جبار
01-28-2005, 10:22 PM
صرخة الأهالي: كيف يريدنا العالم أن نعيش هكذا ونحارب الإرهاب؟!
منى فرح
«الغالبية العظمى من سكان الموصل ناس طيبون وجيدون يريدون الأمن ليهتموا بعائلاتهم وعملهم».
قد لا يختصر هذا الرأي الذي أدلى به المسؤول الأميركي في شمال العراق عن أهالي الموصل الحالة العامة التي يعيشها هؤلاء. ولكنه بالتأكيد تشخيص دقيق عن ضرورة أن تنعم هذه المنطقة، كما بقية العراق، بالأمن والسلام ليستطيع أهلها، القابعون بين فكي المسلحين والأجهزة الأمنية، مواصلة حياتهم بالحد الأدنى.
وأهالي الموصل بدورهم يختصرون بحاجتهم للأمن، افتقارهم لكثير من مقومات الصمود الضرورية لإعانتهم على مواجهة كل التحديات المفروضة عليهم قسرا نتيجة للأوضاع الأمنية المتردية جدا جدا.
فالخدمات، على أنواعها، متردية ، واذا توافرت فبحدها الأدنى، الأمر الذي يقلق الجميع خصوصا أرباب العوائل، ويترك علامات استفهام كبيرة حول مستقبل ثالث اكبر محافظة في العراق المتهمة بان ثلث سكانها من مؤيدي النظام السابق ويعملون على زعزعة الاستقرار. وهذه الأسئلة المقلقة لا تطال الوضعين السياسي والأمني فقط، بل الأوضاع التربوية والصحية والاجتماعية ايضا.
المعاني الغائبة!
أم عمر، ربة عائلة عراقية كردية مؤلفة من سبعة أشخاص تسكن في الجزء الأيمن من مدينة الموصل، قالت «أنا لا اترك أولادي ولا بناتي يذهبون إلى المدرسة. أخاف عليهم من الخطف كما أخاف عليهم من القصف. أستطيع القبول بان يخسر أطفالي سنة دراسية، ولكنني لا أستطيع احتمال مجرد فكرة أن اخسر واحدا منهم. وحتى داخل المنزل لا نسلم من الخوف، ابنتي الصغيرة تبقي يديها على اذنيها لانها تخاف من أي صوت. حتى انها تخاف من صور الدبابات الاميركية في التلفزيون».
إذا لا مستقبل من دون امن. وموقف أم عمر الذي يقلدها فيه الكثير من الأهالي والمعلمين أدى إلى إقفال المدارس. ومع قرب موعد الانتخابات فضلت إدارة الجامعة في الموصل بدورها تعليق الدراسة منذ منتصف هذا الشهر والى ما بعد الانتخابات حتى لا يتعرض الطلبة لأي خطر أثناء توجههم إلى صفوفهم، وأيضا تحسبا من استهداف مبنى الجامعة من قبل المسلحين.
حتى أساتذة المدارس والكليات أنفسهم فضلوا المجازفة بخسارة وظيفتهم والبقاء في المنزل. وهذا ما فعله أستاذ المدرسة المتوسطة احمد الجبوري الذي قال «كل أستاذ يعني مترجم عند الأميركيين. لذلك اخترنا ملازمة البيت لحين الاتفاق على المعنى الأساسي لمهنة التدريس».
الوقود
وإذا كان الناس اختاروا مبدأ التزام الحيطة والحذر لشراء سلامتهم وسلامة أولادهم، وعملوا بمقولة «ابعد عن الشر وغن له»، فكيف يستطيعون التغلب على المصاعب الأخرى التي تعترض معيشتهم اليومية.
الوقود، كما هو الحال في كافة أنحاء العراق، سلعة أساسية لسكان الموصل لتأمين مستلزمات الحياة اليومية مثل التدفئة وتسخين المياه والطبخ. والحاجة إليه لتشغيل وسائل النقل لا تقل أهمية عن تأمين المأكل والمشرب. فالموصل اليوم مقطوعة عن العالم كله وحتى عن الأقضية والمحافظات الأخرى. وبدون تأمين النقل تنعدم إمكانية التواصل مع الخارج وتنعدم معها إمكانية تزويد المناطق بالمواد الغذائية والصحية وتزويد المحطات بالوقود وغير ذلك من حاجات المواطن الضرورية.
ومشكلة الوقود في الموصل تبدأ مع المصاعب التي يواجهها العاملون على نقله إلى داخل المحافظة وتنتهي عند ارتفاع أسعاره.
فبسبب خطورة الأوضاع الأمنية خاصة عند الطرق الخارجية المؤدية إلى الموصل، حيث تكثر الكمائن وحوادث الاغتيالات والقتل والسلب، يضطر سائقو صهاريج الوقود إلى سلك الطرقات الملتفة الطويلة ذات الطبيعة الجبلية الوعرة غير المعبدة وغير المخصصة لمركبات النقل الكبيرة. ويحتاج صهريج النفط الآتي من زاخو (الحدود التركية حيث، مع الأسف، يتم تكرير نفط العراق حاليا) ليصل إلى الموصل، 18 ساعة كحد أدنى وأحيانا أياما بسبب الإجراءات الأمنية والإدارية أولا، وبسبب ازدحام تلك الطرق بأعداد كبيرة من الصهاريج التي تغذي مناطق إقليم كردستان كله. وتسلك الصهاريج المتوجهة إلى الموصل حاليا طريق دهوك - اربيل - الموصل.
