المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المرأة والبسام والقطيع-قصة قصيرة



د. حامد العطية
03-28-2013, 07:54 PM
المرأة والبسام والقطيع
قصة قصيرة
د. حامد العطية

يحكى أن رجلاً، قصير دحداح، أكشر الوجه، كليل البصر، أنثوي الصوت، حسدوه على قطيعه، لقبوه بالبسام، يتصدر القطيع، من دون حداء، وفي المؤخرة، خلف القطيع، تسير النساء.
أمرأة وشقيقان وخالان، أحفاد العابس البسام، اتفق الرجال على أمرين، ارتداء الملابس الافرنجية، والخوف من سيطرة المرأة، على القطيع ثم الرجال.
عائلتهم نجدية معروفة، مسقط رأسهم جميعاً دمشق، فيها جرب الخالان الدلال وشظف العيش، وكان نصيب اختهما الوحيدة حصتين من الشقاء، الفقر والمرض العضال.
تزوجت الفتاة اليتيمة من ابن عمها. يقول الخال الأكبر: كانت خلاصنا من البؤس الشامي. قنطرة عبر عليها الخالان، ليجدا في صحراء بلد العابس البسام منّ العمل وسلوى المال.
لم يتزوج الخال الأكبر، أو حتى يخطب ود امرأة، لكن لا تتعجب لو شاهدت فتيات شقراوات في بيته، وبملابس السباحة، وأحياناً نصف عاريات، كان موظفاً كبيراً في شركة طيران، والسباحة مباحة لمضيفات الطيران.
سخر زوج الأخت من الخال الأعزب: مكانك الطبيعي بين أغوات الحرم، هم خدم الحرمين المكي والنبوي المخصيين، تقليد فرضه يزيد بن معاوية، بعد اغتصاب جيشه النساء.
العرج الذي خلفه شلل الأطفال ارتحل من قدم الخال الأكبر إلى عقله، ليستقر في تلافيفه الرمادية، مخصب قوي للضغينة واللؤم، ثماره سخرية مرة، يطعمها قسراً لكل من يقترب منه، حتى الأقربين.
سار الخال الأصغر على نهج أخيه، فظل عازباً حتى أواسط خمسينيات عمره، مكتفياً بعلاقات جنسية بزميلات دراسة ورفيقات عمل أجنبيات، ثم فاجأ الجميع، تزوج للتوريث، من فتاة متجنسة، تصغره بحوالي ربع قرن، ومن شابه أباه ظلم.
ثلثا الولد للخال، ثلثان رديئان، تشبه الأخوان بالخالين، في ارتداء الملابس الافرنجية، والسخرية من البشر، وأولع الأخ الأكبر بالأجنبيات، تزوج من ايرلندية، مضيفة طيران، تعرف عليها في بيت خاله، ولبس القرون التي كان يعير بها رجالاً متزوجين من أمثالها، أجبرته على تبني لقيط، تحرص على تربيته على دينها.
الأخت حزينة لزواج أخيها الأكبر بأجنبية، وتمنت لو لم يغيب المرض والدتها في منتصف العمر، كان القول الفصل لها، في شؤون أخويها وأولادها، عارضت زواج الخال الأصغر من أمريكية، تبين فيما بعد بأنها جاسوسة، وكذلك من مديرة مكتبه الأجنبية، فأذعن الخال لمشيئة اخته على مضض.
في مجتمع الرمال مكان المرأة خلف الرجال، بل وحتى خلف القطيع، لذلك كره الرجال الأم وابنتها المتمردتين على مكانهما وراء القطيع.
تمردت الأم على القطيع وساوت نفسها بالرجال، كان درعها مرضها الخطير وعزة نفسها، ولعلهم كانوا يتحينون الفرص، للنيل منها واذلالها، ثم عالجها الأجل، فتوفيت وغليل الرجال لم يشف منها، لذا استحلوا ضرب الميتة، دفنت في بيروت، حسب وصيتها، لا الخالان ولا الابنان ولا الزوج دفع ليرة واحدة من تكلفة دفنها وثمن قبرها، تكفلت بذلك عائلة لبنانية صديقة، واروا جثمانها في مدفنهم الخاص، ثم تناسها الرجال.
خمس وثلاثون سنة انقضت على وفاتها، لم يزر قبرها ويترحم عليها سوى ابنتها وصهرها، ولعل الفضول وحده الذي ساق احد ولديها لتفقد قبرها، فلاحظ ثلاثة اسماء جديدة بجوار اسمها، لسيدات من العائلة اللبنانية الصديقة، دفنوا معها في لحد واحد، اشتكى ذلك لاخته فأجابته بمرارة: ماذا توقعت؟
لم يقدروا على الأم في حياتها، لكنهم تركوها لتدفن مثل الفقراء المشردين، وبدلاً من البلدية تولت ذلك العائلة الصديقة، وأهملوا قبرها حتى غدا قبراً جماعياً، ثم أتى دور الابنة، التي اقتدت بوالدتها، فاستحقت سخط الرجال والقطيع.
