمس أو الجري.
وقصارى القول أن شجاعته لم تثبت ثبوت اليقين, وهو يحيط نفسه بالحراس والجواسيس, ويوشك أن يتحصن من أقرب المقربين في سراديب يصعب الوصول إليها.
غرابة الأطوار
تبدو غرابة هتلر في كل شيء.. يقول السفير الفرنسي في برلين مسيو "فرانسوبونسبه" في خطاب كتبه إلى وزير الخارجية الفرنسية في تاريخ 20 من أكتوبر 1938:
"لما طلب المستشار الألماني أن أذهب إليه بأسرع ما أستطيع, وضع رهن مشيئتي طيارة من طياراته الخصوصية, فركبتها, وفى اليوم التالي وصلت إلى "برختسجاد" بصحبتي الكابتن "مستهلن" فوصلت إليه الساعة الثالثة بعد الظهر.. ومنها أخذتني سيارة لم تذهب بي إلى "أوبر سالزبرغ" حيث يسكن هتلر, بل ذهبت إلى مكان عجيب, المكان يلوح على البعد كأنه مرصد فلكي أو صومعة صغيرة فوق أعلى القمم على ارتفاع ستة آلاف قدم, ويلتف الطريق إليها مسافة تسعة أميال منحوتة في الصخور تشهد الجرأة في نحتها بمهارة العمال الذين نحتوها, وينتهي الطريق أمام سرداب يفضي إلى الجبل وينغلق عليه باب مضاعف من الشبهان, ويؤدي في طرفه الآخر إلى مصعد عريض مصفح بالنحاس يرتقي رأسًا إلى 330 قدمًا حيث يقيم هتلر, ويطل الزائر من كل جانب كما يطل من الطائرة المحلقة في الفضاء".
غربة المأكل
ومثل هذا الولع بالغرابة في المسكن كان جنونه بالمأكل, فتارة يقول أنه صائم عن اللحوم, وتارة يقول أنه لا تنزل العبقرية عليه إلا بأصناف الجوز والبذور, ويومًا يقول أنه ترخص فأباح لنفسه البيض وحساء الدجاج, ويوم ينقضي على هذا فيقال أنه عاد فحرم على نفسه ما أباح, وهكذا كان يفعل مع تناوله للتبغ والجعة ووسائل المرطبات.
ومن خصائص هتلر أن كل صفاته النفسية تجمع بين الاضطراب والجنون الذي لا نجد له تفسيرًا.. فقد أبى هتلر أن يصافح الأوائل السابقين من الزنوج في الألعاب الرياضية العالمية وهم ضيوفه, لأنه كان يتشاءم من الزنوج.
والمعروف عن هتلر أيضًا أنه كان مغرورًا حتى يتخيل أنه سينجح في الحرب لأنه يريد ذلك والعناية لا تريد إلا ما يريد, وكان يقول أن العناية الإلهية قالت له الكثير من أسرارها, والتي منها أنه فهم في شبابه لماذا فشلت أحزاب نمساوية ونجحت أحزاب أخرى, وأنها علمته أن حركات الجماهير لا تتم بغير اشتراك الجماهير.
يقول السير "نيفيل هندرسون" السفير البريطاني الذي كانوا يلقبونه في إنجلترا بالنازي لفرط رغبته في مسالمة الألمان:
"رأيت كثيرًا من اعتزاز الفطرة وتأدباً حيث لقيت هتلر, ولكني طالما تساءلت وما زلت أسأل, كيف صعد إلى هذه المرتبة بهذا الجنون, وكيف أقنع الأمة الألمانية بسلطانه عليها بهذه العبقرية".
ويقول في موضع آخر هذه القدرة على خداع النفس وإقناعها قد كان جزءًا موصولاً بخططه وتدبيراته, وقد ساعدته على إضرام عواطفه وإقناع شعبه بما يريدهم على تصديقه, ويخيل إلي أنه إذا وقف بين يدي الله يوم الحساب فلسوف يجادل يومئذ جدال المؤمن في ظاهر الأمر بأنه كان من الممكن أن يمنع أوروبا من أهوال الحرب لو قبل البولونيون شروطه المعقولة السخية.
