المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رائحة التاريخ تنهض من رمال الكوفة .....رحلة إلى عاصمة الخلافة الإسلامية



Osama
02-08-2005, 11:32 AM
الكوفة - نزار حاتم:

على بعد عشرة كيلومترات الى الجنوب من مدينة النجف تنهض رائحة التاريخ العربي والاسلامي بوجه السائرين على رمال الكوفة الحمراء، لتهجس في أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم نغما سابحا من العام السابع عشر الهجري الذي اذن فيه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ببناء هذه الحاضرة العريقة - الكوفة - فيما تولى القائد العربي سعد بن ابي وقاص الاشراف على تخطيطها اثناء معركة القادسية.

هنا، في هذه الأرض رجال من الصحابة الذين شهدوا معركة بدر، فيها عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ومدارس النحو والفقه والشعر والأدب.

هنا «القبس» في رحلتها الى الكوفة تشعر ان كل رملة من رمال مركز الخلافة الاسلامية تتحدث الى المتأمّل فيها عن رجال» بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا» بعد ان ملأوا الدنيا وشغلوا الناس.

سمعت وقرأت كثيرا عن هذه المدينة ولم تبرح ذاكرتي المسائل الخلافية في النحو العربي بين المدرستين الكوفيّة بزعامة الكسائي، والبصرّية بزعامة سيبويه، لكني أدركت أن من قرأ ومن سمع ليس كمن رأى بعينيه حين دلفت اليها بمساعدة قائد شرطة النجف اللواء غالب الجزائري الذي آثر اصطحابي في هذه الرحلة خوفا عليّ من وقوعي ضحية واحد من الألغام التي لم تنفجر منذ وقوع الاشتباكات بين» جيش المهدي» التابع للسيد مقتدى الصدر والقوات الأميركية العام الماضي.

نشأة المدينة
يقول المؤرخون ان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد ان بلغته اخبار الانتهاء من مدينة البصرة في جنوب العراق، قد شاور كبار الصحابة والمتمرسين في الحروب بينهم الامام علي في بناء مدينة ثانية لتكون قاعدة للجيوش الاسلامية المتجهة نحو الشرق.. فرسا خيارهم على ارض الكوفة التي ليس بينها، آنذاك، أي حواجز طبيعية تحول دون اتصالها بالمدينة المنوّرة مركز الخلافة.

فكتب الخليفة عمر الى سعد بن ابي وقاص ان يشرع ببناء هذه القاعدة العسكرية التي تحولت عقب انصرام عقود قلائل الى مواطن للعلم والادب والشعر والنحو والصرف والبلاغة ومركز جديد للخلافة الاسلامية مذ انتقل اليها الخليفة الرابع الامام علي.

المسجد أول ما بني

ووفقا للطريقة التي كانت سائدة آنذاك فان المسجد الجامع او ما يطلق عليه مسجد الكوفة هو اول ما بني في هذه المدينة ثم اقيم حوله قصر الامارة، وبيت المال ومعسكرات الجند.

دخلنا المسجد وباحته الواسعة التي تحتضنه باعمدته الفخمة، فيما يعكف المهندسون والعاملون على اعادة ترميم ما خربته المواجهات بين الصدريين والاميركيين.

مهيب هذا المسجد بتاريخه الحافل بالاحداث والوقائع الهامة في التاريخ العربي والاسلامي.

ففي الأواوين المحيطة به والمرتكزة على أعمدته الفخمة التي تخادع الناظرين بأشكالها الهندسية الباهرة، كانت تعقد المناظرات العلمية والادبية والفقهية منذ ان تولى ولاية الكوفة عبد الله بن مسعود في زمن الخليفة عمر بن الخطاب حتى انتقال مركز الخلافة اليها عام 36 للهجرة في زمن الامام علي، حيث جذب هذا المسجد الاف الفقهاء والمحدثين والمفسرين وعلماء اللغة، الذين تزاحموا على هذا المكان بالمناكب، ذلك لأن عليا اصطحب معه اليها كبار الصحابة ورجالات العلوم الدينية والفكرية.

فلا غرابة على الكوفة أن يسكنها الاعلام امثال: ابن مسعود، الامام جعفر الصادق، وتلميذه أبو حنيفة، والكسائي، والفرّاء، وعالم الكيمياء جابر بن حيّان، فضلا عن كونها مسقط رأس الشاعر العربي المدوّي أبو الطيّب المتنبي.

في هذا المسجد كان علي بن ابي طالب يخطب بالناس ويصلي فيهم قبيل حلول الخيط الابيض من الفجر.

لقد تلمسنا عن قرب مصلاّه الذي يعطّر المكان وهو يناجي في هدأة الليل «يا دنيا اليك عني غرّي غيري»، حتى اذا أشرق الصباح خرج الى الناس يقضي بالعدل ليقتص من الظالم ويكسر شوكة الظلم.

وقفنا عند هذا المصلى بمعية الدليل الذي ما ان سألناه حتى التمعت عيناه بالدمع ثم قال «هنا ضرب علي في محرابه عند ادائه الصلاة على يد عبد الرحمن بن ملجم».

أحسست ان هذا المحراب يتحدث عن صاحبه بطول التاريخ وعرض الجغرافيا، ناشرا مقولته الانسانية الشهيرة، في وصيته الى مالك الأشتر «واعلم ان الناس صنفان امّا أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق».

في حضن الفرات
والكوفة الغافية على نهر الفرات لاتنهض بهذا المعلم فحسب، فثمة قصر الأمارة المجاور لمسجد الكوفة والذي يعد مقرا للقيادة لادارة امور الدولة، ثم اتخذه الامويون والعباسيون مركزا لادارة حكمهم بعد مقتل الامام علي وانتقال مركز الخلافة الى الشام ثم الى بغداد.

