جمال
01-30-2005, 10:27 AM
فغر السائق الهندي فاه حين قلت اني ذاهب الى الحرب، ونحن في الطريق الى مطار الكويت الدولي في الرابعة والنصف من صباح يوم معتدل البرودة اواخر الشهر الماضي. الشاب المصري اللطيف الذي بات «صديقاً» لكثرة ما تناولت في ركنه بالمطار من فناجين القهوة العربية، استغرب بدوره وصولي في تلك الساعة المبكرة. قال «لا يمكن ان تكون قد اتيت قبل الفجر للبحث عن حقيبتك التي نسي موظفو شركة الطيران أن يرسلوها على الطائرة التي جئت على متنها من عمان». ولما علم اني في طريقي الى جنوب العراق، شدّ على يدي بقلق كأنه كان يخشى الا يراني ثانية.
قبل وصول الطائرة التي حملت قائد القوات البحرية البريطانية الاميرال السير آلان ويست، 56 عاماً، بقليل ولج صالون المسافرين أربعة عسكريين بريطانيين. وكنت سأعرف بعد قليل انهم ميجور سيتكفل بقيادة فريق مرافقينا اثناء الرحلة العراقية ومساعده السارجنت الاسكوتلندي وسائقان.
ولم تمض برهة قصيرة على هبوط الطائرة المقبلة من لندن قرابة السابعة متأخرة عن موعدها بدقائق، حتى خرج من البوابة رجل ممشوق القامة في الخمسينات من عمره ببزة كحلية انيقة وربطة عنق، مع شاب يدفع عربة الحقائب فأدركت انني قد صرت وجهاً لوجه مع قائد البحرية البريطانية. سلم على العسكريين الاربعة بحرارة وأعرب عن سعادته لوجودي معه ممثلاً لـ«الشرق الأوسط» المؤسسة الاعلامية الوحيدة التي دُعيت لمرافقته في يومه «العراقي». ثم بدأت رحلة الساعتين والنصف الى ميناء ام قصر براً. بدا الطريق الواسع الذي يربط الكويت بالحدود العراقية، طويلاً.
فما إن تجاوزنا آخر ضواحي العاصمة، حتى صرنا امام فضاء مفتوح من الرمل المهجور المزركش هنا وهناك ببضع شجيرات باهتة او بخيمة بدوية منعزلة أو بيت طيني لا تلوح عليه علائم الحياة. ومضت السيارة التي تصل درجة تصفيحها الى ستة درجات الامر الذي يجعلها قادرة على تحمل قذيفتي آر.بي.جي في الوقت نفسه، تنهب المسافة.
وقبل انطلاق الركب، دعاني الاميرال الى الجلوس قربه كي نبدأ اولى مقابلاتنا في اليوم الطويل. كاد تواضعه الجم يجعلني انسى انني مع قائد عسكري يغص سجله بارفع الاوسمة، التي نال ابرزها في حرب الفوكلاند. كنت على علم مسبق بماضيه هذا.
غير اني لم اكن اعرف شيئاً عن علاقته القوية بالوطن العربي التي تعود الى قرابة اربعين عاماً. وقال إن صلته بالعراق ترقى الى عام 1966 حين زار المنطقة كضابط شاب في البحرية الملكية، كما حارب في عدن بعد ذلك بسنة. وكرر عبارة «شاي» بعربية سليمة حين حدثني عن صداقاته القديمة في العراق والخليج. وحين بدأ ارتقاء سلم المسؤولية قبل نحو عشر سنوات، بات يتردد على الاردن والسعودية وعُمان و الكويت... الخ، حيث صارت الفرصة تسنح له بالتواصل مع اصدقائه هناك. لم تنته الاسئلة والاجوبة حتى وصلنا مداخل ميناء أم قصر بعد قرابة 45 دقيقة.