ويقول الأستاذ "ستيفن روبرت" في كتابه "هؤلاء الرجال أعرفهم": في الحق أن هتلر لا يخلو أبدًا من هيئة إنسان مدهوش بعض الدهشة, وقد نبهني زميل من كبار أطباء العقول إلى هيئة هتلر وهو يشد نفسه من حين إلى آخر في المحافل الكبرى ليمنع نفسه من الأحلام التي تصيبه وقت اليقظة, كأنما هي حالة من حالات الشخصية المزدوجة, فهو لا يجب أن يبرز فيه صفات الفلاح الشائعة بين جمهرة الفلاحين, ولا ينسى أن يقوم بتمثيل دور الزعيم أو نصف الإله بين شعب عظيم, ونبهني الزميل إلى علامة أخرى من علاماته وهي إسراعه إلى تغيير ملامحه بشكل أقرب إلى الجنون, فهو أبدًا شخص غير شخصه, دائمًا ما يلبس قناعًا من صنع خياله.
أصدقاؤه
أما عن سيرة أصحابه فهم مخلوقون للإجرام, والغريب أن يطلق عليهم هتلر "الأناس الكرام".. ويكفي أن نذكر سيرة أحدهم وهو "غوزينغ", الذي دخل مستشفى أسبودن بعاصمة السويد في عام 1926 للعلاج من آفة المخدرات وعوارض الجنون, وأنه نقل منه إلى مستشفى كاتارينا حيث كانوا يحتجزونه في حجرة مبطنة لفرط هياجه بعد تحريم المورفين عليه, وعجائب جوزينج في حب الظهور ونشوز الأخلاق لا تحصى ولا تفرغ منها فكاهات أهل برلين, حسبك منها أنه كان يلعب بشبل أسد, وأنه كان يلبس ما يزيد على ثلاثين بدلة رسمية, ويملأ كل واحدة منها بالأنواط والأوسمة والشارات.
أما "هيملر" فكان قائد جواسيس هتلر الذي ترجع إليه مكائد الوقيعة ووصمة التعذيب في المعتقلات, وإفساد الأبناء على الآباء, والزوجات على الأزواج, ويخترع الجنايات والأكاذيب, فهو عين هتلر التي لا تغمض.
مصادفة
والغريب أن المصادفة كانت وراء اختياره زعيمًا للحزب النازي, فقد وضع المؤسسون للحزب شروطًا انطبقت على هتلر.. منها ألا يكون من طبقة النبلاء والأثرياء, وأن يكون خاليًا من الروابط الاجتماعية التي تقيده لحياة المظاهرات وخطب الأرصفة والميادين, وموافقاً للبيئة البافارية.. وقد كان هذا الشرط متوافرًا كل التوافر في هتلر أيام نشأة الحركة النازية, حيث كان مشهورًا بالدهان والملق لمن فوقه ولمن يملكون أسباب نجاحه.
وما أن تمكن من السلطة حتى عمل على أن يكون فكره هو الفكر الوحيد الموجود في ألمانيا, بل وقرر أن يحاكم كل ما صدر قبل عصره من كتب وآراء وأفكار, وكان يرى في معظم هذا الإنتاج جريمة فكرية كاملة تستحق العقاب والمقاومة.
حريق الثقافة
يقول الكاتب رجاء النقاش في كتابه "عباقرة ومجانين".. "وهكذا شهدت برلين في العاشر من مايو سنة 1933 حادثًا فريدًا من نوعه في تاريخ الإنسانية, هو حريق الثقافة الذي أقيم, كأنه احتفال وطني برعاية الدولة, حيث وصل ألوف من الطلاب يحملون المشاعل عند منتصف الليل إلى ساحة عامة تقع مقابل جامعة برلين, وسرعان ما اشتعلت النيران في كومة هائلة من الكتب وضعت في الساحة,, ثم بدأ الطلاب يقذون بالكتب في النار المشتعلة إلى أن بلغ عدد ما أحرق منها نحو عشرين ألفًا, ووقعت مناظر مماثلة في عدة مدن أخرى, ويقول البيان الذي أصدره الطلاب:
"إن كل كتاب يعمل في تهديم مستقبلنا أو يضرب بمعادلة جذور ثقافتنا الألمانية, وبيتنا الألماني, وقوى شعبنا المحركة, مصيره إلى الإحراق".
