الفتى الذهبي
06-24-2014, 12:21 AM
http://www.arabtimes.com/portal/authors/omardahir%20116x1601.jpg
من قلم : د. عمر ظاهر
omardhahir@yahoo.dk
كاتب واستاذ جامعي من العراق مقيم في اوروبا
من يتتبع مسار السلوك السياسي الأمريكي على مدى العقود الستة الماضية قد يقع في مطبة ما اصطلح على تسميتها بـ "نظرية المؤامرة"، فعلى سطح الوقائع لا نرى في سياسات أمريكا إلا مؤامرات تحوكها ضد شعوب العالم، خاصة تجاه العرب، وتستخدم فيها كل الوسائل الدنيئة، والخسيسة، والخبيثة، والوحشية، المنافية للأخلاق. لكن هذه النظرة إلى سياسات أمريكا فيها، على الأقل، ثلاث إشكاليات منطقية، أولها أن التآمر واستخدام الوسائل الخبيثة من سمات الضعفاء، الذين يفتقرون إلى الحول
والحيلة، بينما أمريكا دولة تملك من مقومات القوة ما تكفيها كي تتعامل مع الآخرين، حتى وإن كانوا أعداءً، برجولة، وفروسية، ووضوح، فلماذا عساها تتصرف وكأنها جارية في حريم السلطان لا تعرف شيئا عن السلوك المستقيم، ولا تتعامل إلا بالدسائس، واستخدام الخصيان؟؛ وثانيا، إن نظرية المؤامرة تنطوي على فهم للآخرين على أن إرادتهم مسلوبة، وذلك يعني إسقاط المسؤولية عنهم فيما يصيبهم على يد الأمريكيين، بينما يفترض بالناس سواء في حالة السلم، أو الحرب، أن يتحملوا مسؤولية تصرفاتهم،
ويكونوا على يقظة وحذر؛ وثالثا، فإن التآمر يجري عادة في السر والخفاء، وفي ظل حجب المعلومات عن الطرف الآخر، بينما العصر الذي نعيش فيه هو عصر المعلومات، وليس هناك من أحد اليوم ليس له مصادر للمعلومات، ووسائل مراقبة، وأجهزة تحسس وتجسس، وطائرات بدون طيار، وهاكرز، وشياطين الإنترنيت الآخرين، عدا عن أن العقل الذي في رؤوس الناس سيدلهم، إن هم استخدموه، إلى أن العدو، أي عدو، يبحث عن ثغرات في جبهة المقابل، لينفذ منها، فلماذا لا يعرف المرء عن الثغرات في جبهته؟
أمريكا تتعامل معنا، في الحقيقة، على المكشوف، لكن ليس برجولة، وفروسية تليق بدولة عظمى، بل بطريقة مليئة بالغطرسة، والأنانية، وعدم المبالاة بالمآسي التي تخلفها سياساتها. علينا، إذن، أن نبحث عن تفسير آخر أكثر إقناعا للسلوك السياسي لأمريكا، ومن على شاكلتها من دول استعمارية قوية. ولعل بروز ظاهرة "داعش" يشكل مناسبة هامة لاستكشاف هذا السلوك، ومعرفة القواعد التي تتحكم به، فالكل يعرف أن داعش الإرهابية هي صناعة أمريكية خالصة، تنظيما، وتدريبا، وتسليحا، وتحريكا. والكل يعرف أهداف أمريكا في المنطقة العربية، والكل يعرف العلاقة الحميمة بين أمريكا وكيان آل سعود والكيان الصهيوني، وتعاضدهم في الحرب على شعوب المنطقة، فلماذا نعتبر داعش مؤامرة تفاجأنا بها، وكأنها كانت تحاك من وراء ظهورنا، وفي الظلام؟ وجود أمريكا في أي مكان يعني بالضرورة وجود شكل من أشكال الدواعش
