الفتى الذهبي
07-16-2013, 10:47 AM
النهار تنشر يوميات جمال البنا و "الإخوان" في معتقل الهايكستب
http://www.annaharkw.com/annahar/Resources/ArticlesPictures/2013/07/16/401407_6ram1601_mainNew.jpg
القاهرة - النهار
يضع جمال البنا في هذه الحلقة يده على نقطة مهمة ربما لاتزال آفة الجماعة وهي السطحية في التفكير وضيق الأفق والاستشهاد بالآيات والأحاديث في غير مواضعها بشكل متعسف للتدليل على فكرة أو نفيها ،كما أنهم يلجأون إلى حوادث التاريخ لإسقاطها على الحاضر دون دراية كافية بفقه الواقع كما تطرق لقيادات الجماعة واصفا إياهم بالضعف وأعرب عن اعتقاده أنه لايوجد منهم من يأتمن الآخر أو يشعر نحوه بحب أو احترام، فكل واحد منهم يحتقر الآخر أو يدبر له في الخفاء الدسائس، وقد سقطوا تماماً في عيون كل الأعضاء واحتقرهم حتى الطلبة ، ويواصل البنا يومياته كاشفا الكثير من المسكوت عنه في تاريخ الجماعة.
الأربعاء 19/1/1949
استيقظت اليوم صباحاً عندما بدأ الإخوان يقرأون المأثورات، وأخذت أفكر، وكان عقلي يغلي كالقدر والأفكار تنثال عليّ من كل جانب، فيالها من لحظة لو أمكن تسجيلها..
كنت أفكر في الإخوان، وفي شبابهم ودعوتهم، وقادتهم، وكنت قد شغلت نفسي أمس بعمل استفتاء اجتماعي ووطني لشباب الإخوان المثقف في الجامعة، وأمضينا طول النهار فيه. وآمل أن أظفر بنتائج بديعة تؤيد وجهات نظري..
والجو اليوم مشرق، وقد كان طوال الثلاثة أيام الماضية عاصفاً بارداً حتى تعودنا أن نسأل أول شيء في الصباح عن الجو، تماما كما نقرأ في الروايات الأجنبية!.
تفاقمت اليوم علة أحد الإخوان وظن هؤلاء أنه مصاب بالتيفود وأن إدارة المعتقل تهمل في ترحيله إلى المستشفى، فقرروا القيام بتظاهرة وتحطيم الأسلاك وقد أمكن للإداريين من أعضاء مكتب الإرشاد ثنيتهم بمنتهى الصعوبة عن فكرة تحطيم الأسلاك، والاكتفاء بالتظاهرة وقد تم ذلك واجتمع الإخوان في طابورين، يشمل الأول المعتقلين «القدامي»، والثاني المعتقلين الجدد وأخذوا يهتفون هتافاتهم المعروفة ويقومون ببعض الحركات النظامية، لكن بأي شكل، لقد كانت الصفوف خليطاً من صغار وكبار ومثقفين وجهلة، أفندية ومشايخ، وإن كان الجميع بالجلابيات أو البيجامات وعلى رؤوسهم العمائم المختلفة التي برع الإخوان في صنعها من الفوط أو الطاقيات الريفية، وذلك رغم رداءته فإنه يمثل واقع شعبنا بأوساطه المختلفة، وهو يدل أيضاً على قوة الدعوة التي انتظمت هؤلاء جميعاً ووحدتهم على عقيدتها.
كان لهذه التظاهرة أثرها، وقد بذل الضابط النوبتجي، وهو ملازم ثان، وشاب صغير سمح الخلق، كل جهده، وإن لم يمنعه ذلك من أن يجمع جنوده بعيداً عن المعتقل في صفوف متراصة سوداء خالية من الحماسة شأن كل تنظيم حكومي، وأمكن أخيراً إحضار عربة المستشفى ونقل المريض ويعتقد أن مرضه لا يتجاوز نزله شعبية، ضاعفها قيامه للصلاة عند الفجر.
أصبح الأستاذ محمد جنباً ذلك الصباح، ولم يترك طويلاً في حيرته في كيفية تسخين المياه إذ طُلب لأداء الشهادة ولم يكن فيها أمر هام، فلما عاد قبيل المغرب رأيته يفكر في أن يسخن مياه ويفشل في ذلك الوقت المتأخر وعبثاً حاولت ثنيته عن هذا العزم الأخرق، الذي منه الإصابة الأكيدة بنزلة شعبية.. فرفض قائلاً إنه لا يستطيع أن يتأخر عن «حاجة ربنا».
