المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علاقة وثيقة بين الفائض الزراعي والتقدم الإنساني



على
02-18-2005, 12:14 PM
بقلم: الدكتور: منير يوسف طه

قبل ان يستقر الانسان في مجمعات سكنية ثابتة كان قوته اليومي يعتمد كليا علي جمعه بدلاً من انتاجه. وبعد ان استقر قرب منابع المياه والأنهار تعلم زراعة الأرض وجني المحاصيل الزراعية والثمار. وبعد مرور سنين طوال من مزاولته الزراعة بدأ يتكدس عنده موسماً بعد آخر فائض مما كان يزرعه وخاصة الحبوب التي كانت مصدر طاقته وحيويته.

من هذا المنطلق بدأ الانسان مبادلة ذلك الفائض الزراعي مع أولئك الذين لا تصلح اراضيهم للزراعة أو الفلاحة إلا ان كثيرا من مناطقهم واراضيهم تحتوي علي بعض المواد الأولية والكمالية التي كان البعض منها يحتاجها لتطوير عملية انتاجه كحجر الصوان الذي كان يضع منه المناجل لحصد الحبوب وخاصة الحنطة والشعير أو الأخشاب والمعادن والتي كان يصنع منهما محاريثه.

وبعد ان ازداد فائضه الزراعي نتيجة لتطور آلاته وأدواته الزراعية وبالتالي تطور خبراته بدأ يفتش عن اسواق قاصية عنه يستطيع من خلالها مبادلة فائضه الزراعي مع ما هو متوفر في تلك الأماكن النائية من مواد أولية، أو كمالية، أو أحجار كريمة، أو معادن ثمينة، أو حتي بعض المطيبات التي كانت تحفظ له طعامه خلال رحلاته الطويلة سيان كانت عبر مياه البحار والأنهار أو عبر المسالك البرية.

وبعد ان اتسعت مبادلاته التجارية عمد علي تطوير آلاته وأدواته الزراعية واستصلاح أرضه، ثم بدأ يشق القنوات المائية وينظم طرق الري، ويعتمد علي الأمطار تارة، وعلي الري تارة أخري وعلي الاثنين معاً في بعض الأحيان. كل هذه وتلك المبادرات ادت الي زيادة انتاجه الزراعي بصورة غير مسبوقة مما أدي الي زيادة فائضه الزراعي أضعافاً وأضعافاً.

وبعد هذه الزيادة النوعية بدا الانسان بحاجة الي سياقات جديدة تعني بشؤون انتاجه الزراعي فتوسعت المجاميع السكانية وتحولت بعض القري ذات الفائض الزراعي الكبير الي قري كبيرة لها كياناتها الاقتصادية والروحية وبالتالي الاجتماعية.

ومن هذا المنطلق نبتت اول بذرة لما يعرف بالحياة المدنية حيث بدأ الانسان من خلالها دخول معالم جديدة تختلف كلياً عن المعالم التي اعتادها فحياة المدينة تحتاج الي تنظيمات، ومؤسسات اجتماعية، واقتصادية وروحية أشمل الي جانب اطاعة القوانين والأنظمة وقيام كيانات عسكرية تعمل علي صيانة مكتسبات المدينة.

فبدأ وفي باديء أمره بتنظيم شؤون اسرته وترتيب بيته ثم اتجه بعد ذلك الي تنظيم شؤونه الاقتصادية والتجارية فعمد الي استعمال حسابات بدائية يتعرف من خلالها علي كميات محاصيله الزراعية واستهلاكه السنوي والفائض الذي يعمد علي مبادلته بالمواد التي لا تتوفر من حوله. كما عمد علي تربية المواشي والحيوانات التي سعي لاستغلاها بتنقلاته علي نطاق أوسع وأشمل. وفي الوقت ذاته عمد علي الاستفادة من منتجاتها المتعددة والفائض منها كان هو الآخر له نصيب آخر في مبادلاته التجارية.