الدعشنة جزء هام وأساسي من سياسة أمريكا، وقد مارست أمريكا الدعشنة أول ما مارستها في تشكيل عصابات الكوكلوكس كلان في حربها ضد جزء من شعبها، وفي تشكيل مافيات المخدرات في أمريكا اللاتينية، ومارستها في تشكيل جيش فيتنام الجنوبية، ومارستها بتشكيل المجاهدين في أفغانستان، أم يخدعنا أن اسم المجاهدين هناك كان "طالبان"، وليس "داعشان"؟ واليوم يكون مستغربا أن لا تظهر داعش في زي الصحراء باللثام، والخنجر، والأيدي الملطخة بالدماء. داعش هي كوكلوكس كلان أمريكا في الشرق الأوسط بزيّ صحراوي سعودي، وهي تستنسخ كل شيء في تلك المنظمة الإرهابية، فكرها العنصري بتفاصيله، وممارساتها في القتل والحرق، بل وحتى مظهر أفرادها المقنعين أو الملثمين
وهنا لا بد من النظر إلى خمس قواعد يمكن لكل متتبع موضوعي تحديدها في فهم السلوك السياسي الأمريكي:
أولا) أمريكا تتصرف انطلاقا من معرفة تامة بقدرتها، وحدود استخدام هذه القوة، فهي مثلا عندها سلاح نووي متطور تستخدمه لإرهاب الشعوب، خاصة العربية، بينما لا تجرؤ على التهديد به عندما تتكلم مع كوريا الشمالية، لأنها تعرف أن حدود مفعول السلاح النووي تنتهي هناك، ويتحول التهديد به إلى كلام فارغ
ثانيا) أمريكا تتصرف بناءً على معرفة دقيقة بقدرات الطرف الآخر، وبنفسيته، وبمدى استعداده للتحرك دفاعا عن نفسه، فهي شجاعة، وجسورة، ولا ترحم، عندما تعرف أن من أمامها عاجز عن الفعل، لكنها تفكر ألف مرة قبل الإقدام على شيء عندما تعرف أن الذين أمامها رجال مستعدون للرد بلا خوف أو وجل
ثالثا) أمريكا تتبع قاعدة شائعة الاستخدام في مختلف المجالات في المجتمعات الغربية، ألا وهي وضع خطط عديدة لتحقيق نفس الغاية، مثل الخطة ألِف، والخطة باء، والخطة جيم، إلخ، ما يعني أنها ليست دائما واثقة من النجاح بخطة واحدة، فقدراتها ليست قدرات الإله القادر على كل شيء. إنها تكيف سلوكها حسب المستجدات
رابعا) أمريكا لها مصالح لا يعرف مداها إلا الله والراسخون في العلم، فكل شيء يمكن أن يصبح مصلحة أمريكية، لكن قدرة أمريكا على التصرف لضمان مصالحها مرهونة إلى حد بعيد بوجود تمويل خارجي ومجاني لتنفيذ خططها. إن كثيرا من حروبها في أمريكا اللاتينية، وفي أفغانستان، وفي الشرق الأوسط لم تكن لتقع لولا التمويل السعودي، فوجود المصالح ووضع الخطط لتحقيقها أو حمايتها شيء، وتنفيذ الخطط شيء آخر، خاصة عندما يكلف ذلك جيب دافع الضرائب الأمريكي، ويتطلب دماء الشباب الأمريكي
خامسا) مع أن أمريكا تضع خططا قائمة على دراسات واسعة، ومتعددة الجوانب، إلا إنها، بحكم ثقافة الكاوبوي المتأصلة في نفوس قادتها، عندها نزعة إلى الاستهتار، والرغبة في تحقيق منافع آنية، والتغاضي عن سلبيات أية سياسة، أو حرب من حروبها، على أمل التعامل معها مستقبلا، وقلبها إلى منافع
القاعدة الأخيرة هي بشكل خاص ما يمكن أن نطلق عليها عبارة "عقب آخيل" في السياسة الأمريكية، فأمريكا ستصبح ضحية الاستهتار، والرغبة في جني المنافع الآنية دون حساب جاد للمستقبل. لندع جانبا إسقاطها القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي، وحروبها القديمة في فيتنام وكمبوتشيا، ولاوس، وما نتج لاحقا من كل ذلك من نشر للعنف والعوق في المجتمع الأمريكي، ولنلقي نظرة على السياسة الأمريكية منذ تنفيذ حرب "المجاهدين" في أفغانستان