حقا ما أشد تأثير ذلك على النفس، لقد ذكر لي شيئاً ماضياً قديماً وصور لي عاطفة قديمة، طالما استشعرتها في أيام جاهليتي الدينية الأولي، نعم فعندما كان الإسلام دعوة تجديد كان ما قبله جاهلية، ولما صار الآن دعوة رجعية، صار ما بعده جاهلية.
نعم.. نعم.. إني أفهم الضمير الديني الذي ينبعث عند تأخير فرض، أو يثور عند ارتكاب ذنب، والذي يبعث في النفوس-في مثل حالة صاحبنا- شعوراً بالقذارة لا يمكن أن يطمئن معه الإنسان إلا بعد اغتساله..
أجل.. أجل.. هذا هو الضمير الديني وتلك هي قوته، وتمكنه من النفوس، فياليت شعري متى يستطيع الناس أن يتحرروا من ربقة الطبقة وأسرها القاسي وأن يكون ضميرهم الفردي والاجتماعي هو أصل أعمالهم والحكم على تصرفاتهم، ومنبع أفكارهم.
وأاسفاه فقد انتكست هذه الأمة مرة أخرى بعد أن بدأت بالسير خطوة واحدة في طريق التحرر.. وعندما أعلن هذه العاطفة في جرأة الرعيل الأول من خريجي الجامعة المصرية القديمة أمثال طه حسين، وعلي عبدالرازق ومنصور فهمي ومن قبلهم قاسم أمين، وشوقي بك ومحمد عبده، ولكن القوى الغبية والكثرة العددية انتصرت، ففعلوا مع طه حسين ما فعلته البابوية مع غاليليو منذ ثلاثمائة سنة وهي- على أقل تقدير- درجة تأخرنا (56).
لا يمضي يوم على هذا العنبر إلا ويحدث من التصرفات ما يدل دلالة قاطعة على ضعف أفراده، وهم المفروض أنهم قادة الإخوان وممثلو المرشد، وأعتقد أنه لا يوجد منهم من يأتمن الآخر أو يشعر نحوه بحب أو احترام، فكل واحد منهم يحتقر الآخر أو يدبر له في الخفاء الدسائس، وقد سقطوا تماماً في عيون كل الأعضاء واحتقرهم حتى الطلبة، وانكشف لهم غباؤهم وقصورهم وعادّ يتهم (57) وسطحيتهم حتى لقبوهم بالبهائم والأغبياء.
وقد حدث اليوم حادث صغير يدل على تحللهم، وكل يوم يحدث مثل هذا الحادث، أراد الأستاذ عبدالرحمن أن يكتب خطاباً إلى الأستاذ «المرشد» بطريقة ما، واتفق الجميع على ذلك ماعدا حلمي نور الدين الذي كان- على ما يظهر- ملتفتاً إلى أمر آخر، فلما جاء يسلمه إلى ص.ع (58) الذي كان سيذهب في أمر ما، اعترض حلمي نور الدين فغضب الأستاذ عبدالرحمن ومزق الخطاب، وتلي ذلك مناقشة طويلة عريضة بينهما، اشترك فيها تدريجياً الجميع، وبينما كان ذلك يتم انصرف الدكتور الذي كان ينتظر مع الأستاذ عابدين الأستاذ ص. ع، بينما يظن هذا ص. ع أنه لم يحضر بعد!
الجمعة 21/1/49
في خلال اشتغالي بعمل الاستفتاء حاول بعض الإخوان أن يستدرجني إلى مناقشة مبادئ وأفكار الجماعة، ورغم أنني أوفر جهد الدخول في مثل هذه الأحاديث لأنها- كما ثبت من التجربة- عقيمة، إلا أنني لم أجد بداً من الرد عليهم، وكالعادة لم يقتنعوا، الأمر الذي كنت واثقاً منه مقدماً لأن مدار الرجل المؤمن مغلق، وهو مقيد بقانون جاذبية دينية لا يستطيع منها خلاصاً، والمسألة هي في الحقيقة إما أن يكون هناك دين أو لا دين، أما التوسط فليس بالحل الأصيل، وإنما هو محاولة تقريب فحسب، ولقد رأيت من سطحية تفكيرهم وتعصبهم-وهما أمران مقترنان بالطبع- ما يجعل صدري يضيق وخلقي يسوء ونفسي تشمئز، وما يجعلني أتمنى انتصار الشيوعية وهي عدوتي اللدودة (59).. ولكنها عدوة لهم أكثر مما هي عدوة لي.. «وعليّ وعليهم يارب».
