مجاهدون
02-11-2005, 01:10 PM
محمد عبيد غباش
تدخل قبل أيام المرشد الأعلى في إيران في الصراع بين المحافظين ووزراء حكومة خاتمي الإصلاحيين. وقبل ذلك بأسبوع زار الرئيس اللبناني لحود البطريرك نصر الله صفير لينال مباركته على قانون جديد للانتخابات. ومن نصر الله الزعيم الماروني إلى نصر الله الزعيم الشيعي وأمين عام حزب الله، نتلمّس في المنطقة العربية ومحيطها الشرق الأوسطي ثقل وزن رجال الدين ومؤسساتهم:
في العراق يمتلك المرجع الشيعي السيستاني تأثيراً سياسياً كبيراً في أوساط الأغلبية الشيعية، وتأثيره قد يكون الأكثر حسماً في الانتخابات العراقية التي ستعقد بعد يومين، لكن علماء السنة في العراق لا يقلّون تأثيراً عنه في مناطقهم، ودورهم المعارض لعقد الانتخابات قد يكون هو الآخر مؤثراً، عبر نزع سمة تمثيل هذه الانتخابات للإرادة الفعلية لعموم شعب العراق بإثنياته المختلفة.
وبعض علماء الدين رحل عن عالمنا في الأشهر الماضية، الشهيد الشيخ ياسين في فلسطين، الذي قتل على أيدي قوات إسرائيلية لم تراع لا شيخوخته ولا كونه مقعداً، ورحل أيضاً الإمام الحوثي في اليمن، الذي قاد عملية تمرد عسكرية ضد الحكومة المركزية. في السودان يعاني الترابي من الحبس، لكنه قد يجد بعض العزاء من إدراكه أن الكثير من تلامذته ومريديه يشغلون مواقع قيادية في الدولة السودانية.
لكن برغم النكسات، فان العين لا تخطئ ظاهرة التأثير غير العادي للمؤسسة الدينية وقادتها. الكثير من الدراسات حلل هذا التأثير الكبير، أحد الأسباب التي تم رصدها يعود لعملية استئصال السياسة من حياتنا العامة، التي مارستها دولنا العربية عبر نصف قرن، بحيث لم يكن ممكناً للسياسة أن تظهر إلا بشكل مموّه وغير مباشر، من خلال المساجد والكنائس على سبيل المثال.
سبب آخر مبعثه حالة اليأس والإحباط التي أصيبت بها الأجيال الشابة، نتيجة البطالة العالية وانخفاض الأجور والعجز عن بدء حياة طبيعية كريمة في الحد الأدنى، (العجز عن توفير السكن، عدم القدرة على الزواج...)، والتوجه للدين عند هذه الأجيال يمثل «صرخة في عالم لا قلب له» بحسب تعبير احد المفكرين، ثم هناك عملية التأليب ضد المعسكر الشرقي، التي قام بها العديد من دولنا العربية ودعمها في ذلك المعسكر الغربي، وكانت الفكرة هي تحصيننا من تأثيرات المد الشيوعي بحقنة عالية من التديّن، لكن عملية التأليب هذه تواصلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحولت إلى عملية تأليب ضد الغرب المؤلب، وضد آخرين ممن لا يدينون بديننا. وشهدنا ولا نزال نتائج هذه العملية في الصراع الكبير الدائر بحدة منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى اليوم، الذي تقوده قوى دينية تزعم تصديها للوجود الغربي أو المسيحي أو المذهبي أو العلماني،
وكانت نتيجة تنامي الحركات الدينية تعاظم أسهم المؤسسة الدينية ومكانة رجالها،
لكن الغريب، بل والمذهل في الأمر، أن التأثير المتزايد للحركات الدينية ورموزها القيادية لم تصاحبه تحولات روحية أو أخلاقية في نفوس شعوبنا، بل على العكس، فهي تترافق مع حالة من التفسخ الأخلاقي، وتعاظم ممارسات الرياء في حياتنا الاجتماعية، جنباً لجنب مع توطن واستفحال الفساد في مؤسساتنا العامة.
مكانة رجال الدين تكبر، لكن التفسخ الروحي يكبر أيضا. هذه الأحجية تقتضي شيئا من التفكير.
بداية دعونا نزيل التباساً من السهل الوقوع فيه، إذ ليس رجال الدين هم الذين يدفعون الناس للفساد، بلا شك أن فئة قليلة منهم قد تمارس أشكالا من الانحراف، مثلها في ذلك مثل كل رجال الدين في العالم وهو فساد مرتبط بكونهم بشرا. لكن الترابط بين الظاهرتين قد يكون مبعثه انصراف علماء الدين عن دورهم التربوي المناقبي سعياً وراء السياسة: الظن بأنه حينما يظهر خميني جديد في بلد، فانه عبر قرارات حكومة، سيكون أكثر قدرة على إصلاح الناس وعلى توفير معطيات الحياة الروحية.
