لمياء
10-20-2013, 12:22 AM
خليل علي حيدر - الوطن الكويتية
2013/10/19
http://alwatan.kuwait.tt/resources/media/writer/36_w.png
اشتهرت «مكتبة المثنى» ببغداد في دنيا الثقافة العربية لسنوات طويلة كأبرز المكتبات التجارية الرصينة، والتي يجد فيها طلاب الكتب والباحثون عن نوادر المطبوعات بغيتهم.
وقد اصدر صاحبها ومؤسسها الراحل «قاسم محمد الرجب» - ت1974 - مذكراته الشيقة عن مكتبته والحياة الثقافية في العراق في اواسط القرن العشرين، ذلك ان مكتب المثنى، كما يقول المؤرخ الفكري الكبير كوركيس عواد، لم تكن مكتبة لبيع الكتب فقط، «بل هي ملقتى الطبقة المثقفة في البلد، يقصدها الاديب والشاعر والمؤرخ والصحافي والثقافي والطبيب والمعلم وسائر رجال العلم والبحث والتتبع». (مذكرات الرجب، ص7).
كان قاسم الرجب من انشط التجار في مجال بيع وشراء الكتب، ولاشك ان الكثير من الكويتيين والعرب قد زاروا مكتبته الشهيرة في شارع المثنى وقد مرت بالرجب ظروف ومشاكل لا مجال لعرضها هنا، ولكنه يروي ضمن طرائف تجاربه ما يأتي في زمن تولي د.محمد فاضل الجاملي مديرية التربية والتعليم العام، والذي اختير فيما بعد وزيرا للخارجية وتولى رئاسة الوزراء، وله عدد من الكتب والدراسات في التربية والتعليم والمذكرات يقول قاسم الرجب: «كنت قد استوردت كثيرا من الكتب النفيسة النادرة، ولكنني عجزت عن بيعها وتصريفها، فتكدست لدي وحرت ما افعل بها، واصابني ضيق مادي من جراء ما تجمع لدي منها.
فأخذت اسجل اسماءها، وعرضت مشكلتي على احد اصدقاء المكتبة من الذين لا ينقطعون يوما واحدا عن زيارتها، وقلت له: «ما رأيك لو كتبنا عن المكتبة العامة وانتقدناها لخلوها من هذه الكتب؟» فاستحسن الفكرة ورحب بها، وكانت له علاقة وثيقة باحدى الجرائد وهي «الرافدين»، وطلبت الى صديقنا ان يلوم وزارة المعارف على اهمالها المكتبة العامة وعدم تزويدها ببعض الكتب المهمة الصادرة حديثا، وذكرنا عناوين تلك الكتب.
فصدرت الجريدة ذات صباح واذا بمدير المكتبة العامة محمد جواد ابو التمن يأتي الى مكتبتي المتواضعة في سوق السراي، والتي لم يكن قد سمع حتى باسمها لصغرها وصغر عمر صاحبها. وكان محمد جواد ابو التمن من انشط الاداريين في هذه المكتبة، وكان د.محمد فاضل الجمالي مدير التربية لا يرد له طلبا مهما كلف من مال، فأخذ يشتري كل كتاب يسمح به وتفتقر المكتبة اليه، فيدفع ثمنه من جيبه، ثم يقدم بالكتب قائمة الى حسابات «وزارة المعارف» يصرف اليه ثمن ما اشتراه، وكثيرا ما تبرع بثمن بعض الكتب.
ولما جاء الى المكتبة وقع نظره على معظم الكتب التي نشرت الجريدة اسماءها حسبما ذكرت، فقال: انني اريد شراء هذه الكتب كلها، وفعلا اشتراها، فرزمتها له ودفع لي ثمنها كاملا، وقال لي: «ارجو اذا وصلت اليك كتب اخرى ان تعرفني بها، ولا تكتب بعد ذلك في الجريدة».
ويقول قاسم انه كان كثير التردد عادة على تلك المكتبة العامة في «باب المعظم»، للاطلاع على الغريب مما حوته من الكتب المطبوعة باعتناء المستشرقين ومطبوعات الهند وغيرها مما لم يكن يصل الى سوق الكتب في حينه، وقد خلت تلك المكتبة الآن من اكثر تلك
الكتب، فقد تبعثر بعضها وسرق البعض الآخر وتلف جانب آخر لعدم تجليده، وفي هذه المكتبة من النفائس ما لا يمكن الحصول عليه الآن، ففيها نسخة من تاريخ الطبري طبعة «ليدن» - هولندا، مهداة من الانجليزية الشهيرة في تاريخ العراق «مس جرترود بل» (1926-1868) الخبيرة بشؤون المنطقة حيث زارت الاناضول وايران وسورية، وزارت حائل عاصمة آل الرشيد في شمال الجزيرة العربية في اوائل عام 1914 كما لعبت دورا بارزا في اختيار فيصل الاول ملكا على العراق، وفي العراق انشأت متحف الآثار ببغداد وكانت اول مديرة له.