وإذا كتب لسائق الصهريج النفاذ من شرك العصابات التي تكمن خصوصا لأمثاله عند المفارق المؤدية إلى داخل الموصل (حوادث قتل السائقين مستمرة)، فهذا لا يعني بالضرورة لأهالي المحافظة أنهم حصلوا على تموينهم وبالتالي انفرجت حاجاتهم.
فالكمية الكبرى من الوقود الواصل إلى الموصل محجوزة أولا للقوات الأميركية والمتعددة الجنسيات ولقوات الحرس الوطني والشرطة العراقية والأجهزة الأمنية التابعة للأحزاب الموجودة في المحافظة. وهذا ما يثير سخط المواطنين واستياءهم، فهم يضطرون الى الوقوف ساعات في طوابير طويلة من اجل الحصول على حاجتهم مما قد يعرضهم لمخاطر هجمات المسلحين أو أن يصبحوا بين لحظة وأخرى وسط اشتباك مسلح.
الانتظار الإجباري
أبو وليد في العقد السادس من العمر، كان ينتظر داخل سيارته المركبة وسط صف طويل من السيارات يمتد مئات الأمتار أمام إحدى المحطات وسط المدينة، قال لي «نمضي الساعات تلو الأخرى ننتظر مجبرين في حين يستطيع أي من المسؤولين والعناصر الأمنية تجاوز الطابور والنظام والوقت لتعبئة خزانه وخزانات أخرى إضافية يحضرها معه ويذهب من دون أن يدفع»!
وأضاف أبو وليد الذي بدا منهكا ويائسا من الأحوال «ما احتاجه هو تعبئة خزان سيارتي لأخرج وعائلتي من الموصل. الحياة هنا لم تعد محتملة. اثنان من أولادي الشباب ذهبوا قبل سبعة اشهر إلى اربيل للعمل ولم نرهم لا أنا ولا والدتهم منذ ذلك الحين».
وأبو وليد بالمناسبة عراقي عربي لا ينوي ترك الموصل نهائيا لأنه لا يريد أن يكون مشردا في وطنه. وولداه ذهبا إلى اربيل لأنها «أكثر أمانا من مناطق أخرى» كما يقول. ويضيف «أخاف أن اطلب منهما زيارتنا خشية أن يتعرض لهما احد بأي سوء على الطريق أو هنا في الموصل. فالمسلحون من جهة لا يرحمون أحدا ولا يميزون بين المواطنين العاديين الذين يريدون السترة وبين ضالتهم. والقوات الأمنية من جهة ثانية (ويقصد الأميركيين والحرس الوطني والشرطة) لا يتركوننا بحالنا. فإذا ما تعرضوا لأي هجوم يقتحمون البيوت بشكل عشوائي وينغصون علينا حياتنا بالسؤال والجواب وبإجراءات التفتيش والمداهمات. وربما إذا جاء ولداي للزيارة اعتقد هؤلاء أنهما كانا مع الإرهابيين»!
نحن وهم
وبينما كنت أتحدث مع أبو وليد وصلت ثلاث سيارات تقل عناصر أمنية لم استطع معرفة الجهة التي يمثلونها. فهم لم يكونوا شرطة ولا اميركيين. والتف سائقو السيارات الثلاث على المدخل الرئيسي لمحطة الوقود وبقدرة لا يملكها إلا أمثالهم حصلوا على حاجتهم. ولما فرغوا من تعبئة الخزانات أبرزوا أوراقا مختومة بدلا من النقود.
سائق شاب ينتظر في الصف وقف خارج سيارته لتسلية نفسه بمراقبة المارة والتحدث إليهم. سألني بعدما رأى آلة التصوير «أنت صحافية؟صوري هؤلاء المسؤولين وصورينا نحن في الطابور. أحيانا نهدر أكثر من 10 ليترات ونحن ننتظر، عدا الوقت. وفوق هذا ندفع المبلغ الفلاني. الأحوال ليست جيدة أبدا. كيف يريدنا العالم أن نعيش وكيف يطلبون منا أن نحارب الإرهاب»؟.
وسعر الوقود مصدر معاناة حقيقية للعراقيين خصوصا سائقي المركبات العامة. والموصل كغيرها من المحافظات العراقية الأخرى تعاني من هيمنة مافيات الوقود والتجار غير الشرعيين الذين يستخدمون نفوذهم ومعارفهم وعلاقاتهم بالأجهزة الأمنية ليستحوذوا على «حصة الأسد» يبيعونها بعد «تغشيشها» في السوق السوداء بأسعار مضاعفة. والسوق السوداء في الموصل هي أرصفة الطرق أو في محلات خاصة تكون في العادة دكانا أو ملحقا لمنزل التاجر والمتاجر. وفي ظل هذه الظروف المحزنة تجد عائلات تعتمد على الثياب السميكة والأغطية للتدفئة. وفي الحالات الخاصة مثل وجود مريض في المنزل قد تكون العودة إلى نار الحطب حلا لا بد منه رغم مضاره الصحية.
الغذاء
لا تعد الموصل أوفر حظا بالمواد الغذائية من حظها في الوقود. فالمدينة مثلا تعتمد على القرى والمناطق المجاورة في تأمين الخضار والفاكهة واللحوم. ولما كانت الظروف الأمنية كما ذكرنا بالنسبة لمركبات النقل الخارجي فالأوضاع مشابهة بالنسبة لمركبات النقل الداخلي بين الأقضية والمناطق. لذلك يضطر التجار والسائقون إلى التركيز على نقل المواد الأساسية وهي أنواع معينة من الخضار والحمضيات والفاكهة والحبوب المحلية، إضافة إلى الطيور ولحم البقر بكميات اقل رغم انه غير مرغوب فيه كثيرا لدى العراقيين الذين يفضلون لحم الغنم، كما أن المواد الغذائية المستوردة من المناطق البعيدة أو من خارج العراق تتعرض لكثير من الملوثات والتلف والفساد.
