على
01-14-2005, 11:59 PM
من خطاب تنصيب جورج واشنطن إلى خطاب تنصيب جورج بوش
واشنطن: محمد علي صالح
«لن نقدر أبدا على أن نكون محايدين، وذلك لأن المشاكل التي كنا نعتقد أنها بعيدة عنا أصبحت تعيش وسطنا، ولهذا فإن مواطني أميركا الذين لا بد أن يقتلوا، وأموال أميركا التي لا بد أن تصرف، في بلاد بعيدة لا نعرف عنها كثيرا، هي ثمن التزامنا بمبادئنا، وثمن حرصنا على أداء رسالتنا». ليس هذا الرئيس الأميركى جورج بوش يتحدث عن الحرب ضد الإرهاب، وعن الخسائر والنفقات الأميركية في حرب العراق، ولكنه الرئيس الأميركى الراحل ليندون جونسون (1963 ـ 1969) يتحدث عن الحرب ضد الشيوعية العالمية، وعن الخسائر والنفقات الأميركية في حرب فيتنام في خطاب تنصيبه قبل نحو أربعين سنة. وربما سيكرر بوش يوم الخميس المقبل ما قاله جونسون حول أن أميركا، رغم خسائرها في الحروب، «لا تريد أخذ ما يملكه الآخرون، ولا تريد السيطرة على حريات الآخرين، ولكنها تريد سيطرة الناس كلهم على الظلم».
خطاب تنصيب الرئيس الأميركي يكون عادة موضع اهتمام العالم كله، لأنه يحدد فيه أجندة بلاده، والعالم سبمعنى من المعاني، لمدة أربع سنوات، غير أن خطاب تنصيب بوش يوم الخميس المقبل سيكون محط اهتمام استثنائي، فهو أول خطاب تنصيب لرئيس أميركي منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وهو يصاغ في خضم حرب كبيرة واضطرابات عالمية عنيفة، فما الذى يمكن توقعه في خطاب بوش؟ لا بد أن يدافع الرئيس الأميركي عن الحرب التي تخوضها القوات الأميركية في العراق، ويردد العبارة التي رددها رؤساء أميركيون سابقون، ألقوا خطب تنصيبهم بينما جيوش أميركا في أرض معركة ما، من أن هذه هي حرب الحرية التي لا بد من خوضها لإنهاء كل الحروب الأخرى. وعلى الرغم من أن خطب التنصيب تحدد إطارها العام الثقافة السياسية للمؤسسة الأميركية، إلا أن خطب التنصيب في زمن الحرب تختلف في خطب التنصيب في زمن السلم، كما أن خطب تنصيب رئيس لولاية ثانية تختلف عن خطب رئيس يبدأ ولايته الأولى.
والذي يزور النصب التذكاري في واشنطن للرئيس جورج واشنطن (1789 ـ 1797)، أول رئيس في التاريخ الأميركي، سيقرأ خطابي تنصيبه، ثم يمشي خطوات نحو الغرب إلى النصب التذكاري للرئيس ابراهام لينكولن (1861 ـ 1865)، ويقرأ خطابي تنصيبه، ثم خطوات إلى الشرق إلى النصب التذكاري للرئيس فرانكلين روزفلت (1933 ـ 1941، ثم 1941 ـ 1949)، ويقرأ خطابات تنصيبه الأربعة، ثم خطوات إلى الشمال في دائرة كاملة نحو نصب توماس جيفرسون (1801 ـ 1809) التذكاري ويقرأ خطابي تنصيبه. واذا كان الزائر مهتما حقا بالتاريخ، لا بد أن يسافر مائتي ميلا جنوبا إلى مونتبلير، في ولاية فرجينيا، حيث منزل الرئيس جيمس ماديسون (1809 ـ 1817) ونصبه التذكاري ليقرأ أيضا خطاب تنصيبه الذي ألقاه لولايته الثانية 1813. وسيجد القارئ بعدما يقرأ هذه الخطب وغيرها نقاطا عامة تربط كل هذه الخطب، ونقاط تمايز يحددها نوع الأزمات التي يواجهها كل الرئيس، ودرجة اعتقاده الآيديولوجي.
