طائر
06-11-2013, 12:24 AM
أبطال مجهولون : صفحات سقطت من ذاكرة يونيو ١٩٦٧
١٠/ ٦/ ٢٠١٣فى ذكرى نكسة يونيو ١٩٦٧ دعونى أقص عليكم قصتى، وقد عرفها البعض من خلال ما كتبه الأستاذ احمد الصاوى محمد فى عموده (ماقل ودل) فى أغسطس ١٩٧٠ بناء على رسالة وصلته من أحد الضباط وقتها وأشار إلى اسمه بحروف (م.ع.ع).. ومرت سنوات وسنوات وكتب الأستاذ حاتم فوده فى عموده ( آلو..!!) سلسلة عن السويس المدينة المنسية اعتبارا من ٢٤ اكتوبر٢٠١٠ – وهو يوافق العيد القومى للسويس- وحتى ١٣ نوفمبر ٢٠١٠ وذكر فيها ما قدمه العديد من أبطال السويس المجهولين وتعرض لما قمت به اعتبارا من ٩ نوفمبر ٢٠١٠ وها أنا أقص ما حدث متذكرا مدى ما عاناه أهل السويس عقب النكسة من تهجير وتشتت
لسنوات، وماقدموه تعضيدا لقواتنا المسلحة إبان حرب الاستنزاف ومعركة العبور المجيدة..
أهل السويس معدنهم أصيل صلب يعشقون مصر، والسويس مدينة ذاخرة بالأبطال.. اسمها يتردد يوميا فى أرجاء المعمورة ولكنها فى مصر منسية !! لم يدخلها الرئيس السابق ولو مرة واحدة على مدار ثلاثين عاما!! ماتت أمى وأنا صبى صغير أماتها الفقر والقهر والمرض، لم يكن يرعانى سوى جدتى، فى مستوى معيشى تحت خط الفقر بكثير.. كنت قد أنهيت تجنيدى وعدت من اليمن قبل النكسة بعامين، وعملت على لنش تابع لهيئة قناة السويس بمرتب لم يكمل خمسة عشر جنيها فى الشهر..
مساء الخامس من يونيو ١٩٦٧ وقفت على شاطئ القناة أستمع من خلال الراديو الترانزستور الذى اشتريته من اليمن عن أنباء انتصاراتنا وزحف قواتنا إلى تل أبيب !! وفجأة خرجت جدتى تصيح: «ما تنام يا واد عندك شغل الصبح!».. وفى الصباح توجهت إلى بورتوفيق فوجدت وجوه زملائى مكفهرة لا يتحدثون !! وإذا بالخبر الصاعقة انهزمنا، برغم استمرار بيانات الانتصارات عبر الراديو! فى بورتوفيق وجدت بعض الجنود المنسحبين من الشاطئ الآخر وقد تمزقت ملابسهم والبعض مصاب وسيارات الإسعاف تجرى مندفعة إلى المستشفيات!!
توجهت إلى لنش الهيئة الذى كان مربوطا فى ورشة التحركات وأدرت محركاته وتوجهت به إلى الشاطئ الشرقى للقناة لأملأه بالجنود المنسحبين وأعود إلى بورتوفيق...ولمدة ثلاثة أيام بعد ٥ يونيو كان عملى هو المساعدة فى عبور القوات من سيناء.. لم يكن هناك أحد يعطينا أوامر.. كنت أنام فى اللنش طوال الأيام الثلاثة، ولم أذهب إلى جدتى ربما خجلا من مواجهتها وكأننى المسؤول عن هذه الهزيمة المريرة !!.
نظرت لنفسى من الداخل فلم أجد إلا خرابا.. حيث لا حاضر ولا مستقبل.. أعانى فقرا لحد اللعنة.. إذن لا شىء يهم.. ولم يعد هناك شىء يجدى.. ولا شىء أخاف عليه.. فالكل باطل باطل.. هكذا وجدت نفسى أصرخ من أعماقى وحينما هدأت قليلا قلت لنفسى ما أجمل أن يموت الإنسان شهيدا !!.ذهبت واشتريت بما معى من قروش قليلة بسكويتا بالعجوة وبعض النعناع، وعدت إلى اللنش الذى كان مخصصا للمرشدين وطلبت من زميلى الريس حمدان أن يتحرك بنا إلى الشمندورة زانزبيا فهناك جنود يريدون العودة ولا يجدون من يغيثهم..
