المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ديمـوقراطـية الجدران في العراق



المهدى
03-11-2005, 12:55 AM
سياسيون وتعساء وحشاشون وعاشقون جمعتهم بتحولها إلى وليمة أفكار

بغداد ـ د. جمال حسين

العراقيون يؤلفون أحلامهم على شجرة محترقة أطلـّـت برأسها على أفق مغبر.
يكتبون الحرية على الأعشاش المجدبة والعين المسمية والنصل الواصل والقمح الموصول وعلى القليل المتجرد والكثير من رجفة الشمس المترددة على هواهم.

على حوافر الأسلاك وضمن النسب المئوية يطلون أحرفها على الأضرحة ويمررون برقها عند حواف السواقي وسنابك الروح على بقرتهم المدللة وجبين الرضيع المفطوم على الهدايا البكر والتراب المنفلت من الأزقة، يكتبونها ابتكارا ويخطونها اختصارا ويرسمونها وسخا على العقول الإلكترونية وشرائح الموبايل المتقطع الموجة والإرسال على جلد المدينة وألمها العكر وقلبها المفروك على دمائها الزرقاء وبرودة أيامها وظلها المتطاير، أحرف وكلمات وعبارات اختصروا بها جادة نشر الغسيل النظيف والقذر والسلام غير المعلن للحرب الصارخة، كل يوم، نارها باكتشاف المسرح المجاني لتشتت الآراء والمعاني في اشتعال الصباح عن بكرة نوره المبلل عند إضاءات: صحف الجدران!


لا يوجد أحد في العراق الراهن لا يستطيع التعبير عن رأيه!

ومهما بلغ فقرا مدقعا، فباستطاعته شتم من يشاء وقت تهيج فيه عواطفه أو يلثم إحساسه أو تضطر أعشابه للميل من ريح أو يحملونه ما لا يريد أو يقدر.

والاّ يمتلك شيئا في هذه الدنيا، فيستطيع استعارة طباشير من تلميذ أو الاستعانة بفحم المقهى القريب وفي كل الأحوال سيغمس فرشاته حتى بالوحل من أجل كتابة رأيه وخط ّ ما يرجعه الى بيته مرتاح الخاطر، لاسيما أن الجدران والحيطان كثيرة ومباحة ولا يفرض عليها أحد ضريبة ولا أتاوة ولا تحتاج الى تصريح نشر أو موافقة رقيب.

هكذا تحولت الجدران في العراق الى أقوى وسيلة إعلام للمهمشين والمقموعين والمنتصرين والمهزومين والمقتولين والقاتلين وللحالمين والموهومين ومن جفّ الحديث عنهم ومن يلهون بالمكر ومن ينهكون خاصرة البلاد ومن يبنيها ومن يسرقها، لمصبها ونبعها، لمن يبذر فيها الرز ومن يشعل الفتنة.

تجريد منفلت، سهول من مفردات غريبة لا تصلح أبدا للنشر ولا للتبادل ولا منح القفار وردة مزيـّـنة.

أنها ديموقراطية طفلة مأخوذة بزغبها الأول البارز توا على جسدها كناموسية لبلاب.

العدد صفر

كالصحف تماما، فقد كانت منشورات الحيطان تواكب العصر واليوم بالدقيقة.

وملاحظة لتطورها منذ شعارات اليوم الأول للحرية، فقد كان مؤلفو الجدران يركزون على شتم صدام حسين وجماعته ومن ثم انتقلوا للوعيد بالبعثيين ومنها بدأوا يعرفون بأنفسهم ويذكـّـرون الناس بالمنقذين الجدد الذين سيطفئون الحرائق ويداوون أمراض الوطن ويروون العطشان ويطعمون الجوعان ويدفئون البردان ويزوجون العزبان ويسمعون الطرشان ويكلمون الخرسان.

اختصرت الأعداد الأولى من كتابات الجدران موادها بالتبشير ولعن الماضي وطغاته وحروبه وديونه في أولى صفحاتها. بينما احتوت صفحاتها الداخلية والفرعية على نصائح بضرورة الحفاظ على المال العام وأن سرقته حرام (بالتأكيد كان لهذه الشعارات المنددة بالسرقة والنهب وحرق الممتلكات العامة دورها الإيجابي في ظل غياب كامل لأي سلطة من 9 أبريل المشهود الى مفتتح يونيو من العام الموعود).

وفي كتابات الجدران ما يشبه صفحات القراء في الجرائد، فكل مكبوت وما فاضت به الهموم وما هرعت إليه الهواجس وجد له حيزا في فوران التعبير هذا.

جدران الأحزاب

كان التسابق على أشده بين أحزاب كنا نعتقد بأنها محترمة، غير أنها نزلت أيضا «بوانيتات» المتطوعين الملثمين بـ «السبريه» والشعارات التي كانوا يخطونها على عجل وتظهر كخربشات غير مفهومة، لأن الجماعة لم يمتلكوا خبرة الكتابة بالسبريه.

