مقاوم
02-24-2005, 03:10 PM
نصب تذكاري في جامعة بوسطن لأديب الإنسانية الذي قال كلمته ومشى
احتفت الولايات المتحدة بأمين الريحاني رائداً في الفكر الأدبي التنويري ومفكراً أديباً إنسانياً, فأقامت له نصباً في حديقة جامعة بوسطن الشهيرة وهذا الاحتفال مر مرور الكرام في الوسط الثقافي والسياسي اللبناني لأن الجميع يهتم بالأوضاع السياسية والإجتماعية ما خلا بعض المنابر التي نوهت بالحدث ولفتت إلى دور أمين الريحاني في المشهد الأدبي اللبناني منذ القرنين التاسع عشر والعشرين.
أمين الريحاني (1876-1940), الذي اتخذ لنفسه في كل ما كتب شعار "قل كلمتك وامشِ" كانت "الريحانيات" هي أول ما كتب وحملت اسمه الخاص وظهرت في العام 1910 في أربعة أجزاء ضمنها الريحاني في حينه مقالاته الأدبية والفلسفية والاجتماعية والوطنية وبعض شعره المنثور وأقوال له تحت عنوان "بذور للزارعين", على أن الريحاني ترك, عشرات المقالات غيرها, لم يكن قد ضمها في كتاب »أعمال كاملة« إعداد ألبرت الريحاني.
"الريحانيات" وبقية الكتب التي كتبها تكشف أكثر ما تكشف عن أن الريحاني الكاتب الأديب صاحب النظريات الفلسفية والآراء الإجتماعية الإصلاحية ذات الطابع الإنساني الصرف. عايش أدبه بأمانة ما بعدها أمانة. فما صاح صيحة في سبيل الإصلاح إلا طبق ما يريد إصلاحه أولاً على نفسه وبعده على علاقاته بأفراد أسرته وجيرانه وحاول, من ثم حمله إلى المجتمع.
شهادة
يقول المستشرق الروسي "أغناطيوس كراتشكوفسكي" في "الأعمال الكاملة" -المجلد السابع- الريحانيات. رحل أمين الريحاني من جبال لبنان في صباه فهاجر إلى أميركا الشمالية التي أضحت وطناً ثانياً له, ولم يمارس التجارة هناك. كما يفعل أكثر المهاجرين اللبنانيين بل انصرف إلى الآداب والكتابة والخطابة في اللغة الإنكليزية, فمكنه ذلك من درس الحياة الأميركية عن كتب درساً دقيقاً...
وإن إمعانه في درس الحياة كشف له الستار عما في التمدن الأوروبي من الفساد, وقد بدت جلياً سيئاته في ما كان يشاهده من الكبرياء والإثرة في أبناء ذاك التمدن ومن معاملتهم المنكرة للأجانب على أن روحه نفرت مما لا مست وما أسعفته أعصابه على الاستمرار في تلك الغمرات, فأسرع "هارباً" إلى الطبيعة العزيزة لديه. فأقام في جوارها سنين متنسكاً كل التنسك, ومنذ ذاك الحين, أخذ المسلك الجديد أي العودة إلى الطبيعة كما يبدو في مؤلفاته. وقد كتب في هذه المدة أجمل وأبدع مقالاته ومنها: في العزلة, وادي الفريكة, وبعض الأشعار النثرية...
وقد كان في إمكان الريحاني, وهو رجل الفكر أكثر مما هو رجل العمل أن يعيش مدة طويلة تلك العيشة النسكية لو لم تدفعه الحقيقة الاجتماعية مرة ثانية إلى مضمار الحياة. حوادث 1908 حملته على العمل, فظهر أمام الجمهور خطيباً في الاجتماعات العمومية في بيروت والمدن, ويكتب المقالات في الجرائد العربية المختلفة, على أن هذا الجهاد كان في نتيجته مثل جهاده في أميركا, ذلك لأن السياسة كانت غريبة لديه وما استطاع أن يتعرف إليها ليكون من رجالها, وهو القائل بالعودة إلى الطبيعة والسالك المسلك الذي يدعو الناس إليه, بل كان مبدأه في الحياة الإجتماعية ينحصر في كلمة من كلماته وهي: "في إصلاح الفرد إصلاح الأمة, وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام".