وصلنا بعد ساعة ونظر الريس حمدان إلى الشاطئ الآخر وقال «مفيش حد ظاهر على الشط بينا نرجع».. لكنى رجوته أن نتحرك حتى وصلنا إلى ما بعد عيون موسى بعشرة كيلومترات.. توقفنا بعيدا عن الشاطئ بعشرة أمتار على الأقل حتى لا يشحط اللنش بين الصخور، ونزلت أبحث عن جنود حتى وجدت أحد عشر رجلا فى حالة يرثى لها فأخرجت البسكويت والنعناع ووزعته عليهم.. نظرت لأكبرهم سنا وقلت: «حمدا لله على سلامتكم يا حضرة الصول» فلكزنى أحدهم قائلا: «ده سيادة العقيد!» كان من بينهم جندى غارق فى دمائه ومع ذلك يمشى معهم دون أن يظهر أى ألم.. فلقد أصابته شظيه استقرت فى منطقة الكلى ومشى بها يومين كاملين!!...
كان بيننا وبين اللنش حوالى ثلاثة كيلومترات فاتجهنا غربا إلى الشط حيث يقف اللنش.. وبينما نحن سائرون رأيت عربة مجنزرة تجرى مسرعة فى اتجاهنا. فقلت لهم أعطونى أسلحتكم لأخفيها خلف هذه التبة حتى لا يأخذها اليهود.. حملت كل الأسلحة على كتفى وهرولت متواريا خلف التبة.. وصلت المجنزرة وهبط منها ثلاثة جنود وبقى واحد يضع على رأسه «هلمت» وهو خاص بأفراد اللاسلكى.. تركت الأسلحة أسفل التبة وأخذت رشاشا وبدأت أصعد التبة حتى أرى المشهد... وحين رفعت رأسى ببطء رأيت جنديا إسرائيليا يأمرهم
أن يناموا على بطونهم وبدأ يربطهم.. الأرجل مع الأيدى ولحظتها تصورت أنه سوف يمر فوقهم بالمجنزرة ليقتلهم، وجن جنونى، ووجدت نفسى أقف وأصرخ صرخات هستيرية ليس بها جملة مفيدة ومعى رشاش ليس به طلقة واحدة، ومن الغريب العجيب أن الجنود الإسرائيليين أالقوا أسلحتهم بسرعة لم أكن أتوقعها، وبسرعة البرق تخلص جندى مصرى من قيده وأخذ رشاشا ممن القوة وصوبه تجاه جندى اللاسلكى الذى نزل من فوق المجنزرة وقد تبول فى سرواله !.
تم تقييد الإسرائيليين وأخذ جنودنا اللاسلكى والمدفع نص بوصة الذى كان فى مقدمة المجنزرة، ثم قاموا بإغراقها بمياه الخليج... حملت الجندى المصاب وخضت به فى المياه حتى وصلنا إلى اللنش وركب الجميع.. فجأة قال أحد الجنود توجد سيارة مصرية ضخمة ثمنها مليون جنيه وهى مهمة جدا لدرجة أن الطائرات الإسرائيلية لم تقصفها، كان مفروض أن ندمرها لكننا لم نستطع ولم يكن عندنا فرصة لذلك.. فقلت: أين هى؟ فقط أشر لى بأصبعك عن اتجاهها.. فأشار وقال تحت هذا الجبل !.. كان اللنش قد تحرك مئات الأمتار عن
الشاطئ.. لكننى توسلت للريس حمدان أن يعيدنى إلى الشاطئ ويتركنى.. ورضخ على مضض !! سألنى العقيد وهو ينظر بحنان الأب.. اسمك إيه يا بنى؟، فقلت له اسمى رباعيا ونزلت مهرولا إلى الماء.. كان الوقت بعد صلاة العصر.. انطلقت فى نفس الاتجاه الذى أشاروا عليه لأصل إلى تلك السيارة بعد ثلاث ساعات، وجلست أكر كيف سأدمرها؟ !..
لم يكن معى سوى علبة سجاير بها سيجارتان ومشط كبريت وباكو نعناع.. ومن الله على بالحل.. خلعت الأفرول وبدأت أضع رجل الأفرول فى تنك الوقود أخرجها لأعصرها فى خوذة عثرت عليها بجوار السيارة حتى امتلأت بالبنزين ثم قمت برشها على السيارة وأشعلت فيها النيران. ثم جريت سريعا ناحية الشاطئ ولا أرتدى سوى المايوه !.. كان الليل دامسا ولم أعرف اتجاه البحر إلا بعد ساعات حينما نظرت إلى أنوار شمندورة بعيدة كان ضوؤها خافتا..
