مجاهدون
02-22-2005, 08:11 AM
كتابات - أحمد الخفاف
كثير من كتب السير ومؤلفات التاريخ الإسلامي والعربي تتضمن على أخبار وأحداث قلما اطلع عليه القارئ المسلم العربي وذلك لأسباب كثيرة منها انشغاله التام في مشاكل حياته اليومية وصخبها.. أو عدم ميل المواطن العربي عموما للقراءة والإطلاع على الثقافات والتاريخ وأخبار الملل والنحل.. أما السبب الأخطر فهو قيام المدرسة السلفية بتهميش هذه المعلومات عن العامة وعدم سماحهم لأحد لإلقاء الضوء عليها.. وحين يبادر أحد من المسلمين الباحثين بالتنقيب على أحداث ومجريات الماضي ليقف على الحقيقة ينبري إليه أئمة التكفير ويمنعونه من القيام بهذا العمل البحثي.. ويبدو أن السبب من هذا النهر والمنع هو ألا يطلع المسلمون على تاريخ حكوماتهم الأسود وسيرة خلفائهم المنحرفين خلقيا وفكريا وذلك ليكتموا الحق ويظهروا الباطل وليبقوا هم الآمرون والناهون، وأمراء ومشايخ على رؤوس الناس صانعين حولهم هالة من قدسية الكهّان الزائفة.. فكل من حاول البحث في سيرة خلفاء المسلمين فهو كافر ارتد عن الإسلام والدين.. وكل من صفق بعماء للتاريخ الأموي والعباسي الأسود فقد صار من المؤمنين المهتدين..!!
في هذه الدراسة المختصرة والتي نقدمها إلى السلفيين الذين يريدون فرض الخلافة الأموية والعباسية على المسلمين نسلط الضوء قليلا جدا على تاريخ الغناء والمجون الأموي والعباسي وما كان يفعله خلفاء المسلمين آنذاك.. فَمن هم أمراء المؤمنين الأمويين والعباسيين الذين اغتصبوا الولاية من أصحابها الحقيقيين وهم آل بيت الرسول علي وأولاده الطاهرين.. وأقاموا دولة المجون والقمع والاضطهاد ضد معارضيهم من المسلمين.
تقول كتب التاريخ الإسلامي.. ما إن حلّ العصر الأموي حتى شاع الغناء!!، فقد شغف العرب به كثيرا على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، لهذا تعددت مراكزه وتنوعت مدارسه، وانتشرت دوره ومجالسه ومنتدياته. تلك التي كان الناس يغشونها للطرب والسماع، حيث كان أكثر المشتغلين والمشتغلات به من أصل فارسي.
ولعل بيئة الحجاز أبان هذا العصر كانت أكثر البيئات العربية التي ازدهر فيها الغناء، ثم انطلقت منها إلى مواطن أخرى. فكان للغناء بمكة مدرسة من رجالها: ابن مشجع وابن محرز وابن سريج والغريض وابن مشعب، والهذلي النقاش، وعبادل بن عطية، وخليل بن عمرو. ومن مغنياتها: سلامة القس، وأختها ريا، وخليدة المكية، وعقيلة العفيفية، وربيحة موليات بن شماس والمعروفات بالشماسيات.
وكان للغناء بالحجاز مدرسة أخرى بالمدينة من رجالها: سائب خائر، معبد بن وهب، ابن عائشة، طويس، مالك بن أبي السمح، هيت، طريف، حبيب نؤم الضحى، برد الفؤاد، بديح المليح، نافع وعطرّد وابن صاحب الوضوء، الدلال، الأبحر، البردان، قند، رحمة ووهبة الله. ومن المغنيات: عزة الميلاء، جميلة، حبابة، بصبص، فرعة، بلبلة ولذة العيش. وكان في وادي القرى مدرسة ثالثة من رجالها: حكم الوادي، يعقوب الوادي، سليمان، خليد بن عتيك وعمر الوادي الذي كان يقول: "ربما ترنمت بالصوت وأنا غرثان فيشبعني فيؤنسني وكسلان فينشطني".
