لمياء
02-14-2005, 11:05 AM
عاشوراء... حدث تاريخي تجاوز الوجدان الشيعي المتألم ليصبح جزءاً من الدراما الإنسانية
فضل الله يرفض تعذيب الجسد ويعتبره «تخلفاً»... والمطران خضر يراه غير متوافق مع روحيّة الإسلام
بيروت - حاتم الزين
كثيراً ما يعي الإنسان ظاهرة فيراها وقد يعيش في جوقتها دونما معرفة بأصولها التاريخية والعوامل التي غذتها, ولعل أخطر ما يمكن البحث أو التحقيق فيه هو تلك الظواهر التي لها عمق ديني, ومن تلك الظواهر عاشوراء، المرتبط إحياؤها بالعديد من المراسم اختلفت الآراء من مختلف المشارب حولها, أسئلة كثيرة نطرحها حول إحياء عاشوراء وقد نجد لها جواباً وقد لا نجد, ومنها: متى بدأ إحياء عاشوراء؟ وما هي التقاليد التي ارتبطت بها وتاريخها كالمجالس العاشورائية والمسرح العاشورائي؟ وما هي الآراء حول طرق الإحياء مع الاقتراحات؟
كربلاء، تلك الصحراء التي لم تُعرف إلا باسمها الذي يعني «معبد الآلهة»، كانت أرض الحدث أو الواقعة منذ عام 61 للهجرة, لقد كانت مسرحاً واقعياً لصراع بين فئتين تتعارض قيمهما ومنهجهما ورؤيتهما للواقع .
ومن هذا الحدث التاريخي البارز، أي قتل الإمام الحسين، بدأت زينب أخت الإمام الحسين وكذلك أبناؤه بدور إعلامي لتسويق هذه الثورة بين أذهان المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً، عبر الأدب الشفوي الذي ينقل عنهم ما جرى في كربلاء.
وهكذا، كانت انطلاقة الأحزان التي عززها ورسّخها حينها الشعر، ذلك المنبر الإعلامي الأبرز والأسرع في دخول وجدان كل إنسان.
متى بدأ إحياء عاشوراء؟
يقول المؤرخ حسن الأمين «إن مجرد الاحتفال شيء وتطوره شيء آخر، فأول احتفال بذكرى مقتل الحسين هو احتفال التوابين على قبر الحسين، وهذا في العهد الأموي, إذ كانت تقام مراسم هذه الذكرى في بيوت الأئمة في شكل خاص», وأضاف أن «أهم شيء في الاحتفالات، زيارة قبر الحسين، ويدل على ذلك ما فعله المتوكل العباسي بمنعه زيارة القبر حيث إنه هدمه وحاول طمسه».
وأشار الأمين إلى أن «الاحتفالات في شكلها العلني بدأت حينما أصبح للشيعة دول وبالتحديد مع البويهيين (في منتصف القرن الرابع للهجرة), فكان كلما يضعف الحكم الشيعي ينعكس ذلك سلبياً على إحياء عاشوراء».
ففي عهد البويهيين كان يعرف الأثر الشيعي التجاري في بغداد في اليوم العاشر من شهر محرم لأنهم كانوا يحيون عاشوراء فقط في هذا اليوم, أما التطور في طرق الإحياء واتخاذ الأيام العشرة الأول من محرم كفترة إحياء، فقد بدأ مع الحكم الصفوي (الصفويين).
ما هي أشكال الإحياء، وما هي التقاليد التي ارتبطت بها؟
إن إحياء أي مناسبة هو شكل من أشكال التعبير يتخذ مظاهر شتى, فعاشوراء بيننا وبينها 1363 عاماً هجرياً, من هنا، كان الزمن عامل مساهمة في تحويل مجرى الإحياء الثابت ـ وإن ببطء ـ من خلال الاقتباس من الموروث الشعبي القديم أو من خلال استيراد بعض أشكال التعبير وشرعنتها.
ولذلك سنعرض مراسم الإحياء قبل الدخول في الآراء التي تتناولها.
