مرتاح
03-17-2005, 01:02 AM
فهمي هويدي
أصبح مقتل العشرات في العراق خبرا عاديا، تراجعت أهميته في «بورصة» الأخبار، حتى بات يحتل المرتبة الثالثة أو الرابعة في النشرات اليومية، إذ تقدمت عليه أخبار سورية ولبنان والكلام عن الانسحاب من غزة واجتماع الفصائل الفلسطينية وتصعيد ملف إيران النووي. وقد يكون الأمر من طبائع الأخبار التي ليس فيها «خبر أول» على الدوام، وذلك فرق يميز الصحافة عن السياسة، حيث لا مجال لاحتكار الصدارة في الأولى، في حين أن ذلك صار ممكنا ـ إن لم يكن قاعدة ـ في الثانية، في العالم العربي على الأقل.
لكني لن استغرب إذا تبين لاحقا أن التهوين من شأن الحاصل في العراق مقصود، وأن الأمر ليس بالبراءة التي نفترضها. ذلك أن أبواقا عدة ـ أميركية بالانتماء أو بالانتحال ـ ما برحت تروج للادعاء بأن «العراق الجديد» قد ولد، وان نموذجه الديمقراطي يتشكل ضمن «تسونامي» الديمقراطية الذي ضرب أرجاء المنطقة، إذ جاء مبشرا بربيع الديمقراطية الذي بدأت راياته ترفرف على بلدانها، الأمر الذي قد يصح معه القول بان الرئيس بوش مقبل على تغيير العالم، وان المحافظين الجدد ليسوا بالسوء الذي رميناهم به، لان الأيام تثبت حينا بعد حين أن «أياديهم البيضاء» توزع الخير على الجميع، الأمر الذي يوجب علينا ليس فقط أن نتوجه إليهم بالشكر والتقدير، وانما بالاعتذار أيضا عن إساءة الظن بهم.
هذه الرسالة يطالعها المرء في العدد الأخير في مجلة «نيوزويك»، كما يطالعها في كتابات نفر من «المارينز» العرب، الذين وجدناهم يقولون: لقد تشاءم البعض مما يمكن ان يحدث هذا العام، ولكن انظروا، ها هي تجليات الإصلاح والديمقراطية قد ظهرت أعراضها على العالم العربي من حيث لا نحتسب.
الحاصل في العراق يكذب هذا الادعاء، فالعنف عاد إلى وتيرته التي سبقت الانتخابات وشبح الموت عاد كي يظلل بعباءته السوداء، رقعة واسعة من البلاد. ليس ذلك فحسب، وانما لاحت في الأفق مساع حثيثة لإشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة، على نحو يصب في مجرى الحرب الأهلية، التي تبدو مخرجا ينهك الطرفين ويصرف الانتباه عن قضية الاحتلال، بل ويبرر استمراره إلى أجل غير مسمى!
يوم الأحد الماضي أعلن عن العثور على جثث 13 شيعيا قطعت رؤوسهم في منطقة اللطيفية جنوب بغداد. ويوم الخميس الذي سبقه قام انتحاري بتفجير نفسه في رواد مسجد تابع للشيعة في الموصل أثناء مجلس للعزاء مما أدى إلى قتل 50 شخصا وإصابة أكثر من ثمانين جريحا وفي اليوم التالي مباشرة سقطت قذيفة «هاون» في نفس المكان. وفي الشهر الماضي قتل 82 من الشيعة في تفجير انتحاري أثناء الاحتفال بذكرى عاشوراء. وقبله بأسابيع قليلة جرى تفجير سيارة ملغومة أمام أحد مساجد الشيعة في بغداد مما أدى إلى مصرع 15 شخصا، وقائمة الوقائع طويلة لم تخل من تصفيات جسدية لعناصر من الشيعة، وآخرين من علماء السنة.