هذا عن أهم مدارس الغناء بالحجاز وأشهر مغنيها ومغنياتها في العصر الأموي، أما خارج الحجاز فلم يكن للغناء شأن يذكر إلا في بيئتي العراق والشام، ومع ذلك فلم يبلغ في هذين الإقليمين ما بلغه في الحجاز من شهرة واستضافة وأصالة.
ففي العراق أيام الأمويين ظهر في الغناء حنين، أما في الشام عاصمة الدولة الإسلامية، فلم يظهر فيها مغنون في العصر الأموي اللهم إلا أبو كامل الغزيل الدمشقي مولى الوليد بن يزيد، فقد كان مغنيا محسنا وطيبا مضحكا. كان يغني في قصر الوليد فيطرب له، وغناه ذات يوم لحنا لابن سريج فطرب وخلع عليه حتى قلنسيتة وشيٍٍٍ مذهبة كانت على رأسه.!!
ويؤرخ الجاحظ موقف خلفاء الأمويين من الغناء فيقول: "كان الخلفاء الأوَل يستمعون في أوقات فراغهم لقصائد الشعراء، ولم يلبث الغناء أن حل محل الشعر. فكان معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد لا يظهرون للندماء والمغنين، بل كان بينهم حجاب، حتى لا يطلع الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب!!. فقد تأخذ نشوة الطرب بلبه فيقوم بحركات لا يطلع عليها إلا خواص جواريه!!.
وإذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو حركة غريبة، صاح صاحب الستارة: "حسبك يا جارية! كفي! أقصري!" موهما الندماء أن الفاعل لتلك الحركات هو بعض الجواري!!. وكان بعض خلفاء بني أمية يظهرون للندماء والمغنين، ولا يحفلون بإتيان حركات تثيرها نشوة الطرب في نفوسهم!!. وكان يزيد بن عبد الملك يبالغ في المجون بحضرة الندماء!!، كما سوى بين الطبقة العليا والسفلى، وأذن للندماء في الكلام والضحك والهزل في مجلسه، فلم يتورعوا في الرد عليه، وحذا حذوه في ذلك الوليد بن يزيد!!.
ومن الخلفاء الأمويين الذين اشتهروا باللهو والشراب وحب الغناء يزيد بن معاوية!!، فقد كان صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، ومما أثر عنه أنه جلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، ذلك بعد مقتل الحسين فأقبل على ساقيه وقال:
اسقني شربة تروي مشاشي ـــ ثم مل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السر والأمانة عندي ـــ ولتسديد مغنمي وجهادي
ثم أمر المغنين فغنوا به.. وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب.!! والحق أن الغناء العربي قد تطور كثيرا بعد الإسلام بفعل ما أدخل عليه من ألحان الفرس والروم، وكذلك بفعل العوامل الجديدة التي طرأت على المجتمع الحجازي خاصة وأثرت في نفوس أهله عامة.
أما عند مجيء العصر العباسي، انتقلت عاصمة الدولة من الشام إلى العراق. وقد كان اللهو عامة محدودا أو على الأصح مكبوتا في نفوس الناس في عهد "السفاح والمنصور"، فكأنهما كانا رجلي كفاح وإدارة وحزم، فوق ما عرفا به من البخل بل قل من الحرص والضن بأموال الدولة. ومع وجود تلك الحقيقة، إلا أن السفاح قد ظهر للندماء ثم احتجب عنهم بعد سنة، لاقتناعه بنصيحة أسيد بن عبد الله الخزاعي. فاختفى وراء الستارة طربا مبتهجا صاحئا "أحسنت والله! أعد هذا الصوت!" فيعاد له مرارا، فيقول في كلها "أحسنت"، فتتلوها الصلة أو الكشوة.
فقصر الخلافة في عهده كان لا يخلو من الغناء، وما يتلوه من عطاء، فقد كان يقول: "العجب ممن يفرح إنسانا، فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفا وعدة"، فكان في كل يوم وليلة يقعد فيه لشغله، لا ينصرف أحد ممن حضرة إلا مسرورا، "ولم يكن هذا لعربي ولا عجمي قبله..".