ومن بين المعروضات في متحف مكتبة الكونغرس، الذي افتتح الأسبوع الماضي، تحت عنوان «تنصيب الرئيس»، هناك وثيقة جاء فيها «ألقى الرئيس خطاب التنصيب في قوة ووضوح، ثم أدى القسم الدستوري على الإنجيل، بإشراف قاضي المحكمة العليا، ثم انتقل في موكب كبير إلى البيت الأبيض، حيث أقيم حفل غداء على شرف الرئيس»، كان هذا الخبر الذي نشر في جريدة «كولومبيا» الأميركية عن تنصيب الرئيس رثرفورد هايز (1877 ـ 1881) 1877، وكتبه جيمس غارفيلد، الذي كان عضوا في الكونغرس عن ولاية أوهايو، وبعد أربع سنوات ترشح هو نفسه لرئاسة الجمهورية، وفاز، وفعل نفس ما فعله الرئيس هايز، وما سيفعله الرئيس بوش يوم الخميس القادم.
كلهم كرروا، نفس الجملة التي قالها جورج واشنطن سنة 1789 «أقسم باحترام أن أدير في إخلاص وظيفة رئيس الولايات المتحدة، وأن أحافظ على دستور الولايات المتحدة، وأحميه وأدافع عنه». لكن جورج واشنطن أدى القسم في مدينة نيويورك، قبل أن تنتقل العاصمة إلى فيلادلفيا، ثم إلى واشنطن. ومثل جملة القسم، ترك جورج واشنطن تقاليد تنصيب أخرى استمرت حتى الآن، وهو أن يقام الاحتفال في العراء، وأن يضع الرئيس يده على الإنجيل، وبعد ذلك يغادر مكان الاحتفال في موكب كبير ليزور الكنيسة بعد أداء القسم، ثم يحتفل بالليل مع المقربين من معاونيه وأنصاره، مع إطلاق ألعاب نارية.
وبسبب نشأة الولايات المتحدة تاريخيا، والوجود القوي للنزعة الدينية والوطنية، تظهر واضحة في خطابات الرؤساء الأميركيين خلال التنصيب، وطبعا في غير ذلك من الخطابات، المفردات الدينية والوطنية، فجورج واشنطن كان ينهي خطبه بدعاء «لتحفظ الرعاية الإلهية هذه الحكومة»، واستعمل الرئيس توماس جيفرسون وصف «القوة العليا»، وطلب الرئيس جون كنيدي (1961 ـ 1963) «رعاية الله وعونه»، وقال الرئيس جورج بوش الابن، في حفل تنصيبه قبل أربع سنوات «ليرعاكم الله ويرعى أميركا»، وفي الأسبوع المقبل يتوقع أن يكون خطاب بوش أكثر وطنية وتدينا من خطاب تنصيبه الأول، فخطاب تنصيبه كأول رئيس أميركي بعد هجمات 11 سبتمبر، لا بد أن يكون على حجم الحدث حتى، وأن مرت عليه ثلاث سنوات.
لكن احتفال تنصيب بوش يوم الخميس لن يكون أول احتفال تنصيب بينما القوات الأميركية تحارب، والجنود الأميركيون يقتلون ويجرحون، فالخطاب الذي كتبه جورج واشنطن بخط يده في سنة 1789، بعد سنوات حرب الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني، قال فيه إن التضحيات ثمنا للحرية، وإن الحرب وسيلة نحو حياة أفضل، ولهذا قرر اعتزال السياسة، لكن «الوطن دعاني بعد أن ابتعدت عن العمل العام، وبعد أن أديت واجبي، وبعد أن كبرت في السن، ونداء الوطن لا بد أن يستجاب». ربما اعتقد واشنطن أن حرب الاستقلال كانت نهاية الحروب، ولم يتوقع الحرب الأهلية التي كادت أن تقسم الولايات المتحدة إلى دولتين، وربما أكثر.
وفي حفل تنصيب جيمس ماديسون لولاية ثانية عام 1813، كانت القوات البريطانية غزت الولايات المتحدة (بعد أربعين سنة من استقلالها) ووصلت إلى العاصمة واشنطن، وحرقت مبنيي الكونغرس والبيت الأبيض، قبل أن تنسحب. وقال ماديسون «نحن نحارب باسم الحرية، والأعداء البريطانيون يحاربون باسم العدوان، اعتقلوا مواطنين أميركيين مدنيين وجعلوهم سجناء حرب. واعتقلوا مهاجرين جاءوا إلى أميركا، وبدلا من أن يعتبروهم سجناء حرب، اعتبروهم خونة ولصوصا».