ومع هذا التقنين القسري تجد الوجبات على موائد العائلات (المتوسطة والفقيرة) في الموصل تتكرر كل يوم وكأنها أمر عسكري لا نقاش فيه. عند الفطور لا شيء غير اللبن والجبن المصنوع محليا والصمون (الخبز المحلي) وبعض المربيات المنزلية. ووجبة الغداء رز «تمن» مع الفاصوليا الحمراء، وفي أحسن الظروف القليل من الدجاج أو اللحم للاقتصاد. أما العشاء فيكون ما بقي من وجبة الغداء إلى جانب بعض الفاكهة.
ومع كل هذا التقشف ليس الحصول على نعمة البقاء بالأمر السهل. فالأمر يتطلب الذهاب إلى السوق للتبضع، ما يعني تعريض حياة رب العائلة للخطر. والأسواق، خاصة عند الصباح وقت الذروة، تكون شديدة التوتر، فالكل يحذر من الكل. والكل يريد أن ينهي مهمته قبل الكل. وفي ظروف مثل التي تعيشها الموصل لا تستطيع ضبط حركة السير التي تتعدى كل القوانين والأنظمة.
المرافق الذي كان معي تجاوز خمس سيارات أمامه بتهور أزعج الآخرين وفي الوقت نفسه أخافني، خاصة عندما سحب هو والمرافق الثاني أسلحتهما ووضعا يديهما على الزناد. وعندما عاتبتهما على تصرفهما قالا لي «الم تري هؤلاء في السيارة البيجو البيضاء كانوا يريدون إزعاجنا ونحن غير واثقين من هويتهم. ولما كنت معنا فضلنا تحاشيهم وعدم المواجهة معهم».
شكرت ربي انني لم انتبه للسيارة البيجو البيضاء حتى لا يزداد توتري. ولا بد أن الفصل الذي حصل معي يتكرر مع الكثيرين من السكان الحريصين أيضا على حياتهم. فالوضع الأمني متوتر وخطير جدا. والاشتباكات تنشأ بشكل عشوائي وليس بالضرورة بين مسلحين يفترض أنهم إرهابيون والأجهزة الأمنية. فالاشتباكات المسلحة يمكن أن يتسبب بها العناصر الأمنية أنفسهم إذا ما شك احدهم في الآخر ولا توقيت محددا للهجمات الإرهابية وان كان الجنرال الأميركي كارتر هام حصرها بفترة النهار. كما أن التحليق المستمر للمروحيات العسكرية وتحرك الدبابات والآليات العسكرية في الأحياء وانتشار حواجز التفتيش كلها عوامل تثير التوتر والإزعاج بين الناس، وتضعف مقاوتهم لأي استفزاز يتعرضون إليه حتى لو كان زحمة سير مؤقتة أو مرور موكب أو تجاوزات سير.
ولتلافي التعرض لمثل هكذا مفاجآت يفضل الناس التسوق بأسرع وقت ممكن والعودة إلى منازلهم.
الأعمال محدودة
بالتأكيد لا يمكن أن تكون الحياة تسير بطريقة طبيعية إذا كان السكان يكتفون بالتبضع والعودة لملازمة الغرف الآمنة في منازلهم دون أن يكون لديهم عمل يحصلون منه رزقهم. ولما تعذر عليّ الاستفسار بطريقة جيدة عن نوعية الوظائف والأعمال التي يمارسها أهل الموصل، استفسرت عن الأمر من محمود عبدالله، وهو مسؤول سياسي في حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني في الموصل، الذي أجاب بان معظم شباب الموصل اليوم هم إما ملتحقون بالشرطة والحرس الوطني أو بالأجهزة الأمنية التابعة للأحزاب. والآخرون إما موظفون في مجال التعليم في المدارس والجامعات والوزارات، وهؤلاء رواتبهم مستمرة حتى مع توقف الدراسة، وإما متقاعدون يحصلون على رواتب. وفي الوقت نفسه هناك نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل، وهذا ما ينذر بمشكلة تضاف إلى مشكلة الامن وتضخمها. فالعاطلون عن العمل أول ضحايا جماعات العنف والإرهاب الذين يستغلون أوضاعهم وحاجتهم المادية لتطويعهم وتوريطهم بأعمال القتل والهجمات.
ويوافق الجنرال هام على أن البطالة، خاصة في الضواحي والقرى حيث الفقر يصل إلى حدوده القصوى، «وجه آخر لحالة اللاأمن التي تخيم على الموصل». ويضيف «إذا كان المسلحون نجحوا في قض مضاجع المواطنين الآمنين من خلال العبوات الناسفة والاغتيالات، فهم أيضا نجحوا في زعزعة الثقة بالوطن ومسيرة الاستقرار والتنمية. اعرف، وكلني ثقة بان معظم سكان الموصل هم مواطنون جيدون وطيبون يريدون الأمن والحصول على عمل يعيلون من خلاله عائلاتهم. وإنهم يحلمون بوطن آمن ومستقر فيه كافة الخدمات الصحية والاجتماعية لأولادهم، وفيه المتنزهات والحدائق لأطفالهم بعيدا عن حوادث القتل وبعيدا عن الخوف. ولكن كيف يمكن فعل كل هذا من دون امن؟!».