أما فيما يخص شؤونه الروحية فعمد علي تأسيس المعابد ودور العبادة كي يتوصل من خلالها الي مضمونين اساسيين أولهما التضرع للآلهة لزيادة محاصيله الزراعية، وثانيهما حفظ فائضه الزراعي داخل المعبد والذي كان المكان الأكثر أمناً لصيانة فائضه الزراعي والذي بات يغير مجمل حياته الاقتصادية والاجتماعية.

وبعد ان أدركت (السلطة) القيمة الحقيقية لذلك الفائض عمدت علي فرض القيود وشرعت القوانين التي يتم من خلالها محاصصة ذلك الفائض، وبما ان حصة (السلطة) كانت أكثر من حصة الجماعة لذلك فان القوة الاقتصادية وبالتالي السياسية أمست بيد (السلطة) أكثر منها بيد الجماعة ومن هذا المنطلق نشأت ما يعرف بدويلات المدن.

وبعد ان أدركت السلطة والفرد أهمية ذلك الفائض الذي بدأ يغير مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بصورة لا مثيل لها اخترع الانسان نظاماً حسابياً بسيطاً يستطيع من خلاله جرد ما يستطيع ان يستهلك وما يستطيع ان يصدر. إلا ان هذا النظام الحسابي البسيط كان لا يفي بالغرض المطلوب بعد ازدياد الطلب علي الفائض الزراعي، ومن هذه الحاجة الملحة اخترع الانسان نظاماً حسابياً أشمل وأدق فتوصل الي الكتابة والتي بواسطتها استطاع الانسان تحديد عمليات انتاجه وكميات المخزون وكميات المبادلة ونظام الأوزان.

وبعد اختراع الكتابة توسعت المدينة وتوسعت معها مؤسساتها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والروحية وبكل الأبعاد وبذلك انتقل الانسان من المرحلة الثقافية المحددة الأبعاد الي المرحلة الحضارية المطلقة الأبعاد والتي من مقوماتها الاساسية الكثافة السكانية، وجود المؤسسات والنظم الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية وبالتالي الروحية الي جانب النظم العسكرية والتعليمية.

ومن المدينة تكونت نواة الدولة والتي كانت قوة سلطتها كما كانت غيرها في سابق الأزمان تعتمد علي الفائض الزراعي والذي هو محور جميع المبادلات والصفقات. ومن الدولة تكونت الامبراطورية التي عمدت علي سيطرة جميع الفائض الزراعي في المناطق التي ترزخ تحت هيمنتها.

استمدت الدول ذات الفائض الزراعي ببسط نفوذها السياسي علي المناطق الدانية والقاصية منها وبالتالي العيش برفاه اقتصادي واجتماعي لا مثيل له، تماما عكس الدول ذات المضامين التي تعتمد علي نتاجات اخري او مبادلات سلعية أو موانيء وقتية.

ومما لا يقبل الشك فان هذه الحالة قد انعكست ايضا علي الفترات التاريخية المتلاحقة وفي جميع أنحاء المعمورة من مشرقها الي مغربها. فالدولة التي ليس لها فائض زراعي ومهما بلغت من قوة سياسية أو عسكرية أو حتي صناعية سرعان ما تذوب مقوماتها الاساسية أمام الدولة التي تسعي الي تمويلها من فائضها الزراعي والدليل الأكيد علي ذلك ان التخطيط الاقتصادي الحالي للدول المتقدمة يعتمد وقبل كل شيء علي ما يعرف ب (الأمن الغذائي) ولا يدخل في قواميس ونواميس تلك الدول أية اشارة الي (الأمن الصناعي) أو الأمن الاجتماعي أو الأمن السياسي حيث ان جميعها أو غيرها ترتبط ارتباطا مباشراً بالفائض الزراعي ولولاه ما أمسي الانسان ما عليه الآن، واذا ما توقف الفائض الزراعي لأي سبب من الأسباب علي كوكب الأرض فيسعي الانسان جاهدا لإيجاد كوكب آخر يدّر عليه فائضاً زراعياً كي يبدأ مسيرة تقدمه الانساني ثانية!.