ويقول الجاحظ فأما أبو جعفر المنصور:" كان بينه وبين الستارة عشرون ذراعا، وبين الستارة والندماء مثلها، فإذا غناه المغني أطربه، حركت الستارة بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول: قل له: "أحسنت" بارك الله فيك!، وربما أراد أن يصفق بيديه، فيقوم عن مجلسه ويدخل بعض حجر نسائه، فيكون ذاك هناك، وكان لا يثيب أحدا من ندمائه وغيرهم درهما، فيكون له رسما في ديوان. ولم يقطع أحدا ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل، موضع قدم من الأرض. وكان يحفظ كل ما أعطى واحدا منهم عشر سنين ويحسبه ويذكره له".
مع كل ما عرف عن السفاح والمنصور من قوة شكيمة وبطش للخصوم وحزم فاق الحد، فإن قصرهما قد عرف المنتديات الغنائية إلى الحد الذي وافق مبدأهما!!. ولا شك أنه كان للمنتديات الغنائية الأثر الأساسي الأول الذي تطور وتوسع في قصور أولادهما من الخلفاء العباسيين!!.
وما أن تولى الخليفة العباسي المهدي الحكم حتى تفجر ذلك الكبت، فانتشر اللهو والغناء والشراب إلى حد الخلاعة والمجاهرة بها!!، ذلك لما صارت إليه الدولة من الاستقرار والأمن، ولما كان يدخل في خزائنها من باهظ الأموال التي تجبى من الخراج وغيره. هذا إلى كثرة الجواري من كل نوع!!، وإلى تلون الحياة الاجتماعية بألوان المدنية المشرقة في جميع نواحيها.. تلك الحياة التي لم يألفها العربي في صحرائه المجدبة والتي بهرته وطارت بعقله فلم يسعه إلى أن يغترف منها ما استطاع.
وكان خليفة المسلمين المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء، متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم. فأشار إليه أبو عون بأن يحتجب عنهم، ولكنه رفض قائلا له ناهرا: "إليك عني يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني!!. فأما من وراء وراء، فما خيرها ولذتها؟!! ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم، لجعلت لهم في ذلك حظا موفرا.!!
ويقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين: لقد كان الخليفة المهدي يحب القيان وسماع الغناء، وكان معجبا بجارية يقال لها جوهر، وكان اشتراها من مروان الشامي، فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنيه، فقال مروان:
أنت يا جوهر عندي جوهرة في بياض الدرة المشتهرة
فإذا غـنت فنـار ضـرّمت قدحت في كل قلب شررة
فاتهمه المهدي، وأمر به فدُعّ في عنقه إلى أن خرج، ثم قال: لجوهر: أطربيني.
لذا من هنا نرى أن قصر الخلافة العباسية قد تطور من حيث الغناء ومجالسه، حيث بات الخليفة لا يتحرج من الجلوس مع الندماء والمغنين، يحدثهم ويحادثونه، يضحك معهم ويضاحكونه، إلى غير ذلك من اللهو!!. إلا أنه لم يفقد سيطرته على نفسه، ولم يدع مجالا لأحد من الجالسين اجتياز حدوده كما كمان الخليفة الهادي بعده، فرغم أن الهادي لم يحكم غير مدة قصيرة إلا أنه تابع رحلة الحرية الغنائية في قصره، والكرم اللامحدود بحضرته فقد كان يأمر للمغنين بالمال الخطير والجزيل!!.
ويقال: إن الخليفة الهادي قال يوما، وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاد بن الطيب، وكان أول من دخل عليه معاذ، وكان حاذقا بالأغاني عازما بها، فقال: من أطربني منكم، فله حكمه. فغناه ابن جامع غناء لم يحركه، وكان إبراهيم قد فهم غرضه، فغناه. فطرب حتى قام عن مجلسه، ورفع صوته وقال: "أعد بالله، وبحياتي" فأعاد، فقال: "أنت صاحبي، فاحتكم"!!.
وجاء خليفة المسلمين الآخر هارون الرشيد الذي أصبح اسمه مألوفا لا في الشرق وحده بل في الغرب أيضا.. وكان قصره زخرا بليالي المجون والجميع يعرف قصص هارون الرشيد مع الجواري وهو جالس على عرشه وإلى يمينه الساقي وعلى يساره مسرور السياف وأمامه الجواري يرقصن ويغنين ويضربن الصنوج والدفوف!!.
