المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : 100 ألف يموتون يوميا من الجوع والإنتاج الزراعي يكفي ضعف البشرية



مجاهدون
03-17-2005, 10:38 AM
المقرر الخاص لأميركا حول الحق في الغذاء: العولمة وفسادها أخطر من الإرهاب

بيروت: بلال عبد الهادي

نادرة هي الكتب التي تجمع بين المتعة والرعب. أخيرا هو واحد من هذه الكتب. فهو لا ينتمي إلى مؤلفات الخيال العلمي، أو الواقع الافتراضي، إنما هو تحديق في ضحايا العولمة وفسادها. وللعولمة ضحاياها أين منهم ضحايا الإرهاب، كما يرى المؤلف. فالكاتب السويسري جان زيغلر قام بعدة مهام ذات صلة بالجوع في جغرافية الفقر، بصفته المقرر الخاص للأمم المتحدة حول الحق في الغذاء. وكلامه كلام خبير، إذ انه من الناس الذين، فيما يبدو، ليس من أهدافهم إرضاء الولايات المتحدة بقدر ما يهدفون إلى إرضاء الضمير، وكشف الحقائق وتسمية الأشياء بأسمائها.

فهو يبدأ من ملحوظة بسيطة فيقول: «لأوّل مرة في التاريخ تنعم البشرية بوفرة البضائع، والعالم ينوء بحجم الثروة والسلع المتاحة التي تزيد آلاف المرات عن الحاجات الضرورية لبني البشر. لكن ركام جثث البشر تتزايد هي الأخرى». والسبب في رأيه هو قبض الأوليغارشية (حكم القلّة المستغلة) الرأسمالية العابرة للقارات على عنق العالم، رغم ان ممارساتها، وخطابها، يذهبان في اتجاه مناقض لمصالح الأكثرية الواسعة من سكان المعمورة.

يتأمّل الكاتب في أسباب التخلف الاقتصادي فيراها محصورة في أربعة: الجوع والعطش والأوبئة والحرب، وأسباب التخلف هذه تقضي في سنة واحدة على عدد يزيد على ما فعلته الحرب العالمية الثانية خلال سنواتها الستّ. والجوع كارثة الكوارث، وهو في العمق الشكل الأشرس والأخبث للموت. ويوميا يموت ما لا يقلّ عن مائة ألف إنسان من الجوع أو من الآثار المباشرة له. وفي العالم ما لا يقل عن 800 مليون يعيشون في حالة خطرة من نقص التغذية. وهذا أمر غريب غير قابل للتصديق، رغم ان الإنتاج الزراعي الراهن يستطيع ان يغذي 12 مليار إنسان، أي ضعف عدد البشر الموجودين حالياً. ومع هذا ففي العالم فقر مدقع وجوع كافر، فتاك، بإشراف بارد الأعصاب من أسياد العولمة.

ان العولمة بجوانبها القاتلة لا يمكن لها ان تعيش إلا بمساعدة الفساد «فالجشع المفرط من دون حدود للأغنياء في الغرب والمتحالف مع فساد تمارسه النخبة في بلاد العالم النامي، يشكل مؤامرة ضخمة للقتل». ولكل جريمة أدوات قتل. ومن أدوات القتل في النظام العالمي الجديد الانصهارات التجارية القسرية، والعرض العام للشراء بالإكراه، وتأسيس الاحتكارات، والقضاء على الخصم بسياسة إغراق السوق، والسعي الحثيث إلى خصخصة العالم، أي تحويل الجمهوريات إلى أشباح كما يقول المؤلف. إن إسقاط الحدود بين البشر، يتسبب في الوقت نفسه في سقوط الضحايا بالملايين.