بيد أن التجارب القليلة التي نجح فيها رجال الدين في السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور (إيران، باكستان، السودان وأفغانستان)، تعطينا جملة مؤشرات خطيرة، علينا إدراك نتائجها بعمق. أول المؤشرات أن السلطة السياسية بسبب تحكمها في توزيع الموارد والمنافع، تمثل مناخاً خصباً للإفساد، ومهما كان البشر متحصنين ومستعدين فان عملية الاقتراب من المغانم، تعني أن الإفساد حتمي للحكام الجدد، والحالات القليلة لبعض الأشخاص الذين يصمدون في وجه الفساد تؤكد صحة هذا القانون الحديدي الذي لا يفلت منه أحد:
ان السلطة قادرة على إفساد كل البشر، خصوصا حينما تكون سلطة تامة لا يضبطها برلمان مستقل أو قضاء محايد أو صحافة حرة، وهي مؤسسات وممارسات لم تتوفر أبداً لأي من تجارب حكم رجال الدين.
النتيجة الحتمية لاقتراب حراس الدين من ثروات الدولة هو الفساد. والنتائج الحتمية لهذا الفساد أن المواطنين سينظرون لعلمائهم كطبقة فاسدة. ومن يعتقد أن هذه النظرة ستتوقف عند هذا الحد ولن تطال الدين نفسه، يعيش عملية كذب على النفس، وما على المتشكك إلا أن يرصد اللامبالاة والهزء الذي يعصف بالأجيال الشابة في طهران تجاه المتدينين. ومن يستطيع أن يلومهم على ذلك، وهو يشاهد جمهور آيات الله ينعمون بالترف والمزايا فيما شعبهم يرسف في الفقر والحاجة؟
وحتى لو افترضنا أن جيلاً من علماء الدين (الأطهار) صار في الحكم، وأنهم يتمتعون بنقاء القلب ونظافة اليدين، فان احتراف هؤلاء للحكم يعني في ما يعنيه استقالتهم من واجبهم التربوي في المجتمع، واجبهم كمعلمين ومرشدين للأخلاق والمناقب، وكناشرين للصدق والأمانة وحسن المعاملة، وكدعاة للرحمة والمودة بين الناس، وهو يعني أيضاً تخليهم عن واجبهم المدني الخيري في إغاثة الناس المحتاجين، وفي رعاية العجزة وحماية اليتامى ونصرة المظلومين، في أن يمارسوا لا دور الدولة، بل دور المراقب لها والناقد لقصورها والبديل عنها في الفضاء المدني، لا السياسي، حين تتخلى عن مسؤولياتها.
تدخل قبل أيام المرشد الأعلى في إيران في الصراع بين المحافظين ووزراء حكومة خاتمي الإصلاحيين. وقبل ذلك بأسبوع زار الرئيس اللبناني لحود البطريرك نصر الله صفير لينال مباركته على قانون جديد للانتخابات. ومن نصر الله الزعيم الماروني إلى نصر الله الزعيم الشيعي وأمين عام حزب الله، نتلمّس في المنطقة العربية ومحيطها الشرق الأوسطي ثقل وزن رجال الدين ومؤسساتهم:
في العراق يمتلك المرجع الشيعي السيستاني تأثيراً سياسياً كبيراً في أوساط الأغلبية الشيعية، وتأثيره قد يكون الأكثر حسماً في الانتخابات العراقية التي ستعقد بعد يومين، لكن علماء السنة في العراق لا يقلّون تأثيراً عنه في مناطقهم، ودورهم المعارض لعقد الانتخابات قد يكون هو الآخر مؤثراً، عبر نزع سمة تمثيل هذه الانتخابات للإرادة الفعلية لعموم شعب العراق بإثنياته المختلفة.
وبعض علماء الدين رحل عن عالمنا في الأشهر الماضية، الشهيد الشيخ ياسين في فلسطين، الذي قتل على أيدي قوات إسرائيلية لم تراع لا شيخوخته ولا كونه مقعداً، ورحل أيضاً الإمام الحوثي في اليمن، الذي قاد عملية تمرد عسكرية ضد الحكومة المركزية. في السودان يعاني الترابي من الحبس، لكنه قد يجد بعض العزاء من إدراكه أن الكثير من تلامذته ومريديه يشغلون مواقع قيادية في الدولة السودانية.
لكن برغم النكسات، فان العين لا تخطئ ظاهرة التأثير غير العادي للمؤسسة الدينية وقادتها. الكثير من الدراسات حلل هذا التأثير الكبير، أحد الأسباب التي تم رصدها يعود لعملية استئصال السياسة من حياتنا العامة، التي مارستها دولنا العربية عبر نصف قرن، بحيث لم يكن ممكناً للسياسة أن تظهر إلا بشكل مموّه وغير مباشر، من خلال المساجد والكنائس على سبيل المثال.