وكانت اهم المدن العراقية في شراء الكتب وتصريفها، يقول «الرجب»، هي بغداد والنجف الاشرف وكربلاء والموصل والبصرة والحلة وكركوك واقل المدن العراقية شراء للكتب، «بل يكاد ان يكون لا وجود للكتاب فيها ولا ذكر هي لواء الكوت والرمادي، واما الوية الديوانية والعمارة والناصرية فأحسن منها بقليل».
ويصف الرجب معالم «سوق السراي» آنذاك، ففي وسط السوق مقهى لابد من وقوع الشجار يوميا فيه، ويصل الى الضرب بالكراسي واشهار الخناجر والمسدسات، والسبب هو ان اكثر مرتادي القهوة خصوم كانوا قد خرجوا من المحكمة وكان امام المقهى مباشرة شخص نبيل يشبه شاهبندر التجار في العصور الاسلامية، لما يمتاز به من حسن المعاملة والاخلاق، فتراه يسأل دائما عن اهل السوق ويتفقدهم واحدا واحدا، فإذا رأى واحدا قد غلق دكانه ذهب يستفسر عن سبب ذلك، وان كان لأحد امانة وضعها لديه ،ومن طلب الزواج واراد ان يخطب ذهب معه، وان احتجت الى شيء هيأه لك او اقرضك ما
يكفيك، وان توفي احدهم ذهب توا الى المأتم ليكمل جهاز المتوفي، واذا نشب خلاف فهو الحكم بين الطرفين. وكان بجانب محله شخص آخر لا يقل عنه طيبة واهمية معروف بجميل الفعال، فاذا تشاجر اثنان في السوق سارع ليفض النزاع بينهما.. حتى ولو كان ذلك يكلفه نفسه.
خليل علي حيدر
2013/10/19
http://alwatan.kuwait.tt/resources/media/writer/36_w.png
اشتهرت «مكتبة المثنى» ببغداد في دنيا الثقافة العربية لسنوات طويلة كأبرز المكتبات التجارية الرصينة، والتي يجد فيها طلاب الكتب والباحثون عن نوادر المطبوعات بغيتهم.
وقد اصدر صاحبها ومؤسسها الراحل «قاسم محمد الرجب» - ت1974 - مذكراته الشيقة عن مكتبته والحياة الثقافية في العراق في اواسط القرن العشرين، ذلك ان مكتب المثنى، كما يقول المؤرخ الفكري الكبير كوركيس عواد، لم تكن مكتبة لبيع الكتب فقط، «بل هي ملقتى الطبقة المثقفة في البلد، يقصدها الاديب والشاعر والمؤرخ والصحافي والثقافي والطبيب والمعلم وسائر رجال العلم والبحث والتتبع». (مذكرات الرجب، ص7).
كان قاسم الرجب من انشط التجار في مجال بيع وشراء الكتب، ولاشك ان الكثير من الكويتيين والعرب قد زاروا مكتبته الشهيرة في شارع المثنى وقد مرت بالرجب ظروف ومشاكل لا مجال لعرضها هنا، ولكنه يروي ضمن طرائف تجاربه ما يأتي في زمن تولي د.محمد فاضل الجاملي مديرية التربية والتعليم العام، والذي اختير فيما بعد وزيرا للخارجية وتولى رئاسة الوزراء، وله عدد من الكتب والدراسات في التربية والتعليم والمذكرات يقول قاسم الرجب: «كنت قد استوردت كثيرا من الكتب النفيسة النادرة، ولكنني عجزت عن بيعها وتصريفها، فتكدست لدي وحرت ما افعل بها، واصابني ضيق مادي من جراء ما تجمع لدي منها.
