على
03-07-2005, 08:45 AM
الشيخ عمار بن ناشر العريقي*
أولاً: مظاهر ومخاطر:
إن من أخطر ما يشوه صورة دعوة الإسلام، وينفر الناس من دعاته الكرام، ويحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية، ويقطع أواصل الأخوة الإيمانية، ويعوق دون الإسلام ودون انتشاره وانتصاره -أن تنتشر ظاهرة "ذهنية التحريم"، وهي فرع منهجية التشديد وعقلية التعسير، ومن المؤسف أنها ظاهرة متوفرة لدى الكثيرين من الدعاة وطلبة العلم ممن تجرءوا على تصدر الفتاوى الشعرية، وتبني المواقف الفكرية، من غير رسوخ في العلوم الشرعية، ولا إحاطة بمقاصد الشريعة، ومما زاد الأمر سوءاً، أن تنتسب هذه الذهنية إلى الاستقامة والالتزام، أو العلم والورع، أو السنة والسلفية، أو الثبات على الدين والتمسك بالحق.
ثم أن تنتهج هذه الذهنية واقعية الإرهاب الفكري مع المخالف، فتصمه بكل تهمة ونقيصة، والمتأمل يجد أن هذه الذهنية خاضعة لطبيعة بيئية معقدة، ومؤثرات نفسية متوترة، كما أنها جاءت نتيجة ردود أفعال في مقابل انتشار ظاهرة التساهل والتسيب والتفلت لدى عامة المسلمين، وهي منهجية التفريط وذهنية التحليل، فعالجت الخطأ بالخطأ، والبدعة بالبدعة، والتفريط بالإفراط، كما أنها جاءت نتيجة تربية علمية خاطئة، فلا عجب أن تنطلق من شبهات علمية، وهي وإن كانت صحيحة المبنى، لكنها خاطئة التطبيق والمعنى -كما سيأتي في المبحث بيانها والرد عليها إن شاء الله- ولطالما كانت هذه الذهنية سبباً رئيساً في فتنة الناس، وتنفيرهم عن الدين وعن دعاته المخلصين
فكان من الواجب أن نصرخ في وجوههم بكل شجاعة ورحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لصاحبه الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أفتان أنت يا معاذ؟ وكررها ثلاثاً"، وذلك لمجرد شكوى أحد الناس منه لطول صلاته بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم في مناسبة أخرى مشابهة: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز -فليخفف- فإن فيهم الكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة"، "ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم" أي سبب هلاكهم أو أعظمهم هلاكاً.
ولذلك، فقد كان من مظاهر الذهنية أنها تصور الإسلام بصورة مفزعة مخيفة، صورة الإسلام المقطب الوجه، العبوس القمطرير، الذي لا يعرف غير العنف في الدعوة، والخشونة في المجادلة، والغلظة في التعامل، والفظاظة في الأسلوب، والتعصب في الرأي، وسوء الظن والفهم والخلق، صورة الإسلام الذي لا يعرف الحوار ولا يقبل الخلاف، الإسلام السلبي السطحي الجامد، الذي لا ينشد التجديد، ولا يقدم الحلول الشرعية والواقعية لكل تحديات العصر.
إنها صورة الإسلام الذي طغى على خطابه الترهيب، وعلى مواقفه التشديد، وعلى أحكامه التحريم.
فإذا كان في المسألة قولان، تبادر إلى الذهن ومال القلب إلى الحكم بمقتضى التحريم، واتباع ما فيه الحرج والعنت والمشقة والتعسير، وكان ذلك هو الأصل الأصيل الذي لا يجوز العدول عنه إلا بدليل، ثم قالوا: ولا دليل!.
وكم أتمنى من القارئ الكريم ألا يتعامل مع هذا المقال وفقاً لهذه الذهنية، فيتبادر إلى ذهنه أن الإنكار على ذهنية التحريم يستلزم الإقرار بذهنية التحليل، وإضفاء الشرعية، أو فتح الباب لانتشار المعاصي والبدع، لا، لأنا نقول: إن كلاً من الإفراط والتفريط من أسباب ضياع الدين وضعف المسلمين، كما هو خروج عن منهج الشرع الحنيف القويم، وسبيل أهل الصراط المستقيم في الوسطية والاعتدال، والتوازن والشمول، وصد الشاعر:
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
بل صدق الله تعالى: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير".