كانت حرب أفغانستان حربا على الطريقة الأمريكية بامتياز، خاصة فيما يتعلق بالتمويل السخي من السعودية ماليا، وتعبويا من خلال تجنيد آلاف المجاهدين لمحاربة الاتحاد السوفيتي. كانت المنفعة الآنية التي تريدها أمريكا في أفغانستان هي إلحاق الهزيمة بالسوفييت. وكانت تدرك أن الآلاف المؤلفة من المجاهدين الذين دربتهم، وزودتهم بالخبرة القتالية الفعلية سيتحولون ذات يوم إلى مصدر للقلق والمتاعب. ذلك القلق أصبح أمرا ملموسا بعد انتهاء الحرب في أفغانستان، وعودة المجاهدين إلى بلدانهم ليبدؤوا نشر الفكر الظلامي. بدأت أمريكا بالتعامل مع تلك التبعة من تبعات حرب أفغانستان في وقت متأخر آملة في أن تقلبها إلى منفعة جديدة. ولكنْ، مع أن قطاعا واسعا من القاعدة، مجاهدي أفغانستان، دخل عمليا تحت أجنحة الاستخبارات الأمريكية، وتحول إلى أداة من أدواتها، إلا أنه من الخطأ الافتراض بأن أمريكا نجحت في ترويض القاعدة كليا. نظرة واحدة إلى الانقلاب الذي حصل في حياة المجتمعات الغربية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 تكفي لتبين لنا أن أمريكا لم تحقق في أفغانستان نصرا ناجزا على السوفييت. أمريكا ومعها كل البلدان الأوروبية الغربية تدفع ثمنا باهظا لما اقترفتها في أفغانستان في حربها ضد السوفييت: قوانين الإرهاب، والمراقبة الواسعة للمواطنين، وتقليص الحريات الديمقراطية، وكلفة تأمين رحلات الطيران وحدها دليل لا يقبل الجدل على أن المنفعة الآنية التي تحققت في أفغانستان كانت لها انعكاسات خطيرة في هزيمة مرة للديمقراطية في عقر دارها، وغياب للأمن في العالم كله. ومن كان يزور لندن في سبعينيات القرن الماضي ويزورها اليوم، سيشعر بجسامة الثمن الذي تدفعه المجتمعات الغربية الديمقراطية لخطيئة تكوين عصابات المجاهدين، وتدريبهم، واستخدامهم في أفغانستان
إن استفادة أمريكا من القاعدة يلمسها الناس في الشرق الأوسط وحده، وليس في أي مكان آخر في العالم، وذلك لأن أمريكا لم تغير من نزعة الاستهتار التي أبدتها، ومارستها في أفغانستان، وعادت إلى توسيع استخدامها للمجاهدين الجدد، وإطلاق اسم جديد عليهم "داعش". في الشرق الأوسط تتحرك أمريكا مرة أخرى وراء منافع آنية، منها زعزعة استقرار العراق وسورية، والضغط على إيران، ومحاصرة حزب الله. منافع كبرى، أليس كذلك؟ بالتأكيد، ولذلك فإن داعش تستحق أن توليها أمريكا اهتماما أكبر، وتقدم لها أكثر مما قدمت لمجاهدي أفغانستان الذين تخلصت من كثيرين منهم لاحقا بشحنهم في شاحنات القمامة الحديدية المحكمة الإغلاق
اليوم تستفيد أمريكا من التمويل السعودي السخي مرة أخرى، ماليا وتعبويا، في رسم صورة بعبع داعش، وتضع في خدمة الدواعش وسائل التواصل الاجتماعي بكل حرية لتستهل لهم استقطاب المتطوعين من كل مكان، كي لا تضطر هي إلى إقحام جنودها في اللعبة التي تلعبها في الشرق الأوسط. وأمريكا تحقق نجاحا، فالقتلة والمجرمون والفاشلون من العرب والمسلمين يلبون نداء داعش من أمريكا، ومن أوروبا، ومن كندا، وأستراليا، ناهيك عن المطروحين على المزابل في السعودية، وبقية بلدان المسلمين