ومن بين خلفاء بني العباس، جعل الخليفة هارون الرشيد للمغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم أردشير بن بابل وأنو شروان. فكان إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع، وزلزل، ومنصور الضارب في الطبقة الأولى. أما في الطبقة الثانية فكان: سليم بن سلام أبو عبيد الله الكوفي وعمرو الغزال ومن أشبههما. أما الطبقة الثالثة فكان: أصحاب المعازف والونج والطنابير.
ويقول أرباب السير أن قصر الخليفة هارون الرشيد الغنائي هو من أعظم القصور سابقا ولاحقا، حتى أن قصر الخليفة المأمون لم يصل إلى الدرجة التي وصل إليها قصر الرشيد من ناحية الغناء. فقد كان الغناء من أشهى ضروب اللهو في لياليهم العامرة!!. فدنياهم موج من الطرب والعطاء، وأوقاتهم قنص للذائذ والشهوات إلى حد الإسراف ليل نهار!!. وقس على ذلك ما تبقى من قصور ودور ومنازل. فقد كان لهذا الموج أثره في نفوس العباسيين عامة، حتى أصبح الغناء ضرورة من ضرورات حياتهم لا يحيون إلا به!!، ولا يرون الحياة سهلة جميلة إلاّ على ضرب الأعواد ونقر الدفوف وترنيم الأشعار وألحان الغناء!!.
ولقد بلغ من تأثير الغناء على نفوسهم أن كان بعضهم يتعشقه ولا يطيق العيش بدونه. فبعضهم كان يسمعه فيذهب عقله وتعتريه لوثة أو يغمى عليه!!، أو يفقد وعيه أو يشق ثوبه، أو ينطح الحائط برأسه أو يهيم على وجهه!!!!!.
كما أنه كان من أعظم هذه المنتديات فخامة وإشراقا في الأبهة، منتديات البرامكة فهم الذي قادوا الخلفاء، وفتحوا لهم أبواب اللهو والإمعان فيه، الذين اهدوهم الجواري وقادوا إليهم المغنين وأسرفوا في العطاء إلى حد الجنون، ولإبراهيم الموصلي مع البرامكة أخبار تثير العجب والدهشة!!!.
وهكذا نجد من خلال استقراء سيرة هؤلاء الرجال في التاريخ أن هناك الكثير من الأسماء اللامعة والتي يشير إليها المسلمون بالبنان مثل معاوية، ويزيد، وعبد الملك، وهارون الرشيد، والمهدين والهادي، والمتوكل على الله، والواثق بالله، أن بينهم وبين أسماءهم وألقابهم البون الشاسع، فأسمائهم تدل على أنهم عاشوا في ملكوت التوكل والرشد والتقوى والوثوق بالله والاعتصام به والهداية، بينما السيرة الذاتية لحياتهم وشخصياتهم تدل على نقيض ذلك بالكامل.
فهارون الرشيد ذلك الخليفة العباسي بالإضافة إلى أنه عرف في حياته بالمجون والفساد تصرف بقسوة وحقد أعمى ضد الأحرار والسادة العلويين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخصوصا إجرامه بحق الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، ولنعم ما قال الشاعر الكبير أبو فراس الحمداني في رائعته التي يقول فيها :
الدين مخترم والحق مهتضم وفي آل رسـول الله مـقتسم
إلى أن يقول:
ليس الرشيد كموسى فـــي القـياس ولا مأمونكم كـالرضا إن أنـصف الحـكـم
إذا تـــلوا أيــة غــنّى خــطيبكم قــف بـالديار التـي لم يـعفها القـدم
أما إذا نظرنا إلى أهل بيت النبوة عليهم السلام نجد أن أسماءهم تدل على المعاني العالية المنال وفي نفس الوقت نرى أن السيرة الذاتية لحياتهم ومواقفهم وتصرفاتهم ذات دلالة واضحة على أسماءهم وألقابهم فطوبى لمن تبعهم ومشى على هُداهم ولازمهم.. فلم يسبقهم فيهلك ولم يتخلف عنهم فيضل.
