مجاهدون
02-11-2005, 01:02 PM
محمد عبيد غباش
الأعصاب أخذت في الانهيار. لغة السياسة اليومية في لبنان تزداد حدة واحتقاناً ساعة بعد ساعة. شيء عادي مثلاً أن تسمع رئيس الوزراء يتهم خصومه بأنهم «يسيرون وفق مخططات إسرائيل وأمريكا»، أو أن يقوم حزب باتهام رئيس حزب آخر بأنه وقد «أسكرته خمرة الإمارة يتنكر لليد التي امتدت له في ساعات الشدة فينهال عليها نهشاً وعضا»، وأن رجال المعارضة فقدوا رشدهم معللين النفس بقدوم الدبابات والجحافل الأمريكية والإسرائيلية.
لا يحتكر لبنان هذه اللغة ـ السكّين. نستحضر مائة سنة من التخوين والتشكيك المتبادل في الحياة السياسية العربية. جمال عبد الناصر في نهاية الستينات حين قبل المبادرة الأمريكية لوقف حرب الاستنزاف، أنور السادات في كامب ديفيد، ياسر عرفات في أوسلو، وربما عند البعض محمود عباس هذا الأسبوع في شرم الشيخ..
.
لغة السكاكين هذه إن كانت مقبولة في حقل السياسة (وهي غير مقبولة أبدا) لا يعقل أن تقتحم حقل الفكر والثقافة. ولكن هذا للأسف ما يحدث. فقد تناول المفكر بلال الحسن في كتاب جديد له مساهمات مجموعة من الكتاب العرب بالنقد. ولو أن النقد بقي نقداً كتحليل نصوص، أو غربلة للتناقضات، أو فضحا للتهافت المنطقي لما كانت هناك مشكلة، بل على العكس لاغتنت ثقافتنا السياسية العربية وتعمق فهمنا لظواهرها المعقدة.
المشكلة أن النقد تمخض عن إدانة عنيفة لهؤلاء الكتاب، واتهام لهم بأنهم يعملون على هدم صمودنا في وجه الهجمات الأجنبية، وتعبيد الطريق للهزيمة، وإضفاء الشرعية على الاحتلال، وأن هؤلاء المثقفين لا يزيدون عن كونهم طابورا خامسا يغني المستعمر عن أن يحارب بنفسه في حقل الثقافة لأنهم يحاربون نيابة عنه لنشر «ثقافة الاستسلام»، بحسب عنوان الكتاب.
ويصف مفكر آخر هو الكاتب فهمي هويدي العام المنصرم بأنه عام «الاختراق الكبير» من جانب «مثقفي» المارينز، ويقصد بالتعبير المثقفين العرب الذين يتهمهم بالترويج للغزو الأمريكي. وقام الأديب علي عقلة عرسان، أمين عام اتحاد الكتاب العرب، ومقره سوريا، الأسبوع الماضي باتخاذ قرار يفرض على الكتاب السوريين والعرب عدم الظهور على شاشة محطة «الحرة» الفضائية، وتهديد الكاتب الذي يفعل ذلك بالفصل من الاتحاد.
ولو حضر الكتاب الثلاثة بلال الحسن وفهمي هويدي وعلي عقلة عرسان في الأسبوع الماضي ندوة العلاقة بين الخليج العربي والولايات المتحدة في البحرين لهان عليهم «جرم» الكتّاب الذين تناولوهم، لأنهم كانوا سيستمعون لمثقفين يدعون بنبرة صريحة إلى قبول كامل لبرنامج الولايات المتحدة لإعادة تشكيل شرق أوسط جديد.
في تلك الندوة دعا متحدث تلو الآخر الى إعادة النظر في علاقة العداء التاريخية بيننا وبين الولايات المتحدة. وبرغم أن المؤتمر لم يخل من أصوات من المعسكر المعاكس، إلا أن زخم التأييد للولايات المتحدة كان هو الأكثر تواتراً والأعلى نبرة.