أ ـ مجالس العزاء والشعر الحسيني:
يعتبر السيد جعفر مرتضى أن المجالس بدأت منذ عهد الإمام علي بن الإمام الحسين والذي كان حاضراً في كربلاء، ما يعني أنها بدأت في العهد الأموي, وأضاف أن أئمة أهل البيت كانوا يقيمون مجالس شعرية في بيوتهم, وقد ذهب مرتضى إلى أبعد من ذلك بقوله «إن الحزن على الإمام الحسين بدأ حسب الروايات منذ آدم، وكان النبي يجمع الناس للحزن والبكاء على الحسين، وهذا ثابت في النصوص التي لا يمكن النقاش فيها», وأشار الشيخ علي سليم، قارئ مجالس العزاء في «حزب الله،» إلى أنه «كان في بداية إحياء عاشوراء شعر ثم تدريجاً صار هناك خطيب وناعِِ ينعى الإمام الحسين، وبالتالي واحد يقرأ الشعر وآخر السيرة ثم أصبح في النهاية شخص واحد يقرأ السيرة والشعر».
وكانت الآلية المعتمدة وما زالت في مجالس العزاء، الشعر الحسيني الذي يعرّفه الشاعر حسن خليفة بأنه هو الشعر الذي قيل في الإمام الحسين وفي تمجيد ثورته وواقعة الطف.
ومن هنا، كما يقول المؤرخ الدكتور إبراهيم بيضون في كتابه «ثورة الحسين حدثاً وإشكاليات»، بدأ يتركب النص الحسيني على تراث الحزن، وأخذت مجالس العزاء التي انتشرت في بقاع الأرض تردد المأساة، وتضيف إليها ما يشحن النفوس ويعمّق الحقد على الظالمين الذين أراقوا دم البطل.
واعتبر بيضون أن الكبت، الظلم النفسي، الفقر، الجبروت، الاحتلال، الاستكبار,,, جميعها مفردات عاشت بين ضلوع الشيعة مدى الدهور، وما انفكت تواجه بعضهم في هذا العصر,,, وكلها أدت، بصورة أو بأخرى إلى رفع وتيرة العزاء الحسيني وشحن خطابه.
ب ـ مواكب العزاء والإضرابات:
اعتبر الدكتور إبراهيم الحيدري، في كتابه «تراجيديا كربلاء»، أن من المعلومات التاريخية التي اتفق عليها أغلب المؤرخين، أن أول موكب عزاء عام أقيم رسميا كان في زمن معز الدولة البويهي عام 963، حيث قامت أول الاحتفالات العلنية يوم عاشوراء في شوارع بغداد.
وهذا ما أكدّه المؤرخ حسن الأمين الذي أضاف أن هذه المواكب كانت عادية وأنه كان يصار لتعطيل الأسواق وإغلاق المحال عند الشيعة.
ج ـ مواكب اللطامة:
وتتكون هذه المواكب من مجموعة أو مجموعات من الرجال تقوم بلطم صدورها بالأيدي كطقس ديني ـ شعبي، مواساة للإمام الحسين وأهل بيته في مأساتهم.
بيد أن مواكب اللطم هذه أخذت تتطور عبر اللطم لا بالأيدي بل بالسلاسل الحديد أو ما يسمى الزناجيل ويتكون الزنجيل من مجموعة من السلاسل الحديد الصغيرة المربوطة من الأسفل بمقبض خشب أو حديد يضرب بها على الظهر والكتفين.
د ـ مواكب التطبير والقامات:
إن التطبير، كما يذكر الدكتور إبراهيم الحيدري، هو جرح الرؤوس الحليقة بالقامات بضربات ليست عميقة.
وأما القامات ومفردها قامة فهي سيوف مستقيمة حادة الجانبين تشبه السيوف الرومانية القديمة، وافضل أنواعها الروسية والتركية.
هـ ـ المسرح العاشورائي:
بدأ المسرح العاشورائي مع الإيرانيين وقد جرى أولى العروض المسرحية في شيراز يوم عاشوراء عام 1011هـ/1602م، أي في عهد الصفويين.
الفنان الدكتور بطرس روحانا، أشار إلى أن المنطقة العربية ولبنان لم يعرفا عاشوراء في شكلها المسرحي إلا في بداية القرن الماضي, ولفت إلى أن أول من دعا ونظم وبادر إلى تنفيذ المسرح العاشورائي كان طالباً إيرانياً من عائلة ميرزا وكان يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت, وقد استحصل على إذن خاص من السلطات في ذلك الحين بعد ضغط من القنصلية الإيرانية, وصرح الدكتور إبراهيم الحيدري، في كتابه الذي ذكرنا، بأن عدداً من التجار الإيرانيين، كانوا يحتفلون بذكرى عاشوراء بعد إذن خاص من الباب العالي في النبطية، وذلك بأداء تمثيلية تروي واقعة كربلاء ويؤديها شخصان وباللغة الفارسية، واحد يمثل الإمام الحسين وآخر يمثل الشمر قاتل الحسين.