ليس من جديد في الأخبار.. اللهم إلا أخبار النوم، كما نسميها نحن، وهي عبارة عن الرؤى والأحلام التي رآها كل واحد، وهي أول ما نستفتح به عمل اليوم، إن صح أن هذا عملاً، ولا تخلو هذه الرؤى من شيء يبّشر، ومن المزيج المختلف، المتكون من قوافل وبيوت ورحلات ومعايش وغير ذلك، مما يرتسم في ذهن الحالم، يرتفع أو ينخفض ترمومتر التفاؤل أو التشاؤم وقد أخذنا أمس أصواتنا على الخروج من عدمه، فكان أكثرنا تفاؤلاً هو عبدالباسط الذي قال إن الإفراج سيأتي في خلال أسبوع، وأبعد منه أملاً من قال إن الإفراج لن يكون إلا في مايو، وقد قلت أنا إن الإفراج سيكون في مدة عشرين يوماً، وعلى كل حال فإن نوبة التفاؤل مرتفعة هذا الصباح.
من العصر حتى المغرب محاضرة عن معركة «ديروم» أو دير البلح تكلم فيها ثلاثة من الإخوان الأول عبدالعزيز علي (60) والثاني السهيل الفرماوي (61) والثالث يوسف طلعت وجميعهم ممن شهدوها، وقد كان الثالث قائدها، وعليه - فيما أخبرني أحد رجال الجيش المصري- تعود مسؤولية استشهاد أثنى عشر أخاً من أحسن الإخوان، لكني بعد سماعي له ولزميليه أبرؤه، فليس هو المسؤول، وإن لم يكن بريئاً، ولكن المسؤول هو الفهم الديني الذي تدخل في المعركة، فهم نصوص ذكرت في مناسبات خاصة، على أنها لوازم وتقاليد للقتال الإسلامي، ذكر المحاضر الأول أنه كان يريد الانسحاب عندما انفرد عن إخوانه ومنعه آية تذكرها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ» (62)!.. فكاد أن يلقى حتفه لو لم يسارع بالانسحاب بمساعدة زميل!. وذكر الثاني: «والمغيرات صبحاً» (63) في معرض الاستدلال لضرورة وجوب الهجوم صباحاً وليس مساء، وياله من فهم، أما الثالث فقد ذكر أن بعض الإخوان خاطبه في عدم خوض هذه المعركة لما تراءى له أن الأحوال ليست على مايرام، لكنه رفض قائلاً: ما كان لنبي أن يخلع لأمته بعد أن لبسها، (64) كما ذكر أن الذين استشهدوا إنما أصابهم الرصاص لأنهم تركوا مواقعهم إلى العراء في طريقهم إلى المستعمرة، وذلك لأنهم تذكروا الآية «ادخلوا عليهم الباب» (65).
هوامش
56- ما فعلوه مع طه حسين بعد صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926م.
57 - عادّ يتهم: أي عاديون .
58 - ص.ع: ربما يقصد صالح عشماوي.
59 - أصدر الأستاذ جمال البنا كتابه «في نقد الماركسية» عام 1948م.
60 - عبدالعزيز علي: له أدوار مهمة في التاريخ النضالي عن طريق العمل السري المسلح خلال العشرينيات حتى الأربعينيات، وقد اختير في 7 سبتمبر 1925م وزيراً للشؤون البلدية في أول وزارة مدنية بعد ثورة يوليو تقديراً لدوره وتاريخه، واعتقل مع تنظيم 1965م الإخواني.
61 - السهيل الفرماوي: من أعضاء التنظيم الخاص لجماعة الإخوان.
62 - سورة «الأنفال» - آية رقم 15.
63 - سورة «العاديات» - آية رقم 3.
64 - قالها النبي في غزوة «أحد».
