المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيّاب بدر القصيدة الغنائية الحرّة عانق المرض وتقمص الموت



على
01-16-2005, 01:16 AM
ماذا بقي من السياب بعد أربعين عاماً على وفاته؟ هل لا يزال شعره حاضراً في اذهان الشعراء؟

http://www.alraialaam.com/15-01-2005/ie5/last3.JPG

خلال حرب العراق وسقوط صدام، حضر شعر السياب، وخصوصاً «انشودة المطر»، في الكتابات الانشائية السياسية عن دجلة والفرات وبغداد، وبدا الاكثر حضوراً للتعبير عن صورة العراق الدامية.
لكن ماذا نجد لو ازحنا صورة العراق جانباً؟ اليست صورة السياب المريرة التي خطها في شعره؟ فهو انشد المطر، وصاح يا خليج وعاش مريضاً ومات باكراً، وأحدث كل هذا التغيير في القصيدة العربية، حتى أضحى تاريخاً جديداً للشعر العربي يفصل ما قبل عما بعد بمسافة نوعية.

والسياب هو الاكثر اسطورية بين الشعراء العرب الجدد او الرواد، وانشودة مطره هي الاكثر حضوراً واحبها الناس والشعراء وغيرهم, انه شاعر لديه من الخصوصية ما يجعله متفوقاً على اقرانه، امثال ادونيس وانسي الحاج ويوسف الخال، وأهمية تجربته انها حضرت في سياق رومانسي يتناسب مع شخصيته، بل في البيئة المحلية الفورية التي يصطدم بها نفسياً فلا يتردد في مقاربتها بصيغة لا تجدها لدى من سبقه من الشعراء, فكان توظيفه للفولكلور الشعبي المحلي وخصوصية الأمكنة التي عرفها، والبلاغة المأخوذة من لغة العين لا من لغة القاموس.

بعد 40 عاماً لا يزال السياب حاضراً بقوة في النسيج الشعري، وله جمهوره ومحبوه, وهو بذلك يختلف عن غيره من الشعراء، وخصوصاً بقصيدته اللغز المحير للكثيرين، وبصورها اللغوية الجميلة, فصاحب «انشودة المطر» جمع في شعره كل المفارقات التي خلخلت البلاد العربية وهزتها منذ بداية الخمسينات ثقافياً واجتماعياً, انه شاعر الحب والتمرد والموت، لذلك يمكن أن نقول إن قراءة انتاجه هي، بمعنى ما، محاولة للنفاذ الى عمق تلك المفارقات وضبط ارهاصات التحولات الكبرى التي شهدتها القصيدة العربية, وعلى هذا الاساس، نجد ان النقاد شمروا عن سواعدهم وانشغلوا باستخراج كل ما يمكن وما لا يمكن من هذه الأنشودة, فثمة من رأى في «أنشودة المطر» قصيدة غزلية، وثمة من رأى فيها قصيدة مائية، وثمة من رأى فيها تزويجاً للشعر العربي بصهر جديد هو الشعر الانكليزي، وثمة من استقصى فيها البعد الأوديبي عبر تظهير نزوع السياب الى رسم صورة الأم ومطر ينزل على قبرها, وثمة من ركز على البعد الصوتي في القصيدة فانتبه الى تسكين السياب لمفردة المطر.

لا تنفصل سيرة السياب عن شعره، فهو ولد في العام 1926 في قرية جيكور على الفرات، قرب مدينة البصرة جنوب العراق, تنقل بين جيكور وأبي الخصيب والبصرة ثم بغداد لاستكمال تعليمه وتحصيله الدراسي ليتخرج من دار المعلمين في بغداد في منتصف الأربعينات، وكانت العاصمة تعيش كبقية العواصم العربية انعكاسات الصراعات العالمية في أثناء الحرب الثانية,
دخل معترك الحياة السياسية وعانى منها الكثير، فقد دخل السجن مرات وطرد من الوظيفة ونفي خارج البلاد, كان شيوعياً هارباً من الملاحقة وطريداً في القرى الايرانية الحدودية المتاخمة للبصرة، ثم عاد قومياً، مناهضاً لحكم قاسم، وأيد انقلاب البعث العام 1963 ضد الشيوعيين وعبد الكريم قاسم, ظل السياب في تلاطمه غير اليقيني معبراً عن مرحلة مهمة من مراحل العراق وعياً ومزاجاً، وانقساماً أيديولوجيا وصراعاً سياسياً، لم يخل من عنف معهود.
كما أنه لم يكن مستقراً في موقفه السياسي، فقد انتقل من اليسار الى اليمين، وأخذ يطعن بزملائه القدامى من الحزبيين على صفحات الصحف اليومية باسمه الصريح، كاشفاً أسرارهم الحزبية بأسلوب جعله في موضع نقد كبير من معارفه.