وأضاف الحيدري أنه في اليوم العاشر من محرم عام 1921 قامت مجموعة من الشباب اللبناني بتمثيل واقعة الطف بكربلاء، وللمرة الاولى في مدينة النبطية, وكان نص المسرحية مترجماً من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية عام 1927.وقال روحانا «إن العمل المسرحي حينها اقتصر ولاعوام طويلة على مبارزات كلامية غير طويلة ومقتل الحسين ثم اقتياد السبايا وعلى رأسهم الإمام زين العابدين على جمال وأحصنة كانت متوافرة وشيئاً فشيئاً دخل هذا الاحتفال المسرحي في المنطقة العربية».
والذي ساعد على إبقاء مقتل الحسين حدثاً تاريخياً عظيماً ـ كما يوضح روحانا ـ هو تنقيح علماء الشيعة لنصوص المجالس من الأساطير والغرائب والخيال وتحويلها نصوصاً عدلت وقسمت في شكل يستطيع شباب شيعة أن يمثلوا عاشوراء ـ إن صح التعبير ـ عبر محاورات بين أبطال المأساة, لكن النصوص هي نفسها التي تعتمد في المجالس لكن بصيغة تعبيرية مختلفة إذ أدخل المسرح والإكسسوارات والعناصر المسرحية والملابس والمكياج (التخضيب مع اللحى), وأدخلت في النبطية اللوحة التي تمثل صحراء كربلاء في خلفية الخشبة.
ومن المظاهر الأخرى التي يمكن أن نضيفها في النهاية زيارة مقامات الأئمة والذين قتلوا مع الحسين في عاشوراء وذكرى الأربعين، المعروفة عند الشيعة.
بعد عرضنا هذه الطرق الإحيائية لعاشوراء نسأل السؤال الأبرز: ما هي الآراء في هذه المراسم؟
القيمة الفنية للشعر المتداول بين قراء العزاء
يدخلك الشاعر حسين خليفة في حديثه عن الشعر الحسيني وقيمته الفنية إلى أعماق التاريخ إذ يقول: إن أهل البيت وظفوا الطاقات الفكرية لدعم ثورة الحسين وتخليصها من تشويه أولئك الذين اخذوا يكتبون أن الإمام الحسين قتل بسيف جده لأنه ثار على الخليفة ولا يجوز الخروج على الحاكم، فمقابل هذا قال أئمة أهل البيت (من قال فينا بيتاً من الشعر بنى الله له بيتا في الجنة)، وكانوا يعطون العطيات للشعراء كالكميت ودعبل الخزاعي والسيد الحميري، حتى أن ياقوت الحموي أسمّى قصيدة دعبل التائية بالقصيدة المذهبة, فتوظيف الأئمة للشعر له هدف فكري وإعلامي، لأن الشعر يلتقي مع القرآن والسنة النبوية بما له من طاقةٍ مفتوحةٍ على القراءة المتنوعة المستمرة, وقد قسم الشاعر حسن خليفة (الأخ التوأم لحسين) الشعر الحسيني اقساماً عدة, وقال: إن أولى القصائد كانت ارتجالية بمجرد أن سمع الشعراء باستشهاد الإمام الحسين, وقيمة الارتجال الفنية أقل من غيرها وإن كان هناك بعض المرتجلات التي تبدو قيمتها أقوى, وهناك بعض القصائد النخبوية كالقصيدة اللامية للشريف الرضي الذي كان يكتب في كل يوم عاشوراء الشعر والتي مطلعها:
راحل أنت والليالي نزول
ومضرٌّ بك البقاء الطويل
فهذه القصيدة تعتبر من عيون الشعر العربي وعلى مثالها يوجد الكثير, فالمنسجم مع مبادئ الحسين يضيف إلى شعره عنصر الإلهاب الذي يتعاطف معه أي إنسان فالثورة ملهمة لكل الشعراء وخصبة جداً.