و«السبريه» ملون، وهذه الألوان كانت أيدلوجية أيضا، فكل حزب كان يمطر الجدران بشعارات يشبه لونها، الذي يحمله علم الحزب والحركة.

ولعل جدار واحد في ساحة التحرير مقابل النصب المرموق والهام للتشكيلي الرائد جواد سليم، الأكثر تلطيخا، إدراكا منهم بأن نصف البغداديين يضطرون للعبور الى الكرخ من الباب اشرقي عبر هذا الجدار.

إعلانات تمليك

ولعب «سبريه» الجدران دوره في السرقات المنظمة التي قامت بها «الأحزاب الكبرى» التي حصدت حصة الأسد الآن في الجمعية الوطنية برشها على المباني الحكومية العبارة الأثيرية البالغة العار والتأثير في نفوس الناس المندهشين من تعطش هؤلاء للسلطة والتملك، حين سمحت لنفسها وأعطتها الحق في الاستحواذ (ليومنا هذا) على مباني الدولة ومقار مؤسساتها بعد أن خطت على جدرانها ومداخلها الرئيسية عبارة: «مملوكة لـ ....» وأحيانا كثيرة بحزم وقح: «محجوزة لـ ...» والنقاط أسم الحزب أو الحركة بالطبع وليس لدار الأيتام والعجزة ولا لذوي الشهداء ولا للمرحلين ولا للمهجرين ولا للذين جاءوا للدنيا لكي يحزنوا.

كان شعارا أخرق، يخطه مسلحو الوانيتات والجيبات، كافيا لأن تضع الحركة أو المناضلون يدهم وأوزارهم على مقرات صحف وبيوت ومعامل ومؤسسات ودوائر عسكرية وقصور وأسواق عامة، اعتقد الناس، بأن مقدمهم سينهي حالة النهب الرسمي الذي كان النظام يمارسه بما يعتبرها قوانين، على الأقل، وليس بـ «السبريه»!

وحذا البعض حذوهم بالحق أو بالباطل، فتقرأ على جدران بيوت كثيرة عبارات ليست قانونية مثل: «رجع الدار الى السادة»، أو «الدار مملوكة للحاج فلان الفلاني ..» أو «عاد الملك لصاحبه الشرعي بعون الله ..» وغيرها من إعلانات التمليك التي غزت بيوت كثيرة في العراق، لاسيما تلك التي هرب سكانها، الذين كانوا بدورهم قد صادروها أو سرقوها من أصحابها الحقيقيين، الذي يعلم الله وحده مصيرهم.

عطشى الكلمات

أصبح كل شخص في العراق رئيسا لتحرير الجدران، تخط أصابعه الرجاء وحروق الكلام والأحرف الذائبة في متاهات السنين الماضية وتراكمات الكيانات البشرية التي أمحى القمع رسوخها وإشعاع أفكارها وعناقيد الجمر والغضب التي حملتها طوال الأعوام المأسورة برجـّة الأعصاب التي أنهكها التعذيب والإهانة واللغو والفكر الأوحد المتناثر على يباس العقول والمسرى المنفرد للمفازة.

ويستطيع من جمع كل الشعارات والتأويلات والأحرف الزاهدة، الخروج بدستور ابتكره الناس كمذراة مرآة، لعله انعكاس للوجه والحق وغوص في حلم منوّر بنوده الشك واليقين، الخطأ وصوابه رخاوة العادي ورحلة المألوف لمساء جديد لن تنبض فيه أفئدة الناس من الخوف.

براثن الأفكار

بمنزلة الإمساك بالفوضى وإنشاء قاعدة للتعبير، اشتركت كل الأحزاب والشخصيات السياسية بمارثون إعلام الجدران، ولم يخل أي جدار في العاصمة تقريبا، لاسيما الواقعة في التقاطعات وقرب الساحات ومراكز تجمع الناس من حملات استعراض الخط الرديء والعبارات الممجدة والمنددة والمستطردة كثيرا في أحلام الخلق.

وثمة جدران فيها من يتوعد المتعاملين مع الاميركيين وبالقرب منهم، هناك من يتوعد البعثيين ويشتمهم ووسط هذه المماحكة، شعار يشطرهم ليهدد الاثنين معا.

فدولة الخلافة الإسلامية أُنشئت في جدران العراق قبل أن ينتخبوا البرلمان بأشهر، والشيوعيون ألغوا عقوبة الإعدام قبل أن يناقشها مجلس الوزراء ومجموعات أعلنت الجهاد قبل أن تصل الأوامر من بن لادن وعندما يعلن الأميركان منع التجول، ثمة ظرفاء يكتبون: يمنع تجول الأميركان بعد التاسعة مساء!