65- سورة «المائدة» - آية رقم 23.
http://www.annaharkw.com/annahar/Resources/ArticlesPictures/2013/07/16/401407_6ram1602_rotatorNew.jpg (http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=401407&date=16072013#)
http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=401407&date=16072013
http://www.annaharkw.com/annahar/Resources/ArticlesPictures/2013/07/16/401407_6ram1601_mainNew.jpg
القاهرة - النهار
يضع جمال البنا في هذه الحلقة يده على نقطة مهمة ربما لاتزال آفة الجماعة وهي السطحية في التفكير وضيق الأفق والاستشهاد بالآيات والأحاديث في غير مواضعها بشكل متعسف للتدليل على فكرة أو نفيها ،كما أنهم يلجأون إلى حوادث التاريخ لإسقاطها على الحاضر دون دراية كافية بفقه الواقع كما تطرق لقيادات الجماعة واصفا إياهم بالضعف وأعرب عن اعتقاده أنه لايوجد منهم من يأتمن الآخر أو يشعر نحوه بحب أو احترام، فكل واحد منهم يحتقر الآخر أو يدبر له في الخفاء الدسائس، وقد سقطوا تماماً في عيون كل الأعضاء واحتقرهم حتى الطلبة ، ويواصل البنا يومياته كاشفا الكثير من المسكوت عنه في تاريخ الجماعة.
الأربعاء 19/1/1949
استيقظت اليوم صباحاً عندما بدأ الإخوان يقرأون المأثورات، وأخذت أفكر، وكان عقلي يغلي كالقدر والأفكار تنثال عليّ من كل جانب، فيالها من لحظة لو أمكن تسجيلها..
كنت أفكر في الإخوان، وفي شبابهم ودعوتهم، وقادتهم، وكنت قد شغلت نفسي أمس بعمل استفتاء اجتماعي ووطني لشباب الإخوان المثقف في الجامعة، وأمضينا طول النهار فيه. وآمل أن أظفر بنتائج بديعة تؤيد وجهات نظري..
والجو اليوم مشرق، وقد كان طوال الثلاثة أيام الماضية عاصفاً بارداً حتى تعودنا أن نسأل أول شيء في الصباح عن الجو، تماما كما نقرأ في الروايات الأجنبية!.
تفاقمت اليوم علة أحد الإخوان وظن هؤلاء أنه مصاب بالتيفود وأن إدارة المعتقل تهمل في ترحيله إلى المستشفى، فقرروا القيام بتظاهرة وتحطيم الأسلاك وقد أمكن للإداريين من أعضاء مكتب الإرشاد ثنيتهم بمنتهى الصعوبة عن فكرة تحطيم الأسلاك، والاكتفاء بالتظاهرة وقد تم ذلك واجتمع الإخوان في طابورين، يشمل الأول المعتقلين «القدامي»، والثاني المعتقلين الجدد وأخذوا يهتفون هتافاتهم المعروفة ويقومون ببعض الحركات النظامية، لكن بأي شكل، لقد كانت الصفوف خليطاً من صغار وكبار ومثقفين وجهلة، أفندية ومشايخ، وإن كان الجميع بالجلابيات أو البيجامات وعلى رؤوسهم العمائم المختلفة التي برع الإخوان في صنعها من الفوط أو الطاقيات الريفية، وذلك رغم رداءته فإنه يمثل واقع شعبنا بأوساطه المختلفة، وهو يدل أيضاً على قوة الدعوة التي انتظمت هؤلاء جميعاً ووحدتهم على عقيدتها.
كان لهذه التظاهرة أثرها، وقد بذل الضابط النوبتجي، وهو ملازم ثان، وشاب صغير سمح الخلق، كل جهده، وإن لم يمنعه ذلك من أن يجمع جنوده بعيداً عن المعتقل في صفوف متراصة سوداء خالية من الحماسة شأن كل تنظيم حكومي، وأمكن أخيراً إحضار عربة المستشفى ونقل المريض ويعتقد أن مرضه لا يتجاوز نزله شعبية، ضاعفها قيامه للصلاة عند الفجر.
أصبح الأستاذ محمد جنباً ذلك الصباح، ولم يترك طويلاً في حيرته في كيفية تسخين المياه إذ طُلب لأداء الشهادة ولم يكن فيها أمر هام، فلما عاد قبيل المغرب رأيته يفكر في أن يسخن مياه ويفشل في ذلك الوقت المتأخر وعبثاً حاولت ثنيته عن هذا العزم الأخرق، الذي منه الإصابة الأكيدة بنزلة شعبية.. فرفض قائلاً إنه لا يستطيع أن يتأخر عن «حاجة ربنا».