ويضيف الشاعر حسن خليفة أن هناك قصائد كثيرة من محبي الحسين فيها العديد من الركاكة واستصحاب الكلاسيكية, فهناك مثلاً قصيدة كربلاء لا زلت كرباً وبلا للشريف الرضي والتي يقرأها الرواديد دائماً، واعتبرها بعض النقاد منتحلة على الشريف الرضي لأن قيمتها الفنية أقل من قيمة قصائد الشريف الرضي الأخرى, لكن الواقع أن الشريف الرضي قالها ارتجالاً، عندما كان زعيماً لموكب عاشوراء في زيارة الإمام الحسين في كربلاء وكان غرضها الاستنهاض, فالهدف هو الذي يحدد القصيدة ومقدرة الشاعر, أما خليفة فاعتبر أن قصيدة محمد مهدي الجواهري العينية هي أول قصيدة حققت الشروط الفنية الجديدة والشروط الموضوعية من حيث المضمون وجسدت ثورة الحسين جامعة بين العبَرة والعِبرة .
فالجواهري استثار العَبرة (بفتح العين) بقوله :
كأن يداً من وراء الضريح
حمراء مبتورة الإصبع
واستثار أيضاً العِبرة (بكسر العين) حينما يقول :
شممت ثراك فهب النسيم
نسيم الكرامة من بلقع
وأشار إلى أن الجواهري جمع بين الجانب الثوري والجانب العاطفي لا المأسوي, بينما قبله كان شعراً مأسوياً، فقط يريد أن يستدر الدموع ولم يرتفع إلى ثورة الحسين من حيث الفكرة والمضمون وأهداف الثورة, بل على العكس فقد مثل ذلك الشعر القديم الصيغة العشائرية فصوّر الحسين أنه يمثل بني هاشم ويزيد يمثل بني أمية وأنه أيضاً كان هناك عداوات بين هاشم وأميّة قبل الإسلام, فالشاعر الحسيني أراد أن يستثير الحمية الهاشمية على الحمية الأموية رابطاً هذه الاستثارة بالإمام المهدي.
ويكمل خليفة أن قصيدة الجواهري كانت الشرارة الأولى في التغيير في الشعر الحسيني لأنه جمع بين الدعوة إلى الثورة والكرامة والعِبرة والعَبرة, وجاء بعده الشاعر مصطفى جمال الدين في قصيدته البائية وبعده جاء شعراء شباب، ما جعل كربلاء تدخل الشعر العربي المعاصر حيث استخدم قضيتها شعراء غير شيعة كنزار قباني وبدر شاكر السياب ومسيحيون وملحدون ووجوديون وغيرهم ووظفوها في شعرهم, فالشاعر الفلسطيني أحمد دحبور عنده قصيدة «العودة الى كربلاء» وجعل علاقة تماهٍ بين كربلاء وفلسطين من حيث العطش الحسيني وترك العرب الفلسطينيين يواجهون مصيرهم بيدهم, وهناك رسالة ماجستير للشاعر العراقي علي الشلاه تحت عنوان «كربلاء في الشعر العربي المعاصر».
ويضيف أن الشعر الحسيني الحديث نجح واستطاع أن يمشي مع تيار الحداثة، من هنا يدعو خطباء المنبر الحسيني الى أن يتثقفوا ويأخذوا من هذا الشعر ويقرأوه على المنبر الحسيني.ويعلق على المجالس الحسينية، معتبراً أن ثورة الحسين دخلت إلى الوجدان الإنساني حتى أن شاعراً ألبانياً كتب ملحمة من آلاف عدة من الأبيات في الإمام الحسين, في حين يرى أن أكثر خطباء المنبر الحسيني ليسوا خطباء عندهم صوت جميل ونوع من التكسب من هذا المنبر وليس عندهم رسالية في المنبر، وليتهم متكسبون ويؤمنون برسالة.
بينما نجد مثلاً أن الشيخ أحمد الوائلي وهو شاعر، يختار قصائد رائعة ويحسن توظيف الشعر عندما يقرأ المجلس الحسيني, والسبب في تدني اختيار الشعر المناسب وتكرار ما قيل في الأعوام السابقة لغرض الإبكاء هو غياب النقد لهؤلاء الخطباء, فلو كانوا أوفياء لما يدعون لقاموا بتوفير العدة والاستعداد لتطوير مستواهم الثقافي وإلا فإنهم يساهمون بتجهيل الناس وتخلفهم وهذا عكس ثورة الحسين وأهدافها, فالسكوت عما يجري على المنابر من الانحطاط عبر معلومات خاطئة تدل على الأمية والجهل بحجة الحرص على البركة هو مشاركة في جريمة ثقافية.