ALKHAFAFAHMAD@YAHOO.COM
كثير من كتب السير ومؤلفات التاريخ الإسلامي والعربي تتضمن على أخبار وأحداث قلما اطلع عليه القارئ المسلم العربي وذلك لأسباب كثيرة منها انشغاله التام في مشاكل حياته اليومية وصخبها.. أو عدم ميل المواطن العربي عموما للقراءة والإطلاع على الثقافات والتاريخ وأخبار الملل والنحل.. أما السبب الأخطر فهو قيام المدرسة السلفية بتهميش هذه المعلومات عن العامة وعدم سماحهم لأحد لإلقاء الضوء عليها.. وحين يبادر أحد من المسلمين الباحثين بالتنقيب على أحداث ومجريات الماضي ليقف على الحقيقة ينبري إليه أئمة التكفير ويمنعونه من القيام بهذا العمل البحثي.. ويبدو أن السبب من هذا النهر والمنع هو ألا يطلع المسلمون على تاريخ حكوماتهم الأسود وسيرة خلفائهم المنحرفين خلقيا وفكريا وذلك ليكتموا الحق ويظهروا الباطل وليبقوا هم الآمرون والناهون، وأمراء ومشايخ على رؤوس الناس صانعين حولهم هالة من قدسية الكهّان الزائفة.. فكل من حاول البحث في سيرة خلفاء المسلمين فهو كافر ارتد عن الإسلام والدين.. وكل من صفق بعماء للتاريخ الأموي والعباسي الأسود فقد صار من المؤمنين المهتدين..!!
في هذه الدراسة المختصرة والتي نقدمها إلى السلفيين الذين يريدون فرض الخلافة الأموية والعباسية على المسلمين نسلط الضوء قليلا جدا على تاريخ الغناء والمجون الأموي والعباسي وما كان يفعله خلفاء المسلمين آنذاك.. فَمن هم أمراء المؤمنين الأمويين والعباسيين الذين اغتصبوا الولاية من أصحابها الحقيقيين وهم آل بيت الرسول علي وأولاده الطاهرين.. وأقاموا دولة المجون والقمع والاضطهاد ضد معارضيهم من المسلمين.
تقول كتب التاريخ الإسلامي.. ما إن حلّ العصر الأموي حتى شاع الغناء!!، فقد شغف العرب به كثيرا على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، لهذا تعددت مراكزه وتنوعت مدارسه، وانتشرت دوره ومجالسه ومنتدياته. تلك التي كان الناس يغشونها للطرب والسماع، حيث كان أكثر المشتغلين والمشتغلات به من أصل فارسي.
ولعل بيئة الحجاز أبان هذا العصر كانت أكثر البيئات العربية التي ازدهر فيها الغناء، ثم انطلقت منها إلى مواطن أخرى. فكان للغناء بمكة مدرسة من رجالها: ابن مشجع وابن محرز وابن سريج والغريض وابن مشعب، والهذلي النقاش، وعبادل بن عطية، وخليل بن عمرو. ومن مغنياتها: سلامة القس، وأختها ريا، وخليدة المكية، وعقيلة العفيفية، وربيحة موليات بن شماس والمعروفات بالشماسيات.
وكان للغناء بالحجاز مدرسة أخرى بالمدينة من رجالها: سائب خائر، معبد بن وهب، ابن عائشة، طويس، مالك بن أبي السمح، هيت، طريف، حبيب نؤم الضحى، برد الفؤاد، بديح المليح، نافع وعطرّد وابن صاحب الوضوء، الدلال، الأبحر، البردان، قند، رحمة ووهبة الله. ومن المغنيات: عزة الميلاء، جميلة، حبابة، بصبص، فرعة، بلبلة ولذة العيش. وكان في وادي القرى مدرسة ثالثة من رجالها: حكم الوادي، يعقوب الوادي، سليمان، خليد بن عتيك وعمر الوادي الذي كان يقول: "ربما ترنمت بالصوت وأنا غرثان فيشبعني فيؤنسني وكسلان فينشطني".