أين التنمية؟
الجنرال هام تحدث لـ«القبس» عن كل شيء إلا عن كيف يمكن أن تحقق القوات الأميركية الأمن في الموصل والعراق عامة، وهي المهمة الرئيسية لهم كما يفترض. والحالة في الموصل كما في مناطق عدة من العراق صارت تشبه حكاية «البيضة والدجاجة». الإرهاب يمنع التنمية ويضيع فرص العمل. والبطالة سبب أساسي لانخراط الشباب في المجموعات الإرهابية. ألا يوجد حل وسط بين المعضلتين؟هل من مشاريع أو اقتراحات تجذب الشباب العراقيين وتسد طريقا على الارهابين المفترضين؟
يجيب المحامي سردار العركي مسؤول العلاقات في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني «إننا نسعى الآن لإنجاح الانتخابات في المحافظة وبعدها سنتفرغ لتسوية كل الأمور. جميع الأطراف متحمسة للانتخابات ونحن نرى فيها مدخلا أساسيا للتغير على كافة الأصعدة.. فالتنمية تحتاج إلى استقرار سياسي وامني. ونحن نتطلع أن تكون الانتخابات بابا لجعل المواطنين كافة متساويين في المواطنة والحقوق والواجبات. متفائلون بالمستقبل ونشعر أن الإرهابيين وكل من تسوغ له أفكاره إثارة البلبلة والعنف يعيشون لحظاتهم الأخيرة. الأمن والاستقرار الحل الوحيد لمشكلة البطالة»!
ربما، ولكن من يضمن أن لا تطول فترة اللاأمان وبالتالي زيادة عدد المغرر بهم !
معاناة مزمنة
وان كان التدهور الأمني ظرفا طارئا ( وأتمنى أن يكون آنيا) فان ما لمسته من حرمان ومعاناة يظهر اليوم على هيئة تقشف وبطالة يدل على أن المعاناة مزمنة، وجاءت الأحداث الأمنية لتزيدها قساوة، وترسخها في الأعماق حتى العين المجردة تستطيع تفسيرها.
فالموصل المدينة تبدو للوهلة الأولى عامرة بطرقاتها وبالجسور المشيدة على أفضل تصميم وتخطيط وبالفنادق المنتشرة، وان كانت في الظرف الحالي مهجورة ومهملة. إلا أنها بشكل عام مدينة متأخرة عن عصرها كثيرا. وباستثناء بعض الأحياء التي تنتشر فيها البيوت الكبيرة والفخمة نوعا ما، فهناك في المقابل أحياء عديدة مستوى البيوت فيها اقل من العادي، وهناك أحياء فقيرة ومعدمة. والأسواق قديمة لا تصلح لان تكون أسواق قرية صغيرة في أيام الثلاثينات من القرن الماضي. وإضافة إلى هذا كله فان كل ما هو مقبول من مسكن أو شارع أي ملكية أخرى كان في الأساس يعود لضباط الجيش العراقي السابق. فصدام حسين بنى لنفسه وعلى أملاك العراقيين قصرا بعدة قصور يتوسط المدينة ويفضحها في الوقت ذاته. فالتنافر بين قصور صدام ومنازل المواطنين لا يمكن وصفه. والفروقات واحدة مع منازل الضباط السابقين التي تتخذها الأحزاب اليوم مقرات لها أو لكبار مسؤوليها.
بين الأمس واليوم
وأصحاب السلطة، سكان المنازل والمناطق الفخمة، وان اختلفوا عن النظام السابق في السياسة والمنطق والممارسة والأهداف والسلوك، فان الأوضاع من نواحي عديدة متشابهة. فالمركز الحزبي بالنسبة للمواطنين يعني شوارع مقفلة، وأخرى محظور السير فيها لغير العسكريين، وأسطح تغطيها المتاريس والدشم الإسمنتية والترابية وتحتلها العناصر الأمنية للمراقبة، إضافة إلى كونها هدفا للهجمات لا يسلم منها المواطنون في أحيان كثيرة وأحيانا يدفعون ثمنها دون غيرهم.
والحال هذه ليست في المدينة فقط، فخلال جولتي على بعض الأقضية، منها سنجار وشيخان وبعشيقة، وهي مناطق أكثر هدوءا واستقرارا عن قضاء الموصل، إلا أنها أكثر سوءا من ناحية المستوى المعيشي والخدمات والطرقات. هي في اختصار صورة مصغرة عن حجم الإهمال والدمار الذي ألحقه صدام بالعراق على مدى عقود. هي مناطق معدمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. المدارس أن وجدت فهي لا تكفي لجميع الطلبة. اقرب مركز صحي يبعد عن المنطقة السكنية مسافة ساعة. التمديدات الصحية والمجاري متهالكة وتعود إلى عهد العثمانيين. البيوت معظمها من طين والأهالي يعملون بالزراعة بطرق بدائية مهلكة وتهدر الوقت والجهد والموارد. والمياه آسنة لا تصلح للاستخدام الآدمي.
أما الأحوال المزرية التي تعيشها المرأة العراقية في تلك المناطق فسيكون لها حديث آخر.
اغتيال عضو قيادي في الـحزب الشيوعي
ما كدت أنهي ارسال التقرير عن الموصل، حتى أبلغت بأنه جرى مساء امس اغتيال احد اعضاء قيادة منظمة الحزب الشيوعي في المدينة، ويسمى ابورائد، واختطاف عضو آخر هو محمد عقراوي، وهو من الصحافيين البارزين في الموصل.