عندذاك اخذ الضابط الكبير يحول عينيه في ارجاء المشهد المنبسط أمامنا بسعادة ممزوجة بقدر من الدهشة. قال وهو يشير الى بعض الابنية الجديدة، هذه من التجديدات التي قمنا بها. وعندما رأى رتلاً من السيارات والشاحنات المدنية امام البوابة الرئيسية، ابتسم ابتسامة عريضة، موضحاً ان هذه هي المرة الرابعة التي يأتي فيها الى العراق بعد سقوط صدام وفي كل مرة يجد المنطقة وقد استعادت قدراً اكبر من الحياة الطبيعية، فيما اخذت الفوضى التي عمت المكان في اعقاب الحرب تتقلص اكثر فأكثر. وقال الاميرال ان البريطانيين انتبهوا في وقت مبكر الى ضرورة حماية المرافق النفطية التي تدر يومياً الملايين من الدولارات على البلاد، لا سيما ان الارهابيين يستهدفونها. واردف انهم يشرفون على المرافق ويقومون بحمايتها حالياً بالتعاون مع التحالف.
واضاف «قدنا (الاميركيون والاستراليون... يعملون تحت امرة البريطانيين في هذا المجال) الجهود الرامية الى اعادة بناء قوات خفر السواحل وقد اقمنا القاعدة البحرية التي سنزورها بعد قليل، هي تضم آليات لتدريب العسكريين العراقيين». ولفت الى انهم يدربون ايضاً القوات التابعة لوزارة الداخلية والمكلفة حماية الانهار والممرات المائية في الداخل. واشار الى ان لدى العراقيين خمسة مراكب صغيرة تخضع حالياً للترميم والصيانة، وتتجه بريطانيا الى تزويدهم بزوارق اكبر واسلحة اكثر تطوراً. وشدد على ان ما تحقق حتى الآن على صعيد بناء القدرات البحرية العراقية هو عبارة عن «قصة نجاح كبير، بيد ان وسائل الاعلام (البريطانية) لم تلاحظ ذلك بعد».
وأمام المكاتب البريطانية في ثاني اكبر الموانئ العراقية، كان في استقبالنا عسكريون بينهم مقدم بحري أميركي بقامته الطويلة وابتسامته العريضة. تحدث بهدوء وارتياح فيما افلتت منه ضحكة هنا ونكتة هناك. وحين ابتعدت مع ضابط بريطاني لنفث دخان سيجارتينا بعيداً عن المقدم الاميركي والآخرين الذين كانوا قد انضموا الينا، «افشى» رفيقي سر ارتياح المقدم. قال «هذا واحد من سبعة اميركيين يساعدوننا نحن البريطانيين (28 ضابطاً وصف ضابط) على تدريب رجال الاسطول العراقي الجديد على العمل كجزء من شبكة المؤسسات المعنية بمكافحة تهريب النفط وحماية المياه الاقليمية، وإعدادها لتولي شأن موانئ البلاد وخفر سواحلها بمفردها». واشار الى ان الفضل في البدء بهذا المشروع قبل اشهر يعود اساساً الى الاميرال الذي كان سباقاً الى طرح الفكرة. واضاف إن حظ الاميركيين التابعين لسلاح البحرية افضل من مواطنيهم من افراد القوات البرية، إذ فيما لا تتجاوز فترة خدمة الاوائل في العراق او اي بلد اجنبي 6 اشهر يبقى جنود وضباط المشاة في الخارج سنة على الاقل، وقد رفعت اخيراً الى سنة واربعة اشهر للعاملين في العراق.
وقبل ان ينتهي من ابلاغي بكل ما لديه، كان علينا ان ننتجه الى المبنى الرئيسي حيث سيقدم قائد الموقع العراقي وكبير الضباط البريطانيين شرحاً للاميرال عن سير العمل. تبادل الضابط العراقي التحية العسكرية مع الضيف البارز قبل ان يتفقد الاخير حرس الشرف واحداً واحداً. وفي الداخل استهل العقيد البحري الجلسة بالحديث عن مهمات عناصر القاعدة التابعة للاسطول والمؤلفة من 500 عسكري وبحار يعملون تحت امرته. ولخص الضابط العراقي ما قام به جنوده لجهة حماية السواحل ومكافحة الارهاب الذي يستهدف المرافق النفطية.