ولطالما أيضاً جر الإفراط والغلو إلى التفريط والتساهل، بل وإلى الضلال والانحراف والارتداد أحياناً، وفي الحديث: "إن هذا الدين يسر، ولا يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا..".
وهذا أمر مشاهد معلوم، وذلك لأن النفس البشرية طبعت على السامة والملل، وجهدها البدني والنفسي محدود، "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً".. وروى البزار وصححه الألباني مرفوعاً: "إن لكل عامل شرة "نشاطاً" ولكل شرة فترة "فتوراً"، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقط ضل، أو قال فقد هلك".
ثم إن الإنكار على ظاهر الغلو والتشديد وذهنية التحريم، لا يمنع الإنكار على ظاهرة التساهل والتحذير من المعاصي والبدع، وإن كان أمرها أظهر لخفاء مسالك وشبهات الغلو وخطورة آثاره على الدعوة والواقع، وقد يدل عليه ما يعرف من خلال المقارنة بين اليهود والخوارج الغلاة، وبين النصارى والمرجئة الجفاة.
ثانياً: قواعد في التحليل والتحريم:
ومعلوم أن التحليل والتحريم حق لله وحده، ومنازعة الله في التشريع قرين الشرك "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله".. وإنه لا يجوز الحكم بحل شيء أو بحرمته إلا بدليل صحيح الثبوت صريح الدلالة، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، بل تحريم الحلال أعظم لمخالفته الأصل، إذ الأصل في الأشياء كلها الإباحة والحل، إلا لصارف من دليل يقتضي التحريم، كما لو تمحض ضرره، أو زاد ضرره ومفسدته على منفعته ومصلحته، أو دل عليه دليل صريح، وذلك لعموم آيات حل الطيبات وآيات التسخير: "... كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله".. "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه".
ولذلك، فإن الأمر المسكوت عنه حكمه الحل، وهو داخل في دائرة المعفو عنه، فقد ثبت من حديثي سلمان وأبي الدرداء مرفوعاً: "الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله -وما سكت عنه فهو عفو- فاقبلوا من الله عفوه، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً" "وما كان ربك نسياً".. وفي حديث آخر: "... وسكت عن أشياء رحمه بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها".
وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس عند الله إثماً رجل سأل عن مسألة لم تحرم فحرمت من أجل مسألته"، وهو في معنى قوله تعالى: ".. لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين".
وكل ذلك يبين خطوة المتكلف، ",ما أنا من المتكلفين"، والتنطع في الدين "هلك المتنطعون الثرثارون المتفيهقون المتشدقون".. وفي قوله تعالى في الآية السابقة: "ثم أصبحوا بها كافرين" دليل على ما قد يجر إليه الغلو والتنطع إلى شدهما، وقد سبق.
لقد قرر العلماء أن باب الحلال أوسع من باب الحرام، ولذلك فإن الحلال غالباً ما يذكر بطريق الإجمال، لتعذر حصر أفراده، ولا يذكر بطريق التفصيل -بذكر بعض أمثلته- إلا على سبيل إظهار منته تعالى على عباده لا لقصد الحصر. وأما الحرام، فإن الله يبينه على وجه التفصيل، حتى لا يدع لأحد شبهة في حكم شيء من أفراده، كما قال تعالى: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه".
ولذلك، فكثير ما يورد الله المحرمات بأسلوب الحصر "إلا، إنما" أن ما سوى المذكورات حلال، إلا ما دل عليه دليل كقوله تعالى: "قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس، أو فسقاً أهل لغير الله به".. ومع ذلك، فقد قال تعالى بعدها: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه.." وكقوله سبحانه: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون، قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الآية رتبت الذنوب ترتيباً تصاعدياً، فذكرت الأعظم فالأعظم، وذكرت أعظمها: القول على الله بغير علم، وعدته أعظم من الشرك، لأنه أصل الشرك وأصل الذنوب كلها وكلها فروع له، ولعل في الآيتين إشارة إلى أن تحريم زينة الله والطيبات، إنما هو من آثار القول بغير علم أيضاً، ومن هنا ندرك خطر منصب الإفتاء، لأن العلماء موقعون عن رب العالمين، وهم ورثة الأنبياء.
