Osama
02-08-2005, 11:06 AM
د.احمد بشارة
في كل مرة تُصطاد الجماعات الدينية بالجرم المشهود تتنصل من أعمالها وتغير لون ثوبها البالي. جعبتها من فنون الحيل لا تنتهي. لكن زيفها أخذ يتكشف تدريجياً للمواطنين، بينما هي مع الأسف تنطلي على البعض في الحكومة ـ أو هكذا تشير القرائن. آخر الحيل هي الدعوة إلى الوسطية في الدين. يا سبحان الله! لماذا تأخرت هذه الفزعة للوسطية كل هذا الدهر؟ وهل هي إقرار ضمني بأن هذه الجماعات كانت تدعو إلى التطرف وبما يسيء إلى الدين كل هذه المدة؟ وكيف اكتشفت هذه الجماعات الوسطية في الدين الآن، بعد كل الخراب الذي أصابنا والضرر الذي لحق بشعوب العالم؟ وهل يثق أحد بهذا الكلام؟ نعم. فيبدو أن السيد وزير الأوقاف لا يزال ممن تنطلي عليهم الحيل. أم تراه هو أسير الأوهام؟
فقد شكل الوزير منذ أيام لجنة الدعوة إلى الوسطية تضم بعض غلاة التزمت والتطرف الفكري، كما تشهد على ذلك كتاباتهم وتصريحاتهم وخطبهم النارية وفتاواهم المغالية. وواحد منهم على الأقل حكم عليه القضاء على درجتين بتسع دعاوى منفصلة وعند قضاة متنوعين، بتهمة القذف والتشهير بمواطنين أبرياء، فقط لاختلافه الفكري معهم. ولربما هناك غيرها من القضايا. وأحد أعضاء اللجنة كان زعيماً في الحركة السلفية العلمية التي أغرقت البلاد في بحر المغالاة في الدين والشريعة، ونصبت نفسها مفوضاً للقيم المجتمعية. وكان مشهوراً في العداء والتشهير والتهكم على كل من يختلف معه. وأضر بسمعة العشرات من الأبرياء. هذان العضوان نصبهما السيد الوزير للدعوة إلى الوسطية. كيف يمكن لنا الثقة بهذه اللجنة؟ وما مفاهيم الوسطية التي سيدعو إليها مثل هؤلاء؟
بعض أعضاء اللجنة ناصر الجماعات الجهادية في الشيشان وأفغانستان وكشمير والفلوجة ودعمها، وسكت على الفظائع الإرهابية، وليس له سجل في التصدي الفكري لشيوخ الجهاد وأمراء الغلو والإرهاب. وأحدهم يستخدم منصبه كعميد لكلية الشريعة، وهو منصب إداري بحت، للإفتاء في كل شيء رغم خبرته المحدودة. وبعضهم ينتمون إما إلى التيار السلفي المتشدد أو حزب الإخوان المسلمين. وتعود مرجعية هؤلاء الفكرية إلى أمثال سيد قطب الذي كفّر المجتمع ووصمه بالجاهلية وأسس للحاكمية ودعا إلى العنف كأداة للتغيير، أو الغزالي الذي أباح دم بعض الكتاب في مصر، أو مشايخ الوهابيين أمثال العودة والعمر وغيرهما الذين يحشون عقول الشباب بفكر الموت والتطرف والكراهية لكل من يخالفهم. والكلام يطول في سرد خلفية هؤلاء الفكرية والسياسية والدينية وفهمهم للوسطية.
والمثير للشفقة أن قرار التكليف طلب من اللجنة ذاتها أن تضع مهامها! أبسط قواعد التنظيم تقول أن مهام العمل تحدد أولاً، وبعد ذلك يتم اختيار الأعضاء من القادرين على الإيفاء بالمهام. كما ناشد الأعضاء للتفرغ بعض الوقت لعمل اللجنة! هيهات. فغالبية أعضاء اللجنة منهمكون في الأحزاب واللجان والهيئات والشركات المختلفة والبرامج الإعلامية. ولماذا نعزز سيطرة هؤلاء على شؤون الدين والعقيدة؟ ..هل خلت البلاد من الرجال والنساء الغيورين على دينهم ويجسدون الوسطية في حياتهم؟ أم أن الإسلام لبس بالرهبانية؟
حال الوزير في اختيار أعضاء اللجنة يعكس حال الوضع المأزوم الذي وصلت إليه السلطات في البلاد في مواجهة التطرف والغلو الشديدين سواء في الدين أو التعامل مع الناس والحياة والعالم من حولنا. لقد استحوذت الجماعات الدينية وأحزابها على الإسلام، وحولته إلى فضاء خاص بها، ونصبت نفسها المرجع الأول والمفسر الأوحد للإسلام، تماماً مثل رهبان الكنيسة في القرون الوسطى. فسيطرت على المؤسسات الأساسية مثل منبر المسجد وفنائه وكلية الشريعة وكلية التربية ووزارة الأوقاف وهيئات الإفتاء ولجنة تطبيق الشريعة والمعاهد الدينية ومدارس تحفيظ القرآن ولجان مناهج الدين واللغة العربية ولجان الزكاة والوقف والإرشاد والتوعية.