داعش هي خريف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، فهنا صارت أمريكا، أولا، تعرف حدود قدرتها، إذ من الحماقة أن تعود إلى هنا بعد أن هزمت في العراق، وخرجت منه تجر أذيال الخيبة. وهنا، ثانيا، تعرف أمريكا معرفة دقيقة قدرات الطرف الآخر، ونفسية المقاومة، وتعرف مدى استعدادها للتحرك دفاعا عن نفسها وعن شعوبها، فأمريكا تدرك أن جنودها سيكونون في محرقة حقيقية ساعة يأتي الصدام الحقيقي بين مرضى داعش ورجال المقاومة الحقة، لهذا لا تريد إرسال جنودها إلى المنطقة من جديد. وهنا، ثالثا، لم يعد من فرق بين الخطة ألف، والخطة باء، والخطة جيم، فكلها خطط تتشرب بالدم وبالخراب. وهنا، رابعا، تمويل سعودي إلى آخر قرش من مليارات نفط شعب الجزيرة. وهنا، خامسا، ستضيع كل المنافع، الآنية منها والمستقبلية، فالرد على داعش لم يأت بعد، لكنه آت لا ريب فيه، وسيكون مذهلا، وحاسما
داعش ستخوض جولة من القتل، والتدمير، ولكنها لن تكون في آخر المطاف إلا زوبعة في فنجان. ربما هناك في بعض الرؤوس الأمريكية التي تستفيد من التجارب سؤال عن كيفية التعامل مع الدواعش الذين سيعودون إلى بلدانهم في أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأستراليا بعد أن تصبح داعش شذر مذر، وتنتهي مهمتها. إنهم سيكونون بؤرا للإرهاب هناك، تماما كما فعل الأفغان العرب بعد رجوعهم إلى بلدانهم. وربما يفكر هؤلاء أنهم سيقلبون هذا الضرر الجانبي إلى منفعة أيضا، مثلا يستخدمون وجود الدواعش في بلدانهم ذريعة للتضييق على الجاليات المسلمة في بلدانهم، ومحاربة الإسلام بفعالية أكبر
لا، هذا ليس حسابا دقيقا، فهناك رغبة عميقة لدى مخططي السياسة الأمريكيين والأوروبيين والأستراليين في أن لا يعود هؤلاء إلى بلدانهم، ويسببوا لهم الصداع، ويتسببوا في مزيد من الهزيمة على جبهة الحريات الديمقراطية هناك. أمريكا تريدهم أن ينتهوا هناك مع انتهاء مهمتهم بتحقيق مصالحها الآنية. ولا شك أن القوى الوطنية، والقومية، والإسلامية في العراق وسورية ولبنان والأردن، التي تتصدى لداعش، راغبة هي الأخرى في تحقيق هذه الرغبة الأمريكية الأوروبية الأسترالية بالذات، أي أن لا تترك أيا من هؤلاء يعود من حيث أتى. إن المحرقة التي بدأتها داعش، ستحترق بها، ولن ينجو منها داعشي على الإطلاق
داعش ستنتهي. ولكن هناك سؤال لا يهم الأمريكي الغبي المستهتر لأنه يتصرف وكأن الوضع مع داعش بين العراق وسورية يشبه استخدام المجاهدين ضد السوفييت، أو لأن النتائج لا تهمه على الإطلاق: هل الفتنة التي تثيرها أمريكا بكوكلوكس كلان الداعشية من النمط الذي سيقتصر على العراق وسورية، فتحقق أمريكا مصالحها الآنية، وينتهي كل شيء هنا؟ إن من ينبغي له أن يفكر بهذا السؤال، ويجد جوابا عنه هم كل الذين تحت أجنحة دولهم طوائف إسلامية مختلفة، فليس هناك ما يدعو للظن بأن الفتنة، إن استمرت، لن تنتشر انتشار النار في الهشيم، شمالا وجنوبا
إن التاريخ مثقل بالمآسي لأن قليلين فقط يتعظون من غيرهم