منى فرح
«الغالبية العظمى من سكان الموصل ناس طيبون وجيدون يريدون الأمن ليهتموا بعائلاتهم وعملهم».
قد لا يختصر هذا الرأي الذي أدلى به المسؤول الأميركي في شمال العراق عن أهالي الموصل الحالة العامة التي يعيشها هؤلاء. ولكنه بالتأكيد تشخيص دقيق عن ضرورة أن تنعم هذه المنطقة، كما بقية العراق، بالأمن والسلام ليستطيع أهلها، القابعون بين فكي المسلحين والأجهزة الأمنية، مواصلة حياتهم بالحد الأدنى.
وأهالي الموصل بدورهم يختصرون بحاجتهم للأمن، افتقارهم لكثير من مقومات الصمود الضرورية لإعانتهم على مواجهة كل التحديات المفروضة عليهم قسرا نتيجة للأوضاع الأمنية المتردية جدا جدا.
فالخدمات، على أنواعها، متردية ، واذا توافرت فبحدها الأدنى، الأمر الذي يقلق الجميع خصوصا أرباب العوائل، ويترك علامات استفهام كبيرة حول مستقبل ثالث اكبر محافظة في العراق المتهمة بان ثلث سكانها من مؤيدي النظام السابق ويعملون على زعزعة الاستقرار. وهذه الأسئلة المقلقة لا تطال الوضعين السياسي والأمني فقط، بل الأوضاع التربوية والصحية والاجتماعية ايضا.
المعاني الغائبة!
أم عمر، ربة عائلة عراقية كردية مؤلفة من سبعة أشخاص تسكن في الجزء الأيمن من مدينة الموصل، قالت «أنا لا اترك أولادي ولا بناتي يذهبون إلى المدرسة. أخاف عليهم من الخطف كما أخاف عليهم من القصف. أستطيع القبول بان يخسر أطفالي سنة دراسية، ولكنني لا أستطيع احتمال مجرد فكرة أن اخسر واحدا منهم. وحتى داخل المنزل لا نسلم من الخوف، ابنتي الصغيرة تبقي يديها على اذنيها لانها تخاف من أي صوت. حتى انها تخاف من صور الدبابات الاميركية في التلفزيون».
إذا لا مستقبل من دون امن. وموقف أم عمر الذي يقلدها فيه الكثير من الأهالي والمعلمين أدى إلى إقفال المدارس. ومع قرب موعد الانتخابات فضلت إدارة الجامعة في الموصل بدورها تعليق الدراسة منذ منتصف هذا الشهر والى ما بعد الانتخابات حتى لا يتعرض الطلبة لأي خطر أثناء توجههم إلى صفوفهم، وأيضا تحسبا من استهداف مبنى الجامعة من قبل المسلحين.
حتى أساتذة المدارس والكليات أنفسهم فضلوا المجازفة بخسارة وظيفتهم والبقاء في المنزل. وهذا ما فعله أستاذ المدرسة المتوسطة احمد الجبوري الذي قال «كل أستاذ يعني مترجم عند الأميركيين. لذلك اخترنا ملازمة البيت لحين الاتفاق على المعنى الأساسي لمهنة التدريس».
الوقود
وإذا كان الناس اختاروا مبدأ التزام الحيطة والحذر لشراء سلامتهم وسلامة أولادهم، وعملوا بمقولة «ابعد عن الشر وغن له»، فكيف يستطيعون التغلب على المصاعب الأخرى التي تعترض معيشتهم اليومية.
الوقود، كما هو الحال في كافة أنحاء العراق، سلعة أساسية لسكان الموصل لتأمين مستلزمات الحياة اليومية مثل التدفئة وتسخين المياه والطبخ. والحاجة إليه لتشغيل وسائل النقل لا تقل أهمية عن تأمين المأكل والمشرب. فالموصل اليوم مقطوعة عن العالم كله وحتى عن الأقضية والمحافظات الأخرى. وبدون تأمين النقل تنعدم إمكانية التواصل مع الخارج وتنعدم معها إمكانية تزويد المناطق بالمواد الغذائية والصحية وتزويد المحطات بالوقود وغير ذلك من حاجات المواطن الضرورية.
ومشكلة الوقود في الموصل تبدأ مع المصاعب التي يواجهها العاملون على نقله إلى داخل المحافظة وتنتهي عند ارتفاع أسعاره.
فبسبب خطورة الأوضاع الأمنية خاصة عند الطرق الخارجية المؤدية إلى الموصل، حيث تكثر الكمائن وحوادث الاغتيالات والقتل والسلب، يضطر سائقو صهاريج الوقود إلى سلك الطرقات الملتفة الطويلة ذات الطبيعة الجبلية الوعرة غير المعبدة وغير المخصصة لمركبات النقل الكبيرة. ويحتاج صهريج النفط الآتي من زاخو (الحدود التركية حيث، مع الأسف، يتم تكرير نفط العراق حاليا) ليصل إلى الموصل، 18 ساعة كحد أدنى وأحيانا أياما بسبب الإجراءات الأمنية والإدارية أولا، وبسبب ازدحام تلك الطرق بأعداد كبيرة من الصهاريج التي تغذي مناطق إقليم كردستان كله. وتسلك الصهاريج المتوجهة إلى الموصل حاليا طريق دهوك - اربيل - الموصل.