تمردت الأخت على القطيع بزواجها، من غير نجدي، أخلاقه حميدة، لكن سيان ذلك بالنسبة للخالين والأخوين، وحتى شهادته العليا لا تساوي قلامة اظفر عندهم ، لم يجاهروا بمعارضتهم لأن امها كانت راضية، فلا قيمة لرأيهم، لكنهم انتظروا حتى وفاة الأم ليقتصوا منها، من خلال ابنتها، وفي الجريرة لا الغنيمة تشترك النساء.
حانت الفرصة لهم في وقت عسرة الأخت وزوجها، اختلف الزوج مع حكومة بلاده، فغدا بدون وثائق سفر، يهدده وزوجته خطر التشرد في المنافي، وعده الخال الأصغر بالبديل، فصدقه واتكل عليه، لكنه اخلف وعده، فلم يبق للزوج وعائلته سوى الشتات، ليستقر بهم المطاف في شقة صغيرة، وأين؟ في الشام، التي فر منها الخالان على قنطرة زواج اختهما، وكان لانتقامهم بقية .
ساعدوا الأخت بالقليل، وقصدهم الوحيد إرجاعها إلى مكانها خلف القطيع، مع المن والأذى، أول تدبيرهم الخبيث منع مساعدة الأب عنها، فكانت الوحيدة بين اخواتها، التي حرمت من عطاء أبيها الشهري، ولضمان قبولها قالا لها بأن ما سيقدمانه لها ليست مساعدة بل هو ريع حصتها من الشركة التي قاما بتأسيسها، لذا هو حق لها، فاستكانت نفسها وقبلت، على الرغم من معارضة الزوج.
ما يرسخ في الذاكرة غير كاف لتكوين صورة حقيقية ومنصفة عن الاخرين، لكن هو المتاح، في الصورة المترسبة عن الأخ الكبير يصرخ بوجه والدته المريضة بان ما لديها من أموال هي من أبيه فلماذا تبخل عليه بسيارة سبق جديدة مثل أقرانه الأثرياء؟ هكذا كان حاله في ايام مراهقته، متعجرفاً، متباهياً بصيت أجداده المزيف، ومنهم العابس البسام، ومسرفاً بمال غيره، ولم يتغير.
أما الأخ الصغير فنراه في ألبوم الذاكرة ينصح اخويه بأن لا يغضبا امهم، ، ليس لأنها المحبة المريضة، بل من اجل اللعب والحلوى والملابس الجديدة، فهي "تشتري لهم أشياءً حلوة"، على حد قوله، ولم يغادره هذا التفكير المعوج حتى اليوم.
تصاعدت تدخلات الأخوين في حياة اختهما وعائلتها مع مرور الوقت، ثمان سنوات قضتها الأخت وعائلتها في الغربة، لأن الخال الأصغر نكث بوعده، تلك كانت الغربة الصغرى، ثم حان وقت الغربة الكبرى، إلى أقصى بلاد الغرب، بعيدة عن العين بعيدة عن القلب، هكذا يقول المثل، والعكس صحيح في حالة الأخت، فقد كانت بعيدة عن القلب أساساً وأرادوا ابعادها عن العيون، فاختاروا لغربتها الكبرى أقصى البلاد، لم يكن لاعتراضات الزوج قيمة، من دون تقديم بديل أفضل، فقبل على مضض.
قال الأخ الأصغر للزوج: احرق قواربك من بعدك فلن تكون هنالك رجعة، كلماته سكين تفري اللحم المفتوح بجرح غائر لم يندمل.
زارهم الأخ الأكبر في الغربة الكبرى مرتين، في الزيارة الثانية وجد ابنة الاخت وقد تحجبت، استشاط غضباً زوج الأيرلندية - مضيفة الطيران سابقاً - فانتهر الزوج أمام أفراد عائلته: نحن لا نقبل بهذا، مشيراً إلى حجاب ابنة اخته، وبالكاد كظم الزوج غيظه.
بعد سبع وعشرين سنة من المصاهرة ذهب زوج الاخت لمساعدة الأخ الأصغر، في إدارة مشروع له في بيروت، وبعد يوم أو يومين من وصوله صرخ الأخ بوجه صهره: أنت قتلت امي بزواجك من اختي.