وقد قال تعالى: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون".
ولذلك، فقد كان غير واحد من السلف يقول: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرم كذا، فيقول الله له: لم أحل كذا ولم أحرم كذا، وقال الإمام مالك: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم، ويعول الإسلام عليهم، أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا وأحب كذا، أما حلال وحرام، فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون"؟!، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب، قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت حصناً، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
ثالثاً: مخالفة هذه الذهنية للشريعة الإسلامية:
تغلب روح التخفيف والتيسير، في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، على التشديد والتعسير، وذلك في سائر مناحي التشريع والأحكام والتكاليف، وفي أبواب الإيمان والعقيدة والتوحيد، وفي باب الأخلاق والمعاملات والسلوك، وذلك دليل سعة رحمة الله وعدله وحكمته وكمال شريعته، فقد انبنت العقيدة الإسلامية على الوضوح والحجة والإقناع، والموافقة للشرع والعقل والفطرة، ونبذ ما طفحت به كتب المتكلمين والفلاسفة وعلماء الجدل، من غموض وخرافة، وشرك وبدع وأوهان، وأما الأحكام الشرعية، فكثيراً ما يعقب الله تعالى على العلة والحكمة والتشريع، بإرادة اليسر وارفع الحرج عن عباده، ففي ختام آية الطهارة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون".
وفي ختام آيات الصيام، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".. وفي ختام آيات المحرمات في الزواج، وما رخص فيه من نكاح الإماء المؤمنات لمن عجز عن زواج الحرائر، يقول جل شأنه: "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً".. وفي ختام سورة الحج، وما ذكر فيها من أحكام وأوامر، يقول عز وجل: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج"..
هذا ما دلت عليه الآيات الأخرى التي حرمت الغلو في الدين، وأنكرت على من حرموا الطيبات.
كما أنكر صلى الله عليه وسلم، على من حرموا الطيبات على أنفسهم وغالوا في العبادة، وأعلن البراءة منهم، فقال: "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، وكان يوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والتوازن والاعتدال والشمول، حتى لا يطغى حق على حق، فقال لابن عمر حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه: "إن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك -زوارك- عليك حقاً". وفي مناسبة مشابهة، قال سلمان لأبي الدرداء: "إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه".
وكذلك كانت السمة العامة والمنهجية المطردة لمواقفه وأحكامه عليه الصلاة والسلام، ولا عجب، فهو الذي قال عنه ربه يمتدحه، ويرشد عباده إلى الاقتداء به: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".، "فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك..."، وهو المأمور وأمته بقوله: "إدفع بالتي هي أحسن". "وجادلهم بالتي هي أحسن"، "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن".
ولما سبت عائشة قوماً من اليهود سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: "مهلاً يا عائشة، ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"، "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما يعطي على الشدة، وما لا يعطي على ما سواه".
ذلك، لأن التعامل بمقتضى الرفق واللين والسماحة والعفو والرحمة، من فروع منهجية التيسير، وهي خلاف ذهنية التحريم، ولعل من أبلغ وأصرح الأدلة في ذلك قول عائشة، وهي الخبيرة بدعوته صلى الله عليه وسلم وفتاواه وأخلاقه ومعاملاته ومنهجه: "ما خُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه".. هذا هو الأصل، وأما ما يرد أحياناً من انتهاجه صلى الله عليه وسلم الشدة، وما يظهر من التعسير، فذلك خلال الأصل العام، وهو يرد لمصلحة أو ضرورة، كالاحتساب باليد، أو قتال الكفار، أو لدفع الضرر والمفسدة عن الناس.