ماذا يعني ذلك كله؟ ـ المقطوع به أن ذلك أمر لا علاقة له بالمقاومة الوطنية ولكنه نوع من الإجرام الإرهابي الذي لا يمكن تبريره من أي باب، ولا يغير من الطبيعة الإجرامية لتلك العمليات صدور بيان باسم أبو مصعب الزرقاوي يندد فيه بالشيعة ويعتبرهم «رافضة»، ويهاجم المرجع الديني آية الله علي السيستاني. بل ان ذلك البيان البائس يمكن استخدامه دليلا على تورط الزرقاوي وجماعته (التوحيد والجهاد) وضلوعهم في ارتكاب تلك الجرائم البشعة.
ليس سرا ان السلفيين لهم موقف تقليدي من الشيعة، غير أن السلفيين ليسوا شيئا واحدا، ففيهم المعتدلون والمتطرفون والعقلاء والأغبياء والواعون والجهلاء، ولست اشك في انه اذا كان للسلفيين يد في تلك الجرائم فانها لن تكون سوى يد المتطرفين والأغبياء والجهلاء الذين قد لا يتذرعون عن إشعال حريق مصر في العراق كله لتصفية حسابات قديمة مع الشيعة وهم لا يبالون ـ وقد لا يعرفونـ انهم بما يفعلون يقدمون خدمة مجانية للاحتلال، الذين يزعمون أنهم يحاربونه أيضا.
ليس ذلك هو الاحتمال الوحيد، لأننا ينبغي الا نستبعد اختراقا لصفوف السلفيين من جانب إلى طرف آخر يهمه تفجير العلاقة بين السنة والشيعة، وهناك أطراف عدة يهمها ذلك، سواء كانت أجهزة استخبارات أجنبية ـ الموساد أو المخابرات المركزية الأميركية مثلا ـ أو كانت جماعات ذات صلة بدول أجنبية تهمها إشاعة الفوضى في العراق من ذلك الباب. وحدوث مثل ذلك الاختراق أمر ميسور للغاية، خصوصا أننا نتحدث عن شريحة من السلفيين عديمة الوعي، وتتسم بالجهل الذي يعميها عن أدراك مآلات ما يقدمون عليه.
إلى جانب ذلك، فاننا لا نستبعد ان تقدم تلك الأطراف بنفسها على ارتكاب تلك الجرائم، مستثمرة أجواء الفوضى الأمنية ضاربه الاطناب في البلاد، وهي تستطيع ان تفعل ذلك وتقبع في الظلام، اطمئنانا إلى ان أصابع الاتهام ستشير مباشرة إلى السلفيين أصحاب الموقف المعادي للشيعة والمحرض عليهم. يعزز هذا الاحتمال ان العمليات تتم بإتقان وتستصحب اختفاء سريعا للفاعلين، بدليل انه لم يقبض على أحد حتى الآن من الفاعلين، الذين أصبحت تبتلعهم الأرض بعد ارتكاب جرائمهم.
ما يثير الانتباه ـ ويستحق التقدير والإعجاب حقا ـ أن تلك المحاولات فشلت حتى الآن في تحقيق مرادها، اذ عدا بعض التصرفات الصغيرة وغير المسؤوله التي صدرت عن بعض الأفراد على الجانبين. فان مراجع الشيعة والسنة نجحوا في تفويت فرصة التفجير، وما برحوا بعد كل جريمة يشددون على أهمية تلاحم الطرفين ويدعون إلى ضبط النفس وعدم الانسياق وراء الانفعالات، وينبهون إلى أن أي استجابة انفعالية لمثل تلك الجرائم تهدد وحدة العراق وتخدم مخططات أعدائه.