لم يقف الريحاني في عمله بعد سنة 1910 بل استمر يكتب المقالات وأكثرها قصيرة في مواضيع شتى, ثم عاد في سنة 1912 إلى اللغة الإنكليزية فألف "كتاب خالد" المطبوع في نيويورك وهذا الكتاب نصفه قصة ونصفه قصيدة. أما الموضوع فهو هو الذي طالما أزعجه, ومحوره الثورة الروحية والمثل الأعلى في الحياة الشخصية الشرقية والغربية. وفي أيام الحرب العظمى كان الريحاني في أميركا وقد سعى سعياً مبرراً قولاً وعملاً في سبيل المنكوبين من أبناء وطنه الذين كانوا يموتون جوعاً في لبنان من جراء الأحوال التي أوجدتها الحكومة التركية.
اسلوب خاص
وليس لكاتب كالريحاني في آداب الشعوب الأوروبية شهرة تتجاوز الحدود العادية وأما في الآداب العربية العصرية, التي يرجع عهدها إلى نحو مئة سنة مضت, فإن له الشخصية البارزة وإن اسمه ليقرن في التاريخ بابتكاره أسلوباً معلوماً خاصاً به. ومن مزاياه أنه متوسع في أدبه توسعاً يخرج به إلى حدود المسائل العالمية وبعبارة أخرى أنه حاول أن يربط المتناقضين المتضادين الشرق والغرب.
وللريحاني, فضل لا ينكر في أنه أبطل عادة الاقتداء بالغرب, ذلك الاقتداء المطلق الظاهر في كل دور من أدوار الأدب العربي الجديد أبطله الريحاني في انتقاده الغرب انتقاداً صحيحاً عادلاً. وهذه المزية في أدبه هي بنت المهاجرة والمهاجرة هي من العوامل القوية في ازدهار الآداب العربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
إلى لبنان اتجهت أفكاره وأحلامه, حيثما كان, وهو القائل: أن في لبنان قلبي, فلا عجب إذا كان يستطيع أن يصور بيئة لبنان القريب إلى قلبه بتلك السهولة العجيبة. وفي بعض الأحيان بجرة قلم واحدة.
مؤلفاته الكثيرة طبعت في معظمها بالإنكليزية, وما نصيب العربية غير المقالات والخطب, في الشعر المنثور أوجد الريحاني مورداً جديداً للأدب العربي لم يكن معروفاً من قبل. والعجيب أنه لم يكن معروفاً يقول المستشرق كراتشكوفسكي" أخذ الريحاني الشكل المنثور في الشعر عن الشاعر الأميركي "والت ويتمان" الذي يصفه بأستاذ هذه الطريفة وإمامها...
أما لغة الريحاني فليست مما يستحسنه النقاد العرب والكثير منهم يشجب شذوذه الظاهر بالإجمال وخضوعه للتعابير الأوروبية بوجه خاص, ولا ريب أن إنشاءه يبدو أحياناً كأنه ترجمة حرفية عن لغة أجنبية وهذا ما يحمل البعض على الظن أنه يفكر في بعض الأحايين بلغة غير لغته الوطنية الأمر الذي لا يستغرب في كاتب ألف مؤلفاته الأولى باللغة الإنكليزية. على أننا نرى في مقالاته الأخيرة تقدماً في اللغة وتحسيناً في الإنشاء إذا ما قابلناه بمقالاته الأولى مما يدل على أنه كان يسعى في تحسين لغته والتوصل فيها إلى درجة الكمال. وخلاصة القول أن للغة الريحاني ما لا يجوز نكرانه من محاسن الإنشاء, إن لها منزلة سامية, ومن مزاياها الخصوصية الجمة أنها لغة بسيطة مرنة شفافة تتابع جملها بخفة ورشاقة ولا تتراكم بعضها فوق بعض. كما هو الحال غالباً عند غيره من الكتاب, فهي خالية من السجع الثقيل ومن الألفاظ والتعابير اللغوية القديمة التي يصعب فهمها بدون معجم, والتي يفاخر بها المفاخرون من بعض أدباء العرب حتى في هذه الأيام.