ونوه بدولة الامارات العربية المتحدة التي تبرعت لهم اخيراً بـ 29 قاربا حديثا من الالمونيوم بدأوا يستعملونها الى جانب قواربهم الصينية السابقة في اعمال الدوريات. وذكر ان فوج خفر السواحل الذي يقوده سيتولى بمفرده حماية رصيف الميناء ومرافقه النفطية مع حلول شهر يوليو (تموز). ولما طلب الاميرال مزيداً من المعلومات عن هذا الدور المفترض، سارع كبير الضباط البريطانيين الى القول ان العراقيين سيقومون بذلك بالتعاون مع آخرين. لم يطل الوقت حتى بلغنا المحطة الثانية، وهي خور (ميناء) الزبير حيث تتمركز وحدة «كوماندو 40» المؤلفة من 700 جندياً بقيادة الليفتنانت كولونيل ديفيد كينغ.
ويُشار الى ان الكوماندو 40 هو احدى الوحدات الثلاث القتالية التي تشكل العمود الفقري للواء مشاة البحرية الملكية الذي يعد من أكفأ قطعات القوات المسلحة البريطانية وأكثرها مرونة عسكرية. والوحدة التي خدمت في فلسطين قبل 1948 بعد تأسيسها بست سنوات، كانت عام 1991 سباقة لنجدة الاكراد العراقيين حين سعى صدام حسين الى اجتياح كردستان بعد غزو الكويت. وأكد لي كينغ انه لا يزال يتذكر بحرارة تجربته في كردستان والمعاناة التي لمسها من جموع النساء والاطفال والشيوخ الخائفين من بطش الرئيس السابق. وفي 20 مارس 2003، كان الكوماندو 40 أول وحدة عسكرية أجنبية تطأ ارض العراق في اطار الحرب.
إذ انتزع وقتذاك أفراده المرافق النفطية البالغة الاهمية في شبه جزيرة الفاو قبل البدء بالهجوم البري. حين وصلنا الى الميناء ظهر ذلك اليوم المعتدل بنسيمه اللطيف وسمائه الصافية، كان المكان يعج بحركة اكبر مما شاهدناه قبل قليل في ام قصر. الشعارات التي تذكر بالماضي القريب للميناء لا تزال تغطي حيزاً لا بأس به من جدرانه. فهنا تقرأ «عاشت امة العرب ورسالتها الخالدة»، وهناك ترى عبارة «صدام حسين بطل النصر وصانع السلام» بخط اسود عريض. وفي داخل المبنى بدت عبارة «عملك شرفك فمن لا يعمل لا شرف له» كالسوط الذي كان النظام السابق يلسع به ظهور العراقيين الفقراء. واللافت ان اللوحة التي حملت في الماضي اسم المؤسسة «وزارة النقل والمواصلات، الشركة العامة لموانئ العراق، مديرية خور الزبير» لا تزال منصوبة فوق المدخل الرئيسي، فيما وقفت لوحة معدنية على الارض الى يمين هذا الباب نفسه كتب عليها «مقر قيادة الكوماندو 40، مشاة البحرية الملكية». استمع الاميرال الى شرح واف عن مهمات الوحدة.
ولدى الحديث عن التصدي للمهربين، قال الضابط البريطاني إنهم «يأتون عبر الحدود بكل شيء، الانتحاريين والسجائر وغيرهما». ولما سألته فيما بعد عما إذا نجحوا في الامساك بأحد هؤلاء المقاتلين» المتسللين، اجاب بالنفي. لا انه اردف ان وحدة المشاة البحرية الملكية نجحت في الحد من التهريب وذلك «بمجرد إشعار المهربين اننا موجودون قريباً منهم ونراقبهم، الامر الذي يجبرهم عادة على التوقف عن نشاطهم غير القانوني، تجنباً للمواجهة معنا». وشدد الضباط البريطانيون على ان «تطوير القدرات (العسكرية والأمنية) العراقية بحيث يمكنها تحقيق اكتفاء ذاتي، فضلاً عن المساعدة على تعزيز صلاتها بالمجتمع» يأتي في مقدمة الغايات التي يسعون الى بلوغها.