وإذا كتب لسائق الصهريج النفاذ من شرك العصابات التي تكمن خصوصا لأمثاله عند المفارق المؤدية إلى داخل الموصل (حوادث قتل السائقين مستمرة)، فهذا لا يعني بالضرورة لأهالي المحافظة أنهم حصلوا على تموينهم وبالتالي انفرجت حاجاتهم.
فالكمية الكبرى من الوقود الواصل إلى الموصل محجوزة أولا للقوات الأميركية والمتعددة الجنسيات ولقوات الحرس الوطني والشرطة العراقية والأجهزة الأمنية التابعة للأحزاب الموجودة في المحافظة. وهذا ما يثير سخط المواطنين واستياءهم، فهم يضطرون الى الوقوف ساعات في طوابير طويلة من اجل الحصول على حاجتهم مما قد يعرضهم لمخاطر هجمات المسلحين أو أن يصبحوا بين لحظة وأخرى وسط اشتباك مسلح.
الانتظار الإجباري
أبو وليد في العقد السادس من العمر، كان ينتظر داخل سيارته المركبة وسط صف طويل من السيارات يمتد مئات الأمتار أمام إحدى المحطات وسط المدينة، قال لي «نمضي الساعات تلو الأخرى ننتظر مجبرين في حين يستطيع أي من المسؤولين والعناصر الأمنية تجاوز الطابور والنظام والوقت لتعبئة خزانه وخزانات أخرى إضافية يحضرها معه ويذهب من دون أن يدفع»!
وأضاف أبو وليد الذي بدا منهكا ويائسا من الأحوال «ما احتاجه هو تعبئة خزان سيارتي لأخرج وعائلتي من الموصل. الحياة هنا لم تعد محتملة. اثنان من أولادي الشباب ذهبوا قبل سبعة اشهر إلى اربيل للعمل ولم نرهم لا أنا ولا والدتهم منذ ذلك الحين».
وأبو وليد بالمناسبة عراقي عربي لا ينوي ترك الموصل نهائيا لأنه لا يريد أن يكون مشردا في وطنه. وولداه ذهبا إلى اربيل لأنها «أكثر أمانا من مناطق أخرى» كما يقول. ويضيف «أخاف أن اطلب منهما زيارتنا خشية أن يتعرض لهما احد بأي سوء على الطريق أو هنا في الموصل. فالمسلحون من جهة لا يرحمون أحدا ولا يميزون بين المواطنين العاديين الذين يريدون السترة وبين ضالتهم. والقوات الأمنية من جهة ثانية (ويقصد الأميركيين والحرس الوطني والشرطة) لا يتركوننا بحالنا. فإذا ما تعرضوا لأي هجوم يقتحمون البيوت بشكل عشوائي وينغصون علينا حياتنا بالسؤال والجواب وبإجراءات التفتيش والمداهمات. وربما إذا جاء ولداي للزيارة اعتقد هؤلاء أنهما كانا مع الإرهابيين»!
نحن وهم
وبينما كنت أتحدث مع أبو وليد وصلت ثلاث سيارات تقل عناصر أمنية لم استطع معرفة الجهة التي يمثلونها. فهم لم يكونوا شرطة ولا اميركيين. والتف سائقو السيارات الثلاث على المدخل الرئيسي لمحطة الوقود وبقدرة لا يملكها إلا أمثالهم حصلوا على حاجتهم. ولما فرغوا من تعبئة الخزانات أبرزوا أوراقا مختومة بدلا من النقود.
سائق شاب ينتظر في الصف وقف خارج سيارته لتسلية نفسه بمراقبة المارة والتحدث إليهم. سألني بعدما رأى آلة التصوير «أنت صحافية؟صوري هؤلاء المسؤولين وصورينا نحن في الطابور. أحيانا نهدر أكثر من 10 ليترات ونحن ننتظر، عدا الوقت. وفوق هذا ندفع المبلغ الفلاني. الأحوال ليست جيدة أبدا. كيف يريدنا العالم أن نعيش وكيف يطلبون منا أن نحارب الإرهاب»؟.
وسعر الوقود مصدر معاناة حقيقية للعراقيين خصوصا سائقي المركبات العامة. والموصل كغيرها من المحافظات العراقية الأخرى تعاني من هيمنة مافيات الوقود والتجار غير الشرعيين الذين يستخدمون نفوذهم ومعارفهم وعلاقاتهم بالأجهزة الأمنية ليستحوذوا على «حصة الأسد» يبيعونها بعد «تغشيشها» في السوق السوداء بأسعار مضاعفة. والسوق السوداء في الموصل هي أرصفة الطرق أو في محلات خاصة تكون في العادة دكانا أو ملحقا لمنزل التاجر والمتاجر. وفي ظل هذه الظروف المحزنة تجد عائلات تعتمد على الثياب السميكة والأغطية للتدفئة. وفي الحالات الخاصة مثل وجود مريض في المنزل قد تكون العودة إلى نار الحطب حلا لا بد منه رغم مضاره الصحية.
الغذاء
لا تعد الموصل أوفر حظا بالمواد الغذائية من حظها في الوقود. فالمدينة مثلا تعتمد على القرى والمناطق المجاورة في تأمين الخضار والفاكهة واللحوم. ولما كانت الظروف الأمنية كما ذكرنا بالنسبة لمركبات النقل الخارجي فالأوضاع مشابهة بالنسبة لمركبات النقل الداخلي بين الأقضية والمناطق. لذلك يضطر التجار والسائقون إلى التركيز على نقل المواد الأساسية وهي أنواع معينة من الخضار والحمضيات والفاكهة والحبوب المحلية، إضافة إلى الطيور ولحم البقر بكميات اقل رغم انه غير مرغوب فيه كثيرا لدى العراقيين الذين يفضلون لحم الغنم، كما أن المواد الغذائية المستوردة من المناطق البعيدة أو من خارج العراق تتعرض لكثير من الملوثات والتلف والفساد.