هذه السيطرة المحكمة على الفضاء الواسع والمتشعب لكل جزئية من جزئيات شؤون الدين والعقيدة والدعوة والإرشاد من قبل هذا الأحزاب الدينية سحبت جميع سلطات الدولة على الشؤون الدينية. فصارت الدولة دولتان: دولة مدنية تعاقد عليها الشعب ويحكمها الدستور، بينما تنازعها على السلطة دولة رهبان الإسلام الجدد الذين يتربعون على المؤسسات الموازية ذات النفوذ والموارد. وتدريجياً سيبدأ التنازع على الشرعية: هل الحكم لمن اختاره البشر أم لمن يحمل تفويضا سماويا هذه كانت رسالة الزرقاوي عشية انتخابات العراق حين طعن في كل مقومات الدولة الحديثة. وما الإرهابيون إلا نواة الكتائب المسلحة لهذه الدولة الناشئة.
فعندما تقع الأزمة، مثلما هي الحال الآن مع الفكر التكفيري، كما يحلو للبعض وصفه، لن تجد الحكومة ولا المجتمع من يسعفهما في فهم المشكلة والتصدي لها ومواجهة أطرافها... إلا عبر بوابة الوجوه والمؤسسات والهياكل التي يسيطر عليها رهبان الأحزاب الدينية. وكأن الدولة المدنية تستنجد بحماية الدولة الدينية. وهو ما ساد أوروبا في القرون الوسطى حينما رهن ملوكها سيادتهم وحياتهم الخاصة كذلك عند البابا في روما.
المسألة تتجاوز محاربة الفكر التكفيري ودعاة الجهاد والمحاربين الذين تواجههم الأجهزة الأمنية. وتتعدى قدرات «تجار الدين» في نشر الفكر الوسطي، إن صح التعبير ووجد من يحمله ويفهمه ويؤمن به من مشايخ اليوم. فنحن أمام بون شاسع بين الواقع الخطير ومستلزمات التعامل معه ..وللموضوع عودة.
في كل مرة تُصطاد الجماعات الدينية بالجرم المشهود تتنصل من أعمالها وتغير لون ثوبها البالي. جعبتها من فنون الحيل لا تنتهي. لكن زيفها أخذ يتكشف تدريجياً للمواطنين، بينما هي مع الأسف تنطلي على البعض في الحكومة ـ أو هكذا تشير القرائن. آخر الحيل هي الدعوة إلى الوسطية في الدين. يا سبحان الله! لماذا تأخرت هذه الفزعة للوسطية كل هذا الدهر؟ وهل هي إقرار ضمني بأن هذه الجماعات كانت تدعو إلى التطرف وبما يسيء إلى الدين كل هذه المدة؟ وكيف اكتشفت هذه الجماعات الوسطية في الدين الآن، بعد كل الخراب الذي أصابنا والضرر الذي لحق بشعوب العالم؟ وهل يثق أحد بهذا الكلام؟ نعم. فيبدو أن السيد وزير الأوقاف لا يزال ممن تنطلي عليهم الحيل. أم تراه هو أسير الأوهام؟
فقد شكل الوزير منذ أيام لجنة الدعوة إلى الوسطية تضم بعض غلاة التزمت والتطرف الفكري، كما تشهد على ذلك كتاباتهم وتصريحاتهم وخطبهم النارية وفتاواهم المغالية. وواحد منهم على الأقل حكم عليه القضاء على درجتين بتسع دعاوى منفصلة وعند قضاة متنوعين، بتهمة القذف والتشهير بمواطنين أبرياء، فقط لاختلافه الفكري معهم. ولربما هناك غيرها من القضايا. وأحد أعضاء اللجنة كان زعيماً في الحركة السلفية العلمية التي أغرقت البلاد في بحر المغالاة في الدين والشريعة، ونصبت نفسها مفوضاً للقيم المجتمعية. وكان مشهوراً في العداء والتشهير والتهكم على كل من يختلف معه. وأضر بسمعة العشرات من الأبرياء. هذان العضوان نصبهما السيد الوزير للدعوة إلى الوسطية. كيف يمكن لنا الثقة بهذه اللجنة؟ وما مفاهيم الوسطية التي سيدعو إليها مثل هؤلاء؟
بعض أعضاء اللجنة ناصر الجماعات الجهادية في الشيشان وأفغانستان وكشمير والفلوجة ودعمها، وسكت على الفظائع الإرهابية، وليس له سجل في التصدي الفكري لشيوخ الجهاد وأمراء الغلو والإرهاب. وأحدهم يستخدم منصبه كعميد لكلية الشريعة، وهو منصب إداري بحت، للإفتاء في كل شيء رغم خبرته المحدودة. وبعضهم ينتمون إما إلى التيار السلفي المتشدد أو حزب الإخوان المسلمين. وتعود مرجعية هؤلاء الفكرية إلى أمثال سيد قطب الذي كفّر المجتمع ووصمه بالجاهلية وأسس للحاكمية ودعا إلى العنف كأداة للتغيير، أو الغزالي الذي أباح دم بعض الكتاب في مصر، أو مشايخ الوهابيين أمثال العودة والعمر وغيرهما الذين يحشون عقول الشباب بفكر الموت والتطرف والكراهية لكل من يخالفهم. والكلام يطول في سرد خلفية هؤلاء الفكرية والسياسية والدينية وفهمهم للوسطية.