خصائص مميزة
ويرى الكاتب والأديب "أنطوان قازان" أن الريحاني سيد أدب الرحلات وقد استعرض أهم الخصائص التي تلفت النظر فيه وهي: الجرأة, نزعته الصارخة للتجدد, أديب المجتمع, فضله في نشر أعلام الشعر العربي ففي الجرأة يرى أن "قليلون هم الأدباء الذين ينطوون على الجرأة التي كان ينطوي عليها وإن وقفاته في وجه الأجنبي وصرخاته ضد الظالمين لا تزال أصداؤها مدوية في كل أذن وعلى كل سطر من كتاباته". أما نزعته للتجدد, فقلما وقف أمين الريحاني على منبر ولم يكن لصرخاته الوطنية أكثر من نصف خطابه, ويمتاز بنزعته الصارخة للتجدد فهو المجدد في المضمون وفي القالب. أما من حيث المضمون فإنه في طليعة الأدباء الذين مالوا بالأدب نحو البناء والفرح, أما من حيث التجدد في المضمون فيظهر تماماً بنزعته التحررية, ومن حيث الأسلوب فلا جدال أنه أدخل على الأسلوب العربي نفحاً معطراً يمتاز به على سواه. على أن ما يرسم عبقرية أمين الريحاني بصورة طافرة نافرة ويجعلها بمكانتها السامية بين أدباء عصره هو بلا ريب أدب الرحلات الذي تفوق فيه الأمين أيما تفوق.
فالذي يقرأ "ملوك العرب" يحس حقاً أنه أمام عبقرية فذة تمكنت أن تجمع بين التاريخ وبين الطرافة في السرد على دقة الملاحظة وشمول الوصف, كل ذلك بأسلوب عربي صحيح وممتع, لقد خلع الريحاني على جفاف التاريخ نداوة لا تقطر إلا على يد الأدباء الأصليين. والريحاني لم يكن فقط أديب رحلة, فهو أيضاً أديب مجتمع تناول في أدبه قضايا إنسانية هي في أساس المجتمعات الإنسانية والمجتمع الشرقي بشكل خاص, فانتصاراته للمرأة ومقالاته الطويلة في "الريحانيات" وغيرها عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تكتنف الشرق ومحاولاته في سبيل النهوض بتلك الأوضاع إلى ما هو أسلم وأرقى كان لها أثرها الكبير في محيطه. ولم ينحصر أدب الريحاني في أرض الشرق حسب, بل أطل أدبه على الغرب أيضاً, فكان له فضل نشر أعلام الشعر العربي في المهاجر الأميركية. إن ترجماته لأبي العلاء المعري لها قيمتها في إنتشار فلسفة حكيم المعرة بين أهل المغرب ولا شك أن هذه الترجمات وسعت شهرة الرحياني بحيث امتدت بها إلى أبعد آفاق الشرق ولبنان.
ومن أقاويل أمين الريحاني وعظاته وتوجهاته إلى قارئه ما يلي:
أسألك باسم الحب وباسم الحقيقة.. بل بحق الله. الذي هو الحب والحقيقة. ألا تخطو خطوة واحدة معي إن كنت لا تتجرد عما أورثك إياه الأجداد مما يحجب عنا في السير نور الشمس ونور الكواكب في السرى, جرد نفسك ولو بضع ساعات من أطمار الأجيال وتعال ننجح معاً, ومتى وصلت إلى كعبه الحقيقة وأنت في مئزز الحج تجد هناك أثوابك الموروثة وأثواباً أخرى جديدة إلى جانبها, فإما أنك تعود إلى ما كنت عليه فتلبس ما ألفته وتسير في سبيلك, وأما أنك تعتاض عنه بثوب ليس بفخيم ولكنه من الرقع والفتوق سليم. وفي كل حال, لا أنسى أنك أكلت من جفنتي وشربت من إبريقي. ونمت في خيمتي, فأنت أخي, فإن إفترقنا فكما ترافقنا متآخين متحابين.