كان على أن أمشى قرابة الثلاثين كيلومترا حتى أصل إلى لسان بورتوفيق، وكان على أيضا أن أمشى بمحازاة الشاطئ حتى لا أتوه فى الصحراء الموحشة وحتى لا ألفت نظر اليهود.. ولأول مرة أحس برعب يحتوينى.. لسعات برد الليل على الجسد العارى، ورجفة فى القلب، ومعدة خاوية... الخوف فقط دفعنى للمشى، فاليهود فى كل مكان.. وأرى على البعد سياراتهم تجرى هنا وهناك خاصة بعد أن رأوا هذا الحريق والذى لا يعرفون من أشعله!!..
وصلت منطقة عيون موسى.. واختفيت داخل ماسورة عملاقة بمجرى السيل.. كنت منهكا فنمت ولم أستيقظ إلا فى أول الليل التالى!! كانت إغماءة استمرت خمس عشرة ساعة.. بدأت المسير مرة أخرى فى اتجاه بورتوفيق حتى وصلت أمام اللسان.. كان الفجر قد بزغ، وسقطت فى مياه القناة أمام سقالة البوستة فلم أكن املك أى جهد للسباحة.. تركت نفسى للموج يحملنى إلى أن دخل جسدى ورشة التحركات مع أول ضوء ليوم جديد.. فرآه زملائى فقفزوا جميعا فى الماء لانتشالى ورحت فى غيبوبة فلم أعرف كم يوما مر على؟، وحينما أفقت وجدت نفسى فى سرير فى حجرة الحرس الوطنى عار تماما وقد تلطخ معظم
جسدى بالمراهم، وجاءت رتب عديدة تسألنى عما حدث ويكتبون فى دفاترهم !! ثم جاءت حبيبتى جدتى تحتضنى وتغمرنى بالقبلات وتقول لى: «كنت فين يا واد يا ابن الخنازير؟»... ختاما فى عام ١٩٦٨ علم محافظ السويس إسماعيل فريد بقصتى فكافأنى بمبلغ مائة جنيه، ولا شىء آخر حتى الآن !!
محمد أحمد غازى عبدالفتاح – السويس
١٠/ ٦/ ٢٠١٣فى ذكرى نكسة يونيو ١٩٦٧ دعونى أقص عليكم قصتى، وقد عرفها البعض من خلال ما كتبه الأستاذ احمد الصاوى محمد فى عموده (ماقل ودل) فى أغسطس ١٩٧٠ بناء على رسالة وصلته من أحد الضباط وقتها وأشار إلى اسمه بحروف (م.ع.ع).. ومرت سنوات وسنوات وكتب الأستاذ حاتم فوده فى عموده ( آلو..!!) سلسلة عن السويس المدينة المنسية اعتبارا من ٢٤ اكتوبر٢٠١٠ – وهو يوافق العيد القومى للسويس- وحتى ١٣ نوفمبر ٢٠١٠ وذكر فيها ما قدمه العديد من أبطال السويس المجهولين وتعرض لما قمت به اعتبارا من ٩ نوفمبر ٢٠١٠ وها أنا أقص ما حدث متذكرا مدى ما عاناه أهل السويس عقب النكسة من تهجير وتشتت
لسنوات، وماقدموه تعضيدا لقواتنا المسلحة إبان حرب الاستنزاف ومعركة العبور المجيدة..
أهل السويس معدنهم أصيل صلب يعشقون مصر، والسويس مدينة ذاخرة بالأبطال.. اسمها يتردد يوميا فى أرجاء المعمورة ولكنها فى مصر منسية !! لم يدخلها الرئيس السابق ولو مرة واحدة على مدار ثلاثين عاما!! ماتت أمى وأنا صبى صغير أماتها الفقر والقهر والمرض، لم يكن يرعانى سوى جدتى، فى مستوى معيشى تحت خط الفقر بكثير.. كنت قد أنهيت تجنيدى وعدت من اليمن قبل النكسة بعامين، وعملت على لنش تابع لهيئة قناة السويس بمرتب لم يكمل خمسة عشر جنيها فى الشهر..
