على
01-16-2005, 01:11 AM
فرح الهاجري
في سوق الشورجه في النجف يزدحم الزوار الإيرانيون ممن يفدون لزيارة العتبات المقدسة في العراق، وجيوبهم مليئة بالعملة الأجنبية والهدايا، وبينما كان يقف أحد الزوار أمام مطعم أحس برجل يحاول سرقة محفظته فمسك بيد الحرامي وراح يولول وينادي الشرطة فتجمهر الناس، حول الزائر واللص الذي لم يجد مخلصا له غير أن يعكس عملية النشل وبخفة اليد نفسها أعاد المحفظة إلى جيب الإيراني ثم قال له تتهمني بالسرقة يا ابن,,,
هاك فتشني ففتشه ولم يجد محفظته معه ثم عاد الحرامي وقال متحديا فتش جيوبك «آغاتي» قبل ما تتهم الناس وبالفعل فتشها الرجل ووجد المحفظة في مكانها وبين العجب واليقين والشك راح يعتذر عن سوء ظنه واساءته ووجد الحرامي فرصته وقال صائحاً وهو يلطم «شيفيد الندم والأسف انتو الايرانيون تأتون إلى بلادنا وتتهمونا في عقر دارنا ما تخاف من ربك ومن حرمة الإمام الحسين والإمام العباس؟» وانضم اليه الحاضرون فالتفت الحرامي إلى الجمهور خلفه وقال: يتهمون العراقي بالناقصة,,, والله ما يستحون, فتركهم الزائر وهو يكفكف دموعه ويعتذر للناس قائلا «سماح اغا عرب سماح» وتفرق الجمع ولكن الحرامي ظل يحن إلى المحفظة المملوءة بالنقود فمضى يتعقب الإيراني حتى وصل إلى مكان أكثر اكتظاظا واندس وراءه ونشل «الجزدان» ثانية وعندما التفت اليه الزائر قال الحرامي «ها,,, شعندك,,, شكو,,, ماكو هاترى ادعي عليك» وإذا بالزائر يردد عبارة «سماح آغا عرب سماح».
هل طوى السودان صفحة الحرب الأهلية بين شماله وجنوبه؟ وهل هذا هو السلام الذي انتظره السودانيون خلال الـ 22 عاما؟ وهل يقنع الرفقاء في السودان بهذه القسمة؟ وان اقتنع السوداني فهل يصمت الجيران؟ السؤال الأهم ماذا يريد الإسرائيليون من الجنوب ومن قرنق تحديدا؟ وكيف اقنع الترابي جعفر النميري لاستنساخ التجربة الإيرانية في بلد تعج بالكنائس واليهود والوثنيين؟
محمد الوردي المطرب السوداني الاول والاكثر شعبية بين الأفارقة (على غرار محمد عبده في السعودية) جاء من الخرطوم وغنى في استاد نيروبي احتفالا بالسلام اغنيته المشهورة «إحنا حبايب لكن اللحن غايب»، لم يقل لنا الوردي من أضاع وغيب الالحان داخل السودان، ولم يقل لنا متى كان السودانيون حبايب! فمن الصعب جدا أن تعرف اين يقع الحق او اين تكمن الحقيقة في هذا البلد الواسع، وفي مثل هذه الصراعات تلعب النوايا دور الافعال ويلعب التوقيت دور الحسم، فالنظام في السودان يجيز لنفسه اعتبار النية وحدها عملا قائما ولذا وجب استباقه والغلبة لمن استقرأ لا من قرأ، على أن الديموقراطية في الحالتين ليست معنية ولا دخل لها في الأمر، بالتالي لا يمكن دعوتها إلى الشهادة او الافادة فالحزب المدني الواحد مثل الجيش الواحد تماما حيث لا مكان لتعددية سياسية ولا لتمثيل شعبي، حتى حزب الصادق المهدي والذي يمثل أعتق الولاءات القومية في السودان وفي العالم العربي انشق وعكس حالة التهاوي التي بلغتها الأحزاب العربية السياسية على اختلاف انتماءاتها وتركيباتها وكان الانشقاق (حزب الامة السوداني) اشبه بالانشقاق الذي حول «الكتائب» اللبنانية من أكبر وأقوى أحزاب اليمين إلى فرق متناحرة تدعي كل منها شرعية الاقدمية وأحقية التمثيل!