والمثير للشفقة أن قرار التكليف طلب من اللجنة ذاتها أن تضع مهامها! أبسط قواعد التنظيم تقول أن مهام العمل تحدد أولاً، وبعد ذلك يتم اختيار الأعضاء من القادرين على الإيفاء بالمهام. كما ناشد الأعضاء للتفرغ بعض الوقت لعمل اللجنة! هيهات. فغالبية أعضاء اللجنة منهمكون في الأحزاب واللجان والهيئات والشركات المختلفة والبرامج الإعلامية. ولماذا نعزز سيطرة هؤلاء على شؤون الدين والعقيدة؟ ..هل خلت البلاد من الرجال والنساء الغيورين على دينهم ويجسدون الوسطية في حياتهم؟ أم أن الإسلام لبس بالرهبانية؟
حال الوزير في اختيار أعضاء اللجنة يعكس حال الوضع المأزوم الذي وصلت إليه السلطات في البلاد في مواجهة التطرف والغلو الشديدين سواء في الدين أو التعامل مع الناس والحياة والعالم من حولنا. لقد استحوذت الجماعات الدينية وأحزابها على الإسلام، وحولته إلى فضاء خاص بها، ونصبت نفسها المرجع الأول والمفسر الأوحد للإسلام، تماماً مثل رهبان الكنيسة في القرون الوسطى. فسيطرت على المؤسسات الأساسية مثل منبر المسجد وفنائه وكلية الشريعة وكلية التربية ووزارة الأوقاف وهيئات الإفتاء ولجنة تطبيق الشريعة والمعاهد الدينية ومدارس تحفيظ القرآن ولجان مناهج الدين واللغة العربية ولجان الزكاة والوقف والإرشاد والتوعية.
هذه السيطرة المحكمة على الفضاء الواسع والمتشعب لكل جزئية من جزئيات شؤون الدين والعقيدة والدعوة والإرشاد من قبل هذا الأحزاب الدينية سحبت جميع سلطات الدولة على الشؤون الدينية. فصارت الدولة دولتان: دولة مدنية تعاقد عليها الشعب ويحكمها الدستور، بينما تنازعها على السلطة دولة رهبان الإسلام الجدد الذين يتربعون على المؤسسات الموازية ذات النفوذ والموارد. وتدريجياً سيبدأ التنازع على الشرعية: هل الحكم لمن اختاره البشر أم لمن يحمل تفويضا سماويا هذه كانت رسالة الزرقاوي عشية انتخابات العراق حين طعن في كل مقومات الدولة الحديثة. وما الإرهابيون إلا نواة الكتائب المسلحة لهذه الدولة الناشئة.
فعندما تقع الأزمة، مثلما هي الحال الآن مع الفكر التكفيري، كما يحلو للبعض وصفه، لن تجد الحكومة ولا المجتمع من يسعفهما في فهم المشكلة والتصدي لها ومواجهة أطرافها... إلا عبر بوابة الوجوه والمؤسسات والهياكل التي يسيطر عليها رهبان الأحزاب الدينية. وكأن الدولة المدنية تستنجد بحماية الدولة الدينية. وهو ما ساد أوروبا في القرون الوسطى حينما رهن ملوكها سيادتهم وحياتهم الخاصة كذلك عند البابا في روما.
المسألة تتجاوز محاربة الفكر التكفيري ودعاة الجهاد والمحاربين الذين تواجههم الأجهزة الأمنية. وتتعدى قدرات «تجار الدين» في نشر الفكر الوسطي، إن صح التعبير ووجد من يحمله ويفهمه ويؤمن به من مشايخ اليوم. فنحن أمام بون شاسع بين الواقع الخطير ومستلزمات التعامل معه ..وللموضوع عودة.