فأصحاب العولمة يرون الأرض من عل، ومن فوق تسقط الحدود، ولا ترى، وهم بهذا لا يميزون بين الحدود الجغرافية والثقافية. يعتبر زيغلر ان احد أسباب تكشير العولمة عن أنيابها، هو سقوط الاتحاد السوفياتي. فقبل الانهيار الصاعق للاتحاد السوفياتي كانت اوليغارشيات الغرب مضطرة لتقديم تنازلات، وان تمنح حدا أدنى من الحماية الاجتماعية والحرية النقابية، وتدخل في مفاوضات حول الأجور والرقابة الديمقراطية للاقتصاد، لأنها كانت على استعداد لفعل المستحيل لتجنب تقدم الشيوعيين. كما ان الثورات التقنية التي سبقت بروز العولمة في مجال الفيزياء الفضائية والمعلوماتية والإلكترونيات البصرية قدمت الأداة اللازمة لانتشار العولمة. إن بزوغ الثورة «التكنوترونيّة» Technétronique أي ثورة التقنية الإلكترونية ـ بحسب زبغنيو برجنسكي صاحب أطروحة» نهاية الإيديولوجيات» ـ بمثابة تحضير لترسيخ القوة العظمى الأميركية كأول مجتمع معولم.

ان القوة الأميركية التي بنيت لمواجهة الاتحاد السوفياتي أصبحت تستخدم الآن لتشغيل وحماية النظام الرأسمالي المعولم. ويدلل زيغلر على الصلف والأنانية الأميركيين، بشواهد من أفواه مسؤولين أميركيين، منها ما قاله رئيس اللجنة السابقة للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ جيسي هلمز:

«نحن في مركز الدائرة، ونريد ان نبقى في المركز. وعلى الولايات المتحدة ان تقود العالم حاملة الشعلة الأخلاقية والسياسية والعسكرية للحق والقوة». وتعتبر أميركا ان من عناصر القوة ان تبقى بلا قيود، لذا فهي ترفض توقيع اتفاقيات كثيرة تكبل قدرتها على الحركة. فقد رفضت التصديق على المعاهدة الدولية التي تمنع إنتاج وبيع ونشر الألغام ضد الأفراد، ووقفت ضد إنشاء محكمة الجزاء الدولية، وأبت تحديد أسعار الأدوية، أي أبت ـ كما يرى المؤلف ـ الموافقة على منح البلاد الفقيرة حرية الوصول إلى الأدوية المضادة للايدز، ولم تعترف بالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الواردة في جملة حقوق الإنسان، ولم توقع على ملحق اتفاقية تحريم الأسلحة البيولوجية، رغم أنها تطرح نفسها كقائدة عالمية للحملة ضد تصنيع ونشر الأسلحة البيولوجية.

والصلف الأميركي ظهر أيضا حين سحب بوش (الابن) بلاده من جانب واحد من اتفاقية «كيوتو» التي تتضمن الخفض التدريجي والمراقبة الدولية على انبعاث ثاني أوكسيد الكربون في الجو، علما ان 24% من الغازات الملوثة تصدر من الولايات المتحدة. والانسحاب من الاتفاقية يهدف إلى توفير النفقات على الشركات العابرة للقارات، التي تصنع السيارات وتدير مصانع النفط. كما ألغى بوش بقرار من طرف واحد معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة الباليستية، لأنها تشكل قيودا غير محتملة على صانعي الأسلحة الأميركيين. ان اليد الخفية للسوق لا يمكن ان تعمل من دون قبضة بارزة، ومكدونالدز، على سبيل المثال، لا يمكن ان ينتشر من دون دوغلاس (صانع الطائرة «اف ـ17»).

ان الايديولوجية الجديدة التي تحكم العالم كما يقول جان زيغلر تتخفى في جلد «تفاهم واشنطن». هذا التفاهم عبارة عن اتفاقات غير رسمية عقدت خلال الثمانينات والتسعينات بين أهم الشركات العابرة للقارات، ومصارف وول ستريت وبنك الاحتياط الفيدرالي ومؤسسات مالية دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وصاغ جون ويليلمسون عام 1989 قواعد هذا التفاهم.