وفي خطاب تنصيبه، الذي كتبه بخط يده أيضا سنة 1865، تحدث الرئيس ابراهام لينكولن ليس عن ثمن الاستقلال من حكم دولة أجنبية، ولكن عن ثمن الحرية داخل الوطن لكل مواطن، وخاصة ثمن عتق الرقيق السود، وقال، والحرب الأهلية بين الشمال والجنوب مشتعلة على خلفية تحرير العبيد مع قوة ايماننا بالحق كما أوضحه لنا الله، لنبذل كل ما نستطيع لإكمال المهمة التي نقوم بها، ولتضميد جراح الأمة».
وربما اعتقد ذلك، أيضا، الرئيس وودرو ويلسون، لأنه في خطاب تنصيبه الأول 1913 والذي كتبه على آلة كاتبة، لأول مرة، أثبت أن الأميركيين كانوا يستمتعون بـ«الانعزالية الفريدة»، لأنه لم يتحدث عن التطورات في أوروبا التي مهدت لبداية الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بسنة واحدة. واكتفي بأسئلة عامة «ألا يجب أن نؤدي واجبنا الوطني؟ ألا يجب أن ننتصر؟ ألا يجب أن نلبي نداء الإنسانية؟»، لكن، بعد أربع سنوات، في خطاب تنصيبه الثاني سنة 1917، كانت الحرب مشتعلة، وكانت القوات الأميركية تقتل وتُقتل في أوروبا. ولهذا قال «الأميركيون لم يعودوا أميركيين فقط، لأن أحداث الثلاثين شهرا الماضية أوضحت أننا مواطنون في عالم كبير حولنا. لقد دخلنا هذا العالم، ولن نقدر على الخروج منه. لكن هذه الخطوة ليس معناها أننا أقل أميركية مما كنا، بل، بالعكس، سنصبح أكثر أميركية مما كنا». وبرهن ويلسون على ذلك في السنة التالية، عندما أعلن «النقاط الأربع عشرة» عن حقوق كل شعوب العالم في الحرية وفي تقرير مصيرها، والتي كانت الفلسفة والنواة التي تأسست عليها عصبة الأمم المتحدة.
لكن التاريخ أعاد نفسه، واعتقد الأميركيون، وربما كل شعوب العالم، أن الحرب العالمية الأولى كانت «الحرب التي أنهت كل الحروب». وعاد الأميركيون إلى «عزلة مؤقتة»، وظهر ذلك في خطاب تنصيب الرئيس فرانكلين روزفلت الأول، سنة 1933، وكان أول خطاب مسجل صوتيا. لم يشر روزفلت إلى حدث عالمي مهم، وركز على الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة بعد الأزمة المالية، الكساد العظيم، قبل ذلك بأربع سنوات. وقال: «شكرا لله، المشكلة الوحيدة التي نواجهها هي مشكلة مادية، لا عقائدية. زادت الضرائب، وقلت قيمة الاستثمارات، وشحت أسواق المزارعين، وتعطل عمال المصانع». ومرة أخرى أهمل روزفلت بقية العالم في خطاب تنصيبة الثاني في سنة 1937، وركز على الإصلاحات الداخلية.
وأعاد التاريخ نفسه، مرة أخرى، في خطاب روزفلت في حفل تنصيبه الرابع والأخير، في سنة 1945، وهو أول خطاب مسجل سينمائيا، واقتنع الأميركيون، مرة أخرى، بأنهم جزء من عالم كبير حولهم. وكاد روزفلت يكرر خطاب ويلسون قبل ذلك بثلاثين سنة تقريبا، عندما قال «تعلمنا درسا مهما، ودفعنا ثمن ذلك، وسنستفيد منه. تعلمنا أننا لا نقدر على العيش في سلام والعالم حولنا غير مستقر. تعلمنا أن حريتنا وسعادتنا تعتمد على حرية وسعادة شعوب بعيدة عنا». وبناء على هذا الخطاب الذي حدد أجندة حكومته، لعبت واشنطن دورا رئيسيا في تأسيس الأمم المتحدة، وفي إعادة بناء أوروبا عبر مشروع مارشال، وفي مواجهة المعسكر الشيوعي، وفي خوض حربين في سبيل ذلك هما كوريا وفيتنام لمواجهة المد الشيوعي.