سبب آخر مبعثه حالة اليأس والإحباط التي أصيبت بها الأجيال الشابة، نتيجة البطالة العالية وانخفاض الأجور والعجز عن بدء حياة طبيعية كريمة في الحد الأدنى، (العجز عن توفير السكن، عدم القدرة على الزواج...)، والتوجه للدين عند هذه الأجيال يمثل «صرخة في عالم لا قلب له» بحسب تعبير احد المفكرين، ثم هناك عملية التأليب ضد المعسكر الشرقي، التي قام بها العديد من دولنا العربية ودعمها في ذلك المعسكر الغربي، وكانت الفكرة هي تحصيننا من تأثيرات المد الشيوعي بحقنة عالية من التديّن، لكن عملية التأليب هذه تواصلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحولت إلى عملية تأليب ضد الغرب المؤلب، وضد آخرين ممن لا يدينون بديننا. وشهدنا ولا نزال نتائج هذه العملية في الصراع الكبير الدائر بحدة منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى اليوم، الذي تقوده قوى دينية تزعم تصديها للوجود الغربي أو المسيحي أو المذهبي أو العلماني،
وكانت نتيجة تنامي الحركات الدينية تعاظم أسهم المؤسسة الدينية ومكانة رجالها،
لكن الغريب، بل والمذهل في الأمر، أن التأثير المتزايد للحركات الدينية ورموزها القيادية لم تصاحبه تحولات روحية أو أخلاقية في نفوس شعوبنا، بل على العكس، فهي تترافق مع حالة من التفسخ الأخلاقي، وتعاظم ممارسات الرياء في حياتنا الاجتماعية، جنباً لجنب مع توطن واستفحال الفساد في مؤسساتنا العامة.
مكانة رجال الدين تكبر، لكن التفسخ الروحي يكبر أيضا. هذه الأحجية تقتضي شيئا من التفكير.
بداية دعونا نزيل التباساً من السهل الوقوع فيه، إذ ليس رجال الدين هم الذين يدفعون الناس للفساد، بلا شك أن فئة قليلة منهم قد تمارس أشكالا من الانحراف، مثلها في ذلك مثل كل رجال الدين في العالم وهو فساد مرتبط بكونهم بشرا. لكن الترابط بين الظاهرتين قد يكون مبعثه انصراف علماء الدين عن دورهم التربوي المناقبي سعياً وراء السياسة: الظن بأنه حينما يظهر خميني جديد في بلد، فانه عبر قرارات حكومة، سيكون أكثر قدرة على إصلاح الناس وعلى توفير معطيات الحياة الروحية.
بيد أن التجارب القليلة التي نجح فيها رجال الدين في السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور (إيران، باكستان، السودان وأفغانستان)، تعطينا جملة مؤشرات خطيرة، علينا إدراك نتائجها بعمق. أول المؤشرات أن السلطة السياسية بسبب تحكمها في توزيع الموارد والمنافع، تمثل مناخاً خصباً للإفساد، ومهما كان البشر متحصنين ومستعدين فان عملية الاقتراب من المغانم، تعني أن الإفساد حتمي للحكام الجدد، والحالات القليلة لبعض الأشخاص الذين يصمدون في وجه الفساد تؤكد صحة هذا القانون الحديدي الذي لا يفلت منه أحد:
ان السلطة قادرة على إفساد كل البشر، خصوصا حينما تكون سلطة تامة لا يضبطها برلمان مستقل أو قضاء محايد أو صحافة حرة، وهي مؤسسات وممارسات لم تتوفر أبداً لأي من تجارب حكم رجال الدين.
النتيجة الحتمية لاقتراب حراس الدين من ثروات الدولة هو الفساد. والنتائج الحتمية لهذا الفساد أن المواطنين سينظرون لعلمائهم كطبقة فاسدة. ومن يعتقد أن هذه النظرة ستتوقف عند هذا الحد ولن تطال الدين نفسه، يعيش عملية كذب على النفس، وما على المتشكك إلا أن يرصد اللامبالاة والهزء الذي يعصف بالأجيال الشابة في طهران تجاه المتدينين. ومن يستطيع أن يلومهم على ذلك، وهو يشاهد جمهور آيات الله ينعمون بالترف والمزايا فيما شعبهم يرسف في الفقر والحاجة؟
وحتى لو افترضنا أن جيلاً من علماء الدين (الأطهار) صار في الحكم، وأنهم يتمتعون بنقاء القلب ونظافة اليدين، فان احتراف هؤلاء للحكم يعني في ما يعنيه استقالتهم من واجبهم التربوي في المجتمع، واجبهم كمعلمين ومرشدين للأخلاق والمناقب، وكناشرين للصدق والأمانة وحسن المعاملة، وكدعاة للرحمة والمودة بين الناس، وهو يعني أيضاً تخليهم عن واجبهم المدني الخيري في إغاثة الناس المحتاجين، وفي رعاية العجزة وحماية اليتامى ونصرة المظلومين، في أن يمارسوا لا دور الدولة، بل دور المراقب لها والناقد لقصورها والبديل عنها في الفضاء المدني، لا السياسي، حين تتخلى عن مسؤولياتها.