ومن بنوده هذا التفاهم تخفيض الضريبة على المداخيل العالية لتشجيع الأغنياء على الاستثمار وتوسيع قاعدة المكلفين، أي إلغاء الاستثناءات الضريبية التي كان يتمتع بها الفقراء لزيادة حجم الواردات من الضرائب، والمساواة بين الاستثمارات الوطنية والأجنبية، والتفكيك قدر المستطاع للقطاع العام، وإلغاء دعم أسعار المواد الغذائية. ويقتبس الكاتب تعليق مجلة «الايكونومست» المحافظة على تفاهم واشنطن وفحواه: «يرى مناهضو العولمة في تفاهم واشنطن مؤامرة لإغناء أصحاب المصارف، وهم في ذلك غير مخطئين». ان الايديولوجية التي ترمي إلى إسباغ شرعية على العولمة ليست إلا عملية واسعة من الخداع.

ويفكك الكاتب كل المظاهر السلبية للعولمة، والمظاهر التي تختبئ أحيانا خلف كلمات ومصطلحات ليست أكثر من قناع حريريّ لوجه مفترس. فالأسواق الحرة ليست حرّة إلا بالاسم، وخلف هذه الكلمة يكتظّ الضحايا. يقول الكاتب انّ اليد الخفية للسوق المعولمة لا تهدد البشر فقط وإنما تهدد الطبيعة وتدمرها، ويتكلم على ما يسببه رأس المال المتعدد الجنسيات من تدمير للغابات البكر في العالم. فالشركات العابرة للقارات تسفح نسغ الأشجار وتستبيح دم الغابات، كما ان التجمعات الزراعية الصناعية الضخمة تبحث بدأب عن أراض جديدة من أجل زيادة مساحات استثماراتها أو تكثيف نشاطها في مجال تربية الأبقار.

ومن أجل هذا الغرض تحرق كل سنة آلاف الهكتارات من الغابات العذراء. فبين عامي 1990 و2000 دمّر ما لا يقل عن خمسين ألف نوع من الأنواع الزراعية والحيوانية. يتكلم زيغلر عن الفساد الآخذ في الازدياد، إذ يقدّر البنك الدولي بحوالي 80 مليار دولار المبالغ المخصصة لصفقات الفساد، أما قيمة الأضرار المادية الناجمة عن سلوك الفاسدين (فاتورة بأرقام تزيد على الواقع، قبول تسلم بضائع فاسدة..الخ) فتبلغ أرقاما خيالية، والذين يدفعون ثمن الفساد في نهاية العملية، هم في معظم الأحوال شعوب البلاد الفقيرة. ويشير الكاتب إلى ظاهرة من مظاهر الفساد في العالم الثالث بقوله:

«في السويد وفنلندا والنرويج وسويسرا يذهب أعضاء الحكومة إلى مكاتبهم سيرا على الأقدام أو باستخدام العجلة أو وسائل النقل العامة، وفي أخرى إذا ذهب وزير من بيته إلى مكان عمله فأصوات صفارات الإنذار ترافقه، وتحيط به ثلّة من البوليس على دراجاتهم النارية، وإلا فلن يكون محل تقدير من الناس، ولن يكون له مستقبل سياسي ناجح». ويقارن الأمر بالقاعدة السارية لدى الحكام في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

وهذه القاعدة هي ازدياد بذخ الحكام وأسرهم وأفراد حاشيتهم في البلاد الفقيرة والمثقلة بالديون. ويعتبر الكاتب ان النتائج الخطيرة لذلك كله هي تدمير العلاقة بين المواطنين والدولة، وبهذا المعنى، فان الفساد احد الأسباب الرئيسية لضعف الدولة الوطنية. والفساد في أي حال ليس عملية فردية، انه كالزنى يحتاج إلى طرفين فاسد ومفسد. والشركات الكبرى العابرة تحترم قاعدة الفساد ما دامت تؤمن لها تصريف بضائعها، وهو ما يعرف بالرشوة. ويتكلم الكاتب عن الجنّة الضريبية، ودورها في تبييض الأموال من دم الضحايا، حيث تختلط الرساميل ذات المنشأ القانوني مع الرساميل التي أفرزتها المتاجرة ببني البشر وتهريب السلاح والمواد النووية والمخدرات والابتزاز والقتل.