هذا عن أهم مدارس الغناء بالحجاز وأشهر مغنيها ومغنياتها في العصر الأموي، أما خارج الحجاز فلم يكن للغناء شأن يذكر إلا في بيئتي العراق والشام، ومع ذلك فلم يبلغ في هذين الإقليمين ما بلغه في الحجاز من شهرة واستضافة وأصالة.
ففي العراق أيام الأمويين ظهر في الغناء حنين، أما في الشام عاصمة الدولة الإسلامية، فلم يظهر فيها مغنون في العصر الأموي اللهم إلا أبو كامل الغزيل الدمشقي مولى الوليد بن يزيد، فقد كان مغنيا محسنا وطيبا مضحكا. كان يغني في قصر الوليد فيطرب له، وغناه ذات يوم لحنا لابن سريج فطرب وخلع عليه حتى قلنسيتة وشيٍٍٍ مذهبة كانت على رأسه.!!
ويؤرخ الجاحظ موقف خلفاء الأمويين من الغناء فيقول: "كان الخلفاء الأوَل يستمعون في أوقات فراغهم لقصائد الشعراء، ولم يلبث الغناء أن حل محل الشعر. فكان معاوية وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد لا يظهرون للندماء والمغنين، بل كان بينهم حجاب، حتى لا يطلع الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب!!. فقد تأخذ نشوة الطرب بلبه فيقوم بحركات لا يطلع عليها إلا خواص جواريه!!.
وإذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو حركة غريبة، صاح صاحب الستارة: "حسبك يا جارية! كفي! أقصري!" موهما الندماء أن الفاعل لتلك الحركات هو بعض الجواري!!. وكان بعض خلفاء بني أمية يظهرون للندماء والمغنين، ولا يحفلون بإتيان حركات تثيرها نشوة الطرب في نفوسهم!!. وكان يزيد بن عبد الملك يبالغ في المجون بحضرة الندماء!!، كما سوى بين الطبقة العليا والسفلى، وأذن للندماء في الكلام والضحك والهزل في مجلسه، فلم يتورعوا في الرد عليه، وحذا حذوه في ذلك الوليد بن يزيد!!.
ومن الخلفاء الأمويين الذين اشتهروا باللهو والشراب وحب الغناء يزيد بن معاوية!!، فقد كان صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، ومما أثر عنه أنه جلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، ذلك بعد مقتل الحسين فأقبل على ساقيه وقال:
اسقني شربة تروي مشاشي ـــ ثم مل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السر والأمانة عندي ـــ ولتسديد مغنمي وجهادي
ثم أمر المغنين فغنوا به.. وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب.!! والحق أن الغناء العربي قد تطور كثيرا بعد الإسلام بفعل ما أدخل عليه من ألحان الفرس والروم، وكذلك بفعل العوامل الجديدة التي طرأت على المجتمع الحجازي خاصة وأثرت في نفوس أهله عامة.
أما عند مجيء العصر العباسي، انتقلت عاصمة الدولة من الشام إلى العراق. وقد كان اللهو عامة محدودا أو على الأصح مكبوتا في نفوس الناس في عهد "السفاح والمنصور"، فكأنهما كانا رجلي كفاح وإدارة وحزم، فوق ما عرفا به من البخل بل قل من الحرص والضن بأموال الدولة. ومع وجود تلك الحقيقة، إلا أن السفاح قد ظهر للندماء ثم احتجب عنهم بعد سنة، لاقتناعه بنصيحة أسيد بن عبد الله الخزاعي. فاختفى وراء الستارة طربا مبتهجا صاحئا "أحسنت والله! أعد هذا الصوت!" فيعاد له مرارا، فيقول في كلها "أحسنت"، فتتلوها الصلة أو الكشوة.
فقصر الخلافة في عهده كان لا يخلو من الغناء، وما يتلوه من عطاء، فقد كان يقول: "العجب ممن يفرح إنسانا، فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفا وعدة"، فكان في كل يوم وليلة يقعد فيه لشغله، لا ينصرف أحد ممن حضرة إلا مسرورا، "ولم يكن هذا لعربي ولا عجمي قبله..".