وسيطرت حرب فيتنام على رئاستي ليندون جونسون وريتشارد نيكسون (1969 ـ 1973). وفي عهد الأخير، وبعد سبع سنوات من بداية الحرب، أصبح واضحا أن الثوار الفيتناميين سينتصرون، وأن أميركا ستنهزم، وستنحسب من فيتنام. وفي حفل تنصيبه 1969 قال نيكسون «نحن في حرب، لكننا نريد السلام. ونحن منقسمون، لكننا نريد الوحدة. ونحن في مشكلة روحية، لكننا لن نخرج منها بغير إجابة روحية».
بعد قرابة ثلاث سنوات من غزو العراق، والذي أيده الأميركيون بنسبة 90%، أوضحت الاستفتاءات أن الأميركيين أصبحوا منقسمين إلى قسمين متساويين: نصف مع الحرب ونصف ضدها. لكن لا يتوقع أن يتحدث بوش في حفل تنصيبه يوم الخميس عن «نحن منقسمون»، ولا عن «مشكلة روحية»، لأنه ربما يعتقد العكس، وهو أن التزامه الديني هو الحل وليس المشكلة.
وبوش لا بد أن يكرر وعده بالانتصار في حرب العراق، مثلما قال إنه انتصر في حرب أفغانستان. لكن ماذا عن حرب الإرهاب التي اعترف هو نفسه بأنها ليست مثل الحروب السابقة؟ لا بد أن يعد بوش بالانتصار في حرب الإرهاب، لكنه لن يقدر على أن يضع أي جدول زمني لذلك.
وبهذا سيكون خطاب تنصيبه أول خطاب عن حرب لا يعرف متى ستنتهي.
وإلى جانب خطاب يوم التنصيب، تتجه الأنظار إلى الأحداث غير العادية التي قد تحدث في ذلك اليوم على الرغم من التخطيط الطويل والمحكم لإجراء مراسم تنصيب بدون تعكير أمني أو أحداث شغب. فلا ينسى أحد اللافتة التى رفعت يوم تنصيب الرئيس توماس جيفرسون 1801، تقول «جيفرسون، وليس آدامز، هو الرئيس». فى إشارة إلى عداء رسمي وشخصي استمر سنوات بين جيفرسون، الرئيس الثالث، وآدامز، الرئيس الثاني، إذ أصر جفرسون على أنه أحق بأن يكون نائبا لجورج واشنطن، لكن آدامز (1797 ـ 1801) تغلب عليه، وأصبح جيفرسون وزيرا للخارجية. وبعد وفاة واشنطن، ترشحا لرئاسة الجمهورية، وفاز آدامز على جيفرسون بأصوات قليلة. وبعد أربع سنوات، ترشحا مرة أخرى، وهذه المرة فاز جيفرسون، فكان الانتقام يوم التنصيب.
ونقمة جفرسون على آدامز تشبه نقمة نائب الرئيس الاميركى ال غور على بوش بعد انتخابات 2000، لأن بوش فاز باصوات قليلة في ولاية فلوريدا، ولم يضمن الفوز إلا بعد أن انتقلت المشكلة إلى المحكمة العليا، وحكمت المحكمة لصالحه، غير أن أنصار غور جعلوا يوم تنصيب بوش جحيما بسبب المظاهرات والاعتراضات. كما أن هناك أيضا نقمة معارضي الرئيس اندرو جاكسون (1829 ـ 1837) عليه لأعتقادهم بأنه فاز بالرئاسة بطريقة غير حاسمة 1829، إذ تظاهر المعارضون في حفل التنصيب، وحطموا أيضا كراسي، ونزعوا لافتات، ومزقوا اعلاما، وانتقلت الفوضى إلى البيت الأبيض. وهناك صورة محفورة تصور الفوضى داخل البيت الأبيض، لأن الكاميرا لم تكن اخترعت في ذلك الوقت.