هكذا استطاع هتلر أن يقنع ألمانيا كلها بعبقرية غريبة لا مثيل لها في التاريخ, أنه الفكر والرأي الأوحد لتحقيق هدفه وهو التمكين للطغيان بالقضاء على الفكر الحر والعقل المستنير.
نهاية
ولكن سرعان ما بدأت الضربات تنهال على الطاغية من جميع الجهات, بعد أن جرت في برلين عام 1944 محاولة للقضاء على هتلر وإنقاذ ألمانيا من مصيرها الأسود الذي ينتظرها إذا ما استمر الطاغية في تصرفاته الجنونية المدمرة, وحاول المتآمرون كسب عطف الدول الغربية وذلك بإعلانهم أنهم في حال النجاح سيوقفون القتال فورًا على الجبهات الغربية لتتفرغ الجيوش الألمانية لدحر الاتحاد السوفيتي والقضاء على النظام الشيوعي, ولكن المؤامرة خنقت في المهد وفى الدم, إذ بلغ عدد الذين أعدموا من المتهمين حوالي خمسة آلاف شخص.
وعلى الرغم من الهزائم المتتابعة أبى الطاغية أن يقر بالواقع وأن يتخلى عن جنون العظمة, واستمر يرسل الشباب إلى الموت بمئات الألوف, وأخذت حالته الصحية تسوء تدريجيًا, مما اضطره إلى تناول العقاقير بكميات كبيرة, يتناولها ليستطيع النوم, ويتناولها ليستيقظ ويستعيد نشاطه, وجميع الذين رأوه خلال الأشهر الستة الأخيرة من حياته وصفوه بأنه كان يبدو هرمًا, باهت لون الوجه, مرتجف اليدين, وجعل معقله في الفترة الأخيرة في طابق حصين, وأصبحت نوبات الغضب التي تنتابه أشد عنفًا, فينهال بالشتائم على جنرلاته ومساعديه, ويتهمهم بالتخاذل والخيانة, ويهدد ويتوعد, ثم يعود إلى صفاء ذهنه لفترة قصيرة, فيرى النهاية المحتومة بكل هولها وبشاعتها, ويتشاور حول الخطوات التي يجب اتخاذها, ثم يصله نبأ سيئ بالهزيمة, فيعود إلى حالة الهستريا من جديد..
وقبل انتحاره بيوم واحد قرر الزواج من إيفا براون عشيقته في أيامه الأخيرة, فأقام حفلة صغيرة داخل معقله بين الساعة الواحدة والثالثة من ليل 29 نيسان 1945م, أي قبل يوم واحد من انتحاره.
لغز
وفى مطلع 30 نيسان استدعى السكرتيرة, وأملى عليها أوامره الأخيرة, ووصيته السياسية, ثم أخذ يستعد للانتحار.. وفى الساعة الثانية من ظهر اليوم ذاته تناول طعام الغداء برفقة سكرتيراته, بينما بقيت إيفا براون في غرفتها, فتوجه هتلر إليها وذهب برفقتها لوداع نموبلز وبورمان وغيرهما من كبار مساعديه, ثم عاد الاثنان إلى جناحهما وأغلقا الباب, وبقي الآخرون في الرواق فترة طويلة, ثم سمعوا طلقة رصاص واحدة, وعندما فتحوا الباب وجدوه مسجى جثة هامدة على كنبة كبيرة والدماء تغطي وجهه وصدره.. لقد أنهى حياته بإطلاق رصاصة واحدة داخل فمه, بعدما سبقته إيفا براون إلى الموت بواسطة السم, فتم نقل الجثتين إلى حديقة المنزل وتم إلقاء 180 لترًا من البترول على الجثتين, ولكن عندما جاءت القوات الروسية راحت تفتش بين الجثث عن هتلر, لكن دون جدوى, فقد اختفت, وليس هناك أي تأكيد عن سبب الاختفاء, خاصة أنها لم تحترق كاملة مثل بقية الجثث, بل إن جثة إيفا براون أيضًا قد اختفت, ولا أحد يدري حتى الآن مصير الجثتين.