ويقول الجاحظ فأما أبو جعفر المنصور:" كان بينه وبين الستارة عشرون ذراعا، وبين الستارة والندماء مثلها، فإذا غناه المغني أطربه، حركت الستارة بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول: قل له: "أحسنت" بارك الله فيك!، وربما أراد أن يصفق بيديه، فيقوم عن مجلسه ويدخل بعض حجر نسائه، فيكون ذاك هناك، وكان لا يثيب أحدا من ندمائه وغيرهم درهما، فيكون له رسما في ديوان. ولم يقطع أحدا ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل، موضع قدم من الأرض. وكان يحفظ كل ما أعطى واحدا منهم عشر سنين ويحسبه ويذكره له".
مع كل ما عرف عن السفاح والمنصور من قوة شكيمة وبطش للخصوم وحزم فاق الحد، فإن قصرهما قد عرف المنتديات الغنائية إلى الحد الذي وافق مبدأهما!!. ولا شك أنه كان للمنتديات الغنائية الأثر الأساسي الأول الذي تطور وتوسع في قصور أولادهما من الخلفاء العباسيين!!.
وما أن تولى الخليفة العباسي المهدي الحكم حتى تفجر ذلك الكبت، فانتشر اللهو والغناء والشراب إلى حد الخلاعة والمجاهرة بها!!، ذلك لما صارت إليه الدولة من الاستقرار والأمن، ولما كان يدخل في خزائنها من باهظ الأموال التي تجبى من الخراج وغيره. هذا إلى كثرة الجواري من كل نوع!!، وإلى تلون الحياة الاجتماعية بألوان المدنية المشرقة في جميع نواحيها.. تلك الحياة التي لم يألفها العربي في صحرائه المجدبة والتي بهرته وطارت بعقله فلم يسعه إلى أن يغترف منها ما استطاع.
وكان خليفة المسلمين المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء، متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم. فأشار إليه أبو عون بأن يحتجب عنهم، ولكنه رفض قائلا له ناهرا: "إليك عني يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني!!. فأما من وراء وراء، فما خيرها ولذتها؟!! ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم، لجعلت لهم في ذلك حظا موفرا.!!
ويقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين: لقد كان الخليفة المهدي يحب القيان وسماع الغناء، وكان معجبا بجارية يقال لها جوهر، وكان اشتراها من مروان الشامي، فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنيه، فقال مروان:
أنت يا جوهر عندي جوهرة في بياض الدرة المشتهرة
فإذا غـنت فنـار ضـرّمت قدحت في كل قلب شررة
فاتهمه المهدي، وأمر به فدُعّ في عنقه إلى أن خرج، ثم قال: لجوهر: أطربيني.
لذا من هنا نرى أن قصر الخلافة العباسية قد تطور من حيث الغناء ومجالسه، حيث بات الخليفة لا يتحرج من الجلوس مع الندماء والمغنين، يحدثهم ويحادثونه، يضحك معهم ويضاحكونه، إلى غير ذلك من اللهو!!. إلا أنه لم يفقد سيطرته على نفسه، ولم يدع مجالا لأحد من الجالسين اجتياز حدوده كما كمان الخليفة الهادي بعده، فرغم أن الهادي لم يحكم غير مدة قصيرة إلا أنه تابع رحلة الحرية الغنائية في قصره، والكرم اللامحدود بحضرته فقد كان يأمر للمغنين بالمال الخطير والجزيل!!.
ويقال: إن الخليفة الهادي قال يوما، وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاد بن الطيب، وكان أول من دخل عليه معاذ، وكان حاذقا بالأغاني عازما بها، فقال: من أطربني منكم، فله حكمه. فغناه ابن جامع غناء لم يحركه، وكان إبراهيم قد فهم غرضه، فغناه. فطرب حتى قام عن مجلسه، ورفع صوته وقال: "أعد بالله، وبحياتي" فأعاد، فقال: "أنت صاحبي، فاحتكم"!!.
وجاء خليفة المسلمين الآخر هارون الرشيد الذي أصبح اسمه مألوفا لا في الشرق وحده بل في الغرب أيضا.. وكان قصره زخرا بليالي المجون والجميع يعرف قصص هارون الرشيد مع الجواري وهو جالس على عرشه وإلى يمينه الساقي وعلى يساره مسرور السياف وأمامه الجواري يرقصن ويغنين ويضربن الصنوج والدفوف!!.