واشنطن: محمد علي صالح
«لن نقدر أبدا على أن نكون محايدين، وذلك لأن المشاكل التي كنا نعتقد أنها بعيدة عنا أصبحت تعيش وسطنا، ولهذا فإن مواطني أميركا الذين لا بد أن يقتلوا، وأموال أميركا التي لا بد أن تصرف، في بلاد بعيدة لا نعرف عنها كثيرا، هي ثمن التزامنا بمبادئنا، وثمن حرصنا على أداء رسالتنا». ليس هذا الرئيس الأميركى جورج بوش يتحدث عن الحرب ضد الإرهاب، وعن الخسائر والنفقات الأميركية في حرب العراق، ولكنه الرئيس الأميركى الراحل ليندون جونسون (1963 ـ 1969) يتحدث عن الحرب ضد الشيوعية العالمية، وعن الخسائر والنفقات الأميركية في حرب فيتنام في خطاب تنصيبه قبل نحو أربعين سنة. وربما سيكرر بوش يوم الخميس المقبل ما قاله جونسون حول أن أميركا، رغم خسائرها في الحروب، «لا تريد أخذ ما يملكه الآخرون، ولا تريد السيطرة على حريات الآخرين، ولكنها تريد سيطرة الناس كلهم على الظلم».
خطاب تنصيب الرئيس الأميركي يكون عادة موضع اهتمام العالم كله، لأنه يحدد فيه أجندة بلاده، والعالم سبمعنى من المعاني، لمدة أربع سنوات، غير أن خطاب تنصيب بوش يوم الخميس المقبل سيكون محط اهتمام استثنائي، فهو أول خطاب تنصيب لرئيس أميركي منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وهو يصاغ في خضم حرب كبيرة واضطرابات عالمية عنيفة، فما الذى يمكن توقعه في خطاب بوش؟ لا بد أن يدافع الرئيس الأميركي عن الحرب التي تخوضها القوات الأميركية في العراق، ويردد العبارة التي رددها رؤساء أميركيون سابقون، ألقوا خطب تنصيبهم بينما جيوش أميركا في أرض معركة ما، من أن هذه هي حرب الحرية التي لا بد من خوضها لإنهاء كل الحروب الأخرى. وعلى الرغم من أن خطب التنصيب تحدد إطارها العام الثقافة السياسية للمؤسسة الأميركية، إلا أن خطب التنصيب في زمن الحرب تختلف في خطب التنصيب في زمن السلم، كما أن خطب تنصيب رئيس لولاية ثانية تختلف عن خطب رئيس يبدأ ولايته الأولى.
والذي يزور النصب التذكاري في واشنطن للرئيس جورج واشنطن (1789 ـ 1797)، أول رئيس في التاريخ الأميركي، سيقرأ خطابي تنصيبه، ثم يمشي خطوات نحو الغرب إلى النصب التذكاري للرئيس ابراهام لينكولن (1861 ـ 1865)، ويقرأ خطابي تنصيبه، ثم خطوات إلى الشرق إلى النصب التذكاري للرئيس فرانكلين روزفلت (1933 ـ 1941، ثم 1941 ـ 1949)، ويقرأ خطابات تنصيبه الأربعة، ثم خطوات إلى الشمال في دائرة كاملة نحو نصب توماس جيفرسون (1801 ـ 1809) التذكاري ويقرأ خطابي تنصيبه. واذا كان الزائر مهتما حقا بالتاريخ، لا بد أن يسافر مائتي ميلا جنوبا إلى مونتبلير، في ولاية فرجينيا، حيث منزل الرئيس جيمس ماديسون (1809 ـ 1817) ونصبه التذكاري ليقرأ أيضا خطاب تنصيبه الذي ألقاه لولايته الثانية 1813. وسيجد القارئ بعدما يقرأ هذه الخطب وغيرها نقاطا عامة تربط كل هذه الخطب، ونقاط تمايز يحددها نوع الأزمات التي يواجهها كل الرئيس، ودرجة اعتقاده الآيديولوجي.