رابعاً: مخالفة ذهنية التحريم للقواعد والأصول:
وبناء على ما سبق بيانه من انبناء الشريعة الإسلامية على السماحة والرفق واليسر، وهو خلاف ذهنية التحريم المنبنية على روح التشديد والتعسير -فقد قرر العلماء أصولاً وقواعد فقهية إليها تتحاكم سائر فروع الفقه، بل وسائر مسائل الحياة عامة، فمن ذلك مثلاً قولهم:
1- المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع. والمعنى: حيث توجد المشقة والضيق -والمراد المشقة الزائدة وغير المحتملة- فإن حكم الشرع يقضي بالسعة والتيسير، وهي قاعدة "رفع الحرج".. "يريد الله بكم اليسر.."، "... وما جعل عليكم في الدين من حرج".
2- قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". وهو نص حديث ثابت، والمعنى: الضرر يزال، أو الضرر منتفٍ شرعاً، فكل ضرر في الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال في الحال أو في المال، فهو مرفوع شرعاً.
3- الضرورات تبيح المحظورات. وقاعدة: سقوط الواجبات عند العجز. وسقوط المحرمات عند الضرورات؛ لعموم الأدلة المشترطة لوجوب التكاليف بالقدرة والاستطاعة، نحو قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم". "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وعموم قوله في غير موضع: "إلا ما اضطررتم إليه".." فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه". مع تقييده بقاعدة "الضرورات تقدر بقدرها".
4- قاعدة "العذر باطل" و" موانع التكفير". ومن الموانع: الجهل، والخطأ، والنسيان، والتأويل، والإكراه. فمن قال أو فعل مكفراً -مع توفر واحدة من هذه الموانع- لم يأثم، ولم يكفر، لقوله تعالى حاكياً قول المؤمنين: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به".
وفي الأحاديث، وهي حسنة لغيرها بمجموع طرقها: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر -يحتلم-، وعن المجنون حتى يعقل، وعن النائم حتى يفيق"، "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه".
وشرط العذر بها، إلا يمكنه رفعها أو دفعها بأن ينشأ في بلاد لا تعرف الإسلام، ولا يجد من يرشده، وأما الإكراه، فهو كالضرورة عذر بإطلاق وعند توفر شروطه "من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان".
يتبع ....
أولاً: مظاهر ومخاطر:
إن من أخطر ما يشوه صورة دعوة الإسلام، وينفر الناس من دعاته الكرام، ويحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية، ويقطع أواصل الأخوة الإيمانية، ويعوق دون الإسلام ودون انتشاره وانتصاره -أن تنتشر ظاهرة "ذهنية التحريم"، وهي فرع منهجية التشديد وعقلية التعسير، ومن المؤسف أنها ظاهرة متوفرة لدى الكثيرين من الدعاة وطلبة العلم ممن تجرءوا على تصدر الفتاوى الشعرية، وتبني المواقف الفكرية، من غير رسوخ في العلوم الشرعية، ولا إحاطة بمقاصد الشريعة، ومما زاد الأمر سوءاً، أن تنتسب هذه الذهنية إلى الاستقامة والالتزام، أو العلم والورع، أو السنة والسلفية، أو الثبات على الدين والتمسك بالحق.
ثم أن تنتهج هذه الذهنية واقعية الإرهاب الفكري مع المخالف، فتصمه بكل تهمة ونقيصة، والمتأمل يجد أن هذه الذهنية خاضعة لطبيعة بيئية معقدة، ومؤثرات نفسية متوترة، كما أنها جاءت نتيجة ردود أفعال في مقابل انتشار ظاهرة التساهل والتسيب والتفلت لدى عامة المسلمين، وهي منهجية التفريط وذهنية التحليل، فعالجت الخطأ بالخطأ، والبدعة بالبدعة، والتفريط بالإفراط، كما أنها جاءت نتيجة تربية علمية خاطئة، فلا عجب أن تنطلق من شبهات علمية، وهي وإن كانت صحيحة المبنى، لكنها خاطئة التطبيق والمعنى -كما سيأتي في المبحث بيانها والرد عليها إن شاء الله- ولطالما كانت هذه الذهنية سبباً رئيساً في فتنة الناس، وتنفيرهم عن الدين وعن دعاته المخلصين
فكان من الواجب أن نصرخ في وجوههم بكل شجاعة ورحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لصاحبه الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أفتان أنت يا معاذ؟ وكررها ثلاثاً"، وذلك لمجرد شكوى أحد الناس منه لطول صلاته بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم في مناسبة أخرى مشابهة: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز -فليخفف- فإن فيهم الكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة"، "ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم" أي سبب هلاكهم أو أعظمهم هلاكاً.