ألم يحلم نابليون أن يضمن العرب من خلال مصر وافريقيا من خلال السودان؟
مليون ميل مربع تمتد من شمال افريقيا إلى جنوبها وعواصم كثيرة تفتح النافذة صباحا لترى مخادع الحكومة السودانية من القاهرة القديمة إلى اثيوبيا ومن نيروبي إلى كمبالا ومن طرابلس الغرب إلى أسمرة، في السودان صراع أجنحة وخلاف شخصي لكن احدا لا يستطيع ان يضيف الحرص على الديموقراطية كسبب لانتقاد الرئىس السوداني فلم يقف احد يعترض او ليتساءل عندما كان النظام يضع كبار المدنيين في السجون او الاقامة الجبرية والمنافي!
فالصراع السياسي في الخرطوم جديد فقط من حيث اشخاصه ورجاله، أما معالمه ومظاهره فتكرار لما حدث في أنظمة عربية كثيرة (أشهر انقلاب وقائي اعتمد على النيات والذي قام به أنور السادات ضد علي صبري ورفاقه بحجة انهم يعدون لعمل ضده).
نظام الخرطوم وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري (يعتبر آخر انقلاب عربي بدأه رجل الشارع نتيجة ارتفاع اسعار السكر وانتهى بالحرب الأهلية) حسن الترابي والقابع الآن خلف اسوار سجن «كوبر» الذي يمتد على صفحة النيل الأزرق، هو مؤسس ورئىس جبهة الانقاذ والمنظر لها وهو من رسم خطة الانقلاب التي نفذتها القوات المسلحة والتي اجلست البشير بمقتضاها على الكرسي ووضع نفسه في السجن مع الزعماء الوطنيين ليتفادى رد فعل الشارع السوداني والدول المجاورة ضد الانقلاب، ولكسب مزيد من البطولة بعد ان اكسبه السجن زخما سياسيا، والترابي ليس الافغاني فهو لم يحاول الاصلاح لا في الهند ولا في مصر او باريس كما الافغاني، ولكنه يحاول إلى هذه اللحظة ان يلعب دور ميكافيلي الشرق.
ومنذ ان التحق بتنظيم الاخوان المسلمين وهو في السنة الاولى في جامعة الخرطوم واصبح كيزاني (يطلق على الاخوان المسلمين لقب كيزان نتيجة عزلتهم وازدراء المجتمع لهم) ولان طموحه يفوق حد التخيل (لعله ورثه من جده حمد الترابي الذي ادعى المهدية اثناء الحج في مكة فسجن وضرب وعاد مكسور الخاطر لقريته) حضر الماجستير في القانون الجنائي واختار الدكتوراه في «حالة الطوارئ» وبعد 40 سنة يدخل السجن بتهم جنائية (على خلفية توقيعه لمذكرة تفاهم مع جون قرنق) وتحت قانون حالة الطوارئ، الغريب ان هذا القانون ساري المفعول رغم الانتخابات التي تمت، أما سجانه فهو المشير عمر البشير ونائبه عثمان، وهما اللذان أتى بهما إلى هذا الموقع بانقلاب عسكري, خلال الانقلاب العسكري أصبحت السودان ملجأ لكل الهاربين والمطاردين والإسلاميين حيث كان الترابي يعد نفسه خليفة للمسلمين.
ولكن سرعان ما دب الخلاف بين بن لادن والترابي عندما أدرك الترابي ان بن لادن يستغله في تثبيت سلطانه داخل السودان، ويدفع بهم إلى حرب عبثية في جنوب السودان بينما رأى الترابي ان نجم بن لادن يصعد في تلك الفترة على نحو يهدد مكانته داخل أوساط المقاتلين الاصوليين الموالين له والمعروفين باسم الدبابين، لذلك استقر رأي بن لادن ومعاونه المصري على الخروج من السودان والذهاب إلى الصومال اثر اتصالات بينه وبين الجنرال الصومالي فارح عيديد وبخاصة بعد أن طلب بيل كلينتون من البشير ان يغادر بن لادن السودان ثم سلم كارلوس إلى فرنسا بصفقة مشبوهة، يقال ان، الترابي قبض ثمنها مقدما كما سلم العشرات إلى سلطات بلادهم وتفرق الثوار وتفتت المؤتمر الاسلامي ولم يبق من هوية الانقلاب الاسلامي سوى رجل يقبع في سجن كوبر ويتحسس رقبته خوفا ان يقدم البشير كما اقدم جعفر النميري من قبل على اعدام المفكر الاسلامي الشيخ محمود محمد طه مؤسس الحزب الجمهوري والذي كان يشكل منافسا حقيقيا لحركة الاسلام السياسي التي تزعمها الترابي والمفارقة هنا ان الترابي كان وراء النميري عندما اعدم الشيخ الذي تجاوز السبعين وصفق له.