مساء الخامس من يونيو ١٩٦٧ وقفت على شاطئ القناة أستمع من خلال الراديو الترانزستور الذى اشتريته من اليمن عن أنباء انتصاراتنا وزحف قواتنا إلى تل أبيب !! وفجأة خرجت جدتى تصيح: «ما تنام يا واد عندك شغل الصبح!».. وفى الصباح توجهت إلى بورتوفيق فوجدت وجوه زملائى مكفهرة لا يتحدثون !! وإذا بالخبر الصاعقة انهزمنا، برغم استمرار بيانات الانتصارات عبر الراديو! فى بورتوفيق وجدت بعض الجنود المنسحبين من الشاطئ الآخر وقد تمزقت ملابسهم والبعض مصاب وسيارات الإسعاف تجرى مندفعة إلى المستشفيات!!
توجهت إلى لنش الهيئة الذى كان مربوطا فى ورشة التحركات وأدرت محركاته وتوجهت به إلى الشاطئ الشرقى للقناة لأملأه بالجنود المنسحبين وأعود إلى بورتوفيق...ولمدة ثلاثة أيام بعد ٥ يونيو كان عملى هو المساعدة فى عبور القوات من سيناء.. لم يكن هناك أحد يعطينا أوامر.. كنت أنام فى اللنش طوال الأيام الثلاثة، ولم أذهب إلى جدتى ربما خجلا من مواجهتها وكأننى المسؤول عن هذه الهزيمة المريرة !!.
نظرت لنفسى من الداخل فلم أجد إلا خرابا.. حيث لا حاضر ولا مستقبل.. أعانى فقرا لحد اللعنة.. إذن لا شىء يهم.. ولم يعد هناك شىء يجدى.. ولا شىء أخاف عليه.. فالكل باطل باطل.. هكذا وجدت نفسى أصرخ من أعماقى وحينما هدأت قليلا قلت لنفسى ما أجمل أن يموت الإنسان شهيدا !!.ذهبت واشتريت بما معى من قروش قليلة بسكويتا بالعجوة وبعض النعناع، وعدت إلى اللنش الذى كان مخصصا للمرشدين وطلبت من زميلى الريس حمدان أن يتحرك بنا إلى الشمندورة زانزبيا فهناك جنود يريدون العودة ولا يجدون من يغيثهم..
وصلنا بعد ساعة ونظر الريس حمدان إلى الشاطئ الآخر وقال «مفيش حد ظاهر على الشط بينا نرجع».. لكنى رجوته أن نتحرك حتى وصلنا إلى ما بعد عيون موسى بعشرة كيلومترات.. توقفنا بعيدا عن الشاطئ بعشرة أمتار على الأقل حتى لا يشحط اللنش بين الصخور، ونزلت أبحث عن جنود حتى وجدت أحد عشر رجلا فى حالة يرثى لها فأخرجت البسكويت والنعناع ووزعته عليهم.. نظرت لأكبرهم سنا وقلت: «حمدا لله على سلامتكم يا حضرة الصول» فلكزنى أحدهم قائلا: «ده سيادة العقيد!» كان من بينهم جندى غارق فى دمائه ومع ذلك يمشى معهم دون أن يظهر أى ألم.. فلقد أصابته شظيه استقرت فى منطقة الكلى ومشى بها يومين كاملين!!...
كان بيننا وبين اللنش حوالى ثلاثة كيلومترات فاتجهنا غربا إلى الشط حيث يقف اللنش.. وبينما نحن سائرون رأيت عربة مجنزرة تجرى مسرعة فى اتجاهنا. فقلت لهم أعطونى أسلحتكم لأخفيها خلف هذه التبة حتى لا يأخذها اليهود.. حملت كل الأسلحة على كتفى وهرولت متواريا خلف التبة.. وصلت المجنزرة وهبط منها ثلاثة جنود وبقى واحد يضع على رأسه «هلمت» وهو خاص بأفراد اللاسلكى.. تركت الأسلحة أسفل التبة وأخذت رشاشا وبدأت أصعد التبة حتى أرى المشهد... وحين رفعت رأسى ببطء رأيت جنديا إسرائيليا يأمرهم
أن يناموا على بطونهم وبدأ يربطهم.. الأرجل مع الأيدى ولحظتها تصورت أنه سوف يمر فوقهم بالمجنزرة ليقتلهم، وجن جنونى، ووجدت نفسى أقف وأصرخ صرخات هستيرية ليس بها جملة مفيدة ومعى رشاش ليس به طلقة واحدة، ومن الغريب العجيب أن الجنود الإسرائيليين أالقوا أسلحتهم بسرعة لم أكن أتوقعها، وبسرعة البرق تخلص جندى مصرى من قيده وأخذ رشاشا ممن القوة وصوبه تجاه جندى اللاسلكى الذى نزل من فوق المجنزرة وقد تبول فى سرواله !.