http://www.arabtimes.com/portal/article_display.cfm?ArticleID=35691
من قلم : د. عمر ظاهر
omardhahir@yahoo.dk
كاتب واستاذ جامعي من العراق مقيم في اوروبا
من يتتبع مسار السلوك السياسي الأمريكي على مدى العقود الستة الماضية قد يقع في مطبة ما اصطلح على تسميتها بـ "نظرية المؤامرة"، فعلى سطح الوقائع لا نرى في سياسات أمريكا إلا مؤامرات تحوكها ضد شعوب العالم، خاصة تجاه العرب، وتستخدم فيها كل الوسائل الدنيئة، والخسيسة، والخبيثة، والوحشية، المنافية للأخلاق. لكن هذه النظرة إلى سياسات أمريكا فيها، على الأقل، ثلاث إشكاليات منطقية، أولها أن التآمر واستخدام الوسائل الخبيثة من سمات الضعفاء، الذين يفتقرون إلى الحول
والحيلة، بينما أمريكا دولة تملك من مقومات القوة ما تكفيها كي تتعامل مع الآخرين، حتى وإن كانوا أعداءً، برجولة، وفروسية، ووضوح، فلماذا عساها تتصرف وكأنها جارية في حريم السلطان لا تعرف شيئا عن السلوك المستقيم، ولا تتعامل إلا بالدسائس، واستخدام الخصيان؟؛ وثانيا، إن نظرية المؤامرة تنطوي على فهم للآخرين على أن إرادتهم مسلوبة، وذلك يعني إسقاط المسؤولية عنهم فيما يصيبهم على يد الأمريكيين، بينما يفترض بالناس سواء في حالة السلم، أو الحرب، أن يتحملوا مسؤولية تصرفاتهم،
ويكونوا على يقظة وحذر؛ وثالثا، فإن التآمر يجري عادة في السر والخفاء، وفي ظل حجب المعلومات عن الطرف الآخر، بينما العصر الذي نعيش فيه هو عصر المعلومات، وليس هناك من أحد اليوم ليس له مصادر للمعلومات، ووسائل مراقبة، وأجهزة تحسس وتجسس، وطائرات بدون طيار، وهاكرز، وشياطين الإنترنيت الآخرين، عدا عن أن العقل الذي في رؤوس الناس سيدلهم، إن هم استخدموه، إلى أن العدو، أي عدو، يبحث عن ثغرات في جبهة المقابل، لينفذ منها، فلماذا لا يعرف المرء عن الثغرات في جبهته؟
أمريكا تتعامل معنا، في الحقيقة، على المكشوف، لكن ليس برجولة، وفروسية تليق بدولة عظمى، بل بطريقة مليئة بالغطرسة، والأنانية، وعدم المبالاة بالمآسي التي تخلفها سياساتها. علينا، إذن، أن نبحث عن تفسير آخر أكثر إقناعا للسلوك السياسي لأمريكا، ومن على شاكلتها من دول استعمارية قوية. ولعل بروز ظاهرة "داعش" يشكل مناسبة هامة لاستكشاف هذا السلوك، ومعرفة القواعد التي تتحكم به، فالكل يعرف أن داعش الإرهابية هي صناعة أمريكية خالصة، تنظيما، وتدريبا، وتسليحا، وتحريكا. والكل يعرف أهداف أمريكا في المنطقة العربية، والكل يعرف العلاقة الحميمة بين أمريكا وكيان آل سعود والكيان الصهيوني، وتعاضدهم في الحرب على شعوب المنطقة، فلماذا نعتبر داعش مؤامرة تفاجأنا بها، وكأنها كانت تحاك من وراء ظهورنا، وفي الظلام؟ وجود أمريكا في أي مكان يعني بالضرورة وجود شكل من أشكال الدواعش