ولكن ماذا عن الجنوب ولماذا تحولت مناوشات قديمة وطبيعية بين قبائل تعيش حياة صعبة حول الماءوالكلأ، بالرغم من الخيرات التي تعج بها منطقة الجنوب، إلى فتنة ثم أزمة؟ ثم تدويلا للأزمة ولماذا اسهم الفريق الحاكم في الخرطوم في تأزيم الموقف بدعمه أطرافا ضد أطراف وتسليح ميليشيات عربية مثل الجنجاويد وغيرها ضد البقية؟ ألم يكن باستطاعة حكومة البشير أن تمثل الدولة التي تقبل جميع الأطراف؟ ولماذا تدخلت عسكريا ضد قرنق؟ ولماذا اعطيت الفرصة ليلعب الاسرائيليون على المفاصل الرئىسية بين العرب والأفارقة؟ ففي الجنوب هناك حركة «تحرير السودان» يقودها جون قرنق المسيحي الكاثوليكي الذي بدأ يساريا شيوعيا وانتهى علمانيا .
ووجد فيه العميد الاسرائيلي المتقاعد موشي فوجي ضالته فرصد حركات الكولونيل وتمكن من الوصول اليه واستقر الرأي على مساندته لكي يحقق طموحه لبناء دولة في الجنوب (على غرار العلاقات التي نشأت مع قيادات الاكراد في شمال العراق ومصطفى البرزاني وابنه مسعود) زار اسرائيل ثلاث مرات وقدم له الدعم بما يزيد على 500 مليون دولار قامت الولايات المتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه، ولكن يبقى التساؤل لماذا هذه الاموال وهذا الاهتمام؟ إذ لكي يجد الاسرائيليون موطئ قدم في الجنوب كان لا بد من دعم جون قرنق بهدف الضغط على السودان واضعاف مصر اضافة إلى محاولة تأمين مصالحها في البحر الاحمر التي احتلت موقعا خاصا في الاستراتيجية الاسرائيلية في الوقت الذي رصدت فيه الاقمار الاصطناعية الاسرائيلية مواقع قوات حكومة السودان لصالح القوات الجنوبية إلى درجة اشتراك عسكريين اسرائيليين في العمليات القتالية (هذا ما يؤكده كتاب اسرائىلي لمركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط والتابع لجامعة تل أبيب وتحت عنوان «إسرائيل وحركة تحرير الجنوب»).
واسرائىل هي من اقنعت الجنوبيين بتعطيل تنفيذ مشروع قناة جونجلي في منطقة اعالي النيل لنقل المياه إلى مجرى جديدة بين جونجلي وملكال لتخزين خمسة ملايين متر مكعب ويفترض ان يسهم في انعاش منطقة الشمال والاقتصاد المصري واوعزت لهم بأنهم اولى بهذه المياه من العرب المصريين، وان المصريين سيرسلون ستة ملايين فلاح إلى الجنوب (كما حدث في العراق) لتغيير تركيبته السكانية لصالح العرب! وعليه ايضا عارض اهل الجنوب انشاء مصفاة للنفط في منطقة كوستي في احدى الولايات القريبة من الشمال حتى لا تخدم الحكومة السودانية!