واضافوا إن البريطانيين يقومون حالياً بـ«رعاية» القوات العراقية اثناء تأدية المهمات ولا ينفذون هذه المهمات بالنيابة عنها. غير انهم لفتوا الى مشاكل كبيرة تعترض عملية بناء القوات العراقية، بينها نسبة الامية التي تكاد تصل الى 50%. كما اشاروا الى ان ثمة فجوة واسعة بين بعض العسكريين الذين يتمتعون بخبرة كبيرة وزملائهم المتطوعين حديثاً. وسلطوا الضوء في معرض الحديث عن الصعوبات على الفساد المتفشي والاعتبارات القبلية التي تحكم بعض القرارات التي يتخذها وزراء او موظفون اقل اهمية. وقال كينغ إن «الناس (العراقيين) يتحرقون لاعادة الحياة الطبيعية الى بلادهم، وهذا ينطبق على 60 % منهم». واصلنا الرحلة الى قصر صدام في البصرة حيث اتخذت وحدات عسكرية بريطانية مقار لها. لم يطل الوقت حتى حان موعد الذهاب الى القاعدة البريطانية الرئيسية في مطار البصرة، عبر المدينة.
كانت الرحلة مجدداً مناورة مستمرة مع أعداء محتملين لم نرَ اياً منهم. غير ان القلق خيم على موكبنا، لا سيما ان الظلام كان قد هبط واكتظ الطريق بسيارات العائدين الى بيوتهم بعد العمل. كان علينا احياناً ان نتوقف لبرهة وسط المدينة بسبب سيارة مدنية او اثنتين خرجتا عن الرتل الطويل فعرقلتا تقدمنا. وفي حالة كهذه كان الجنود من ركاب سيارة الجيب في المقدمة المكلفين بفتح الطريق امام الموكب، يسارعون الى الترجل. وكنت تراهم يتراكضون بكامل عتادهم ليتخذ بعضهم مواقع عن يمين ويسار الموكب تحسباً لهجوم ما، فيما يهرع زملاؤهم الآخرون لاستعجال السائق العراقي بإخلاء الطريق لنا او لاقناع شرطي المرور بتركنا نمر قبل رتل السيارات المنتظرة. وبدا لي من مقعدي خلف زجاج السيارة البعيدة نسبياً، ان الجنود التزموا بتعليمات الليفتنانت كولونيل كينغ الذي طلب منهم التعامل مع العراقيين من سائقين وغيرهم «بمنتهى التهذيب».
في القاعدة التي زرتها للمرة الاولى في سبتمبر (ايلول) الماضي، طغى الطابع الاجتماعي على بعض اللقاءات التي حضرناها. فقائد القوات البحرية اراد الاطمئنان عن احوال جنوده وضباطه والتحدث اليهم بعيداً عن الرسميات. وبعدما احضر طبقه بنفسه شأنه شأن اي عسكري آخر، حرص الاميرال على الجلوس الى وسط مائدة العشاء التي توزع حولها الضباط والجنود رجالاً ونساءً بحيث كان بوسعه تجاذب اطراف الحديث مع اكبر عدد ممكن.
قبل وصول الطائرة التي حملت قائد القوات البحرية البريطانية الاميرال السير آلان ويست، 56 عاماً، بقليل ولج صالون المسافرين أربعة عسكريين بريطانيين. وكنت سأعرف بعد قليل انهم ميجور سيتكفل بقيادة فريق مرافقينا اثناء الرحلة العراقية ومساعده السارجنت الاسكوتلندي وسائقان.
ولم تمض برهة قصيرة على هبوط الطائرة المقبلة من لندن قرابة السابعة متأخرة عن موعدها بدقائق، حتى خرج من البوابة رجل ممشوق القامة في الخمسينات من عمره ببزة كحلية انيقة وربطة عنق، مع شاب يدفع عربة الحقائب فأدركت انني قد صرت وجهاً لوجه مع قائد البحرية البريطانية. سلم على العسكريين الاربعة بحرارة وأعرب عن سعادته لوجودي معه ممثلاً لـ«الشرق الأوسط» المؤسسة الاعلامية الوحيدة التي دُعيت لمرافقته في يومه «العراقي». ثم بدأت رحلة الساعتين والنصف الى ميناء ام قصر براً. بدا الطريق الواسع الذي يربط الكويت بالحدود العراقية، طويلاً.
فما إن تجاوزنا آخر ضواحي العاصمة، حتى صرنا امام فضاء مفتوح من الرمل المهجور المزركش هنا وهناك ببضع شجيرات باهتة او بخيمة بدوية منعزلة أو بيت طيني لا تلوح عليه علائم الحياة. ومضت السيارة التي تصل درجة تصفيحها الى ستة درجات الامر الذي يجعلها قادرة على تحمل قذيفتي آر.بي.جي في الوقت نفسه، تنهب المسافة.