كذب الأخ الأصغر، كعادته، فاخته لم تتزوج إلا بعد افناء معظم سني شبابها بجانب والدتها، تسعفها كلما توقف قلبها عن النبض، تستدعي لها سيارة الاسعاف، وتسهر بجانب سريرها في المشافي، فأين كان هو وأخوه؟ عندما تزوجت بمباركة ورضا والدتها لم يهرع الأخ الأصغر المتباكي ولا الأكبر اللاهي ليحلا محلها، ولم تكن لأي منهما وظيفة يخافان فقدانها أو استثمار يخشيان كساده، كانا منغمسين باللهو، وعندما زارهما زوج اختهما بعد أكثر من عشر سنوات مضت على تخرجهما وجدهما يعيشان حياة عابثة كما هو الحال يوم وفاة والدتهما. أراد استخدام دورة المياه المخصصة للضيوف في شقتهما الصغيرة في جدة فوجدها مكتظة بالأواني وقناني العصير الفارغة، تبين بانهما يقطران النبيذ في دورة المياه، وفي الحمام الثاني وجد مناشف تحمل اسماء فنادق معروفة، وفي غرفة نوم الضيوف عدد من بطانيات مسروقة من شركات طيران.
" بناتك لا مشكلة لديهما، يستطيعان العيش من بيع جسديهما لكن ماذا سيفعل ابنك؟" تلك كانت كلمات الأخ الأصغر لزوج اخته، سكت عنه ليقينه بأنه مخنث، يكتم شذوذه.
سخط الرجال على النساء، وبالأخص المتمردات على القطيع، تراث موروث، وكما ورثته الأخت عن أمها كان من المحتم أن تورثه لابنتها، وتخير الرجال الساعة لينفثوا غضبهم في ابنة الأخت، فلم يجدوا افضل من مناسبة زواجها، اتفقوا وهم بالعادة مختلفون على تنغيص فرح اختهم وابنتها، وعد الأخ الأكبر بحضور حفل الزواج فأخلف، ولم يكتف بذلك فنهب مال اخته، والأخ الأصغر المخنث الذي كان يعالج عينيه على بعد ساعة بالطائرة منهم غادر على عجل قبل اسبوع من موعد الزفاف، عائداً إلى وطنه لينشر إشاعة خبيثة حول الزواج، بين الاقارب والمعارف، وكانت هدية الخال الأكبر تهكماً اشد مرارة من السم الزعاف، والخال الأصغر الذي لم يكلمه الأخوان منذ عشرين عاماً انضم هو الاخر للرجال ضد المرأة وابنتها، المتمردتين على القطيع.
لم يصدق الأخ الأصغر المخنث في حياته إلا مرة واحدة، عندما قال لأخيه الأكبر يوماً: "لماذا يكرهنا كل هؤلاء الناس؟ لا بد أن يكون السبب فينا".
بسبب خسارة مالية سكت قلب الأخ الأصغر المخنث لثوان، ثم عاد للخفقان بالحقد الأسود، والذين وثق بهم بالأمس انقلبوا عليه، اشتكوا عليه في المحاكم، وحجزوا على المتبقي من املاكه، واتهموه في جريدة لبنانية باللصوصية.
الأخ الأكبر الذي مد يده لأموال اخته، صرفها والكثير من ماله الخاص في ترميم بيت زوجته في فرنسا، وبعد أن ذاقا الأمرين من ربيبهما سجلاه في مدرسة داخلية في دولة أخرى، اقساطها باهضة، وهو الاخر طال الحجز بعض ممتلكاته.
أما الخالان فقد كانت خسارتهما معنوية فقط، وهي الأبهظ ثمناً، فأخيراً نضب صبر زوجة الخال الأصغر من لسان الخال الأكبر السليط، وتهكمه اللامنتهي، ونكاته السمجة الإباحية، بسبب العرج الذي تفشى من قدمه إلى عقله، حرضت والدتها عليه، فرنسية قوية الشخصية، فكان جزاؤه النفي من بيت أخيه، هكذا تفككت أواصر القرابة بين الرجال الأربعة، الذين اجتمعوا للمرة الأخيرة صفاً واحدا ضد النسوة المتمردات على القطيع، وقد فاتهم بأن النسوة هن اللحمة الوحيدة بينهم، قبل أن تبترها سكاكين لؤمهم وسخطهم...
يروى أن العابس البسام هلك، في مقدمة القطيع، معلقاً بخطام أول جمل، ومضى العابس البسام والقطيع، تسوقهم النساء من المؤخرة.
لو أنصتم جيداً لما يتمتمه الزوج فستسمعون: من ينصح النساء؟ لا جدوى من السباق، انقرض الرجال، في بلاد الرمال، وبقي القطيع.
27 اذار 2013م