فأخذت اسجل اسماءها، وعرضت مشكلتي على احد اصدقاء المكتبة من الذين لا ينقطعون يوما واحدا عن زيارتها، وقلت له: «ما رأيك لو كتبنا عن المكتبة العامة وانتقدناها لخلوها من هذه الكتب؟» فاستحسن الفكرة ورحب بها، وكانت له علاقة وثيقة باحدى الجرائد وهي «الرافدين»، وطلبت الى صديقنا ان يلوم وزارة المعارف على اهمالها المكتبة العامة وعدم تزويدها ببعض الكتب المهمة الصادرة حديثا، وذكرنا عناوين تلك الكتب.
فصدرت الجريدة ذات صباح واذا بمدير المكتبة العامة محمد جواد ابو التمن يأتي الى مكتبتي المتواضعة في سوق السراي، والتي لم يكن قد سمع حتى باسمها لصغرها وصغر عمر صاحبها. وكان محمد جواد ابو التمن من انشط الاداريين في هذه المكتبة، وكان د.محمد فاضل الجمالي مدير التربية لا يرد له طلبا مهما كلف من مال، فأخذ يشتري كل كتاب يسمح به وتفتقر المكتبة اليه، فيدفع ثمنه من جيبه، ثم يقدم بالكتب قائمة الى حسابات «وزارة المعارف» يصرف اليه ثمن ما اشتراه، وكثيرا ما تبرع بثمن بعض الكتب.
ولما جاء الى المكتبة وقع نظره على معظم الكتب التي نشرت الجريدة اسماءها حسبما ذكرت، فقال: انني اريد شراء هذه الكتب كلها، وفعلا اشتراها، فرزمتها له ودفع لي ثمنها كاملا، وقال لي: «ارجو اذا وصلت اليك كتب اخرى ان تعرفني بها، ولا تكتب بعد ذلك في الجريدة».
ويقول قاسم انه كان كثير التردد عادة على تلك المكتبة العامة في «باب المعظم»، للاطلاع على الغريب مما حوته من الكتب المطبوعة باعتناء المستشرقين ومطبوعات الهند وغيرها مما لم يكن يصل الى سوق الكتب في حينه، وقد خلت تلك المكتبة الآن من اكثر تلك
الكتب، فقد تبعثر بعضها وسرق البعض الآخر وتلف جانب آخر لعدم تجليده، وفي هذه المكتبة من النفائس ما لا يمكن الحصول عليه الآن، ففيها نسخة من تاريخ الطبري طبعة «ليدن» - هولندا، مهداة من الانجليزية الشهيرة في تاريخ العراق «مس جرترود بل» (1926-1868) الخبيرة بشؤون المنطقة حيث زارت الاناضول وايران وسورية، وزارت حائل عاصمة آل الرشيد في شمال الجزيرة العربية في اوائل عام 1914 كما لعبت دورا بارزا في اختيار فيصل الاول ملكا على العراق، وفي العراق انشأت متحف الآثار ببغداد وكانت اول مديرة له.
وكانت اهم المدن العراقية في شراء الكتب وتصريفها، يقول «الرجب»، هي بغداد والنجف الاشرف وكربلاء والموصل والبصرة والحلة وكركوك واقل المدن العراقية شراء للكتب، «بل يكاد ان يكون لا وجود للكتاب فيها ولا ذكر هي لواء الكوت والرمادي، واما الوية الديوانية والعمارة والناصرية فأحسن منها بقليل».
ويصف الرجب معالم «سوق السراي» آنذاك، ففي وسط السوق مقهى لابد من وقوع الشجار يوميا فيه، ويصل الى الضرب بالكراسي واشهار الخناجر والمسدسات، والسبب هو ان اكثر مرتادي القهوة خصوم كانوا قد خرجوا من المحكمة وكان امام المقهى مباشرة شخص نبيل يشبه شاهبندر التجار في العصور الاسلامية، لما يمتاز به من حسن المعاملة والاخلاق، فتراه يسأل دائما عن اهل السوق ويتفقدهم واحدا واحدا، فإذا رأى واحدا قد غلق دكانه ذهب يستفسر عن سبب ذلك، وان كان لأحد امانة وضعها لديه ،ومن طلب الزواج واراد ان يخطب ذهب معه، وان احتجت الى شيء هيأه لك او اقرضك ما
يكفيك، وان توفي احدهم ذهب توا الى المأتم ليكمل جهاز المتوفي، واذا نشب خلاف فهو الحكم بين الطرفين. وكان بجانب محله شخص آخر لا يقل عنه طيبة واهمية معروف بجميل الفعال، فاذا تشاجر اثنان في السوق سارع ليفض النزاع بينهما.. حتى ولو كان ذلك يكلفه نفسه.
خليل علي حيدر