ما بقي فقط!
ظننا اننا سنجد في هذا القصر الذي يمتد عمره الى 1400 سنة ما يدل على أهميته، لكن رأيناه وكأن الأرض قد ابتلعته بسبب عوامل التعرية ولم يبق منه سوى السياج الذي كان يحيط به فاصبح يحيط أرضا نبت عليها القصب، والشوك، بحيث لا تدري أين هو هذا القصر لولا الأدلاء الذين يشيرون الى أنه تحت أديم التراب «وهذا سياجه».

لدى مغادرتنا هذا المكان المتاخم لمرقد مسلم بن عقيل
كان الدليل يهجس بأذني «انك تمشي على تراب وطأته الشموس» استوقفتني هذه العبارة الرشيقة من رجل لا تحسب من خلال مظهره انه من العارفين فحسبت انه يريد ان يسوق لي رواية هي اقرب الى الميثولوجيا منها الى الواقع، فقلت له أي نجوم تقصد؟ فاجاب» هنا حكم المختار بن عبيدة الثقفي، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، هنا ميثم التمّار، وهانئ بن عروة، ورشيد الهجري».

ثم التفت الي بسؤال «هل رأيت بيت الأمام علي؟» قلت لا، قال تعال معي ثم أسلمني الى رجل طاعن في السن يدعى حاج محمد رضا الكوفي المخزومي.

منزل الامام علي
بعد أن رحّب بنا بلغة تشي بقدر من الوعي، أوضح أنه يعمل خادما في منزل الامام منذ خمسين عاما وقد ورث هذه الخدمة عن آبائه واجداده.

هذا المنزل المتواضع يصلح ان يكون سكنا لأي من عامة الناس، ويقول الدكتور حسن عيسى الحكيم استاذ الدراسات العليا في جامعة الكوفة ان الامام علي حين دخل الكوفة في (12) رجب عام (36) للهجرة قد نزل في دار اخته ام هاني زوج هبيرة المخزومي، مضيفا ان الروايات تؤكد ان عليا قد رفض السكنى في قصر الامارة بقوله «لا حاجة لي في نزول قصر» ثم اشترى هذا البيت من اخته ام هاني بـ 70 دينارا.

توجهنا الى هذه الدار المتواضعة مع خادمها المتواضع ايضا، تحتوي على خمس غرف تتوسطها باحة مكشوفة، وفيها بئر ماء كان علي وافراد عائلته يستعملونها للشرب والغسل، وما زالت نابعة - حتى اللحظة - كما تحوي الدار مكتبة صغيرة كان الامامان الحسن والحسين يأويان اليها لقراءة القرآن الكريم وتفسيره.

لقد كان مع علي في هذه الدار ولداه وشقيقتهما زينب واختها غير الشقيقة خديجة التي توفيت في الدار نفسها وهي بنت السنوات الأربع، وتم دفنها مقابل مسجد الكوفة.

وعن أهم الأحداث التي شهدها هذا المنزل يضيف خادمه ومعه متخصص في الآثار بعد أن تعرض الامام الى ضربة ابن ملجم اثناء الصلاة عام 40 للهجرة قد نقل الى داره هذه وامضى فيها ثلاثة ايام يعاني من اثر الجرح حتى توفي ثم تم تغسيله فيها بعد ان افردت لذلك احدى الغرف التي شاهدناها مكتوبا على يمينها اسم الحسن وعلى شمالها اسم الحسين في اشارة الى موضع جلوسهما عند وفاة الامام علي.

البئر التي تضمها الدار وقفنا عندها فيما كان احد السدنة يقدم منها الماء للزائرين، وآثر أن يطالبنا بالشرب منها للتبرك فشربنا، وأضاف ان الزوار الذين ياتون الى هذه الدار من ايران وباكستان والهند ولبنان واذربيجان ودول الخليج يطالبوننا باعطائهم كميات من هذا الماء فنملأ قواريرهم.

لدى هذا السادن سطل علق به حبالا ليمتح الماء من قاع البئر ثم يقوم بتعبئة الأكواب المرصوفة على جانبيه.

ومما احتفظت به هذه الدار يقول الدليل مشيرا الى مكان وفاة الامام هنا كان علي - حسب الروايات الموثوقة - قد سأل الحسن والحسين في اللحظات الاخيرة من حياته لما جلبا اليه شيئا من الطعام «هل أطعمتما اسيركما ؟ في اشارة الى قاتله ابن ملجم، فقالا لم نطعمه بعد، فأمرهما أن يحملا اليه طعامه ثم اوصاهما بقوله اذا بقيت حيا فانا كفيل بأمره واذا توفيت فالامام الحسن يتولى امره ضربة بضربة ولا تمثلا بالرجل لأن المثلة حرام ولو بالكلب العقور».

بعد ان التقطنا عددا من الصور لهذا المنزل الذي ظل شامخا بسجايا صاحبه، خرجنا ومعنا قائد الشرطة وحمايته، وفجأة تراصف اثنان منهم الى جانبي محذرين من مغبة البقاء طويلا في مكان واحد «لأننا نخاف على السيد القائد من الارهابيين»

لهم الحق طبعا فيما يقولون فناديت عليه دعنا نغادر شاكرين لك فضلك.

وقبل ان نعود الى النجف مر موكبنا على كورنيش الكوفة المحاط ببساتين النخيل الباسقة، والحمضيات التي تحضن جانبي نهر الفرات، صوّرنا بعضها على السريع، وقيل لنا انها رائعة لو جئتم في فصل الصيف، فيما كانت الشوارع الفرعية تأخذ بلب الناظرين وهم يعاينونها كأنها ممرات نباتية تتهادى على جوانبها سعفات النخل «سيد الشجر المقتنى».