أرجح أن الذين يقومون بتلك الممارسات أيا كانت هوياتهم غرباء عن النسيج العراقي وغير مدركين لثقافته الراسخة منذ عقود، هم لا يعرفون مثلا أن التداخل بين السنة والشيعة بعيد المدى، الأمر الذي يتعذر دفعه إلى القطيعة والأحزاب، ذلك أن التفاوت في الانتماء المذهبي حاصل داخل العشيرة الواحدة أو الأسرة الواحدة خصوصا في الفرات الأوسط، فعشائر شمر والطائيون والكرخيون والعبيديون والعزاويون والصالحيون، هذه كلها لها فروع من اهل السنة وأخرى تنتمي إلى المذهب الشيعي، والذين يعرفون قيمة العشيرة وتقاليدها يدركون أن فصم تلك العرى أمر غير وارد، باعتبار ان الولاء للعشيرة يمثل قيمة عظمى في المجتمع، من فرط فيها يلاحقه العار والخزي طوال حياته.
من ناحية ثانية، فان التزواج بين الشيعة والسنة والأكراد والعرب والتركمان أمر شائع في العراق، على نحو تبدو معه محاولات تقطيع أوصال المجتمع من خلال التقسيمات الطائفية والعرقية التي اعتمدها الاحتلال منذ قدومه (وهو ما ظهر جليا في تشكيل مجلس الحكم) بمثابة تمزيق للمجتمع وتحويله إلى أشلاء، وهو ما لا يتصور أحد إمكانية حدوثه على ارض الواقع.
حتى الآن ما زال المجتمع العراقي عصيا على احتمالات الحرب الأهلية، وأيا كانت تحفظاتنا على مواقف بعض الأطراف من الاحتلال، فالقدر الثابت ان تجنب الحرب الأهلية وإطفاء شرارتها أولا بأول يشكل موضع إجماع بين كل الفئات، وهو ما يعزز ثقتنا في نضج العقل الجمعي في العراق، وقوه نسيجه التاريخي والحضاري.
وإن قامت المراجع الدينية والقوى السياسية بما عليها في العراق، ألا أنني ازعم ان المراجع ذاتها الموجودة خارج العراق لم تضم بما يكفي، سواء في الدعوة إلى تجنب الحرب الأهلية، أو في الدفاع عن وحدة العراق من هذه الزاوية.
لقد تمنيت ان تكون وقفة المراجع الدينية خارج العراق ضد استهداف الشيعة، وضد السلفية الجاهلة التي عبر عنها بيان الزرقاوي ـ إن صحت نسبته إليه ـ أقوى مما هي عليه الآن. لست أتحدث عن مقالة في صحيفة تستنكر العملية، أو حلقة في برنامج «الشريعة والحياة» يتحدث فيها الشيخ يوسف القرضاوي، وإنما أتحدث عن حملة تعبئة مضادة قوية وعالية النبرة، تسمع الجميع صوت علماء أهل السنة بل صوت الضمير الإسلامي والوطني الرافض لذلك السلوك، صونا لدماء وكرامة المسلمين الشيعة ودفاعا عن وحدة العراق.
ثمة بعد آخر في المشهد لا نستطيع أن نغفله. ذلك أن القوات الأميركية التي احتلت العراق وتمسك الآن بزمام الأمور فيه، هي المسؤولة من الناحية القانونية والأدبية عن الأمن هناك، كما أنها المسؤولة عن تهيئة ظروف انفلاته، بإلغائها للجيش والشرطة في البداية، بالتالي فالجرائم التي ترتكب بحق الشيعة، وبحق غيرهم من المواطنين العراقيين الأبرياء، تتحمل المسؤولية عنها تلك القوات، وإذا كانت الحملة التي طالبت بإخراج القوات السورية من لبنان، قد استندت في البيانات الأميركية إلى ان تلك القوات وجدت هناك لضمان استقرار الأمن فيه، ثم جاء اغتيال رفيق الحريري دالا على أنها فشلت فيما جاءت لتنهض به، ألا يحق لنا أن نقول ـ بالمثل ـ إن القوات الأميركية تسوغ بقاءها في العراق بادعاء أن وجودها ضروري لاستمرار السلم الأهلي فيه، وطالما أن ذلك السلم لم يتحقق، فذلك دليل على فشلها في القيام بواجبها، ومن ثم يتعين عليها أن ترحل؟
أصبح مقتل العشرات في العراق خبرا عاديا، تراجعت أهميته في «بورصة» الأخبار، حتى بات يحتل المرتبة الثالثة أو الرابعة في النشرات اليومية، إذ تقدمت عليه أخبار سورية ولبنان والكلام عن الانسحاب من غزة واجتماع الفصائل الفلسطينية وتصعيد ملف إيران النووي. وقد يكون الأمر من طبائع الأخبار التي ليس فيها «خبر أول» على الدوام، وذلك فرق يميز الصحافة عن السياسة، حيث لا مجال لاحتكار الصدارة في الأولى، في حين أن ذلك صار ممكنا ـ إن لم يكن قاعدة ـ في الثانية، في العالم العربي على الأقل.