ومع هذا التقنين القسري تجد الوجبات على موائد العائلات (المتوسطة والفقيرة) في الموصل تتكرر كل يوم وكأنها أمر عسكري لا نقاش فيه. عند الفطور لا شيء غير اللبن والجبن المصنوع محليا والصمون (الخبز المحلي) وبعض المربيات المنزلية. ووجبة الغداء رز «تمن» مع الفاصوليا الحمراء، وفي أحسن الظروف القليل من الدجاج أو اللحم للاقتصاد. أما العشاء فيكون ما بقي من وجبة الغداء إلى جانب بعض الفاكهة.
ومع كل هذا التقشف ليس الحصول على نعمة البقاء بالأمر السهل. فالأمر يتطلب الذهاب إلى السوق للتبضع، ما يعني تعريض حياة رب العائلة للخطر. والأسواق، خاصة عند الصباح وقت الذروة، تكون شديدة التوتر، فالكل يحذر من الكل. والكل يريد أن ينهي مهمته قبل الكل. وفي ظروف مثل التي تعيشها الموصل لا تستطيع ضبط حركة السير التي تتعدى كل القوانين والأنظمة.
المرافق الذي كان معي تجاوز خمس سيارات أمامه بتهور أزعج الآخرين وفي الوقت نفسه أخافني، خاصة عندما سحب هو والمرافق الثاني أسلحتهما ووضعا يديهما على الزناد. وعندما عاتبتهما على تصرفهما قالا لي «الم تري هؤلاء في السيارة البيجو البيضاء كانوا يريدون إزعاجنا ونحن غير واثقين من هويتهم. ولما كنت معنا فضلنا تحاشيهم وعدم المواجهة معهم».
شكرت ربي انني لم انتبه للسيارة البيجو البيضاء حتى لا يزداد توتري. ولا بد أن الفصل الذي حصل معي يتكرر مع الكثيرين من السكان الحريصين أيضا على حياتهم. فالوضع الأمني متوتر وخطير جدا. والاشتباكات تنشأ بشكل عشوائي وليس بالضرورة بين مسلحين يفترض أنهم إرهابيون والأجهزة الأمنية. فالاشتباكات المسلحة يمكن أن يتسبب بها العناصر الأمنية أنفسهم إذا ما شك احدهم في الآخر ولا توقيت محددا للهجمات الإرهابية وان كان الجنرال الأميركي كارتر هام حصرها بفترة النهار. كما أن التحليق المستمر للمروحيات العسكرية وتحرك الدبابات والآليات العسكرية في الأحياء وانتشار حواجز التفتيش كلها عوامل تثير التوتر والإزعاج بين الناس، وتضعف مقاوتهم لأي استفزاز يتعرضون إليه حتى لو كان زحمة سير مؤقتة أو مرور موكب أو تجاوزات سير.
ولتلافي التعرض لمثل هكذا مفاجآت يفضل الناس التسوق بأسرع وقت ممكن والعودة إلى منازلهم.
الأعمال محدودة
بالتأكيد لا يمكن أن تكون الحياة تسير بطريقة طبيعية إذا كان السكان يكتفون بالتبضع والعودة لملازمة الغرف الآمنة في منازلهم دون أن يكون لديهم عمل يحصلون منه رزقهم. ولما تعذر عليّ الاستفسار بطريقة جيدة عن نوعية الوظائف والأعمال التي يمارسها أهل الموصل، استفسرت عن الأمر من محمود عبدالله، وهو مسؤول سياسي في حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني في الموصل، الذي أجاب بان معظم شباب الموصل اليوم هم إما ملتحقون بالشرطة والحرس الوطني أو بالأجهزة الأمنية التابعة للأحزاب. والآخرون إما موظفون في مجال التعليم في المدارس والجامعات والوزارات، وهؤلاء رواتبهم مستمرة حتى مع توقف الدراسة، وإما متقاعدون يحصلون على رواتب. وفي الوقت نفسه هناك نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل، وهذا ما ينذر بمشكلة تضاف إلى مشكلة الامن وتضخمها. فالعاطلون عن العمل أول ضحايا جماعات العنف والإرهاب الذين يستغلون أوضاعهم وحاجتهم المادية لتطويعهم وتوريطهم بأعمال القتل والهجمات.
ويوافق الجنرال هام على أن البطالة، خاصة في الضواحي والقرى حيث الفقر يصل إلى حدوده القصوى، «وجه آخر لحالة اللاأمن التي تخيم على الموصل». ويضيف «إذا كان المسلحون نجحوا في قض مضاجع المواطنين الآمنين من خلال العبوات الناسفة والاغتيالات، فهم أيضا نجحوا في زعزعة الثقة بالوطن ومسيرة الاستقرار والتنمية. اعرف، وكلني ثقة بان معظم سكان الموصل هم مواطنون جيدون وطيبون يريدون الأمن والحصول على عمل يعيلون من خلاله عائلاتهم. وإنهم يحلمون بوطن آمن ومستقر فيه كافة الخدمات الصحية والاجتماعية لأولادهم، وفيه المتنزهات والحدائق لأطفالهم بعيدا عن حوادث القتل وبعيدا عن الخوف. ولكن كيف يمكن فعل كل هذا من دون امن؟!».