ولذلك، فقد كان من مظاهر الذهنية أنها تصور الإسلام بصورة مفزعة مخيفة، صورة الإسلام المقطب الوجه، العبوس القمطرير، الذي لا يعرف غير العنف في الدعوة، والخشونة في المجادلة، والغلظة في التعامل، والفظاظة في الأسلوب، والتعصب في الرأي، وسوء الظن والفهم والخلق، صورة الإسلام الذي لا يعرف الحوار ولا يقبل الخلاف، الإسلام السلبي السطحي الجامد، الذي لا ينشد التجديد، ولا يقدم الحلول الشرعية والواقعية لكل تحديات العصر.
إنها صورة الإسلام الذي طغى على خطابه الترهيب، وعلى مواقفه التشديد، وعلى أحكامه التحريم.
فإذا كان في المسألة قولان، تبادر إلى الذهن ومال القلب إلى الحكم بمقتضى التحريم، واتباع ما فيه الحرج والعنت والمشقة والتعسير، وكان ذلك هو الأصل الأصيل الذي لا يجوز العدول عنه إلا بدليل، ثم قالوا: ولا دليل!.
وكم أتمنى من القارئ الكريم ألا يتعامل مع هذا المقال وفقاً لهذه الذهنية، فيتبادر إلى ذهنه أن الإنكار على ذهنية التحريم يستلزم الإقرار بذهنية التحليل، وإضفاء الشرعية، أو فتح الباب لانتشار المعاصي والبدع، لا، لأنا نقول: إن كلاً من الإفراط والتفريط من أسباب ضياع الدين وضعف المسلمين، كما هو خروج عن منهج الشرع الحنيف القويم، وسبيل أهل الصراط المستقيم في الوسطية والاعتدال، والتوازن والشمول، وصد الشاعر:
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
بل صدق الله تعالى: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير".
ولطالما أيضاً جر الإفراط والغلو إلى التفريط والتساهل، بل وإلى الضلال والانحراف والارتداد أحياناً، وفي الحديث: "إن هذا الدين يسر، ولا يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا..".
وهذا أمر مشاهد معلوم، وذلك لأن النفس البشرية طبعت على السامة والملل، وجهدها البدني والنفسي محدود، "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً".. وروى البزار وصححه الألباني مرفوعاً: "إن لكل عامل شرة "نشاطاً" ولكل شرة فترة "فتوراً"، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقط ضل، أو قال فقد هلك".
ثم إن الإنكار على ظاهر الغلو والتشديد وذهنية التحريم، لا يمنع الإنكار على ظاهرة التساهل والتحذير من المعاصي والبدع، وإن كان أمرها أظهر لخفاء مسالك وشبهات الغلو وخطورة آثاره على الدعوة والواقع، وقد يدل عليه ما يعرف من خلال المقارنة بين اليهود والخوارج الغلاة، وبين النصارى والمرجئة الجفاة.
ثانياً: قواعد في التحليل والتحريم:
ومعلوم أن التحليل والتحريم حق لله وحده، ومنازعة الله في التشريع قرين الشرك "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله".. وإنه لا يجوز الحكم بحل شيء أو بحرمته إلا بدليل صحيح الثبوت صريح الدلالة، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، بل تحريم الحلال أعظم لمخالفته الأصل، إذ الأصل في الأشياء كلها الإباحة والحل، إلا لصارف من دليل يقتضي التحريم، كما لو تمحض ضرره، أو زاد ضرره ومفسدته على منفعته ومصلحته، أو دل عليه دليل صريح، وذلك لعموم آيات حل الطيبات وآيات التسخير: "... كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله".. "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه".