تابع البحث ...
فضل الله يرفض تعذيب الجسد ويعتبره «تخلفاً»... والمطران خضر يراه غير متوافق مع روحيّة الإسلام
بيروت - حاتم الزين
كثيراً ما يعي الإنسان ظاهرة فيراها وقد يعيش في جوقتها دونما معرفة بأصولها التاريخية والعوامل التي غذتها, ولعل أخطر ما يمكن البحث أو التحقيق فيه هو تلك الظواهر التي لها عمق ديني, ومن تلك الظواهر عاشوراء، المرتبط إحياؤها بالعديد من المراسم اختلفت الآراء من مختلف المشارب حولها, أسئلة كثيرة نطرحها حول إحياء عاشوراء وقد نجد لها جواباً وقد لا نجد, ومنها: متى بدأ إحياء عاشوراء؟ وما هي التقاليد التي ارتبطت بها وتاريخها كالمجالس العاشورائية والمسرح العاشورائي؟ وما هي الآراء حول طرق الإحياء مع الاقتراحات؟
كربلاء، تلك الصحراء التي لم تُعرف إلا باسمها الذي يعني «معبد الآلهة»، كانت أرض الحدث أو الواقعة منذ عام 61 للهجرة, لقد كانت مسرحاً واقعياً لصراع بين فئتين تتعارض قيمهما ومنهجهما ورؤيتهما للواقع .
ومن هذا الحدث التاريخي البارز، أي قتل الإمام الحسين، بدأت زينب أخت الإمام الحسين وكذلك أبناؤه بدور إعلامي لتسويق هذه الثورة بين أذهان المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً، عبر الأدب الشفوي الذي ينقل عنهم ما جرى في كربلاء.
وهكذا، كانت انطلاقة الأحزان التي عززها ورسّخها حينها الشعر، ذلك المنبر الإعلامي الأبرز والأسرع في دخول وجدان كل إنسان.
متى بدأ إحياء عاشوراء؟
يقول المؤرخ حسن الأمين «إن مجرد الاحتفال شيء وتطوره شيء آخر، فأول احتفال بذكرى مقتل الحسين هو احتفال التوابين على قبر الحسين، وهذا في العهد الأموي, إذ كانت تقام مراسم هذه الذكرى في بيوت الأئمة في شكل خاص», وأضاف أن «أهم شيء في الاحتفالات، زيارة قبر الحسين، ويدل على ذلك ما فعله المتوكل العباسي بمنعه زيارة القبر حيث إنه هدمه وحاول طمسه».
وأشار الأمين إلى أن «الاحتفالات في شكلها العلني بدأت حينما أصبح للشيعة دول وبالتحديد مع البويهيين (في منتصف القرن الرابع للهجرة), فكان كلما يضعف الحكم الشيعي ينعكس ذلك سلبياً على إحياء عاشوراء».
ففي عهد البويهيين كان يعرف الأثر الشيعي التجاري في بغداد في اليوم العاشر من شهر محرم لأنهم كانوا يحيون عاشوراء فقط في هذا اليوم, أما التطور في طرق الإحياء واتخاذ الأيام العشرة الأول من محرم كفترة إحياء، فقد بدأ مع الحكم الصفوي (الصفويين).
ما هي أشكال الإحياء، وما هي التقاليد التي ارتبطت بها؟
إن إحياء أي مناسبة هو شكل من أشكال التعبير يتخذ مظاهر شتى, فعاشوراء بيننا وبينها 1363 عاماً هجرياً, من هنا، كان الزمن عامل مساهمة في تحويل مجرى الإحياء الثابت ـ وإن ببطء ـ من خلال الاقتباس من الموروث الشعبي القديم أو من خلال استيراد بعض أشكال التعبير وشرعنتها.
ولذلك سنعرض مراسم الإحياء قبل الدخول في الآراء التي تتناولها.