أين التنمية؟
الجنرال هام تحدث لـ«القبس» عن كل شيء إلا عن كيف يمكن أن تحقق القوات الأميركية الأمن في الموصل والعراق عامة، وهي المهمة الرئيسية لهم كما يفترض. والحالة في الموصل كما في مناطق عدة من العراق صارت تشبه حكاية «البيضة والدجاجة». الإرهاب يمنع التنمية ويضيع فرص العمل. والبطالة سبب أساسي لانخراط الشباب في المجموعات الإرهابية. ألا يوجد حل وسط بين المعضلتين؟هل من مشاريع أو اقتراحات تجذب الشباب العراقيين وتسد طريقا على الارهابين المفترضين؟
يجيب المحامي سردار العركي مسؤول العلاقات في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني «إننا نسعى الآن لإنجاح الانتخابات في المحافظة وبعدها سنتفرغ لتسوية كل الأمور. جميع الأطراف متحمسة للانتخابات ونحن نرى فيها مدخلا أساسيا للتغير على كافة الأصعدة.. فالتنمية تحتاج إلى استقرار سياسي وامني. ونحن نتطلع أن تكون الانتخابات بابا لجعل المواطنين كافة متساويين في المواطنة والحقوق والواجبات. متفائلون بالمستقبل ونشعر أن الإرهابيين وكل من تسوغ له أفكاره إثارة البلبلة والعنف يعيشون لحظاتهم الأخيرة. الأمن والاستقرار الحل الوحيد لمشكلة البطالة»!
ربما، ولكن من يضمن أن لا تطول فترة اللاأمان وبالتالي زيادة عدد المغرر بهم !
معاناة مزمنة
وان كان التدهور الأمني ظرفا طارئا ( وأتمنى أن يكون آنيا) فان ما لمسته من حرمان ومعاناة يظهر اليوم على هيئة تقشف وبطالة يدل على أن المعاناة مزمنة، وجاءت الأحداث الأمنية لتزيدها قساوة، وترسخها في الأعماق حتى العين المجردة تستطيع تفسيرها.
فالموصل المدينة تبدو للوهلة الأولى عامرة بطرقاتها وبالجسور المشيدة على أفضل تصميم وتخطيط وبالفنادق المنتشرة، وان كانت في الظرف الحالي مهجورة ومهملة. إلا أنها بشكل عام مدينة متأخرة عن عصرها كثيرا. وباستثناء بعض الأحياء التي تنتشر فيها البيوت الكبيرة والفخمة نوعا ما، فهناك في المقابل أحياء عديدة مستوى البيوت فيها اقل من العادي، وهناك أحياء فقيرة ومعدمة. والأسواق قديمة لا تصلح لان تكون أسواق قرية صغيرة في أيام الثلاثينات من القرن الماضي. وإضافة إلى هذا كله فان كل ما هو مقبول من مسكن أو شارع أي ملكية أخرى كان في الأساس يعود لضباط الجيش العراقي السابق. فصدام حسين بنى لنفسه وعلى أملاك العراقيين قصرا بعدة قصور يتوسط المدينة ويفضحها في الوقت ذاته. فالتنافر بين قصور صدام ومنازل المواطنين لا يمكن وصفه. والفروقات واحدة مع منازل الضباط السابقين التي تتخذها الأحزاب اليوم مقرات لها أو لكبار مسؤوليها.
بين الأمس واليوم
وأصحاب السلطة، سكان المنازل والمناطق الفخمة، وان اختلفوا عن النظام السابق في السياسة والمنطق والممارسة والأهداف والسلوك، فان الأوضاع من نواحي عديدة متشابهة. فالمركز الحزبي بالنسبة للمواطنين يعني شوارع مقفلة، وأخرى محظور السير فيها لغير العسكريين، وأسطح تغطيها المتاريس والدشم الإسمنتية والترابية وتحتلها العناصر الأمنية للمراقبة، إضافة إلى كونها هدفا للهجمات لا يسلم منها المواطنون في أحيان كثيرة وأحيانا يدفعون ثمنها دون غيرهم.
والحال هذه ليست في المدينة فقط، فخلال جولتي على بعض الأقضية، منها سنجار وشيخان وبعشيقة، وهي مناطق أكثر هدوءا واستقرارا عن قضاء الموصل، إلا أنها أكثر سوءا من ناحية المستوى المعيشي والخدمات والطرقات. هي في اختصار صورة مصغرة عن حجم الإهمال والدمار الذي ألحقه صدام بالعراق على مدى عقود. هي مناطق معدمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. المدارس أن وجدت فهي لا تكفي لجميع الطلبة. اقرب مركز صحي يبعد عن المنطقة السكنية مسافة ساعة. التمديدات الصحية والمجاري متهالكة وتعود إلى عهد العثمانيين. البيوت معظمها من طين والأهالي يعملون بالزراعة بطرق بدائية مهلكة وتهدر الوقت والجهد والموارد. والمياه آسنة لا تصلح للاستخدام الآدمي.
أما الأحوال المزرية التي تعيشها المرأة العراقية في تلك المناطق فسيكون لها حديث آخر.
اغتيال عضو قيادي في الـحزب الشيوعي
ما كدت أنهي ارسال التقرير عن الموصل، حتى أبلغت بأنه جرى مساء امس اغتيال احد اعضاء قيادة منظمة الحزب الشيوعي في المدينة، ويسمى ابورائد، واختطاف عضو آخر هو محمد عقراوي، وهو من الصحافيين البارزين في الموصل.