الدعشنة جزء هام وأساسي من سياسة أمريكا، وقد مارست أمريكا الدعشنة أول ما مارستها في تشكيل عصابات الكوكلوكس كلان في حربها ضد جزء من شعبها، وفي تشكيل مافيات المخدرات في أمريكا اللاتينية، ومارستها في تشكيل جيش فيتنام الجنوبية، ومارستها بتشكيل المجاهدين في أفغانستان، أم يخدعنا أن اسم المجاهدين هناك كان "طالبان"، وليس "داعشان"؟ واليوم يكون مستغربا أن لا تظهر داعش في زي الصحراء باللثام، والخنجر، والأيدي الملطخة بالدماء. داعش هي كوكلوكس كلان أمريكا في الشرق الأوسط بزيّ صحراوي سعودي، وهي تستنسخ كل شيء في تلك المنظمة الإرهابية، فكرها العنصري بتفاصيله، وممارساتها في القتل والحرق، بل وحتى مظهر أفرادها المقنعين أو الملثمين
وهنا لا بد من النظر إلى خمس قواعد يمكن لكل متتبع موضوعي تحديدها في فهم السلوك السياسي الأمريكي:
أولا) أمريكا تتصرف انطلاقا من معرفة تامة بقدرتها، وحدود استخدام هذه القوة، فهي مثلا عندها سلاح نووي متطور تستخدمه لإرهاب الشعوب، خاصة العربية، بينما لا تجرؤ على التهديد به عندما تتكلم مع كوريا الشمالية، لأنها تعرف أن حدود مفعول السلاح النووي تنتهي هناك، ويتحول التهديد به إلى كلام فارغ
ثانيا) أمريكا تتصرف بناءً على معرفة دقيقة بقدرات الطرف الآخر، وبنفسيته، وبمدى استعداده للتحرك دفاعا عن نفسه، فهي شجاعة، وجسورة، ولا ترحم، عندما تعرف أن من أمامها عاجز عن الفعل، لكنها تفكر ألف مرة قبل الإقدام على شيء عندما تعرف أن الذين أمامها رجال مستعدون للرد بلا خوف أو وجل
ثالثا) أمريكا تتبع قاعدة شائعة الاستخدام في مختلف المجالات في المجتمعات الغربية، ألا وهي وضع خطط عديدة لتحقيق نفس الغاية، مثل الخطة ألِف، والخطة باء، والخطة جيم، إلخ، ما يعني أنها ليست دائما واثقة من النجاح بخطة واحدة، فقدراتها ليست قدرات الإله القادر على كل شيء. إنها تكيف سلوكها حسب المستجدات
رابعا) أمريكا لها مصالح لا يعرف مداها إلا الله والراسخون في العلم، فكل شيء يمكن أن يصبح مصلحة أمريكية، لكن قدرة أمريكا على التصرف لضمان مصالحها مرهونة إلى حد بعيد بوجود تمويل خارجي ومجاني لتنفيذ خططها. إن كثيرا من حروبها في أمريكا اللاتينية، وفي أفغانستان، وفي الشرق الأوسط لم تكن لتقع لولا التمويل السعودي، فوجود المصالح ووضع الخطط لتحقيقها أو حمايتها شيء، وتنفيذ الخطط شيء آخر، خاصة عندما يكلف ذلك جيب دافع الضرائب الأمريكي، ويتطلب دماء الشباب الأمريكي
خامسا) مع أن أمريكا تضع خططا قائمة على دراسات واسعة، ومتعددة الجوانب، إلا إنها، بحكم ثقافة الكاوبوي المتأصلة في نفوس قادتها، عندها نزعة إلى الاستهتار، والرغبة في تحقيق منافع آنية، والتغاضي عن سلبيات أية سياسة، أو حرب من حروبها، على أمل التعامل معها مستقبلا، وقلبها إلى منافع
القاعدة الأخيرة هي بشكل خاص ما يمكن أن نطلق عليها عبارة "عقب آخيل" في السياسة الأمريكية، فأمريكا ستصبح ضحية الاستهتار، والرغبة في جني المنافع الآنية دون حساب جاد للمستقبل. لندع جانبا إسقاطها القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي، وحروبها القديمة في فيتنام وكمبوتشيا، ولاوس، وما نتج لاحقا من كل ذلك من نشر للعنف والعوق في المجتمع الأمريكي، ولنلقي نظرة على السياسة الأمريكية منذ تنفيذ حرب "المجاهدين" في أفغانستان