ومن بين المعروضات في متحف مكتبة الكونغرس، الذي افتتح الأسبوع الماضي، تحت عنوان «تنصيب الرئيس»، هناك وثيقة جاء فيها «ألقى الرئيس خطاب التنصيب في قوة ووضوح، ثم أدى القسم الدستوري على الإنجيل، بإشراف قاضي المحكمة العليا، ثم انتقل في موكب كبير إلى البيت الأبيض، حيث أقيم حفل غداء على شرف الرئيس»، كان هذا الخبر الذي نشر في جريدة «كولومبيا» الأميركية عن تنصيب الرئيس رثرفورد هايز (1877 ـ 1881) 1877، وكتبه جيمس غارفيلد، الذي كان عضوا في الكونغرس عن ولاية أوهايو، وبعد أربع سنوات ترشح هو نفسه لرئاسة الجمهورية، وفاز، وفعل نفس ما فعله الرئيس هايز، وما سيفعله الرئيس بوش يوم الخميس القادم.
كلهم كرروا، نفس الجملة التي قالها جورج واشنطن سنة 1789 «أقسم باحترام أن أدير في إخلاص وظيفة رئيس الولايات المتحدة، وأن أحافظ على دستور الولايات المتحدة، وأحميه وأدافع عنه». لكن جورج واشنطن أدى القسم في مدينة نيويورك، قبل أن تنتقل العاصمة إلى فيلادلفيا، ثم إلى واشنطن. ومثل جملة القسم، ترك جورج واشنطن تقاليد تنصيب أخرى استمرت حتى الآن، وهو أن يقام الاحتفال في العراء، وأن يضع الرئيس يده على الإنجيل، وبعد ذلك يغادر مكان الاحتفال في موكب كبير ليزور الكنيسة بعد أداء القسم، ثم يحتفل بالليل مع المقربين من معاونيه وأنصاره، مع إطلاق ألعاب نارية.
وبسبب نشأة الولايات المتحدة تاريخيا، والوجود القوي للنزعة الدينية والوطنية، تظهر واضحة في خطابات الرؤساء الأميركيين خلال التنصيب، وطبعا في غير ذلك من الخطابات، المفردات الدينية والوطنية، فجورج واشنطن كان ينهي خطبه بدعاء «لتحفظ الرعاية الإلهية هذه الحكومة»، واستعمل الرئيس توماس جيفرسون وصف «القوة العليا»، وطلب الرئيس جون كنيدي (1961 ـ 1963) «رعاية الله وعونه»، وقال الرئيس جورج بوش الابن، في حفل تنصيبه قبل أربع سنوات «ليرعاكم الله ويرعى أميركا»، وفي الأسبوع المقبل يتوقع أن يكون خطاب بوش أكثر وطنية وتدينا من خطاب تنصيبه الأول، فخطاب تنصيبه كأول رئيس أميركي بعد هجمات 11 سبتمبر، لا بد أن يكون على حجم الحدث حتى، وأن مرت عليه ثلاث سنوات.
لكن احتفال تنصيب بوش يوم الخميس لن يكون أول احتفال تنصيب بينما القوات الأميركية تحارب، والجنود الأميركيون يقتلون ويجرحون، فالخطاب الذي كتبه جورج واشنطن بخط يده في سنة 1789، بعد سنوات حرب الاستقلال ضد الاستعمار البريطاني، قال فيه إن التضحيات ثمنا للحرية، وإن الحرب وسيلة نحو حياة أفضل، ولهذا قرر اعتزال السياسة، لكن «الوطن دعاني بعد أن ابتعدت عن العمل العام، وبعد أن أديت واجبي، وبعد أن كبرت في السن، ونداء الوطن لا بد أن يستجاب». ربما اعتقد واشنطن أن حرب الاستقلال كانت نهاية الحروب، ولم يتوقع الحرب الأهلية التي كادت أن تقسم الولايات المتحدة إلى دولتين، وربما أكثر.
وفي حفل تنصيب جيمس ماديسون لولاية ثانية عام 1813، كانت القوات البريطانية غزت الولايات المتحدة (بعد أربعين سنة من استقلالها) ووصلت إلى العاصمة واشنطن، وحرقت مبنيي الكونغرس والبيت الأبيض، قبل أن تنسحب. وقال ماديسون «نحن نحارب باسم الحرية، والأعداء البريطانيون يحاربون باسم العدوان، اعتقلوا مواطنين أميركيين مدنيين وجعلوهم سجناء حرب. واعتقلوا مهاجرين جاءوا إلى أميركا، وبدلا من أن يعتبروهم سجناء حرب، اعتبروهم خونة ولصوصا».