احتفت الولايات المتحدة بأمين الريحاني رائداً في الفكر الأدبي التنويري ومفكراً أديباً إنسانياً, فأقامت له نصباً في حديقة جامعة بوسطن الشهيرة وهذا الاحتفال مر مرور الكرام في الوسط الثقافي والسياسي اللبناني لأن الجميع يهتم بالأوضاع السياسية والإجتماعية ما خلا بعض المنابر التي نوهت بالحدث ولفتت إلى دور أمين الريحاني في المشهد الأدبي اللبناني منذ القرنين التاسع عشر والعشرين.
أمين الريحاني (1876-1940), الذي اتخذ لنفسه في كل ما كتب شعار "قل كلمتك وامشِ" كانت "الريحانيات" هي أول ما كتب وحملت اسمه الخاص وظهرت في العام 1910 في أربعة أجزاء ضمنها الريحاني في حينه مقالاته الأدبية والفلسفية والاجتماعية والوطنية وبعض شعره المنثور وأقوال له تحت عنوان "بذور للزارعين", على أن الريحاني ترك, عشرات المقالات غيرها, لم يكن قد ضمها في كتاب »أعمال كاملة« إعداد ألبرت الريحاني.
"الريحانيات" وبقية الكتب التي كتبها تكشف أكثر ما تكشف عن أن الريحاني الكاتب الأديب صاحب النظريات الفلسفية والآراء الإجتماعية الإصلاحية ذات الطابع الإنساني الصرف. عايش أدبه بأمانة ما بعدها أمانة. فما صاح صيحة في سبيل الإصلاح إلا طبق ما يريد إصلاحه أولاً على نفسه وبعده على علاقاته بأفراد أسرته وجيرانه وحاول, من ثم حمله إلى المجتمع.
شهادة
يقول المستشرق الروسي "أغناطيوس كراتشكوفسكي" في "الأعمال الكاملة" -المجلد السابع- الريحانيات. رحل أمين الريحاني من جبال لبنان في صباه فهاجر إلى أميركا الشمالية التي أضحت وطناً ثانياً له, ولم يمارس التجارة هناك. كما يفعل أكثر المهاجرين اللبنانيين بل انصرف إلى الآداب والكتابة والخطابة في اللغة الإنكليزية, فمكنه ذلك من درس الحياة الأميركية عن كتب درساً دقيقاً...
وإن إمعانه في درس الحياة كشف له الستار عما في التمدن الأوروبي من الفساد, وقد بدت جلياً سيئاته في ما كان يشاهده من الكبرياء والإثرة في أبناء ذاك التمدن ومن معاملتهم المنكرة للأجانب على أن روحه نفرت مما لا مست وما أسعفته أعصابه على الاستمرار في تلك الغمرات, فأسرع "هارباً" إلى الطبيعة العزيزة لديه. فأقام في جوارها سنين متنسكاً كل التنسك, ومنذ ذاك الحين, أخذ المسلك الجديد أي العودة إلى الطبيعة كما يبدو في مؤلفاته. وقد كتب في هذه المدة أجمل وأبدع مقالاته ومنها: في العزلة, وادي الفريكة, وبعض الأشعار النثرية...
وقد كان في إمكان الريحاني, وهو رجل الفكر أكثر مما هو رجل العمل أن يعيش مدة طويلة تلك العيشة النسكية لو لم تدفعه الحقيقة الاجتماعية مرة ثانية إلى مضمار الحياة. حوادث 1908 حملته على العمل, فظهر أمام الجمهور خطيباً في الاجتماعات العمومية في بيروت والمدن, ويكتب المقالات في الجرائد العربية المختلفة, على أن هذا الجهاد كان في نتيجته مثل جهاده في أميركا, ذلك لأن السياسة كانت غريبة لديه وما استطاع أن يتعرف إليها ليكون من رجالها, وهو القائل بالعودة إلى الطبيعة والسالك المسلك الذي يدعو الناس إليه, بل كان مبدأه في الحياة الإجتماعية ينحصر في كلمة من كلماته وهي: "في إصلاح الفرد إصلاح الأمة, وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام".