حقا ما أشد تأثير ذلك على النفس، لقد ذكر لي شيئاً ماضياً قديماً وصور لي عاطفة قديمة، طالما استشعرتها في أيام جاهليتي الدينية الأولي، نعم فعندما كان الإسلام دعوة تجديد كان ما قبله جاهلية، ولما صار الآن دعوة رجعية، صار ما بعده جاهلية.
نعم.. نعم.. إني أفهم الضمير الديني الذي ينبعث عند تأخير فرض، أو يثور عند ارتكاب ذنب، والذي يبعث في النفوس-في مثل حالة صاحبنا- شعوراً بالقذارة لا يمكن أن يطمئن معه الإنسان إلا بعد اغتساله..
أجل.. أجل.. هذا هو الضمير الديني وتلك هي قوته، وتمكنه من النفوس، فياليت شعري متى يستطيع الناس أن يتحرروا من ربقة الطبقة وأسرها القاسي وأن يكون ضميرهم الفردي والاجتماعي هو أصل أعمالهم والحكم على تصرفاتهم، ومنبع أفكارهم.
وأاسفاه فقد انتكست هذه الأمة مرة أخرى بعد أن بدأت بالسير خطوة واحدة في طريق التحرر.. وعندما أعلن هذه العاطفة في جرأة الرعيل الأول من خريجي الجامعة المصرية القديمة أمثال طه حسين، وعلي عبدالرازق ومنصور فهمي ومن قبلهم قاسم أمين، وشوقي بك ومحمد عبده، ولكن القوى الغبية والكثرة العددية انتصرت، ففعلوا مع طه حسين ما فعلته البابوية مع غاليليو منذ ثلاثمائة سنة وهي- على أقل تقدير- درجة تأخرنا (56).
لا يمضي يوم على هذا العنبر إلا ويحدث من التصرفات ما يدل دلالة قاطعة على ضعف أفراده، وهم المفروض أنهم قادة الإخوان وممثلو المرشد، وأعتقد أنه لا يوجد منهم من يأتمن الآخر أو يشعر نحوه بحب أو احترام، فكل واحد منهم يحتقر الآخر أو يدبر له في الخفاء الدسائس، وقد سقطوا تماماً في عيون كل الأعضاء واحتقرهم حتى الطلبة، وانكشف لهم غباؤهم وقصورهم وعادّ يتهم (57) وسطحيتهم حتى لقبوهم بالبهائم والأغبياء.
وقد حدث اليوم حادث صغير يدل على تحللهم، وكل يوم يحدث مثل هذا الحادث، أراد الأستاذ عبدالرحمن أن يكتب خطاباً إلى الأستاذ «المرشد» بطريقة ما، واتفق الجميع على ذلك ماعدا حلمي نور الدين الذي كان- على ما يظهر- ملتفتاً إلى أمر آخر، فلما جاء يسلمه إلى ص.ع (58) الذي كان سيذهب في أمر ما، اعترض حلمي نور الدين فغضب الأستاذ عبدالرحمن ومزق الخطاب، وتلي ذلك مناقشة طويلة عريضة بينهما، اشترك فيها تدريجياً الجميع، وبينما كان ذلك يتم انصرف الدكتور الذي كان ينتظر مع الأستاذ عابدين الأستاذ ص. ع، بينما يظن هذا ص. ع أنه لم يحضر بعد!
الجمعة 21/1/49
في خلال اشتغالي بعمل الاستفتاء حاول بعض الإخوان أن يستدرجني إلى مناقشة مبادئ وأفكار الجماعة، ورغم أنني أوفر جهد الدخول في مثل هذه الأحاديث لأنها- كما ثبت من التجربة- عقيمة، إلا أنني لم أجد بداً من الرد عليهم، وكالعادة لم يقتنعوا، الأمر الذي كنت واثقاً منه مقدماً لأن مدار الرجل المؤمن مغلق، وهو مقيد بقانون جاذبية دينية لا يستطيع منها خلاصاً، والمسألة هي في الحقيقة إما أن يكون هناك دين أو لا دين، أما التوسط فليس بالحل الأصيل، وإنما هو محاولة تقريب فحسب، ولقد رأيت من سطحية تفكيرهم وتعصبهم-وهما أمران مقترنان بالطبع- ما يجعل صدري يضيق وخلقي يسوء ونفسي تشمئز، وما يجعلني أتمنى انتصار الشيوعية وهي عدوتي اللدودة (59).. ولكنها عدوة لهم أكثر مما هي عدوة لي.. «وعليّ وعليهم يارب».