جنوب السودان مسيحي كاثوليكي موال للغرب وفي حال انفصاله فإن أكثر الدول تضررا هي مصر والدول العربية الافريقية في حين ان الامر سيصب في مصلحة دول وسط افريقيا والتي ستكسب دولة تشكل هاجسا في صدر الامن الاستراتيجي العربي ومن شأن ذلك هز الاستقرار في الشمال العربي المسلم مما يترتب عليه إعادة توزيع حصص دول حوض النيل بدولة جديدة تتحكم في كل مناسيب النيل الابيض وروافده المتعددة في جنوب السودان هذا من جهة، أما بالنسبة للأميركيين فإن ولادة الجنوب ستكون اضافة حقيقية للوجود الأميركي في افريقيا جنوب الصحراء حيث النفوذ الحقيقي في منطقة البحيرات وهي المنطقة التي ظلت متوترة لفترة طويلة قبل ان يضع الهوتو حدا لها بالاستفراد بالسلطة في رواندا وهم يدينون بالولاء لمساعدات رجال الـ «سي اي ايه» الأميركية، وعليه كان لا بد من وجود رأس رمح في الجنوب السوداني حتى يخيف المصريين بين فترة وأخرى.
اصبح الجنوب يعج بضباط يهود الفلاشا، وعندما اصبحت الامور كما أراد لها الاسرائيليون ان تكون اعلن جون قرنق الانفصال فشاور واشنطن وتل ابيب، بل انه طلب تدخلا رسميا من واشنطن حتى ان وزارة الدفاع الأميركية اصدرت تعليماتها إلى قواتها في كينيا واريتريا بالاستعداد إذا ما لزم الأمر!
الحديث عن السودان وأزمته شرحه يطول ولكن اليوم وبعد اتفاقية السلام بين حكومة البشير وجون قرنق، هل تكفي قسمة السلطة والثروة والمناطق الثلاثة اضافة إلى الترتيبات العسكرية لوضع حد لأزمات أكبر الأقطار الافريقية مساحة؟ بتفصيل أدق هل حصة حزب المؤتمر الحاكم تلخص حصص الأطراف الشمالية بجميع أشكالها؟ هذا إذا افترضنا جدلا أن حركة التحرير تلخص المعارضة السودانية بكل أطرافها؟ وهذا غير ممكن!
حزب المؤتمر الحاكم والجبهة الاسلامية او المؤتمر الوطني خاض معركة السلام من رؤية حزبية أراد بها تفادي ألد خصومها عدة وعتادا (جون قرنق) وحمايته في الوقت نفسه من الاسرة الدولية لتقيها من جرائم ارتكبت وملاحقات جنائية في حين ان «حركة التحرير» لقرنق رأت في خطابها السياسي علمنة السودان وأفرقته (أي علمانيا افريقيا) ولو كان ذلك على حساب الدولة وأشياء أخرى.
لقد تم تغييب قوى سياسية كبيرة في السودان موالية كانت أم معارضة (35 حزبا وتجمعا ولعل اكبرها مجموعة الـ 44 والتي تمثل مناطق التماس والدوائر الانتخابية الواقعة بين شمال السودان وجنوبه) لصالح من؟ وهل تصمت هذه الاحزاب وتكتفي بمعزوفة السلام الثنائية؟
وهذه الاحزاب بدورها هل تأتمن على مصالحها في اطار التسوية الحالية؟ والسؤال هنا كيف ينقذ السودانيون هذا السلام من مخاطر خصوصا وانه لم يأخذ هذا الزخم إلا مع مجيء المبعوث الأميركي دانفورت ملوحا بالتهديد والترغيب كعادة المبعوثين الأميركيين؟
ألا يعتقد السودانيون انهم بحاجة إلى مؤتمر أياً كان شكله أو حجمه يجمعهم في نقلة السلام القادمة وان المسألة حرجة ولا سيما في غياب عربي شبه كامل (الموقف في جنوب السودان يعتبر واحدا من الاخطاء العربية عندما اهمل الجميع الحدود العربية الافريقية في منطقة التخوم الفاصلة بين جنوب السودان وباقي دول القارة، الغريب لا أثر عربياً في منطقة الجنوب هناك اللهم الا مسجداً في «مالكال» بناه الملك فاروق ومستشفى كويتياً في جوبا والباقي سلامتك).
هل سيسرق الجنوبي قرنق محفظة الشمال من جيب البشير؟ وهل سيتسامح البشير من قرنق بعد كل ما أخذه أو سرقه ويقول له «سماح آغا عرب سماح!!» كما فعل الإيراني داخل العراق؟!.