وقبل انطلاق الركب، دعاني الاميرال الى الجلوس قربه كي نبدأ اولى مقابلاتنا في اليوم الطويل. كاد تواضعه الجم يجعلني انسى انني مع قائد عسكري يغص سجله بارفع الاوسمة، التي نال ابرزها في حرب الفوكلاند. كنت على علم مسبق بماضيه هذا.
غير اني لم اكن اعرف شيئاً عن علاقته القوية بالوطن العربي التي تعود الى قرابة اربعين عاماً. وقال إن صلته بالعراق ترقى الى عام 1966 حين زار المنطقة كضابط شاب في البحرية الملكية، كما حارب في عدن بعد ذلك بسنة. وكرر عبارة «شاي» بعربية سليمة حين حدثني عن صداقاته القديمة في العراق والخليج. وحين بدأ ارتقاء سلم المسؤولية قبل نحو عشر سنوات، بات يتردد على الاردن والسعودية وعُمان و الكويت... الخ، حيث صارت الفرصة تسنح له بالتواصل مع اصدقائه هناك. لم تنته الاسئلة والاجوبة حتى وصلنا مداخل ميناء أم قصر بعد قرابة 45 دقيقة.
عندذاك اخذ الضابط الكبير يحول عينيه في ارجاء المشهد المنبسط أمامنا بسعادة ممزوجة بقدر من الدهشة. قال وهو يشير الى بعض الابنية الجديدة، هذه من التجديدات التي قمنا بها. وعندما رأى رتلاً من السيارات والشاحنات المدنية امام البوابة الرئيسية، ابتسم ابتسامة عريضة، موضحاً ان هذه هي المرة الرابعة التي يأتي فيها الى العراق بعد سقوط صدام وفي كل مرة يجد المنطقة وقد استعادت قدراً اكبر من الحياة الطبيعية، فيما اخذت الفوضى التي عمت المكان في اعقاب الحرب تتقلص اكثر فأكثر. وقال الاميرال ان البريطانيين انتبهوا في وقت مبكر الى ضرورة حماية المرافق النفطية التي تدر يومياً الملايين من الدولارات على البلاد، لا سيما ان الارهابيين يستهدفونها. واردف انهم يشرفون على المرافق ويقومون بحمايتها حالياً بالتعاون مع التحالف.
واضاف «قدنا (الاميركيون والاستراليون... يعملون تحت امرة البريطانيين في هذا المجال) الجهود الرامية الى اعادة بناء قوات خفر السواحل وقد اقمنا القاعدة البحرية التي سنزورها بعد قليل، هي تضم آليات لتدريب العسكريين العراقيين». ولفت الى انهم يدربون ايضاً القوات التابعة لوزارة الداخلية والمكلفة حماية الانهار والممرات المائية في الداخل. واشار الى ان لدى العراقيين خمسة مراكب صغيرة تخضع حالياً للترميم والصيانة، وتتجه بريطانيا الى تزويدهم بزوارق اكبر واسلحة اكثر تطوراً. وشدد على ان ما تحقق حتى الآن على صعيد بناء القدرات البحرية العراقية هو عبارة عن «قصة نجاح كبير، بيد ان وسائل الاعلام (البريطانية) لم تلاحظ ذلك بعد».
وأمام المكاتب البريطانية في ثاني اكبر الموانئ العراقية، كان في استقبالنا عسكريون بينهم مقدم بحري أميركي بقامته الطويلة وابتسامته العريضة. تحدث بهدوء وارتياح فيما افلتت منه ضحكة هنا ونكتة هناك. وحين ابتعدت مع ضابط بريطاني لنفث دخان سيجارتينا بعيداً عن المقدم الاميركي والآخرين الذين كانوا قد انضموا الينا، «افشى» رفيقي سر ارتياح المقدم. قال «هذا واحد من سبعة اميركيين يساعدوننا نحن البريطانيين (28 ضابطاً وصف ضابط) على تدريب رجال الاسطول العراقي الجديد على العمل كجزء من شبكة المؤسسات المعنية بمكافحة تهريب النفط وحماية المياه الاقليمية، وإعدادها لتولي شأن موانئ البلاد وخفر سواحلها بمفردها». واشار الى ان الفضل في البدء بهذا المشروع قبل اشهر يعود اساساً الى الاميرال الذي كان سباقاً الى طرح الفكرة. واضاف إن حظ الاميركيين التابعين لسلاح البحرية افضل من مواطنيهم من افراد القوات البرية، إذ فيما لا تتجاوز فترة خدمة الاوائل في العراق او اي بلد اجنبي 6 اشهر يبقى جنود وضباط المشاة في الخارج سنة على الاقل، وقد رفعت اخيراً الى سنة واربعة اشهر للعاملين في العراق.