وفي خطاب تنصيبه، الذي كتبه بخط يده أيضا سنة 1865، تحدث الرئيس ابراهام لينكولن ليس عن ثمن الاستقلال من حكم دولة أجنبية، ولكن عن ثمن الحرية داخل الوطن لكل مواطن، وخاصة ثمن عتق الرقيق السود، وقال، والحرب الأهلية بين الشمال والجنوب مشتعلة على خلفية تحرير العبيد مع قوة ايماننا بالحق كما أوضحه لنا الله، لنبذل كل ما نستطيع لإكمال المهمة التي نقوم بها، ولتضميد جراح الأمة».
وربما اعتقد ذلك، أيضا، الرئيس وودرو ويلسون، لأنه في خطاب تنصيبه الأول 1913 والذي كتبه على آلة كاتبة، لأول مرة، أثبت أن الأميركيين كانوا يستمتعون بـ«الانعزالية الفريدة»، لأنه لم يتحدث عن التطورات في أوروبا التي مهدت لبداية الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بسنة واحدة. واكتفي بأسئلة عامة «ألا يجب أن نؤدي واجبنا الوطني؟ ألا يجب أن ننتصر؟ ألا يجب أن نلبي نداء الإنسانية؟»، لكن، بعد أربع سنوات، في خطاب تنصيبه الثاني سنة 1917، كانت الحرب مشتعلة، وكانت القوات الأميركية تقتل وتُقتل في أوروبا. ولهذا قال «الأميركيون لم يعودوا أميركيين فقط، لأن أحداث الثلاثين شهرا الماضية أوضحت أننا مواطنون في عالم كبير حولنا. لقد دخلنا هذا العالم، ولن نقدر على الخروج منه. لكن هذه الخطوة ليس معناها أننا أقل أميركية مما كنا، بل، بالعكس، سنصبح أكثر أميركية مما كنا». وبرهن ويلسون على ذلك في السنة التالية، عندما أعلن «النقاط الأربع عشرة» عن حقوق كل شعوب العالم في الحرية وفي تقرير مصيرها، والتي كانت الفلسفة والنواة التي تأسست عليها عصبة الأمم المتحدة.
لكن التاريخ أعاد نفسه، واعتقد الأميركيون، وربما كل شعوب العالم، أن الحرب العالمية الأولى كانت «الحرب التي أنهت كل الحروب». وعاد الأميركيون إلى «عزلة مؤقتة»، وظهر ذلك في خطاب تنصيب الرئيس فرانكلين روزفلت الأول، سنة 1933، وكان أول خطاب مسجل صوتيا. لم يشر روزفلت إلى حدث عالمي مهم، وركز على الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة بعد الأزمة المالية، الكساد العظيم، قبل ذلك بأربع سنوات. وقال: «شكرا لله، المشكلة الوحيدة التي نواجهها هي مشكلة مادية، لا عقائدية. زادت الضرائب، وقلت قيمة الاستثمارات، وشحت أسواق المزارعين، وتعطل عمال المصانع». ومرة أخرى أهمل روزفلت بقية العالم في خطاب تنصيبة الثاني في سنة 1937، وركز على الإصلاحات الداخلية.
وأعاد التاريخ نفسه، مرة أخرى، في خطاب روزفلت في حفل تنصيبه الرابع والأخير، في سنة 1945، وهو أول خطاب مسجل سينمائيا، واقتنع الأميركيون، مرة أخرى، بأنهم جزء من عالم كبير حولهم. وكاد روزفلت يكرر خطاب ويلسون قبل ذلك بثلاثين سنة تقريبا، عندما قال «تعلمنا درسا مهما، ودفعنا ثمن ذلك، وسنستفيد منه. تعلمنا أننا لا نقدر على العيش في سلام والعالم حولنا غير مستقر. تعلمنا أن حريتنا وسعادتنا تعتمد على حرية وسعادة شعوب بعيدة عنا». وبناء على هذا الخطاب الذي حدد أجندة حكومته، لعبت واشنطن دورا رئيسيا في تأسيس الأمم المتحدة، وفي إعادة بناء أوروبا عبر مشروع مارشال، وفي مواجهة المعسكر الشيوعي، وفي خوض حربين في سبيل ذلك هما كوريا وفيتنام لمواجهة المد الشيوعي.