كانت حرب أفغانستان حربا على الطريقة الأمريكية بامتياز، خاصة فيما يتعلق بالتمويل السخي من السعودية ماليا، وتعبويا من خلال تجنيد آلاف المجاهدين لمحاربة الاتحاد السوفيتي. كانت المنفعة الآنية التي تريدها أمريكا في أفغانستان هي إلحاق الهزيمة بالسوفييت. وكانت تدرك أن الآلاف المؤلفة من المجاهدين الذين دربتهم، وزودتهم بالخبرة القتالية الفعلية سيتحولون ذات يوم إلى مصدر للقلق والمتاعب. ذلك القلق أصبح أمرا ملموسا بعد انتهاء الحرب في أفغانستان، وعودة المجاهدين إلى بلدانهم ليبدؤوا نشر الفكر الظلامي. بدأت أمريكا بالتعامل مع تلك التبعة من تبعات حرب أفغانستان في وقت متأخر آملة في أن تقلبها إلى منفعة جديدة. ولكنْ، مع أن قطاعا واسعا من القاعدة، مجاهدي أفغانستان، دخل عمليا تحت أجنحة الاستخبارات الأمريكية، وتحول إلى أداة من أدواتها، إلا أنه من الخطأ الافتراض بأن أمريكا نجحت في ترويض القاعدة كليا. نظرة واحدة إلى الانقلاب الذي حصل في حياة المجتمعات الغربية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 تكفي لتبين لنا أن أمريكا لم تحقق في أفغانستان نصرا ناجزا على السوفييت. أمريكا ومعها كل البلدان الأوروبية الغربية تدفع ثمنا باهظا لما اقترفتها في أفغانستان في حربها ضد السوفييت: قوانين الإرهاب، والمراقبة الواسعة للمواطنين، وتقليص الحريات الديمقراطية، وكلفة تأمين رحلات الطيران وحدها دليل لا يقبل الجدل على أن المنفعة الآنية التي تحققت في أفغانستان كانت لها انعكاسات خطيرة في هزيمة مرة للديمقراطية في عقر دارها، وغياب للأمن في العالم كله. ومن كان يزور لندن في سبعينيات القرن الماضي ويزورها اليوم، سيشعر بجسامة الثمن الذي تدفعه المجتمعات الغربية الديمقراطية لخطيئة تكوين عصابات المجاهدين، وتدريبهم، واستخدامهم في أفغانستان
إن استفادة أمريكا من القاعدة يلمسها الناس في الشرق الأوسط وحده، وليس في أي مكان آخر في العالم، وذلك لأن أمريكا لم تغير من نزعة الاستهتار التي أبدتها، ومارستها في أفغانستان، وعادت إلى توسيع استخدامها للمجاهدين الجدد، وإطلاق اسم جديد عليهم "داعش". في الشرق الأوسط تتحرك أمريكا مرة أخرى وراء منافع آنية، منها زعزعة استقرار العراق وسورية، والضغط على إيران، ومحاصرة حزب الله. منافع كبرى، أليس كذلك؟ بالتأكيد، ولذلك فإن داعش تستحق أن توليها أمريكا اهتماما أكبر، وتقدم لها أكثر مما قدمت لمجاهدي أفغانستان الذين تخلصت من كثيرين منهم لاحقا بشحنهم في شاحنات القمامة الحديدية المحكمة الإغلاق
اليوم تستفيد أمريكا من التمويل السعودي السخي مرة أخرى، ماليا وتعبويا، في رسم صورة بعبع داعش، وتضع في خدمة الدواعش وسائل التواصل الاجتماعي بكل حرية لتستهل لهم استقطاب المتطوعين من كل مكان، كي لا تضطر هي إلى إقحام جنودها في اللعبة التي تلعبها في الشرق الأوسط. وأمريكا تحقق نجاحا، فالقتلة والمجرمون والفاشلون من العرب والمسلمين يلبون نداء داعش من أمريكا، ومن أوروبا، ومن كندا، وأستراليا، ناهيك عن المطروحين على المزابل في السعودية، وبقية بلدان المسلمين