أ ـ مجالس العزاء والشعر الحسيني:
يعتبر السيد جعفر مرتضى أن المجالس بدأت منذ عهد الإمام علي بن الإمام الحسين والذي كان حاضراً في كربلاء، ما يعني أنها بدأت في العهد الأموي, وأضاف أن أئمة أهل البيت كانوا يقيمون مجالس شعرية في بيوتهم, وقد ذهب مرتضى إلى أبعد من ذلك بقوله «إن الحزن على الإمام الحسين بدأ حسب الروايات منذ آدم، وكان النبي يجمع الناس للحزن والبكاء على الحسين، وهذا ثابت في النصوص التي لا يمكن النقاش فيها», وأشار الشيخ علي سليم، قارئ مجالس العزاء في «حزب الله،» إلى أنه «كان في بداية إحياء عاشوراء شعر ثم تدريجاً صار هناك خطيب وناعِِ ينعى الإمام الحسين، وبالتالي واحد يقرأ الشعر وآخر السيرة ثم أصبح في النهاية شخص واحد يقرأ السيرة والشعر».
وكانت الآلية المعتمدة وما زالت في مجالس العزاء، الشعر الحسيني الذي يعرّفه الشاعر حسن خليفة بأنه هو الشعر الذي قيل في الإمام الحسين وفي تمجيد ثورته وواقعة الطف.
ومن هنا، كما يقول المؤرخ الدكتور إبراهيم بيضون في كتابه «ثورة الحسين حدثاً وإشكاليات»، بدأ يتركب النص الحسيني على تراث الحزن، وأخذت مجالس العزاء التي انتشرت في بقاع الأرض تردد المأساة، وتضيف إليها ما يشحن النفوس ويعمّق الحقد على الظالمين الذين أراقوا دم البطل.
واعتبر بيضون أن الكبت، الظلم النفسي، الفقر، الجبروت، الاحتلال، الاستكبار,,, جميعها مفردات عاشت بين ضلوع الشيعة مدى الدهور، وما انفكت تواجه بعضهم في هذا العصر,,, وكلها أدت، بصورة أو بأخرى إلى رفع وتيرة العزاء الحسيني وشحن خطابه.
ب ـ مواكب العزاء والإضرابات:
اعتبر الدكتور إبراهيم الحيدري، في كتابه «تراجيديا كربلاء»، أن من المعلومات التاريخية التي اتفق عليها أغلب المؤرخين، أن أول موكب عزاء عام أقيم رسميا كان في زمن معز الدولة البويهي عام 963، حيث قامت أول الاحتفالات العلنية يوم عاشوراء في شوارع بغداد.
وهذا ما أكدّه المؤرخ حسن الأمين الذي أضاف أن هذه المواكب كانت عادية وأنه كان يصار لتعطيل الأسواق وإغلاق المحال عند الشيعة.
ج ـ مواكب اللطامة:
وتتكون هذه المواكب من مجموعة أو مجموعات من الرجال تقوم بلطم صدورها بالأيدي كطقس ديني ـ شعبي، مواساة للإمام الحسين وأهل بيته في مأساتهم.
بيد أن مواكب اللطم هذه أخذت تتطور عبر اللطم لا بالأيدي بل بالسلاسل الحديد أو ما يسمى الزناجيل ويتكون الزنجيل من مجموعة من السلاسل الحديد الصغيرة المربوطة من الأسفل بمقبض خشب أو حديد يضرب بها على الظهر والكتفين.
د ـ مواكب التطبير والقامات:
إن التطبير، كما يذكر الدكتور إبراهيم الحيدري، هو جرح الرؤوس الحليقة بالقامات بضربات ليست عميقة.
وأما القامات ومفردها قامة فهي سيوف مستقيمة حادة الجانبين تشبه السيوف الرومانية القديمة، وافضل أنواعها الروسية والتركية.
هـ ـ المسرح العاشورائي:
بدأ المسرح العاشورائي مع الإيرانيين وقد جرى أولى العروض المسرحية في شيراز يوم عاشوراء عام 1011هـ/1602م، أي في عهد الصفويين.
الفنان الدكتور بطرس روحانا، أشار إلى أن المنطقة العربية ولبنان لم يعرفا عاشوراء في شكلها المسرحي إلا في بداية القرن الماضي, ولفت إلى أن أول من دعا ونظم وبادر إلى تنفيذ المسرح العاشورائي كان طالباً إيرانياً من عائلة ميرزا وكان يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت, وقد استحصل على إذن خاص من السلطات في ذلك الحين بعد ضغط من القنصلية الإيرانية, وصرح الدكتور إبراهيم الحيدري، في كتابه الذي ذكرنا، بأن عدداً من التجار الإيرانيين، كانوا يحتفلون بذكرى عاشوراء بعد إذن خاص من الباب العالي في النبطية، وذلك بأداء تمثيلية تروي واقعة كربلاء ويؤديها شخصان وباللغة الفارسية، واحد يمثل الإمام الحسين وآخر يمثل الشمر قاتل الحسين.