وسيطرت حرب فيتنام على رئاستي ليندون جونسون وريتشارد نيكسون (1969 ـ 1973). وفي عهد الأخير، وبعد سبع سنوات من بداية الحرب، أصبح واضحا أن الثوار الفيتناميين سينتصرون، وأن أميركا ستنهزم، وستنحسب من فيتنام. وفي حفل تنصيبه 1969 قال نيكسون «نحن في حرب، لكننا نريد السلام. ونحن منقسمون، لكننا نريد الوحدة. ونحن في مشكلة روحية، لكننا لن نخرج منها بغير إجابة روحية».
بعد قرابة ثلاث سنوات من غزو العراق، والذي أيده الأميركيون بنسبة 90%، أوضحت الاستفتاءات أن الأميركيين أصبحوا منقسمين إلى قسمين متساويين: نصف مع الحرب ونصف ضدها. لكن لا يتوقع أن يتحدث بوش في حفل تنصيبه يوم الخميس عن «نحن منقسمون»، ولا عن «مشكلة روحية»، لأنه ربما يعتقد العكس، وهو أن التزامه الديني هو الحل وليس المشكلة.
وبوش لا بد أن يكرر وعده بالانتصار في حرب العراق، مثلما قال إنه انتصر في حرب أفغانستان. لكن ماذا عن حرب الإرهاب التي اعترف هو نفسه بأنها ليست مثل الحروب السابقة؟ لا بد أن يعد بوش بالانتصار في حرب الإرهاب، لكنه لن يقدر على أن يضع أي جدول زمني لذلك.
وبهذا سيكون خطاب تنصيبه أول خطاب عن حرب لا يعرف متى ستنتهي.
وإلى جانب خطاب يوم التنصيب، تتجه الأنظار إلى الأحداث غير العادية التي قد تحدث في ذلك اليوم على الرغم من التخطيط الطويل والمحكم لإجراء مراسم تنصيب بدون تعكير أمني أو أحداث شغب. فلا ينسى أحد اللافتة التى رفعت يوم تنصيب الرئيس توماس جيفرسون 1801، تقول «جيفرسون، وليس آدامز، هو الرئيس». فى إشارة إلى عداء رسمي وشخصي استمر سنوات بين جيفرسون، الرئيس الثالث، وآدامز، الرئيس الثاني، إذ أصر جفرسون على أنه أحق بأن يكون نائبا لجورج واشنطن، لكن آدامز (1797 ـ 1801) تغلب عليه، وأصبح جيفرسون وزيرا للخارجية. وبعد وفاة واشنطن، ترشحا لرئاسة الجمهورية، وفاز آدامز على جيفرسون بأصوات قليلة. وبعد أربع سنوات، ترشحا مرة أخرى، وهذه المرة فاز جيفرسون، فكان الانتقام يوم التنصيب.
ونقمة جفرسون على آدامز تشبه نقمة نائب الرئيس الاميركى ال غور على بوش بعد انتخابات 2000، لأن بوش فاز باصوات قليلة في ولاية فلوريدا، ولم يضمن الفوز إلا بعد أن انتقلت المشكلة إلى المحكمة العليا، وحكمت المحكمة لصالحه، غير أن أنصار غور جعلوا يوم تنصيب بوش جحيما بسبب المظاهرات والاعتراضات. كما أن هناك أيضا نقمة معارضي الرئيس اندرو جاكسون (1829 ـ 1837) عليه لأعتقادهم بأنه فاز بالرئاسة بطريقة غير حاسمة 1829، إذ تظاهر المعارضون في حفل التنصيب، وحطموا أيضا كراسي، ونزعوا لافتات، ومزقوا اعلاما، وانتقلت الفوضى إلى البيت الأبيض. وهناك صورة محفورة تصور الفوضى داخل البيت الأبيض، لأن الكاميرا لم تكن اخترعت في ذلك الوقت.