ليس من جديد في الأخبار.. اللهم إلا أخبار النوم، كما نسميها نحن، وهي عبارة عن الرؤى والأحلام التي رآها كل واحد، وهي أول ما نستفتح به عمل اليوم، إن صح أن هذا عملاً، ولا تخلو هذه الرؤى من شيء يبّشر، ومن المزيج المختلف، المتكون من قوافل وبيوت ورحلات ومعايش وغير ذلك، مما يرتسم في ذهن الحالم، يرتفع أو ينخفض ترمومتر التفاؤل أو التشاؤم وقد أخذنا أمس أصواتنا على الخروج من عدمه، فكان أكثرنا تفاؤلاً هو عبدالباسط الذي قال إن الإفراج سيأتي في خلال أسبوع، وأبعد منه أملاً من قال إن الإفراج لن يكون إلا في مايو، وقد قلت أنا إن الإفراج سيكون في مدة عشرين يوماً، وعلى كل حال فإن نوبة التفاؤل مرتفعة هذا الصباح.
من العصر حتى المغرب محاضرة عن معركة «ديروم» أو دير البلح تكلم فيها ثلاثة من الإخوان الأول عبدالعزيز علي (60) والثاني السهيل الفرماوي (61) والثالث يوسف طلعت وجميعهم ممن شهدوها، وقد كان الثالث قائدها، وعليه - فيما أخبرني أحد رجال الجيش المصري- تعود مسؤولية استشهاد أثنى عشر أخاً من أحسن الإخوان، لكني بعد سماعي له ولزميليه أبرؤه، فليس هو المسؤول، وإن لم يكن بريئاً، ولكن المسؤول هو الفهم الديني الذي تدخل في المعركة، فهم نصوص ذكرت في مناسبات خاصة، على أنها لوازم وتقاليد للقتال الإسلامي، ذكر المحاضر الأول أنه كان يريد الانسحاب عندما انفرد عن إخوانه ومنعه آية تذكرها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ» (62)!.. فكاد أن يلقى حتفه لو لم يسارع بالانسحاب بمساعدة زميل!. وذكر الثاني: «والمغيرات صبحاً» (63) في معرض الاستدلال لضرورة وجوب الهجوم صباحاً وليس مساء، وياله من فهم، أما الثالث فقد ذكر أن بعض الإخوان خاطبه في عدم خوض هذه المعركة لما تراءى له أن الأحوال ليست على مايرام، لكنه رفض قائلاً: ما كان لنبي أن يخلع لأمته بعد أن لبسها، (64) كما ذكر أن الذين استشهدوا إنما أصابهم الرصاص لأنهم تركوا مواقعهم إلى العراء في طريقهم إلى المستعمرة، وذلك لأنهم تذكروا الآية «ادخلوا عليهم الباب» (65).
هوامش
56- ما فعلوه مع طه حسين بعد صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926م.
57 - عادّ يتهم: أي عاديون .
58 - ص.ع: ربما يقصد صالح عشماوي.
59 - أصدر الأستاذ جمال البنا كتابه «في نقد الماركسية» عام 1948م.
60 - عبدالعزيز علي: له أدوار مهمة في التاريخ النضالي عن طريق العمل السري المسلح خلال العشرينيات حتى الأربعينيات، وقد اختير في 7 سبتمبر 1925م وزيراً للشؤون البلدية في أول وزارة مدنية بعد ثورة يوليو تقديراً لدوره وتاريخه، واعتقل مع تنظيم 1965م الإخواني.
61 - السهيل الفرماوي: من أعضاء التنظيم الخاص لجماعة الإخوان.
62 - سورة «الأنفال» - آية رقم 15.
63 - سورة «العاديات» - آية رقم 3.
64 - قالها النبي في غزوة «أحد».
65- سورة «المائدة» - آية رقم 23.
http://www.annaharkw.com/annahar/Resources/ArticlesPictures/2013/07/16/401407_6ram1602_rotatorNew.jpg (http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=401407&date=16072013#)
http://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=401407&date=16072013