ما العمل مع هؤلاء؟
هل كان علينا أن نقذفهم بتهمة الخيانة والعمالة، وننظف أيدينا من المسألة برمتها، ونرحل لبيوتنا، أم نتحاور ونحاول أن نفهم؟
هل كان هؤلاء المثقفون ـ لأنهم في غالبيتهم من الكويت ـ يشعرون بالوفاء للولايات المتحدة لدورها في تحرير بلدهم من غزو صدام حسين؟ أم أنهم حقاً يرون أن الولايات المتحدة، برغم تأييدها الصارخ لإسرائيل، قادرة أيضا على تعويض ذلك في ميادين أخرى كالإصلاح الديمقراطي والتطوير الاقتصادي؟
بالطبع لا يوجد هناك حوار آمن بالكامل. فهناك دائما هامش للوقوع في الخطأ، لتبني سياسة ضالة، للدعوة إلى أشياء يتبين لاحقاً أنها قد أدت إلى طريق مسدود أو سببت خسائر فادحة. لكن لهذا السبب بالذات يجب أن يستمر الحوار مع الموقف الجديد أو الغريب أو الشاذ عن إجماع سابق، وعبر الحوار نستطيع أن نقارعه الحجة بالحجة، ونكشف له أو لمؤيديه ضلاله.
بيد أن الحوار ينقطع تماما، وندخل في كهف لا يُرى أو يُسمع فيه شيء، حالما ننقل الحوار إلى عالم التشكيك في الشخص، في انتمائه الوطني والقومي أو في صفته الآدمية كإنسان عاقل محفوظ الكرامة.
ليس مهما إن كان رأي حازم صاغية يؤدي إلى الاستسلام، أو مقترحات العفيف الأخضر «تروج لأمريكا»، فهذه توقعات وتوصيفات لمخالفيهم، قد تكون صحيحة وقد لا تكون. الحوار يجب ألا يأخذ منحى أن موقفاً ما سيؤدي إلى هذه المصيبة أو تلك الكارثة. الحوار يجب أن يرتهن بمدى الصحة في مضمونه المباشر وليس بنتائجه القيمية. الواضح أننا نبني حدوداً قاطعة في أذهاننا، ونرى كل من يخرج عليها خارجاً على المقدسات.
الرئيس سليم الحص، رئيس وزراء لبنان الأسبق، يصف مواقف لا يتفق معها بأنها جاوزت الخط الأحمر، من دون أن يشرح ويفصّل هوية من رسم هذا الخط أو حدد مسار ذلك الطريق المحرّم. وإذا نحن، كبشر، أطعنا التحريم الإلهي، فكيف نقبل التحريمات البشرية؟ لكن هذه هي الحكمة السائدة في السياسة العربية: عليك ألا تسير في الطريق.. وعليك ألا تعرف السبب أيضا.
لكن بعض علمائنا يجدون أن من الأسهل أن يضعوا الحدود والقواطع لمنعنا من تناول ما يرونه حراماً. فعلى سبيل المثال، الشيخ القرضاوي يتحدث دائما عن ثوابت لا تمس وغير قابلة للنقاش. ومحمد قطب كان قبل زمن بعيد يتكلم عن إطار الصورة:
أنت مباح لك أن تتحرك داخل الإطار لكن ليس خارجه. لكن مع تقديرنا لحكمائنا وفقهائنا، نحن قد لا نملك حكمتهم العقلية ولا رجاحة تفكيرهم، لكن ربما امتلكنا شيئاً أكثر أهمية: التجربة المتراكمة عبر آلاف السنين، انطلاقاً من اتهام سقراط بتضليل الشباب، وانتهاءً بتكفيرات الزرقاوي للمتوجهين لصناديق الاقتراع، ومروراً ـ دعونا لا ننسى ـ بقتيل الاضطهاد السياسي الشهيد سيد قطب، هذه التجربة تقول أيضاً شيئاً قاطعاً كسكين: لعبة الاضطهاد التي لا ترضى أن يمارسها أحد ضدّك يجب ألا تمارسها أنت على أحد.