في سوق الشورجه في النجف يزدحم الزوار الإيرانيون ممن يفدون لزيارة العتبات المقدسة في العراق، وجيوبهم مليئة بالعملة الأجنبية والهدايا، وبينما كان يقف أحد الزوار أمام مطعم أحس برجل يحاول سرقة محفظته فمسك بيد الحرامي وراح يولول وينادي الشرطة فتجمهر الناس، حول الزائر واللص الذي لم يجد مخلصا له غير أن يعكس عملية النشل وبخفة اليد نفسها أعاد المحفظة إلى جيب الإيراني ثم قال له تتهمني بالسرقة يا ابن,,,
هاك فتشني ففتشه ولم يجد محفظته معه ثم عاد الحرامي وقال متحديا فتش جيوبك «آغاتي» قبل ما تتهم الناس وبالفعل فتشها الرجل ووجد المحفظة في مكانها وبين العجب واليقين والشك راح يعتذر عن سوء ظنه واساءته ووجد الحرامي فرصته وقال صائحاً وهو يلطم «شيفيد الندم والأسف انتو الايرانيون تأتون إلى بلادنا وتتهمونا في عقر دارنا ما تخاف من ربك ومن حرمة الإمام الحسين والإمام العباس؟» وانضم اليه الحاضرون فالتفت الحرامي إلى الجمهور خلفه وقال: يتهمون العراقي بالناقصة,,, والله ما يستحون, فتركهم الزائر وهو يكفكف دموعه ويعتذر للناس قائلا «سماح اغا عرب سماح» وتفرق الجمع ولكن الحرامي ظل يحن إلى المحفظة المملوءة بالنقود فمضى يتعقب الإيراني حتى وصل إلى مكان أكثر اكتظاظا واندس وراءه ونشل «الجزدان» ثانية وعندما التفت اليه الزائر قال الحرامي «ها,,, شعندك,,, شكو,,, ماكو هاترى ادعي عليك» وإذا بالزائر يردد عبارة «سماح آغا عرب سماح».
هل طوى السودان صفحة الحرب الأهلية بين شماله وجنوبه؟ وهل هذا هو السلام الذي انتظره السودانيون خلال الـ 22 عاما؟ وهل يقنع الرفقاء في السودان بهذه القسمة؟ وان اقتنع السوداني فهل يصمت الجيران؟ السؤال الأهم ماذا يريد الإسرائيليون من الجنوب ومن قرنق تحديدا؟ وكيف اقنع الترابي جعفر النميري لاستنساخ التجربة الإيرانية في بلد تعج بالكنائس واليهود والوثنيين؟
محمد الوردي المطرب السوداني الاول والاكثر شعبية بين الأفارقة (على غرار محمد عبده في السعودية) جاء من الخرطوم وغنى في استاد نيروبي احتفالا بالسلام اغنيته المشهورة «إحنا حبايب لكن اللحن غايب»، لم يقل لنا الوردي من أضاع وغيب الالحان داخل السودان، ولم يقل لنا متى كان السودانيون حبايب! فمن الصعب جدا أن تعرف اين يقع الحق او اين تكمن الحقيقة في هذا البلد الواسع، وفي مثل هذه الصراعات تلعب النوايا دور الافعال ويلعب التوقيت دور الحسم، فالنظام في السودان يجيز لنفسه اعتبار النية وحدها عملا قائما ولذا وجب استباقه والغلبة لمن استقرأ لا من قرأ، على أن الديموقراطية في الحالتين ليست معنية ولا دخل لها في الأمر، بالتالي لا يمكن دعوتها إلى الشهادة او الافادة فالحزب المدني الواحد مثل الجيش الواحد تماما حيث لا مكان لتعددية سياسية ولا لتمثيل شعبي، حتى حزب الصادق المهدي والذي يمثل أعتق الولاءات القومية في السودان وفي العالم العربي انشق وعكس حالة التهاوي التي بلغتها الأحزاب العربية السياسية على اختلاف انتماءاتها وتركيباتها وكان الانشقاق (حزب الامة السوداني) اشبه بالانشقاق الذي حول «الكتائب» اللبنانية من أكبر وأقوى أحزاب اليمين إلى فرق متناحرة تدعي كل منها شرعية الاقدمية وأحقية التمثيل!