وأضاف الحيدري أنه في اليوم العاشر من محرم عام 1921 قامت مجموعة من الشباب اللبناني بتمثيل واقعة الطف بكربلاء، وللمرة الاولى في مدينة النبطية, وكان نص المسرحية مترجماً من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية عام 1927.وقال روحانا «إن العمل المسرحي حينها اقتصر ولاعوام طويلة على مبارزات كلامية غير طويلة ومقتل الحسين ثم اقتياد السبايا وعلى رأسهم الإمام زين العابدين على جمال وأحصنة كانت متوافرة وشيئاً فشيئاً دخل هذا الاحتفال المسرحي في المنطقة العربية».
والذي ساعد على إبقاء مقتل الحسين حدثاً تاريخياً عظيماً ـ كما يوضح روحانا ـ هو تنقيح علماء الشيعة لنصوص المجالس من الأساطير والغرائب والخيال وتحويلها نصوصاً عدلت وقسمت في شكل يستطيع شباب شيعة أن يمثلوا عاشوراء ـ إن صح التعبير ـ عبر محاورات بين أبطال المأساة, لكن النصوص هي نفسها التي تعتمد في المجالس لكن بصيغة تعبيرية مختلفة إذ أدخل المسرح والإكسسوارات والعناصر المسرحية والملابس والمكياج (التخضيب مع اللحى), وأدخلت في النبطية اللوحة التي تمثل صحراء كربلاء في خلفية الخشبة.
ومن المظاهر الأخرى التي يمكن أن نضيفها في النهاية زيارة مقامات الأئمة والذين قتلوا مع الحسين في عاشوراء وذكرى الأربعين، المعروفة عند الشيعة.
بعد عرضنا هذه الطرق الإحيائية لعاشوراء نسأل السؤال الأبرز: ما هي الآراء في هذه المراسم؟
القيمة الفنية للشعر المتداول بين قراء العزاء
يدخلك الشاعر حسين خليفة في حديثه عن الشعر الحسيني وقيمته الفنية إلى أعماق التاريخ إذ يقول: إن أهل البيت وظفوا الطاقات الفكرية لدعم ثورة الحسين وتخليصها من تشويه أولئك الذين اخذوا يكتبون أن الإمام الحسين قتل بسيف جده لأنه ثار على الخليفة ولا يجوز الخروج على الحاكم، فمقابل هذا قال أئمة أهل البيت (من قال فينا بيتاً من الشعر بنى الله له بيتا في الجنة)، وكانوا يعطون العطيات للشعراء كالكميت ودعبل الخزاعي والسيد الحميري، حتى أن ياقوت الحموي أسمّى قصيدة دعبل التائية بالقصيدة المذهبة, فتوظيف الأئمة للشعر له هدف فكري وإعلامي، لأن الشعر يلتقي مع القرآن والسنة النبوية بما له من طاقةٍ مفتوحةٍ على القراءة المتنوعة المستمرة, وقد قسم الشاعر حسن خليفة (الأخ التوأم لحسين) الشعر الحسيني اقساماً عدة, وقال: إن أولى القصائد كانت ارتجالية بمجرد أن سمع الشعراء باستشهاد الإمام الحسين, وقيمة الارتجال الفنية أقل من غيرها وإن كان هناك بعض المرتجلات التي تبدو قيمتها أقوى, وهناك بعض القصائد النخبوية كالقصيدة اللامية للشريف الرضي الذي كان يكتب في كل يوم عاشوراء الشعر والتي مطلعها:
راحل أنت والليالي نزول
ومضرٌّ بك البقاء الطويل
فهذه القصيدة تعتبر من عيون الشعر العربي وعلى مثالها يوجد الكثير, فالمنسجم مع مبادئ الحسين يضيف إلى شعره عنصر الإلهاب الذي يتعاطف معه أي إنسان فالثورة ملهمة لكل الشعراء وخصبة جداً.