المجموعة الاولى
صدرت مجموعته الأولى «أزهار ذابلة» العام 1947 في القاهرة، وكان قد كتب في منفاه أجمل قصائده ومناجاته الشعرية «غريب على الخليج », وصهرت هذه المرحلة شعره ليتبلور صوته وتكتمل أداته ويكتب ذروة نصه الشعري الذي صار يمتاز به بعد رحيله,
بدأ العمل في الصحافة مترجمًا باعتباره يجيد اللغتين الانكليزية والعربية, وقبل غلق مجلة «الأسبوع» بنحو عام عين سكرتيراً لها, ومن هنا بدأ يكتب القصص القصيرة، وكان بعضها يدور حول أشخاص التقاهم في قرية جيكور أو البصرة.

يرى النقاد أن مسيرة السياب الشعريـة يمكن أن تقع في ثلاث مراحل: الأولى رومانسية البواكير، وتمتد بـين أول قصيدة عاطفية كتبها العام 1941 بعنوان «على الشاطئ» وهو في الخامسة عشرة، وتشير بشكل واضح الى مؤثرات علي محمود طه، وحتى حدود العام 1950 عندما نشر ديوانه الثاني «أساطير» الذي يعد مرحلة انتقـال من الشعـر الذاتي ورومانسيـة «جماعة أبولو» والديوان, والثانية هي مرحلة الانتماء السياسي وتمتد من حدود 1949 حتى 1960 على وجه التقريب، وهي الفترة التي شهدت نضجه الفني رغم توجهات فكرية لم تكن بالغة الاقناع له ولا لكثير من الناظرين في شعره, وسرعان ما تخلى عنها راجعاً الى الانكفاء على الذات بما قد يوصف بمرحلة الرومانسية المتطورة التي تمتد من حـدود 1960 حتى وفاته.

ولوحظ أن السياب كتب 99 قصيدة في مرحلته الأولى التي امتدت ثمانية اعوام ثم 50 قصيدة في مرحلته الثانية التي امتدت 13 عاماً و95 قصيدة في مرحلته الأخيرة التي امتدت اربعة اعوام مؤلمة على مستويات عديدة, وهذا يعني أنه كتب في المرحلتين الرومانسيتين الأولى والثـالثة 194 قصيدة مدى 12 عاماً، بينما كتب 50 قصيدة في مرحلة انتمائه السياسي التي امتدت 12 عاماً كذلك وشملت الانتماء اليساري والخروج عليه, وخلاصة ذلك عددياً أنه كتب في المرحلتـين الرومانسيتين أربعة أضعاف ما كتب في مرحلته الوسطى من الالتزام,
استحضر الأساطير داخل قصيدته وركز على العناصر المكونة للصورة، في مزجه بين طبيعة اللون ودلالة الاحساس المختلف بالأشياء, فالنهار يشبه الليل من خلال علاقة شعرية نوعية تستجيب تماماً البناء المحكم للقصيدة: الليل نهار مسدود.

وهناك ليل آخر للسياب غاب في احتفالية المطر، ففي قصيدة «اقبال والليل» يقول:
«أين الهوى مما ألاقي، والأسى مما ألاقي؟

يا ليتني طفل يجوع، يئن في ليل العراق!
أنا ميت مازال يحتضر الحياة
ويخاف من غده المهدد بالمجاعة والفراق
اقبال مدِّي لي يديك من الدجى ومن الفلاه
جسي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنانْ
بك ما أفكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه
وطوى الزمان بساط عرسك والصبا في العنفوان».

وما لم تحرص عليه الكتابات النقدية التي قرأت تجربة السياب هو تشخيص وجهين للموت في قصائده: الوجه الأول هو الوجودي الذي تأمل فيه شاعرنا ملياً بوصفه اشكالية فلسفية وسؤالاً ميتافيزيقياً حياً، يمثل عنصراً مهماً في الحياة نفسها وحافزاً قوياً على محاورتها بعمق, أما الوجه الآخر فهو الموت العضوي الذي يمثل شعوره الطبيعي بالنهاية والزوال تحت وطأة المرض وذبول الجسد.