لكني لن استغرب إذا تبين لاحقا أن التهوين من شأن الحاصل في العراق مقصود، وأن الأمر ليس بالبراءة التي نفترضها. ذلك أن أبواقا عدة ـ أميركية بالانتماء أو بالانتحال ـ ما برحت تروج للادعاء بأن «العراق الجديد» قد ولد، وان نموذجه الديمقراطي يتشكل ضمن «تسونامي» الديمقراطية الذي ضرب أرجاء المنطقة، إذ جاء مبشرا بربيع الديمقراطية الذي بدأت راياته ترفرف على بلدانها، الأمر الذي قد يصح معه القول بان الرئيس بوش مقبل على تغيير العالم، وان المحافظين الجدد ليسوا بالسوء الذي رميناهم به، لان الأيام تثبت حينا بعد حين أن «أياديهم البيضاء» توزع الخير على الجميع، الأمر الذي يوجب علينا ليس فقط أن نتوجه إليهم بالشكر والتقدير، وانما بالاعتذار أيضا عن إساءة الظن بهم.
هذه الرسالة يطالعها المرء في العدد الأخير في مجلة «نيوزويك»، كما يطالعها في كتابات نفر من «المارينز» العرب، الذين وجدناهم يقولون: لقد تشاءم البعض مما يمكن ان يحدث هذا العام، ولكن انظروا، ها هي تجليات الإصلاح والديمقراطية قد ظهرت أعراضها على العالم العربي من حيث لا نحتسب.
الحاصل في العراق يكذب هذا الادعاء، فالعنف عاد إلى وتيرته التي سبقت الانتخابات وشبح الموت عاد كي يظلل بعباءته السوداء، رقعة واسعة من البلاد. ليس ذلك فحسب، وانما لاحت في الأفق مساع حثيثة لإشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة، على نحو يصب في مجرى الحرب الأهلية، التي تبدو مخرجا ينهك الطرفين ويصرف الانتباه عن قضية الاحتلال، بل ويبرر استمراره إلى أجل غير مسمى!
يوم الأحد الماضي أعلن عن العثور على جثث 13 شيعيا قطعت رؤوسهم في منطقة اللطيفية جنوب بغداد. ويوم الخميس الذي سبقه قام انتحاري بتفجير نفسه في رواد مسجد تابع للشيعة في الموصل أثناء مجلس للعزاء مما أدى إلى قتل 50 شخصا وإصابة أكثر من ثمانين جريحا وفي اليوم التالي مباشرة سقطت قذيفة «هاون» في نفس المكان. وفي الشهر الماضي قتل 82 من الشيعة في تفجير انتحاري أثناء الاحتفال بذكرى عاشوراء. وقبله بأسابيع قليلة جرى تفجير سيارة ملغومة أمام أحد مساجد الشيعة في بغداد مما أدى إلى مصرع 15 شخصا، وقائمة الوقائع طويلة لم تخل من تصفيات جسدية لعناصر من الشيعة، وآخرين من علماء السنة.