سياسيون وتعساء وحشاشون وعاشقون كلهم جمعتهم الجدران التي تحولت الى وليمة أفكار فيها المحارم ودعوات الأعراس وإعلان الاستشهاد وقهر الليالي وإعلانات الحب والعتب على المعشوقة التي نست الاتصال. وشاعر كتب قصيدته عنوة وقصدا ضد من منع نشرها. وثمة من علق قصيدة شعبية طويلة تحت أقدام شاعر معروف (تمثاله بالطبع). وهناك من بشر العراقيين بأن مفتاح نجاتهم السير على هدى «الكتاب الأخضر» للقذافي. وهناك إعلان شجاع فيه عفو عام عن كل الهاربين من الرفاق البعثيين. وثمة من يفلسف الجهاد ويوقع في الأسفل «قائد جيوش السماء»!

الكشافون

وأزهرت ديموقراطية الجدران مهنة جديدة، غير الصباغين والخطاطين وسائقيهم وحمايتهم، أولئك الذين يتجولون يوميا والذين يسمونهم «الكشافون».

وتنحصر مهمة الكشافين، في التجول اليومي ورصد كل الشعارات «المعادية» وتلطيخها بحيث لا يظهر منها شيء ومحاولة رصد من كتبها وملاحقته وحتى قتله!

والمهمة الأخرى هي تعيين «الجدران الاستراتيجية» التي ينبغي تخطيط الشعارات عليها وتحديدها على أن تكون طويلة وعالية ومصبوغة جيدا. واشتهرت أماكن مثل ساحة الميدان والباب الشرقي والأعظمية والمنصور واليرموك والحارثية والكرادة ودائرة المخابرات والبياع ومداخل بغداد والخطوط السريعة والكراجات، ووصل الأمر الى أن تسمية باب المعظم بـ«شارع الشعارات»!

ويقرر «الكشافون» مناطق تعليق الصور أو طلاء صور أخرى أو تعليق الصور الخاصة على صور الخصوم وإن كانوا كلهم موتى!

حرية مشروطة

والطريف أن الاميركيين الذين عاشروا الشعب أكثر من أربعين يوما أثبتوا صحة المثل وصاروا مثله، فدخلوا بدورهم على الخط، وأصبحوا يخطون شعاراتهم وتحذيراتهم وتعليماتهم بالإنكليزية والعربية على الجدران أيضا. وليس هذا فحسب، فقاموا باعتقال من يروج لكتابات الحيطان ليس حفاظا على جمال المدينة، بل لأن الكتابات تأتي أحيانا ضدهم وتشجع على الإرهاب. وأرهقوا أنفسهم وأهدروا وقتهم كثيرا في إزالة شعارات، بل حيطان بأكملها من الوجود بعد تدميرها لكتابة مثل هذه الشعارات المضادة لهم أو الممجدة بأعدائهم، وشاهد الناس أجمعين كيف يوقفون رتلا عسكريا ماشيا بدربه لكي ينتزعوا صورة لمقتدى الصدر أو غيره.

ثلاث كلمات مميتة

يجدر التذكير أن النظام السابق أصدر قوانين وقرارات واحكاما دخلت للقاموس الجنائي العراقي فيما يخص الكتابات على الجدران.

نذكر أن أول فتى أُعدم في منطقتنا، ولم يبلغ السادسة عشرة بعد، كانت بسبب كتابته جملة كانت في ذلك الوقت كافية لفتح أبواب الجحيم عليه، جملة لم يستطع الانتظار 30 سنة ليكتبها مع الآخرين، هي بسيطة وتتناسب مع وعيه البريء: «يسقط حزب البعث» فقط، لا غير.

دعوات الموت

المحرومون والمكبوتون من يعبرون أكثر من غيرهم بالكتابة العشوائية على أي مكان، البحارة، المسجونون، الجنود، التائهون وغيرهم. والملاحظ أن صحف الجدران العراقية تنذر بالموت أكثر من محاكاتها للحياة والأفكار. ولا تهدد الاميركيين والعملاء والبعثيين وغيرهم بالموت فحسب، بل تذكر مفردة الموت دائما وفي كل مناسبة، وإن أرادت تمجيد أحد، فهو ميت أيضا!

وبالإضافة الى الموت، فكتابات الحيطان، متطرفة، وحازمة ولا يوجد فيها أدنى فسحة للجدل مثل: «الدولة الإسلامية هي الحل» وخلاص.

كذلك هي مفهومة للغاية ويمكن قراءة ما يعادل صحيفة ضخمة طوال تجوالك في المدن العراقية، زد عليها الصور المختلفة، المرسومة والمستنسخة والمطبوعة جيدا.