ولذلك، فإن الأمر المسكوت عنه حكمه الحل، وهو داخل في دائرة المعفو عنه، فقد ثبت من حديثي سلمان وأبي الدرداء مرفوعاً: "الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله -وما سكت عنه فهو عفو- فاقبلوا من الله عفوه، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً" "وما كان ربك نسياً".. وفي حديث آخر: "... وسكت عن أشياء رحمه بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها".
وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس عند الله إثماً رجل سأل عن مسألة لم تحرم فحرمت من أجل مسألته"، وهو في معنى قوله تعالى: ".. لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين".
وكل ذلك يبين خطوة المتكلف، ",ما أنا من المتكلفين"، والتنطع في الدين "هلك المتنطعون الثرثارون المتفيهقون المتشدقون".. وفي قوله تعالى في الآية السابقة: "ثم أصبحوا بها كافرين" دليل على ما قد يجر إليه الغلو والتنطع إلى شدهما، وقد سبق.
لقد قرر العلماء أن باب الحلال أوسع من باب الحرام، ولذلك فإن الحلال غالباً ما يذكر بطريق الإجمال، لتعذر حصر أفراده، ولا يذكر بطريق التفصيل -بذكر بعض أمثلته- إلا على سبيل إظهار منته تعالى على عباده لا لقصد الحصر. وأما الحرام، فإن الله يبينه على وجه التفصيل، حتى لا يدع لأحد شبهة في حكم شيء من أفراده، كما قال تعالى: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه".
ولذلك، فكثير ما يورد الله المحرمات بأسلوب الحصر "إلا، إنما" أن ما سوى المذكورات حلال، إلا ما دل عليه دليل كقوله تعالى: "قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس، أو فسقاً أهل لغير الله به".. ومع ذلك، فقد قال تعالى بعدها: "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه.." وكقوله سبحانه: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون، قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الآية رتبت الذنوب ترتيباً تصاعدياً، فذكرت الأعظم فالأعظم، وذكرت أعظمها: القول على الله بغير علم، وعدته أعظم من الشرك، لأنه أصل الشرك وأصل الذنوب كلها وكلها فروع له، ولعل في الآيتين إشارة إلى أن تحريم زينة الله والطيبات، إنما هو من آثار القول بغير علم أيضاً، ومن هنا ندرك خطر منصب الإفتاء، لأن العلماء موقعون عن رب العالمين، وهم ورثة الأنبياء.
وقد قال تعالى: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون".
ولذلك، فقد كان غير واحد من السلف يقول: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرم كذا، فيقول الله له: لم أحل كذا ولم أحرم كذا، وقال الإمام مالك: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم، ويعول الإسلام عليهم، أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا وأحب كذا، أما حلال وحرام، فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون"؟!، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب، قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت حصناً، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
ثالثاً: مخالفة هذه الذهنية للشريعة الإسلامية:
تغلب روح التخفيف والتيسير، في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، على التشديد والتعسير، وذلك في سائر مناحي التشريع والأحكام والتكاليف، وفي أبواب الإيمان والعقيدة والتوحيد، وفي باب الأخلاق والمعاملات والسلوك، وذلك دليل سعة رحمة الله وعدله وحكمته وكمال شريعته، فقد انبنت العقيدة الإسلامية على الوضوح والحجة والإقناع، والموافقة للشرع والعقل والفطرة، ونبذ ما طفحت به كتب المتكلمين والفلاسفة وعلماء الجدل، من غموض وخرافة، وشرك وبدع وأوهان، وأما الأحكام الشرعية، فكثيراً ما يعقب الله تعالى على العلة والحكمة والتشريع، بإرادة اليسر وارفع الحرج عن عباده، ففي ختام آية الطهارة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون".
وفي ختام آيات الصيام، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".. وفي ختام آيات المحرمات في الزواج، وما رخص فيه من نكاح الإماء المؤمنات لمن عجز عن زواج الحرائر، يقول جل شأنه: "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً".. وفي ختام سورة الحج، وما ذكر فيها من أحكام وأوامر، يقول عز وجل: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج"..
هذا ما دلت عليه الآيات الأخرى التي حرمت الغلو في الدين، وأنكرت على من حرموا الطيبات.