ومن بين خلفاء بني العباس، جعل الخليفة هارون الرشيد للمغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم أردشير بن بابل وأنو شروان. فكان إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع، وزلزل، ومنصور الضارب في الطبقة الأولى. أما في الطبقة الثانية فكان: سليم بن سلام أبو عبيد الله الكوفي وعمرو الغزال ومن أشبههما. أما الطبقة الثالثة فكان: أصحاب المعازف والونج والطنابير.
ويقول أرباب السير أن قصر الخليفة هارون الرشيد الغنائي هو من أعظم القصور سابقا ولاحقا، حتى أن قصر الخليفة المأمون لم يصل إلى الدرجة التي وصل إليها قصر الرشيد من ناحية الغناء. فقد كان الغناء من أشهى ضروب اللهو في لياليهم العامرة!!. فدنياهم موج من الطرب والعطاء، وأوقاتهم قنص للذائذ والشهوات إلى حد الإسراف ليل نهار!!. وقس على ذلك ما تبقى من قصور ودور ومنازل. فقد كان لهذا الموج أثره في نفوس العباسيين عامة، حتى أصبح الغناء ضرورة من ضرورات حياتهم لا يحيون إلا به!!، ولا يرون الحياة سهلة جميلة إلاّ على ضرب الأعواد ونقر الدفوف وترنيم الأشعار وألحان الغناء!!.
ولقد بلغ من تأثير الغناء على نفوسهم أن كان بعضهم يتعشقه ولا يطيق العيش بدونه. فبعضهم كان يسمعه فيذهب عقله وتعتريه لوثة أو يغمى عليه!!، أو يفقد وعيه أو يشق ثوبه، أو ينطح الحائط برأسه أو يهيم على وجهه!!!!!.
كما أنه كان من أعظم هذه المنتديات فخامة وإشراقا في الأبهة، منتديات البرامكة فهم الذي قادوا الخلفاء، وفتحوا لهم أبواب اللهو والإمعان فيه، الذين اهدوهم الجواري وقادوا إليهم المغنين وأسرفوا في العطاء إلى حد الجنون، ولإبراهيم الموصلي مع البرامكة أخبار تثير العجب والدهشة!!!.
وهكذا نجد من خلال استقراء سيرة هؤلاء الرجال في التاريخ أن هناك الكثير من الأسماء اللامعة والتي يشير إليها المسلمون بالبنان مثل معاوية، ويزيد، وعبد الملك، وهارون الرشيد، والمهدين والهادي، والمتوكل على الله، والواثق بالله، أن بينهم وبين أسماءهم وألقابهم البون الشاسع، فأسمائهم تدل على أنهم عاشوا في ملكوت التوكل والرشد والتقوى والوثوق بالله والاعتصام به والهداية، بينما السيرة الذاتية لحياتهم وشخصياتهم تدل على نقيض ذلك بالكامل.
فهارون الرشيد ذلك الخليفة العباسي بالإضافة إلى أنه عرف في حياته بالمجون والفساد تصرف بقسوة وحقد أعمى ضد الأحرار والسادة العلويين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخصوصا إجرامه بحق الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، ولنعم ما قال الشاعر الكبير أبو فراس الحمداني في رائعته التي يقول فيها :
الدين مخترم والحق مهتضم وفي آل رسـول الله مـقتسم
إلى أن يقول:
ليس الرشيد كموسى فـــي القـياس ولا مأمونكم كـالرضا إن أنـصف الحـكـم
إذا تـــلوا أيــة غــنّى خــطيبكم قــف بـالديار التـي لم يـعفها القـدم
أما إذا نظرنا إلى أهل بيت النبوة عليهم السلام نجد أن أسماءهم تدل على المعاني العالية المنال وفي نفس الوقت نرى أن السيرة الذاتية لحياتهم ومواقفهم وتصرفاتهم ذات دلالة واضحة على أسماءهم وألقابهم فطوبى لمن تبعهم ومشى على هُداهم ولازمهم.. فلم يسبقهم فيهلك ولم يتخلف عنهم فيضل.
ALKHAFAFAHMAD@YAHOO.COM