لم يقف الريحاني في عمله بعد سنة 1910 بل استمر يكتب المقالات وأكثرها قصيرة في مواضيع شتى, ثم عاد في سنة 1912 إلى اللغة الإنكليزية فألف "كتاب خالد" المطبوع في نيويورك وهذا الكتاب نصفه قصة ونصفه قصيدة. أما الموضوع فهو هو الذي طالما أزعجه, ومحوره الثورة الروحية والمثل الأعلى في الحياة الشخصية الشرقية والغربية. وفي أيام الحرب العظمى كان الريحاني في أميركا وقد سعى سعياً مبرراً قولاً وعملاً في سبيل المنكوبين من أبناء وطنه الذين كانوا يموتون جوعاً في لبنان من جراء الأحوال التي أوجدتها الحكومة التركية.
اسلوب خاص
وليس لكاتب كالريحاني في آداب الشعوب الأوروبية شهرة تتجاوز الحدود العادية وأما في الآداب العربية العصرية, التي يرجع عهدها إلى نحو مئة سنة مضت, فإن له الشخصية البارزة وإن اسمه ليقرن في التاريخ بابتكاره أسلوباً معلوماً خاصاً به. ومن مزاياه أنه متوسع في أدبه توسعاً يخرج به إلى حدود المسائل العالمية وبعبارة أخرى أنه حاول أن يربط المتناقضين المتضادين الشرق والغرب.
وللريحاني, فضل لا ينكر في أنه أبطل عادة الاقتداء بالغرب, ذلك الاقتداء المطلق الظاهر في كل دور من أدوار الأدب العربي الجديد أبطله الريحاني في انتقاده الغرب انتقاداً صحيحاً عادلاً. وهذه المزية في أدبه هي بنت المهاجرة والمهاجرة هي من العوامل القوية في ازدهار الآداب العربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
إلى لبنان اتجهت أفكاره وأحلامه, حيثما كان, وهو القائل: أن في لبنان قلبي, فلا عجب إذا كان يستطيع أن يصور بيئة لبنان القريب إلى قلبه بتلك السهولة العجيبة. وفي بعض الأحيان بجرة قلم واحدة.
مؤلفاته الكثيرة طبعت في معظمها بالإنكليزية, وما نصيب العربية غير المقالات والخطب, في الشعر المنثور أوجد الريحاني مورداً جديداً للأدب العربي لم يكن معروفاً من قبل. والعجيب أنه لم يكن معروفاً يقول المستشرق كراتشكوفسكي" أخذ الريحاني الشكل المنثور في الشعر عن الشاعر الأميركي "والت ويتمان" الذي يصفه بأستاذ هذه الطريفة وإمامها...
أما لغة الريحاني فليست مما يستحسنه النقاد العرب والكثير منهم يشجب شذوذه الظاهر بالإجمال وخضوعه للتعابير الأوروبية بوجه خاص, ولا ريب أن إنشاءه يبدو أحياناً كأنه ترجمة حرفية عن لغة أجنبية وهذا ما يحمل البعض على الظن أنه يفكر في بعض الأحايين بلغة غير لغته الوطنية الأمر الذي لا يستغرب في كاتب ألف مؤلفاته الأولى باللغة الإنكليزية. على أننا نرى في مقالاته الأخيرة تقدماً في اللغة وتحسيناً في الإنشاء إذا ما قابلناه بمقالاته الأولى مما يدل على أنه كان يسعى في تحسين لغته والتوصل فيها إلى درجة الكمال. وخلاصة القول أن للغة الريحاني ما لا يجوز نكرانه من محاسن الإنشاء, إن لها منزلة سامية, ومن مزاياها الخصوصية الجمة أنها لغة بسيطة مرنة شفافة تتابع جملها بخفة ورشاقة ولا تتراكم بعضها فوق بعض. كما هو الحال غالباً عند غيره من الكتاب, فهي خالية من السجع الثقيل ومن الألفاظ والتعابير اللغوية القديمة التي يصعب فهمها بدون معجم, والتي يفاخر بها المفاخرون من بعض أدباء العرب حتى في هذه الأيام.