ماذا يعني ذلك كله؟ ـ المقطوع به أن ذلك أمر لا علاقة له بالمقاومة الوطنية ولكنه نوع من الإجرام الإرهابي الذي لا يمكن تبريره من أي باب، ولا يغير من الطبيعة الإجرامية لتلك العمليات صدور بيان باسم أبو مصعب الزرقاوي يندد فيه بالشيعة ويعتبرهم «رافضة»، ويهاجم المرجع الديني آية الله علي السيستاني. بل ان ذلك البيان البائس يمكن استخدامه دليلا على تورط الزرقاوي وجماعته (التوحيد والجهاد) وضلوعهم في ارتكاب تلك الجرائم البشعة.
ليس سرا ان السلفيين لهم موقف تقليدي من الشيعة، غير أن السلفيين ليسوا شيئا واحدا، ففيهم المعتدلون والمتطرفون والعقلاء والأغبياء والواعون والجهلاء، ولست اشك في انه اذا كان للسلفيين يد في تلك الجرائم فانها لن تكون سوى يد المتطرفين والأغبياء والجهلاء الذين قد لا يتذرعون عن إشعال حريق مصر في العراق كله لتصفية حسابات قديمة مع الشيعة وهم لا يبالون ـ وقد لا يعرفونـ انهم بما يفعلون يقدمون خدمة مجانية للاحتلال، الذين يزعمون أنهم يحاربونه أيضا.
ليس ذلك هو الاحتمال الوحيد، لأننا ينبغي الا نستبعد اختراقا لصفوف السلفيين من جانب إلى طرف آخر يهمه تفجير العلاقة بين السنة والشيعة، وهناك أطراف عدة يهمها ذلك، سواء كانت أجهزة استخبارات أجنبية ـ الموساد أو المخابرات المركزية الأميركية مثلا ـ أو كانت جماعات ذات صلة بدول أجنبية تهمها إشاعة الفوضى في العراق من ذلك الباب. وحدوث مثل ذلك الاختراق أمر ميسور للغاية، خصوصا أننا نتحدث عن شريحة من السلفيين عديمة الوعي، وتتسم بالجهل الذي يعميها عن أدراك مآلات ما يقدمون عليه.
إلى جانب ذلك، فاننا لا نستبعد ان تقدم تلك الأطراف بنفسها على ارتكاب تلك الجرائم، مستثمرة أجواء الفوضى الأمنية ضاربه الاطناب في البلاد، وهي تستطيع ان تفعل ذلك وتقبع في الظلام، اطمئنانا إلى ان أصابع الاتهام ستشير مباشرة إلى السلفيين أصحاب الموقف المعادي للشيعة والمحرض عليهم. يعزز هذا الاحتمال ان العمليات تتم بإتقان وتستصحب اختفاء سريعا للفاعلين، بدليل انه لم يقبض على أحد حتى الآن من الفاعلين، الذين أصبحت تبتلعهم الأرض بعد ارتكاب جرائمهم.
ما يثير الانتباه ـ ويستحق التقدير والإعجاب حقا ـ أن تلك المحاولات فشلت حتى الآن في تحقيق مرادها، اذ عدا بعض التصرفات الصغيرة وغير المسؤوله التي صدرت عن بعض الأفراد على الجانبين. فان مراجع الشيعة والسنة نجحوا في تفويت فرصة التفجير، وما برحوا بعد كل جريمة يشددون على أهمية تلاحم الطرفين ويدعون إلى ضبط النفس وعدم الانسياق وراء الانفعالات، وينبهون إلى أن أي استجابة انفعالية لمثل تلك الجرائم تهدد وحدة العراق وتخدم مخططات أعدائه.