الأعصاب أخذت في الانهيار. لغة السياسة اليومية في لبنان تزداد حدة واحتقاناً ساعة بعد ساعة. شيء عادي مثلاً أن تسمع رئيس الوزراء يتهم خصومه بأنهم «يسيرون وفق مخططات إسرائيل وأمريكا»، أو أن يقوم حزب باتهام رئيس حزب آخر بأنه وقد «أسكرته خمرة الإمارة يتنكر لليد التي امتدت له في ساعات الشدة فينهال عليها نهشاً وعضا»، وأن رجال المعارضة فقدوا رشدهم معللين النفس بقدوم الدبابات والجحافل الأمريكية والإسرائيلية.
لا يحتكر لبنان هذه اللغة ـ السكّين. نستحضر مائة سنة من التخوين والتشكيك المتبادل في الحياة السياسية العربية. جمال عبد الناصر في نهاية الستينات حين قبل المبادرة الأمريكية لوقف حرب الاستنزاف، أنور السادات في كامب ديفيد، ياسر عرفات في أوسلو، وربما عند البعض محمود عباس هذا الأسبوع في شرم الشيخ..
.
لغة السكاكين هذه إن كانت مقبولة في حقل السياسة (وهي غير مقبولة أبدا) لا يعقل أن تقتحم حقل الفكر والثقافة. ولكن هذا للأسف ما يحدث. فقد تناول المفكر بلال الحسن في كتاب جديد له مساهمات مجموعة من الكتاب العرب بالنقد. ولو أن النقد بقي نقداً كتحليل نصوص، أو غربلة للتناقضات، أو فضحا للتهافت المنطقي لما كانت هناك مشكلة، بل على العكس لاغتنت ثقافتنا السياسية العربية وتعمق فهمنا لظواهرها المعقدة.
المشكلة أن النقد تمخض عن إدانة عنيفة لهؤلاء الكتاب، واتهام لهم بأنهم يعملون على هدم صمودنا في وجه الهجمات الأجنبية، وتعبيد الطريق للهزيمة، وإضفاء الشرعية على الاحتلال، وأن هؤلاء المثقفين لا يزيدون عن كونهم طابورا خامسا يغني المستعمر عن أن يحارب بنفسه في حقل الثقافة لأنهم يحاربون نيابة عنه لنشر «ثقافة الاستسلام»، بحسب عنوان الكتاب.
ويصف مفكر آخر هو الكاتب فهمي هويدي العام المنصرم بأنه عام «الاختراق الكبير» من جانب «مثقفي» المارينز، ويقصد بالتعبير المثقفين العرب الذين يتهمهم بالترويج للغزو الأمريكي. وقام الأديب علي عقلة عرسان، أمين عام اتحاد الكتاب العرب، ومقره سوريا، الأسبوع الماضي باتخاذ قرار يفرض على الكتاب السوريين والعرب عدم الظهور على شاشة محطة «الحرة» الفضائية، وتهديد الكاتب الذي يفعل ذلك بالفصل من الاتحاد.
ولو حضر الكتاب الثلاثة بلال الحسن وفهمي هويدي وعلي عقلة عرسان في الأسبوع الماضي ندوة العلاقة بين الخليج العربي والولايات المتحدة في البحرين لهان عليهم «جرم» الكتّاب الذين تناولوهم، لأنهم كانوا سيستمعون لمثقفين يدعون بنبرة صريحة إلى قبول كامل لبرنامج الولايات المتحدة لإعادة تشكيل شرق أوسط جديد.
في تلك الندوة دعا متحدث تلو الآخر الى إعادة النظر في علاقة العداء التاريخية بيننا وبين الولايات المتحدة. وبرغم أن المؤتمر لم يخل من أصوات من المعسكر المعاكس، إلا أن زخم التأييد للولايات المتحدة كان هو الأكثر تواتراً والأعلى نبرة.