ويضيف الشاعر حسن خليفة أن هناك قصائد كثيرة من محبي الحسين فيها العديد من الركاكة واستصحاب الكلاسيكية, فهناك مثلاً قصيدة كربلاء لا زلت كرباً وبلا للشريف الرضي والتي يقرأها الرواديد دائماً، واعتبرها بعض النقاد منتحلة على الشريف الرضي لأن قيمتها الفنية أقل من قيمة قصائد الشريف الرضي الأخرى, لكن الواقع أن الشريف الرضي قالها ارتجالاً، عندما كان زعيماً لموكب عاشوراء في زيارة الإمام الحسين في كربلاء وكان غرضها الاستنهاض, فالهدف هو الذي يحدد القصيدة ومقدرة الشاعر, أما خليفة فاعتبر أن قصيدة محمد مهدي الجواهري العينية هي أول قصيدة حققت الشروط الفنية الجديدة والشروط الموضوعية من حيث المضمون وجسدت ثورة الحسين جامعة بين العبَرة والعِبرة .
فالجواهري استثار العَبرة (بفتح العين) بقوله :
كأن يداً من وراء الضريح
حمراء مبتورة الإصبع
واستثار أيضاً العِبرة (بكسر العين) حينما يقول :
شممت ثراك فهب النسيم
نسيم الكرامة من بلقع
وأشار إلى أن الجواهري جمع بين الجانب الثوري والجانب العاطفي لا المأسوي, بينما قبله كان شعراً مأسوياً، فقط يريد أن يستدر الدموع ولم يرتفع إلى ثورة الحسين من حيث الفكرة والمضمون وأهداف الثورة, بل على العكس فقد مثل ذلك الشعر القديم الصيغة العشائرية فصوّر الحسين أنه يمثل بني هاشم ويزيد يمثل بني أمية وأنه أيضاً كان هناك عداوات بين هاشم وأميّة قبل الإسلام, فالشاعر الحسيني أراد أن يستثير الحمية الهاشمية على الحمية الأموية رابطاً هذه الاستثارة بالإمام المهدي.
ويكمل خليفة أن قصيدة الجواهري كانت الشرارة الأولى في التغيير في الشعر الحسيني لأنه جمع بين الدعوة إلى الثورة والكرامة والعِبرة والعَبرة, وجاء بعده الشاعر مصطفى جمال الدين في قصيدته البائية وبعده جاء شعراء شباب، ما جعل كربلاء تدخل الشعر العربي المعاصر حيث استخدم قضيتها شعراء غير شيعة كنزار قباني وبدر شاكر السياب ومسيحيون وملحدون ووجوديون وغيرهم ووظفوها في شعرهم, فالشاعر الفلسطيني أحمد دحبور عنده قصيدة «العودة الى كربلاء» وجعل علاقة تماهٍ بين كربلاء وفلسطين من حيث العطش الحسيني وترك العرب الفلسطينيين يواجهون مصيرهم بيدهم, وهناك رسالة ماجستير للشاعر العراقي علي الشلاه تحت عنوان «كربلاء في الشعر العربي المعاصر».
ويضيف أن الشعر الحسيني الحديث نجح واستطاع أن يمشي مع تيار الحداثة، من هنا يدعو خطباء المنبر الحسيني الى أن يتثقفوا ويأخذوا من هذا الشعر ويقرأوه على المنبر الحسيني.ويعلق على المجالس الحسينية، معتبراً أن ثورة الحسين دخلت إلى الوجدان الإنساني حتى أن شاعراً ألبانياً كتب ملحمة من آلاف عدة من الأبيات في الإمام الحسين, في حين يرى أن أكثر خطباء المنبر الحسيني ليسوا خطباء عندهم صوت جميل ونوع من التكسب من هذا المنبر وليس عندهم رسالية في المنبر، وليتهم متكسبون ويؤمنون برسالة.
بينما نجد مثلاً أن الشيخ أحمد الوائلي وهو شاعر، يختار قصائد رائعة ويحسن توظيف الشعر عندما يقرأ المجلس الحسيني, والسبب في تدني اختيار الشعر المناسب وتكرار ما قيل في الأعوام السابقة لغرض الإبكاء هو غياب النقد لهؤلاء الخطباء, فلو كانوا أوفياء لما يدعون لقاموا بتوفير العدة والاستعداد لتطوير مستواهم الثقافي وإلا فإنهم يساهمون بتجهيل الناس وتخلفهم وهذا عكس ثورة الحسين وأهدافها, فالسكوت عما يجري على المنابر من الانحطاط عبر معلومات خاطئة تدل على الأمية والجهل بحجة الحرص على البركة هو مشاركة في جريمة ثقافية.
تابع البحث ...