أرجح أن الذين يقومون بتلك الممارسات أيا كانت هوياتهم غرباء عن النسيج العراقي وغير مدركين لثقافته الراسخة منذ عقود، هم لا يعرفون مثلا أن التداخل بين السنة والشيعة بعيد المدى، الأمر الذي يتعذر دفعه إلى القطيعة والأحزاب، ذلك أن التفاوت في الانتماء المذهبي حاصل داخل العشيرة الواحدة أو الأسرة الواحدة خصوصا في الفرات الأوسط، فعشائر شمر والطائيون والكرخيون والعبيديون والعزاويون والصالحيون، هذه كلها لها فروع من اهل السنة وأخرى تنتمي إلى المذهب الشيعي، والذين يعرفون قيمة العشيرة وتقاليدها يدركون أن فصم تلك العرى أمر غير وارد، باعتبار ان الولاء للعشيرة يمثل قيمة عظمى في المجتمع، من فرط فيها يلاحقه العار والخزي طوال حياته.
من ناحية ثانية، فان التزواج بين الشيعة والسنة والأكراد والعرب والتركمان أمر شائع في العراق، على نحو تبدو معه محاولات تقطيع أوصال المجتمع من خلال التقسيمات الطائفية والعرقية التي اعتمدها الاحتلال منذ قدومه (وهو ما ظهر جليا في تشكيل مجلس الحكم) بمثابة تمزيق للمجتمع وتحويله إلى أشلاء، وهو ما لا يتصور أحد إمكانية حدوثه على ارض الواقع.
حتى الآن ما زال المجتمع العراقي عصيا على احتمالات الحرب الأهلية، وأيا كانت تحفظاتنا على مواقف بعض الأطراف من الاحتلال، فالقدر الثابت ان تجنب الحرب الأهلية وإطفاء شرارتها أولا بأول يشكل موضع إجماع بين كل الفئات، وهو ما يعزز ثقتنا في نضج العقل الجمعي في العراق، وقوه نسيجه التاريخي والحضاري.
وإن قامت المراجع الدينية والقوى السياسية بما عليها في العراق، ألا أنني ازعم ان المراجع ذاتها الموجودة خارج العراق لم تضم بما يكفي، سواء في الدعوة إلى تجنب الحرب الأهلية، أو في الدفاع عن وحدة العراق من هذه الزاوية.
لقد تمنيت ان تكون وقفة المراجع الدينية خارج العراق ضد استهداف الشيعة، وضد السلفية الجاهلة التي عبر عنها بيان الزرقاوي ـ إن صحت نسبته إليه ـ أقوى مما هي عليه الآن. لست أتحدث عن مقالة في صحيفة تستنكر العملية، أو حلقة في برنامج «الشريعة والحياة» يتحدث فيها الشيخ يوسف القرضاوي، وإنما أتحدث عن حملة تعبئة مضادة قوية وعالية النبرة، تسمع الجميع صوت علماء أهل السنة بل صوت الضمير الإسلامي والوطني الرافض لذلك السلوك، صونا لدماء وكرامة المسلمين الشيعة ودفاعا عن وحدة العراق.
ثمة بعد آخر في المشهد لا نستطيع أن نغفله. ذلك أن القوات الأميركية التي احتلت العراق وتمسك الآن بزمام الأمور فيه، هي المسؤولة من الناحية القانونية والأدبية عن الأمن هناك، كما أنها المسؤولة عن تهيئة ظروف انفلاته، بإلغائها للجيش والشرطة في البداية، بالتالي فالجرائم التي ترتكب بحق الشيعة، وبحق غيرهم من المواطنين العراقيين الأبرياء، تتحمل المسؤولية عنها تلك القوات، وإذا كانت الحملة التي طالبت بإخراج القوات السورية من لبنان، قد استندت في البيانات الأميركية إلى ان تلك القوات وجدت هناك لضمان استقرار الأمن فيه، ثم جاء اغتيال رفيق الحريري دالا على أنها فشلت فيما جاءت لتنهض به، ألا يحق لنا أن نقول ـ بالمثل ـ إن القوات الأميركية تسوغ بقاءها في العراق بادعاء أن وجودها ضروري لاستمرار السلم الأهلي فيه، وطالما أن ذلك السلم لم يتحقق، فذلك دليل على فشلها في القيام بواجبها، ومن ثم يتعين عليها أن ترحل؟