ما العمل مع هؤلاء؟
هل كان علينا أن نقذفهم بتهمة الخيانة والعمالة، وننظف أيدينا من المسألة برمتها، ونرحل لبيوتنا، أم نتحاور ونحاول أن نفهم؟
هل كان هؤلاء المثقفون ـ لأنهم في غالبيتهم من الكويت ـ يشعرون بالوفاء للولايات المتحدة لدورها في تحرير بلدهم من غزو صدام حسين؟ أم أنهم حقاً يرون أن الولايات المتحدة، برغم تأييدها الصارخ لإسرائيل، قادرة أيضا على تعويض ذلك في ميادين أخرى كالإصلاح الديمقراطي والتطوير الاقتصادي؟
بالطبع لا يوجد هناك حوار آمن بالكامل. فهناك دائما هامش للوقوع في الخطأ، لتبني سياسة ضالة، للدعوة إلى أشياء يتبين لاحقاً أنها قد أدت إلى طريق مسدود أو سببت خسائر فادحة. لكن لهذا السبب بالذات يجب أن يستمر الحوار مع الموقف الجديد أو الغريب أو الشاذ عن إجماع سابق، وعبر الحوار نستطيع أن نقارعه الحجة بالحجة، ونكشف له أو لمؤيديه ضلاله.
بيد أن الحوار ينقطع تماما، وندخل في كهف لا يُرى أو يُسمع فيه شيء، حالما ننقل الحوار إلى عالم التشكيك في الشخص، في انتمائه الوطني والقومي أو في صفته الآدمية كإنسان عاقل محفوظ الكرامة.
ليس مهما إن كان رأي حازم صاغية يؤدي إلى الاستسلام، أو مقترحات العفيف الأخضر «تروج لأمريكا»، فهذه توقعات وتوصيفات لمخالفيهم، قد تكون صحيحة وقد لا تكون. الحوار يجب ألا يأخذ منحى أن موقفاً ما سيؤدي إلى هذه المصيبة أو تلك الكارثة. الحوار يجب أن يرتهن بمدى الصحة في مضمونه المباشر وليس بنتائجه القيمية. الواضح أننا نبني حدوداً قاطعة في أذهاننا، ونرى كل من يخرج عليها خارجاً على المقدسات.
الرئيس سليم الحص، رئيس وزراء لبنان الأسبق، يصف مواقف لا يتفق معها بأنها جاوزت الخط الأحمر، من دون أن يشرح ويفصّل هوية من رسم هذا الخط أو حدد مسار ذلك الطريق المحرّم. وإذا نحن، كبشر، أطعنا التحريم الإلهي، فكيف نقبل التحريمات البشرية؟ لكن هذه هي الحكمة السائدة في السياسة العربية: عليك ألا تسير في الطريق.. وعليك ألا تعرف السبب أيضا.
لكن بعض علمائنا يجدون أن من الأسهل أن يضعوا الحدود والقواطع لمنعنا من تناول ما يرونه حراماً. فعلى سبيل المثال، الشيخ القرضاوي يتحدث دائما عن ثوابت لا تمس وغير قابلة للنقاش. ومحمد قطب كان قبل زمن بعيد يتكلم عن إطار الصورة:
أنت مباح لك أن تتحرك داخل الإطار لكن ليس خارجه. لكن مع تقديرنا لحكمائنا وفقهائنا، نحن قد لا نملك حكمتهم العقلية ولا رجاحة تفكيرهم، لكن ربما امتلكنا شيئاً أكثر أهمية: التجربة المتراكمة عبر آلاف السنين، انطلاقاً من اتهام سقراط بتضليل الشباب، وانتهاءً بتكفيرات الزرقاوي للمتوجهين لصناديق الاقتراع، ومروراً ـ دعونا لا ننسى ـ بقتيل الاضطهاد السياسي الشهيد سيد قطب، هذه التجربة تقول أيضاً شيئاً قاطعاً كسكين: لعبة الاضطهاد التي لا ترضى أن يمارسها أحد ضدّك يجب ألا تمارسها أنت على أحد.