تم تقييد الإسرائيليين وأخذ جنودنا اللاسلكى والمدفع نص بوصة الذى كان فى مقدمة المجنزرة، ثم قاموا بإغراقها بمياه الخليج... حملت الجندى المصاب وخضت به فى المياه حتى وصلنا إلى اللنش وركب الجميع.. فجأة قال أحد الجنود توجد سيارة مصرية ضخمة ثمنها مليون جنيه وهى مهمة جدا لدرجة أن الطائرات الإسرائيلية لم تقصفها، كان مفروض أن ندمرها لكننا لم نستطع ولم يكن عندنا فرصة لذلك.. فقلت: أين هى؟ فقط أشر لى بأصبعك عن اتجاهها.. فأشار وقال تحت هذا الجبل !.. كان اللنش قد تحرك مئات الأمتار عن
الشاطئ.. لكننى توسلت للريس حمدان أن يعيدنى إلى الشاطئ ويتركنى.. ورضخ على مضض !! سألنى العقيد وهو ينظر بحنان الأب.. اسمك إيه يا بنى؟، فقلت له اسمى رباعيا ونزلت مهرولا إلى الماء.. كان الوقت بعد صلاة العصر.. انطلقت فى نفس الاتجاه الذى أشاروا عليه لأصل إلى تلك السيارة بعد ثلاث ساعات، وجلست أكر كيف سأدمرها؟ !..
لم يكن معى سوى علبة سجاير بها سيجارتان ومشط كبريت وباكو نعناع.. ومن الله على بالحل.. خلعت الأفرول وبدأت أضع رجل الأفرول فى تنك الوقود أخرجها لأعصرها فى خوذة عثرت عليها بجوار السيارة حتى امتلأت بالبنزين ثم قمت برشها على السيارة وأشعلت فيها النيران. ثم جريت سريعا ناحية الشاطئ ولا أرتدى سوى المايوه !.. كان الليل دامسا ولم أعرف اتجاه البحر إلا بعد ساعات حينما نظرت إلى أنوار شمندورة بعيدة كان ضوؤها خافتا..
كان على أن أمشى قرابة الثلاثين كيلومترا حتى أصل إلى لسان بورتوفيق، وكان على أيضا أن أمشى بمحازاة الشاطئ حتى لا أتوه فى الصحراء الموحشة وحتى لا ألفت نظر اليهود.. ولأول مرة أحس برعب يحتوينى.. لسعات برد الليل على الجسد العارى، ورجفة فى القلب، ومعدة خاوية... الخوف فقط دفعنى للمشى، فاليهود فى كل مكان.. وأرى على البعد سياراتهم تجرى هنا وهناك خاصة بعد أن رأوا هذا الحريق والذى لا يعرفون من أشعله!!..
وصلت منطقة عيون موسى.. واختفيت داخل ماسورة عملاقة بمجرى السيل.. كنت منهكا فنمت ولم أستيقظ إلا فى أول الليل التالى!! كانت إغماءة استمرت خمس عشرة ساعة.. بدأت المسير مرة أخرى فى اتجاه بورتوفيق حتى وصلت أمام اللسان.. كان الفجر قد بزغ، وسقطت فى مياه القناة أمام سقالة البوستة فلم أكن املك أى جهد للسباحة.. تركت نفسى للموج يحملنى إلى أن دخل جسدى ورشة التحركات مع أول ضوء ليوم جديد.. فرآه زملائى فقفزوا جميعا فى الماء لانتشالى ورحت فى غيبوبة فلم أعرف كم يوما مر على؟، وحينما أفقت وجدت نفسى فى سرير فى حجرة الحرس الوطنى عار تماما وقد تلطخ معظم
جسدى بالمراهم، وجاءت رتب عديدة تسألنى عما حدث ويكتبون فى دفاترهم !! ثم جاءت حبيبتى جدتى تحتضنى وتغمرنى بالقبلات وتقول لى: «كنت فين يا واد يا ابن الخنازير؟»... ختاما فى عام ١٩٦٨ علم محافظ السويس إسماعيل فريد بقصتى فكافأنى بمبلغ مائة جنيه، ولا شىء آخر حتى الآن !!
محمد أحمد غازى عبدالفتاح – السويس