أسس السياب لحداثتنا شعراً، وكتب قصائد لا ماضي لها في الشعر العربي المعاصر مختطا بذلك مساراً في القصيدة العربية الحديثة سار عليه الكثيرون من بعده.
يمتاز شعره بالمناجاة الغنائية العميقة والصورة البارعة التي تمتزج فيها اللغة بالرؤية والايقاع في مدى شعري ممتد بين روعة الأداء وعمق الدلالة وتشابك الايماءات,

المشاكل الصحية
في حياة السياب امران لافتان هما الحب والمرض, فقبل زواجه انتقل من فشل الى آخر في ميدان الحب, وتبين له بعد حين أن كل من تعرف اليها كانت تأمل أن تجد نفسها في احدى قصائده المتداولة بين الناس، وخصوصاً في دار المعلمين العالية، وبعض المجالس الأدبية, احبّ احدى عشرة فتاة في حياته وكان صادقاً في حبه لهن لكنه بقي حتى قبل أن يرحل بعام وبعض العام يصيح: «كـل من أحببت قبلك لم يحبوني», كان فاشلاً في حبه دائماً, ولم يكن يعتني بهندامه, ولضيق ذات يده شكا قائلاً: «الى متى نبقى على هذه الحال؟».
كان يعاني مشاكل نفسية وعفوية قبل أن يصاب بالمرض العضال، مرض الأعصاب الذي أودى به, وكانت عقدة الموت من المشاكل النفسية التي سيطرت على تفكيره منذ سن مبكرة, فقد ذكر ذلك في بعض أشعاره:

«عيـوني بآفاقه ساهرات
وحولي يبيت الورى رقَّدا».
سيطرت على بدر، عقدة الموت سيطرةً كبيرة منذ المراهقة, وكتب العام 1948 قبل 12 عاماً من اصابته بالمرض قصيدة «ليالي الخريف»:

«كيف يطغى علي المسا والمَلال!؟
في ضلوعي ظلام القبور السجين،
في ضلوعي يصيح الردى بالتراب الذي كان.
أمي، غداً سوف يأتي،
فلا تقلقي بالنحيب،
عالم الموت حيث السكون الرهيب.
سوف أمضي كما جئت واحسرتاه!».

كان هاجسه الموتَ والحزن منذ كان في المرحلة الثانوية، وكتب موضوع انشاء عن طبيب ذاع صيته وأصيب بداء حار فيه الأطباء، كأنه يتنبأ بما سوف يصيبه عندما يكبر, لقد تقمص بالفعل شخصية المريض في بعض أجزاء الموضوع قائلاً: «كم أتحسر على تلك القرية النائية الجميلة بحقولها الخضراء التي تتسابق فيها الجداول التي تصل بين ضفافها جسور صغيرة من جذوع النخل، هذه الجسور تشبه قلبي، قلبي الذي تعبر عليه حوادث الزمان ونوائبه، وهو معروض على ينبوع الحب ولكنه يرى المياه ولا يشربها».

الواضح من وصفه للقرية أنها قريته جيكور التي كان يحن اليها, هذا التقمص للضال الذي يترصده الموت، والطبيب المريض الذي قضى عليه هما من الأمور السهلة بالنسبة اليه لكثرة ما يفكر فيها، فالموت طغى على تفكيره منذ الصغر وتنبأ أنه سيموت وهو صغير.
أما بالنسبة الى معاقرته الخمر فالواضح من سيرته أنه اسرف في الشرب، وان كان الذين دافعوا عنه قالوا إنه لم يسرف ولكن نحوله جعل القليل من الخمر يسكره, وقد يكون لجوؤه الى الخمر هروباً من معاناته النفسية وتذبذبه الفكري.

كان بدر نحيلاً منذ طفولته ولم يكسُ اللحم عظمه بسبب فقره صغيراً ومرض السل في الشباب, كما أن التدخين الذي يقلل شهية الانسان أنحله, وأصيب بفقر دم ناشئٍ من سوء التغذية وجهله بأمور الصحة أدى الى شحوب لونه, وما يؤكد أن التغذية هي سبب هزاله أنه في نهاية 1948 حصل على راتب 50 ديناراً وأصبح يتمتع بصحة جيدة وغاب عنه شحوبه الملازم له».
كان السياب مدخناً شرهاً، وقال عنه بلند الحيدري: «كان يشرب من غير اسراف ويدخن بكثرة».

مات لكنه بقي رمزاً من رموز الشعر العربي وفتح طريقاً كبيراً لكائن أدبي سمي بعده «القصيدة الحرة».
شكلت الاعوام الأخيرة بين 1960 و 1964 مأساة السياب الصحية والاجتماعية حيث حمل الموت بين ضلوعه في المنافي وليس له الا صوته ومناجاته الشعرية ممزوجة بدم الرئة المصابة، حتى مات مسلولا في 24 -12 - 1964 في المستشفى الأميري في الكويت، وكان فقيراً معدماً.

مات بدر شاكر السياب المرهف الاحساس في المستشفى الأميري في دولة الكويت التي قامت برعايته وأنفقت عليه خلال علاجه, وعاد جثمانه الى قرية جيكور في البصرة في يوم من الأيام الباردة الممطرة، حيث شيعه عدد قليل من أهله وأبناء بلدته.