ألم يحلم نابليون أن يضمن العرب من خلال مصر وافريقيا من خلال السودان؟
مليون ميل مربع تمتد من شمال افريقيا إلى جنوبها وعواصم كثيرة تفتح النافذة صباحا لترى مخادع الحكومة السودانية من القاهرة القديمة إلى اثيوبيا ومن نيروبي إلى كمبالا ومن طرابلس الغرب إلى أسمرة، في السودان صراع أجنحة وخلاف شخصي لكن احدا لا يستطيع ان يضيف الحرص على الديموقراطية كسبب لانتقاد الرئىس السوداني فلم يقف احد يعترض او ليتساءل عندما كان النظام يضع كبار المدنيين في السجون او الاقامة الجبرية والمنافي!
فالصراع السياسي في الخرطوم جديد فقط من حيث اشخاصه ورجاله، أما معالمه ومظاهره فتكرار لما حدث في أنظمة عربية كثيرة (أشهر انقلاب وقائي اعتمد على النيات والذي قام به أنور السادات ضد علي صبري ورفاقه بحجة انهم يعدون لعمل ضده).
نظام الخرطوم وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري (يعتبر آخر انقلاب عربي بدأه رجل الشارع نتيجة ارتفاع اسعار السكر وانتهى بالحرب الأهلية) حسن الترابي والقابع الآن خلف اسوار سجن «كوبر» الذي يمتد على صفحة النيل الأزرق، هو مؤسس ورئىس جبهة الانقاذ والمنظر لها وهو من رسم خطة الانقلاب التي نفذتها القوات المسلحة والتي اجلست البشير بمقتضاها على الكرسي ووضع نفسه في السجن مع الزعماء الوطنيين ليتفادى رد فعل الشارع السوداني والدول المجاورة ضد الانقلاب، ولكسب مزيد من البطولة بعد ان اكسبه السجن زخما سياسيا، والترابي ليس الافغاني فهو لم يحاول الاصلاح لا في الهند ولا في مصر او باريس كما الافغاني، ولكنه يحاول إلى هذه اللحظة ان يلعب دور ميكافيلي الشرق.
ومنذ ان التحق بتنظيم الاخوان المسلمين وهو في السنة الاولى في جامعة الخرطوم واصبح كيزاني (يطلق على الاخوان المسلمين لقب كيزان نتيجة عزلتهم وازدراء المجتمع لهم) ولان طموحه يفوق حد التخيل (لعله ورثه من جده حمد الترابي الذي ادعى المهدية اثناء الحج في مكة فسجن وضرب وعاد مكسور الخاطر لقريته) حضر الماجستير في القانون الجنائي واختار الدكتوراه في «حالة الطوارئ» وبعد 40 سنة يدخل السجن بتهم جنائية (على خلفية توقيعه لمذكرة تفاهم مع جون قرنق) وتحت قانون حالة الطوارئ، الغريب ان هذا القانون ساري المفعول رغم الانتخابات التي تمت، أما سجانه فهو المشير عمر البشير ونائبه عثمان، وهما اللذان أتى بهما إلى هذا الموقع بانقلاب عسكري, خلال الانقلاب العسكري أصبحت السودان ملجأ لكل الهاربين والمطاردين والإسلاميين حيث كان الترابي يعد نفسه خليفة للمسلمين.
ولكن سرعان ما دب الخلاف بين بن لادن والترابي عندما أدرك الترابي ان بن لادن يستغله في تثبيت سلطانه داخل السودان، ويدفع بهم إلى حرب عبثية في جنوب السودان بينما رأى الترابي ان نجم بن لادن يصعد في تلك الفترة على نحو يهدد مكانته داخل أوساط المقاتلين الاصوليين الموالين له والمعروفين باسم الدبابين، لذلك استقر رأي بن لادن ومعاونه المصري على الخروج من السودان والذهاب إلى الصومال اثر اتصالات بينه وبين الجنرال الصومالي فارح عيديد وبخاصة بعد أن طلب بيل كلينتون من البشير ان يغادر بن لادن السودان ثم سلم كارلوس إلى فرنسا بصفقة مشبوهة، يقال ان، الترابي قبض ثمنها مقدما كما سلم العشرات إلى سلطات بلادهم وتفرق الثوار وتفتت المؤتمر الاسلامي ولم يبق من هوية الانقلاب الاسلامي سوى رجل يقبع في سجن كوبر ويتحسس رقبته خوفا ان يقدم البشير كما اقدم جعفر النميري من قبل على اعدام المفكر الاسلامي الشيخ محمود محمد طه مؤسس الحزب الجمهوري والذي كان يشكل منافسا حقيقيا لحركة الاسلام السياسي التي تزعمها الترابي والمفارقة هنا ان الترابي كان وراء النميري عندما اعدم الشيخ الذي تجاوز السبعين وصفق له.