وقبل ان ينتهي من ابلاغي بكل ما لديه، كان علينا ان ننتجه الى المبنى الرئيسي حيث سيقدم قائد الموقع العراقي وكبير الضباط البريطانيين شرحاً للاميرال عن سير العمل. تبادل الضابط العراقي التحية العسكرية مع الضيف البارز قبل ان يتفقد الاخير حرس الشرف واحداً واحداً. وفي الداخل استهل العقيد البحري الجلسة بالحديث عن مهمات عناصر القاعدة التابعة للاسطول والمؤلفة من 500 عسكري وبحار يعملون تحت امرته. ولخص الضابط العراقي ما قام به جنوده لجهة حماية السواحل ومكافحة الارهاب الذي يستهدف المرافق النفطية.
ونوه بدولة الامارات العربية المتحدة التي تبرعت لهم اخيراً بـ 29 قاربا حديثا من الالمونيوم بدأوا يستعملونها الى جانب قواربهم الصينية السابقة في اعمال الدوريات. وذكر ان فوج خفر السواحل الذي يقوده سيتولى بمفرده حماية رصيف الميناء ومرافقه النفطية مع حلول شهر يوليو (تموز). ولما طلب الاميرال مزيداً من المعلومات عن هذا الدور المفترض، سارع كبير الضباط البريطانيين الى القول ان العراقيين سيقومون بذلك بالتعاون مع آخرين. لم يطل الوقت حتى بلغنا المحطة الثانية، وهي خور (ميناء) الزبير حيث تتمركز وحدة «كوماندو 40» المؤلفة من 700 جندياً بقيادة الليفتنانت كولونيل ديفيد كينغ.
ويُشار الى ان الكوماندو 40 هو احدى الوحدات الثلاث القتالية التي تشكل العمود الفقري للواء مشاة البحرية الملكية الذي يعد من أكفأ قطعات القوات المسلحة البريطانية وأكثرها مرونة عسكرية. والوحدة التي خدمت في فلسطين قبل 1948 بعد تأسيسها بست سنوات، كانت عام 1991 سباقة لنجدة الاكراد العراقيين حين سعى صدام حسين الى اجتياح كردستان بعد غزو الكويت. وأكد لي كينغ انه لا يزال يتذكر بحرارة تجربته في كردستان والمعاناة التي لمسها من جموع النساء والاطفال والشيوخ الخائفين من بطش الرئيس السابق. وفي 20 مارس 2003، كان الكوماندو 40 أول وحدة عسكرية أجنبية تطأ ارض العراق في اطار الحرب.
إذ انتزع وقتذاك أفراده المرافق النفطية البالغة الاهمية في شبه جزيرة الفاو قبل البدء بالهجوم البري. حين وصلنا الى الميناء ظهر ذلك اليوم المعتدل بنسيمه اللطيف وسمائه الصافية، كان المكان يعج بحركة اكبر مما شاهدناه قبل قليل في ام قصر. الشعارات التي تذكر بالماضي القريب للميناء لا تزال تغطي حيزاً لا بأس به من جدرانه. فهنا تقرأ «عاشت امة العرب ورسالتها الخالدة»، وهناك ترى عبارة «صدام حسين بطل النصر وصانع السلام» بخط اسود عريض. وفي داخل المبنى بدت عبارة «عملك شرفك فمن لا يعمل لا شرف له» كالسوط الذي كان النظام السابق يلسع به ظهور العراقيين الفقراء. واللافت ان اللوحة التي حملت في الماضي اسم المؤسسة «وزارة النقل والمواصلات، الشركة العامة لموانئ العراق، مديرية خور الزبير» لا تزال منصوبة فوق المدخل الرئيسي، فيما وقفت لوحة معدنية على الارض الى يمين هذا الباب نفسه كتب عليها «مقر قيادة الكوماندو 40، مشاة البحرية الملكية». استمع الاميرال الى شرح واف عن مهمات الوحدة.