خصائص مميزة
ويرى الكاتب والأديب "أنطوان قازان" أن الريحاني سيد أدب الرحلات وقد استعرض أهم الخصائص التي تلفت النظر فيه وهي: الجرأة, نزعته الصارخة للتجدد, أديب المجتمع, فضله في نشر أعلام الشعر العربي ففي الجرأة يرى أن "قليلون هم الأدباء الذين ينطوون على الجرأة التي كان ينطوي عليها وإن وقفاته في وجه الأجنبي وصرخاته ضد الظالمين لا تزال أصداؤها مدوية في كل أذن وعلى كل سطر من كتاباته". أما نزعته للتجدد, فقلما وقف أمين الريحاني على منبر ولم يكن لصرخاته الوطنية أكثر من نصف خطابه, ويمتاز بنزعته الصارخة للتجدد فهو المجدد في المضمون وفي القالب. أما من حيث المضمون فإنه في طليعة الأدباء الذين مالوا بالأدب نحو البناء والفرح, أما من حيث التجدد في المضمون فيظهر تماماً بنزعته التحررية, ومن حيث الأسلوب فلا جدال أنه أدخل على الأسلوب العربي نفحاً معطراً يمتاز به على سواه. على أن ما يرسم عبقرية أمين الريحاني بصورة طافرة نافرة ويجعلها بمكانتها السامية بين أدباء عصره هو بلا ريب أدب الرحلات الذي تفوق فيه الأمين أيما تفوق.
فالذي يقرأ "ملوك العرب" يحس حقاً أنه أمام عبقرية فذة تمكنت أن تجمع بين التاريخ وبين الطرافة في السرد على دقة الملاحظة وشمول الوصف, كل ذلك بأسلوب عربي صحيح وممتع, لقد خلع الريحاني على جفاف التاريخ نداوة لا تقطر إلا على يد الأدباء الأصليين. والريحاني لم يكن فقط أديب رحلة, فهو أيضاً أديب مجتمع تناول في أدبه قضايا إنسانية هي في أساس المجتمعات الإنسانية والمجتمع الشرقي بشكل خاص, فانتصاراته للمرأة ومقالاته الطويلة في "الريحانيات" وغيرها عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تكتنف الشرق ومحاولاته في سبيل النهوض بتلك الأوضاع إلى ما هو أسلم وأرقى كان لها أثرها الكبير في محيطه. ولم ينحصر أدب الريحاني في أرض الشرق حسب, بل أطل أدبه على الغرب أيضاً, فكان له فضل نشر أعلام الشعر العربي في المهاجر الأميركية. إن ترجماته لأبي العلاء المعري لها قيمتها في إنتشار فلسفة حكيم المعرة بين أهل المغرب ولا شك أن هذه الترجمات وسعت شهرة الرحياني بحيث امتدت بها إلى أبعد آفاق الشرق ولبنان.
ومن أقاويل أمين الريحاني وعظاته وتوجهاته إلى قارئه ما يلي:
أسألك باسم الحب وباسم الحقيقة.. بل بحق الله. الذي هو الحب والحقيقة. ألا تخطو خطوة واحدة معي إن كنت لا تتجرد عما أورثك إياه الأجداد مما يحجب عنا في السير نور الشمس ونور الكواكب في السرى, جرد نفسك ولو بضع ساعات من أطمار الأجيال وتعال ننجح معاً, ومتى وصلت إلى كعبه الحقيقة وأنت في مئزز الحج تجد هناك أثوابك الموروثة وأثواباً أخرى جديدة إلى جانبها, فإما أنك تعود إلى ما كنت عليه فتلبس ما ألفته وتسير في سبيلك, وأما أنك تعتاض عنه بثوب ليس بفخيم ولكنه من الرقع والفتوق سليم. وفي كل حال, لا أنسى أنك أكلت من جفنتي وشربت من إبريقي. ونمت في خيمتي, فأنت أخي, فإن إفترقنا فكما ترافقنا متآخين متحابين.