ولكن ماذا عن الجنوب ولماذا تحولت مناوشات قديمة وطبيعية بين قبائل تعيش حياة صعبة حول الماءوالكلأ، بالرغم من الخيرات التي تعج بها منطقة الجنوب، إلى فتنة ثم أزمة؟ ثم تدويلا للأزمة ولماذا اسهم الفريق الحاكم في الخرطوم في تأزيم الموقف بدعمه أطرافا ضد أطراف وتسليح ميليشيات عربية مثل الجنجاويد وغيرها ضد البقية؟ ألم يكن باستطاعة حكومة البشير أن تمثل الدولة التي تقبل جميع الأطراف؟ ولماذا تدخلت عسكريا ضد قرنق؟ ولماذا اعطيت الفرصة ليلعب الاسرائيليون على المفاصل الرئىسية بين العرب والأفارقة؟ ففي الجنوب هناك حركة «تحرير السودان» يقودها جون قرنق المسيحي الكاثوليكي الذي بدأ يساريا شيوعيا وانتهى علمانيا .
ووجد فيه العميد الاسرائيلي المتقاعد موشي فوجي ضالته فرصد حركات الكولونيل وتمكن من الوصول اليه واستقر الرأي على مساندته لكي يحقق طموحه لبناء دولة في الجنوب (على غرار العلاقات التي نشأت مع قيادات الاكراد في شمال العراق ومصطفى البرزاني وابنه مسعود) زار اسرائيل ثلاث مرات وقدم له الدعم بما يزيد على 500 مليون دولار قامت الولايات المتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه، ولكن يبقى التساؤل لماذا هذه الاموال وهذا الاهتمام؟ إذ لكي يجد الاسرائيليون موطئ قدم في الجنوب كان لا بد من دعم جون قرنق بهدف الضغط على السودان واضعاف مصر اضافة إلى محاولة تأمين مصالحها في البحر الاحمر التي احتلت موقعا خاصا في الاستراتيجية الاسرائيلية في الوقت الذي رصدت فيه الاقمار الاصطناعية الاسرائيلية مواقع قوات حكومة السودان لصالح القوات الجنوبية إلى درجة اشتراك عسكريين اسرائيليين في العمليات القتالية (هذا ما يؤكده كتاب اسرائىلي لمركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط والتابع لجامعة تل أبيب وتحت عنوان «إسرائيل وحركة تحرير الجنوب»).
واسرائىل هي من اقنعت الجنوبيين بتعطيل تنفيذ مشروع قناة جونجلي في منطقة اعالي النيل لنقل المياه إلى مجرى جديدة بين جونجلي وملكال لتخزين خمسة ملايين متر مكعب ويفترض ان يسهم في انعاش منطقة الشمال والاقتصاد المصري واوعزت لهم بأنهم اولى بهذه المياه من العرب المصريين، وان المصريين سيرسلون ستة ملايين فلاح إلى الجنوب (كما حدث في العراق) لتغيير تركيبته السكانية لصالح العرب! وعليه ايضا عارض اهل الجنوب انشاء مصفاة للنفط في منطقة كوستي في احدى الولايات القريبة من الشمال حتى لا تخدم الحكومة السودانية!