ولدى الحديث عن التصدي للمهربين، قال الضابط البريطاني إنهم «يأتون عبر الحدود بكل شيء، الانتحاريين والسجائر وغيرهما». ولما سألته فيما بعد عما إذا نجحوا في الامساك بأحد هؤلاء المقاتلين» المتسللين، اجاب بالنفي. لا انه اردف ان وحدة المشاة البحرية الملكية نجحت في الحد من التهريب وذلك «بمجرد إشعار المهربين اننا موجودون قريباً منهم ونراقبهم، الامر الذي يجبرهم عادة على التوقف عن نشاطهم غير القانوني، تجنباً للمواجهة معنا». وشدد الضباط البريطانيون على ان «تطوير القدرات (العسكرية والأمنية) العراقية بحيث يمكنها تحقيق اكتفاء ذاتي، فضلاً عن المساعدة على تعزيز صلاتها بالمجتمع» يأتي في مقدمة الغايات التي يسعون الى بلوغها.
واضافوا إن البريطانيين يقومون حالياً بـ«رعاية» القوات العراقية اثناء تأدية المهمات ولا ينفذون هذه المهمات بالنيابة عنها. غير انهم لفتوا الى مشاكل كبيرة تعترض عملية بناء القوات العراقية، بينها نسبة الامية التي تكاد تصل الى 50%. كما اشاروا الى ان ثمة فجوة واسعة بين بعض العسكريين الذين يتمتعون بخبرة كبيرة وزملائهم المتطوعين حديثاً. وسلطوا الضوء في معرض الحديث عن الصعوبات على الفساد المتفشي والاعتبارات القبلية التي تحكم بعض القرارات التي يتخذها وزراء او موظفون اقل اهمية. وقال كينغ إن «الناس (العراقيين) يتحرقون لاعادة الحياة الطبيعية الى بلادهم، وهذا ينطبق على 60 % منهم». واصلنا الرحلة الى قصر صدام في البصرة حيث اتخذت وحدات عسكرية بريطانية مقار لها. لم يطل الوقت حتى حان موعد الذهاب الى القاعدة البريطانية الرئيسية في مطار البصرة، عبر المدينة.
كانت الرحلة مجدداً مناورة مستمرة مع أعداء محتملين لم نرَ اياً منهم. غير ان القلق خيم على موكبنا، لا سيما ان الظلام كان قد هبط واكتظ الطريق بسيارات العائدين الى بيوتهم بعد العمل. كان علينا احياناً ان نتوقف لبرهة وسط المدينة بسبب سيارة مدنية او اثنتين خرجتا عن الرتل الطويل فعرقلتا تقدمنا. وفي حالة كهذه كان الجنود من ركاب سيارة الجيب في المقدمة المكلفين بفتح الطريق امام الموكب، يسارعون الى الترجل. وكنت تراهم يتراكضون بكامل عتادهم ليتخذ بعضهم مواقع عن يمين ويسار الموكب تحسباً لهجوم ما، فيما يهرع زملاؤهم الآخرون لاستعجال السائق العراقي بإخلاء الطريق لنا او لاقناع شرطي المرور بتركنا نمر قبل رتل السيارات المنتظرة. وبدا لي من مقعدي خلف زجاج السيارة البعيدة نسبياً، ان الجنود التزموا بتعليمات الليفتنانت كولونيل كينغ الذي طلب منهم التعامل مع العراقيين من سائقين وغيرهم «بمنتهى التهذيب».
في القاعدة التي زرتها للمرة الاولى في سبتمبر (ايلول) الماضي، طغى الطابع الاجتماعي على بعض اللقاءات التي حضرناها. فقائد القوات البحرية اراد الاطمئنان عن احوال جنوده وضباطه والتحدث اليهم بعيداً عن الرسميات. وبعدما احضر طبقه بنفسه شأنه شأن اي عسكري آخر، حرص الاميرال على الجلوس الى وسط مائدة العشاء التي توزع حولها الضباط والجنود رجالاً ونساءً بحيث كان بوسعه تجاذب اطراف الحديث مع اكبر عدد ممكن.