داعش هي خريف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، فهنا صارت أمريكا، أولا، تعرف حدود قدرتها، إذ من الحماقة أن تعود إلى هنا بعد أن هزمت في العراق، وخرجت منه تجر أذيال الخيبة. وهنا، ثانيا، تعرف أمريكا معرفة دقيقة قدرات الطرف الآخر، ونفسية المقاومة، وتعرف مدى استعدادها للتحرك دفاعا عن نفسها وعن شعوبها، فأمريكا تدرك أن جنودها سيكونون في محرقة حقيقية ساعة يأتي الصدام الحقيقي بين مرضى داعش ورجال المقاومة الحقة، لهذا لا تريد إرسال جنودها إلى المنطقة من جديد. وهنا، ثالثا، لم يعد من فرق بين الخطة ألف، والخطة باء، والخطة جيم، فكلها خطط تتشرب بالدم وبالخراب. وهنا، رابعا، تمويل سعودي إلى آخر قرش من مليارات نفط شعب الجزيرة. وهنا، خامسا، ستضيع كل المنافع، الآنية منها والمستقبلية، فالرد على داعش لم يأت بعد، لكنه آت لا ريب فيه، وسيكون مذهلا، وحاسما
داعش ستخوض جولة من القتل، والتدمير، ولكنها لن تكون في آخر المطاف إلا زوبعة في فنجان. ربما هناك في بعض الرؤوس الأمريكية التي تستفيد من التجارب سؤال عن كيفية التعامل مع الدواعش الذين سيعودون إلى بلدانهم في أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأستراليا بعد أن تصبح داعش شذر مذر، وتنتهي مهمتها. إنهم سيكونون بؤرا للإرهاب هناك، تماما كما فعل الأفغان العرب بعد رجوعهم إلى بلدانهم. وربما يفكر هؤلاء أنهم سيقلبون هذا الضرر الجانبي إلى منفعة أيضا، مثلا يستخدمون وجود الدواعش في بلدانهم ذريعة للتضييق على الجاليات المسلمة في بلدانهم، ومحاربة الإسلام بفعالية أكبر
لا، هذا ليس حسابا دقيقا، فهناك رغبة عميقة لدى مخططي السياسة الأمريكيين والأوروبيين والأستراليين في أن لا يعود هؤلاء إلى بلدانهم، ويسببوا لهم الصداع، ويتسببوا في مزيد من الهزيمة على جبهة الحريات الديمقراطية هناك. أمريكا تريدهم أن ينتهوا هناك مع انتهاء مهمتهم بتحقيق مصالحها الآنية. ولا شك أن القوى الوطنية، والقومية، والإسلامية في العراق وسورية ولبنان والأردن، التي تتصدى لداعش، راغبة هي الأخرى في تحقيق هذه الرغبة الأمريكية الأوروبية الأسترالية بالذات، أي أن لا تترك أيا من هؤلاء يعود من حيث أتى. إن المحرقة التي بدأتها داعش، ستحترق بها، ولن ينجو منها داعشي على الإطلاق
داعش ستنتهي. ولكن هناك سؤال لا يهم الأمريكي الغبي المستهتر لأنه يتصرف وكأن الوضع مع داعش بين العراق وسورية يشبه استخدام المجاهدين ضد السوفييت، أو لأن النتائج لا تهمه على الإطلاق: هل الفتنة التي تثيرها أمريكا بكوكلوكس كلان الداعشية من النمط الذي سيقتصر على العراق وسورية، فتحقق أمريكا مصالحها الآنية، وينتهي كل شيء هنا؟ إن من ينبغي له أن يفكر بهذا السؤال، ويجد جوابا عنه هم كل الذين تحت أجنحة دولهم طوائف إسلامية مختلفة، فليس هناك ما يدعو للظن بأن الفتنة، إن استمرت، لن تنتشر انتشار النار في الهشيم، شمالا وجنوبا
إن التاريخ مثقل بالمآسي لأن قليلين فقط يتعظون من غيرهم
http://www.arabtimes.com/portal/article_display.cfm?ArticleID=35691