ويرى الكاتب ان الغرب منافق حين يتكلم عن الديمقراطية ونشرها في العالم، لان الإنسان الجائع لا يمكن ان يهتم بحقه في الديمقراطية، فورقة الانتخابات غير صالحة للأكل. وبالنسبة للإنسان الأمّي ليس للحرية الصحافية أي معنى، وقبل الاهتمام بهذه الحقوق لا بدّ من تأمين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فالجائع لا يحلم بالحرية وإنما يحلم برغيف خبز. بعد ان يعرض الكاتب للمجازر الأخلاقية التي ترتكبها العولمة، يتناول الحركات المناهضة للعولمة ويرى فيها الضوء الذي يقتحم ظلام الراهن، فهو غير يائس، وبذور التحولات موجودة، في المجتمع المدني العالمي الجديد الذي يتكون كسدّ أمام هجمة العولمة ذات المخالب والأنياب.

فالمجتمع المدني كان له الدور الحاسم قديما في القضاء على نظام الإقطاع، وعلى عاتق هذا المجتمع تقع مهمة إسقاط هذا الإقطاع المعولم. ويضع الكاتب الشروط الايديولوجية لبروز هذا العالم الوليد. يقول الكاتب ان الفقراء يعيشون اليوم بلا آيديولوجية، إلا أنهم يملكون الإحساس القوي والفطريّ بالعدالة، وهذا الإحساس بمثابة الخميرة القديرة على زعزعة أركان العولمة. ويعتبر الكاتب ان تصرفات الاتحاد السوفياتي والأنظمة التابعة لها كانت مسؤولة مباشرة عن تفكك الأنا الجماعية للطبقات المقهورة. وهو هنا يقوم بجرد حساب نقدي لاذع للأنظمة الشمولية التي خانت أهدافها وألغت الدين لتصبّ بدلا منه تماثيل زعمائها المسكوبة من البرونز والحديد، وتنشرها في الميادين العامة وعلى مفترقات الطرق، كما ان ممارساتها أساءت للإنسان حين سلبته سعادته الفردية وسجنته خلف أسوارها الحديدية مما منعه من رؤية العالم إلا من منظور واحد، والانغلاق في نظرة واحدة مجلبة لا ريب للعمى الفكري.

ثمّ يشير زيغلر إلى جبهات النضال وأدواته، وهي جبهات منتشرة في كل أنحاء العالم تنسق في ما بينها عن طريق الإنترنت. ويذكر الكاتب مجموعة منها: المنظمات العمالية والنقابية، الحركات الفلاحية، الثقافات المحلية المقاومة، الحركات البيئية، المنظمات الاجتماعية كحركة «أتاك» التي تعد واحدة من أهم المؤسسات الناقدة للعولمة، ولها أنشطة في عدة دول، كسويسرا وفرنسا وألمانيا، وهي تقرن العمل الميداني بالعمل النظري.

وتقدّم مواقع «اتاك» على شبكة الإنترنت وثائق وتحاليل وبيانات بالمراجع الحديثة من كتب وأخبار مختلفة. وكل يوم تعرض مواقع «اتاك» على شاشة الإنترنت 40 ألف وثيقة صادرة من 130 بلدا. ويعمل في هذه الخلية الناشطة 600 مترجم متطوع يجيدون 15 لغة. ان الكاتب يعتبر أولئك الذين يقفون بأرواحهم وأفكارهم وأجسادهم أمام زحف غيلان العولمة «مناضلي الأمل»، ومؤسسي نظام المجتمع المدني الجديد، والذين يرون في المال وسيلة لفرح جماعي لا غاية لممارسة السادية الفظّة، ولأنهم يدركون أنّ حقيقة العالم المعولم تقوم على اقتصاد الأرخبيل ـ كما يقول بيار فيلتز ـ أي وجود سلسلة من الجزر التي تنعم بالرخاء والثروة في محيط من الشعوب المشرفة على الهلاك.

* كتاب جان زيغلر، «سادة العالم الجدد، العولمة ـ النهّابون ـ المرتزقة ـ الفجّر»،
* المؤلف: جان زيغلر * المترجم: الدكتور محمد زكريا إسماعيل
* الناشر: «مركز دراسات الوحدة العربية» ـ بيروت