جنوب السودان مسيحي كاثوليكي موال للغرب وفي حال انفصاله فإن أكثر الدول تضررا هي مصر والدول العربية الافريقية في حين ان الامر سيصب في مصلحة دول وسط افريقيا والتي ستكسب دولة تشكل هاجسا في صدر الامن الاستراتيجي العربي ومن شأن ذلك هز الاستقرار في الشمال العربي المسلم مما يترتب عليه إعادة توزيع حصص دول حوض النيل بدولة جديدة تتحكم في كل مناسيب النيل الابيض وروافده المتعددة في جنوب السودان هذا من جهة، أما بالنسبة للأميركيين فإن ولادة الجنوب ستكون اضافة حقيقية للوجود الأميركي في افريقيا جنوب الصحراء حيث النفوذ الحقيقي في منطقة البحيرات وهي المنطقة التي ظلت متوترة لفترة طويلة قبل ان يضع الهوتو حدا لها بالاستفراد بالسلطة في رواندا وهم يدينون بالولاء لمساعدات رجال الـ «سي اي ايه» الأميركية، وعليه كان لا بد من وجود رأس رمح في الجنوب السوداني حتى يخيف المصريين بين فترة وأخرى.
اصبح الجنوب يعج بضباط يهود الفلاشا، وعندما اصبحت الامور كما أراد لها الاسرائيليون ان تكون اعلن جون قرنق الانفصال فشاور واشنطن وتل ابيب، بل انه طلب تدخلا رسميا من واشنطن حتى ان وزارة الدفاع الأميركية اصدرت تعليماتها إلى قواتها في كينيا واريتريا بالاستعداد إذا ما لزم الأمر!
الحديث عن السودان وأزمته شرحه يطول ولكن اليوم وبعد اتفاقية السلام بين حكومة البشير وجون قرنق، هل تكفي قسمة السلطة والثروة والمناطق الثلاثة اضافة إلى الترتيبات العسكرية لوضع حد لأزمات أكبر الأقطار الافريقية مساحة؟ بتفصيل أدق هل حصة حزب المؤتمر الحاكم تلخص حصص الأطراف الشمالية بجميع أشكالها؟ هذا إذا افترضنا جدلا أن حركة التحرير تلخص المعارضة السودانية بكل أطرافها؟ وهذا غير ممكن!
حزب المؤتمر الحاكم والجبهة الاسلامية او المؤتمر الوطني خاض معركة السلام من رؤية حزبية أراد بها تفادي ألد خصومها عدة وعتادا (جون قرنق) وحمايته في الوقت نفسه من الاسرة الدولية لتقيها من جرائم ارتكبت وملاحقات جنائية في حين ان «حركة التحرير» لقرنق رأت في خطابها السياسي علمنة السودان وأفرقته (أي علمانيا افريقيا) ولو كان ذلك على حساب الدولة وأشياء أخرى.
لقد تم تغييب قوى سياسية كبيرة في السودان موالية كانت أم معارضة (35 حزبا وتجمعا ولعل اكبرها مجموعة الـ 44 والتي تمثل مناطق التماس والدوائر الانتخابية الواقعة بين شمال السودان وجنوبه) لصالح من؟ وهل تصمت هذه الاحزاب وتكتفي بمعزوفة السلام الثنائية؟
وهذه الاحزاب بدورها هل تأتمن على مصالحها في اطار التسوية الحالية؟ والسؤال هنا كيف ينقذ السودانيون هذا السلام من مخاطر خصوصا وانه لم يأخذ هذا الزخم إلا مع مجيء المبعوث الأميركي دانفورت ملوحا بالتهديد والترغيب كعادة المبعوثين الأميركيين؟
ألا يعتقد السودانيون انهم بحاجة إلى مؤتمر أياً كان شكله أو حجمه يجمعهم في نقلة السلام القادمة وان المسألة حرجة ولا سيما في غياب عربي شبه كامل (الموقف في جنوب السودان يعتبر واحدا من الاخطاء العربية عندما اهمل الجميع الحدود العربية الافريقية في منطقة التخوم الفاصلة بين جنوب السودان وباقي دول القارة، الغريب لا أثر عربياً في منطقة الجنوب هناك اللهم الا مسجداً في «مالكال» بناه الملك فاروق ومستشفى كويتياً في جوبا والباقي سلامتك).
هل سيسرق الجنوبي قرنق محفظة الشمال من جيب البشير؟ وهل سيتسامح البشير من قرنق بعد كل ما أخذه أو سرقه ويقول له «سماح آغا عرب سماح!!» كما فعل الإيراني داخل العراق؟!.