لملمة الآراء

المحررون أهدروا الكثير من الأموال على الصبغ. ولعل مجلس إعمار العراق وإدارة بريمر تخصصت بالطلاء. وباسم إعادة التأهيل والإعمار كانوا يصبغون المدارس والمستشفيات ومؤسسات الدولة ويبلعون النقود بلعا ليكتبوا في الوثائق بأنهم فعلوا كذا و كذا في مشاريع وهمية.

هذه الأسماء «اللامعة» كانت أكثر من ينتقد صدام على هوسه بالصور والجداريات ( هي فرع من صحافة الجدران التي نتحدث عنها وقد أنشأ صدام لها هيكلا متخصصا تابعا لرئاسة الجمهورية )، نفسها من انتقدته، أعادت هذا التصرف وبشكل أبشع من السابق، فالهيكل الذي ذكرناه كان يعتني بها ويرعاها ويزرع بعض الزهور حولها وينظف المكان المحيط بها، ويرممون الرصيف بالمرمر الذي تطل منه صوره ونصائحه الخالدة.

والجماعة لم يحتلوا صور صدام فحسب، بل استغلوا أعمدة النور وإشارات المرور ومنصات الهواتف وحديد الجسور، بشكل ذكرنا برجل ادعى الجنون على الأرجح، كان يمشي في شوارع بغداد ويعرفه كل سكان العاصمة، ويردد كلمة واحدة لا غير جعلته مشهورا وهي «شـييلمها» (أي كيف سيتم لمـّـها) ويقصد كل الصور والشعارات الكثيرة جدا التي ذاع صيتها تلك الأوقات. ومعروف أن الزمن تكفل بلمها في أقل من يوم!

اجتماعيون ونفسيون

يعتبر أساتذة علم الاجتماع العراقيون بأن هذه الظاهرة تبلورت من خبرات الفرد الخارجية وتجاربه وثقافته وانبعثت كوعي اجتماعي. ولا يستطيع الفرد التنازل عن شعاراته إلا بتبدل قيمه ونظمه وشعوره.

والكتابات تعكس شكل المجتمع الذي أنتجها، حيث لكل جماعة رغبة في أن يكون لديها رمزها وشعارها المعبر الذي تلعب الأحداث في صياغته وتتلخص في شعار مفترض تطور ليصبح صيغة للتعبير تعكس حاجة الفرد للحرية التي حرم منها لسنين عديدة.

وفسر علماء النفس المحليون هذه القضية بسبب وجود «حالة مربكة للعقل البشري» تؤدي الى فوضى التعبير وتناقض اتجاهاته وطرق تقديمه. وأكدوا أن الشعارات الفوضوية تجد صداها لدى فوضويين يتعاملون معها. والاستجابة لما يكتب على الجدران تأتي عادة من الأوساط الاجتماعية غير الواعية، مشيرين الى أن المشكلة تكمن في أن الناس يطلعون على هذه الكلمات أكثر من اطلاعهم على الصحف والنشرات التقليدية. كما أن الفوضى في الشعارات ترتبط بتغير الأوضاع السياسية وهي انعكاس لفوضى الواقع السياسي والاجتماعي وجهلا في جوهر ومعنى حرية التعبير.

جدران الـحرية

للتاريخ العراقي المعاصر تجارب مع الجدران، فقصيدة «أين حقي؟» لمحمد صالح بحر العلوم نشرت على الجدران فقط وانتشرت أكثر من أي خطاب سياسي آخر وكذلك رائعة محمد مهدي الجواهري «أخي جعفر» وأبياته «نامي جياع الشعب نامي..» مدت أحرفها راكضة في ظلام البلاد وفرضت المحك في سنوات المحنة.

وقديما أجبروا عبـّاد بن زياد على محو ما كتبه على حيطان الخانات ضد الوالي بأظافره حتى تكسرت. وفي الثورة الفرنسية الأولى ولغاية الاحتلال النازي كانت المقاومة الفرنسية تستخدم الجدران وكذلك في الحرب الأهلية الإسبانية كانت قصائد لوركا متناغمة مع أغاني الثوار. وفعلها مايكوفسكي ورفاقه في موسكو، وكذلك يسينين، ورسم بيكاسو و ديلاكروا على الحيطان، وغيرهم في التاريخ المحرض لا يتسع الحديث للتوقف عندهم.

لكن سريالية العراقيين وصلت الى حد اعتبار صدام «الأب الرحيم» في واحد من الشعارات، وآخر يسب ويشتم كل الأطراف ولو جمعناها لخرجنا بشتيمة عامة للشعب برمته.

ولكثرة الاشاعات التي تصدق، سيأتي اليوم الذي نعرف فيه اسم رئيس الوزراء المنتظر بواسطة شعار يهنئه أو يسبه بمناسبة تقلده منصبه!