كما أنكر صلى الله عليه وسلم، على من حرموا الطيبات على أنفسهم وغالوا في العبادة، وأعلن البراءة منهم، فقال: "ومن رغب عن سنتي فليس مني"، وكان يوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والتوازن والاعتدال والشمول، حتى لا يطغى حق على حق، فقال لابن عمر حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه: "إن لجسدك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك -زوارك- عليك حقاً". وفي مناسبة مشابهة، قال سلمان لأبي الدرداء: "إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه".
وكذلك كانت السمة العامة والمنهجية المطردة لمواقفه وأحكامه عليه الصلاة والسلام، ولا عجب، فهو الذي قال عنه ربه يمتدحه، ويرشد عباده إلى الاقتداء به: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".، "فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك..."، وهو المأمور وأمته بقوله: "إدفع بالتي هي أحسن". "وجادلهم بالتي هي أحسن"، "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن".
ولما سبت عائشة قوماً من اليهود سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: "مهلاً يا عائشة، ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"، "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما يعطي على الشدة، وما لا يعطي على ما سواه".
ذلك، لأن التعامل بمقتضى الرفق واللين والسماحة والعفو والرحمة، من فروع منهجية التيسير، وهي خلاف ذهنية التحريم، ولعل من أبلغ وأصرح الأدلة في ذلك قول عائشة، وهي الخبيرة بدعوته صلى الله عليه وسلم وفتاواه وأخلاقه ومعاملاته ومنهجه: "ما خُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه".. هذا هو الأصل، وأما ما يرد أحياناً من انتهاجه صلى الله عليه وسلم الشدة، وما يظهر من التعسير، فذلك خلال الأصل العام، وهو يرد لمصلحة أو ضرورة، كالاحتساب باليد، أو قتال الكفار، أو لدفع الضرر والمفسدة عن الناس.
رابعاً: مخالفة ذهنية التحريم للقواعد والأصول:
وبناء على ما سبق بيانه من انبناء الشريعة الإسلامية على السماحة والرفق واليسر، وهو خلاف ذهنية التحريم المنبنية على روح التشديد والتعسير -فقد قرر العلماء أصولاً وقواعد فقهية إليها تتحاكم سائر فروع الفقه، بل وسائر مسائل الحياة عامة، فمن ذلك مثلاً قولهم:
1- المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع. والمعنى: حيث توجد المشقة والضيق -والمراد المشقة الزائدة وغير المحتملة- فإن حكم الشرع يقضي بالسعة والتيسير، وهي قاعدة "رفع الحرج".. "يريد الله بكم اليسر.."، "... وما جعل عليكم في الدين من حرج".
2- قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". وهو نص حديث ثابت، والمعنى: الضرر يزال، أو الضرر منتفٍ شرعاً، فكل ضرر في الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال في الحال أو في المال، فهو مرفوع شرعاً.
3- الضرورات تبيح المحظورات. وقاعدة: سقوط الواجبات عند العجز. وسقوط المحرمات عند الضرورات؛ لعموم الأدلة المشترطة لوجوب التكاليف بالقدرة والاستطاعة، نحو قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم". "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وعموم قوله في غير موضع: "إلا ما اضطررتم إليه".." فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه". مع تقييده بقاعدة "الضرورات تقدر بقدرها".
4- قاعدة "العذر باطل" و" موانع التكفير". ومن الموانع: الجهل، والخطأ، والنسيان، والتأويل، والإكراه. فمن قال أو فعل مكفراً -مع توفر واحدة من هذه الموانع- لم يأثم، ولم يكفر، لقوله تعالى حاكياً قول المؤمنين: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به".
وفي الأحاديث، وهي حسنة لغيرها بمجموع طرقها: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر -يحتلم-، وعن المجنون حتى يعقل، وعن النائم حتى يفيق"، "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه".
وشرط العذر بها، إلا يمكنه رفعها أو دفعها بأن ينشأ في بلاد لا تعرف الإسلام، ولا يجد من يرشده، وأما الإكراه، فهو كالضرورة عذر بإطلاق وعند توفر شروطه "من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان".
يتبع ....