المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغيبة .. أسبابها ونتائجها



bird
01-08-2005, 08:16 PM
إن الغيبة محرم شائع في أوساط المؤمنين وغير المؤمنين، حيث أنهم لا يرون فيه القبح الذي يجدونه في غيره من المحرمات.. فالمحرمات عادة مستبطنة إما للذة كالزنا مثلا، أو لدافع باطل يراه صاحب الحرام كالسرقة أو القتل، أو ما شابه ذلك.. وأما الغيبة ففيها أمران:

أولاً: أن الغيبة عبارة عن كلام يقال، وإشاعة تشاع، وفكرة تبذر في أذهان الآخرين.. فهي حرام سخيف: فليس فيه كسب لمال، ولا استمتاع بلذة.. وهذه من موجبات تشديد العقوبة في الغيبة.

ثانياً: من الأمور التي جعلت الناس يستسهلون الغيبة: أن ملك الغيبة، أو ملكوت الغيبة، كلاهما خافيان عن الناس.. فالإنسان الذي لم تنطمس سريرته وفطرته، فإنه عندما يتجاوز الحد الشرعي يعيش حالة من حالات وخز الضمير بعد كل محرم.. ولكن مع الأسف!.. فإن الإنسان من الممكن أن يغتاب، ويهتك أعراض المؤمنين، من دون ان تأتيهم هذه الملامة الباطنية.. يقول النبي (ص): (إياكم والغيبة!.. فإن الغيبة أشدّ من الزنا، إنّ الرجل قد يزني ويتوب، فيتوب الله عليه.. وإن صاحب الغيبة لا يغفر له، حتى يغفر له صاحبه).


إن الإنسان العاصي في الأمور الغريزية، يرتكب حراما مع من يوافقه في هذا الحرام.. وأما في الغيبة، فإن هناك طرفا غائبا، لا يمكنه الدفاع عن نفسه.. ولذا فقد شبه القرآن الكريم هذه الحالة بأنه أكل للحم ميت: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}.

والغيبة تارة تكون بين فرد وفرد، وتارة بين جماعة وجماعة.. ولعل الأمر هنا أفظع!.. لأن هنالك جهة يسقّطها الإنسان في أعين الآخرين.. ولكل فعل ملك وملكوت، والقرآن الكريم يدلنا على ملكوت هذا الأمر، فيقول: بأن ظاهر الغيبة ما تقومون به، ولكن ملكوته هو أكل لحم ميت.

إن الإسلام من خلال الآيات والروايات، شدد على هذا العمل، لأن هذه العملية مستساغة عند الناس، أضف إلى عظمة تأثير هذا الحرام على بنيان المجتمع.. فالإنسان قد يغتال شخصا، فيقتل مظلوما.. والذي يقتل ظلما إما أن يكون شهيدا، أو له أجر الشهيد.. ولكن الإنسان الذي يغتال شخصية، فذلك الشخص لم يصل إلى درجة الشهداء، لأنه لا زال حيا.. ولكن من خلال اغتيال شخصيته، من الممكن أن يُزج به في طريق الحرام والمنكر.. لأن الإنسان عندما يهتك، فإنه سيعتزل الجماعة المؤمنة، وإذا به بعد فترة يتحول إلى بؤرة من بؤر الإنحراف والإفساد في الأرض.

والمحرمات القولية فيها خصوصيات خاصة بها:

أولاً: أنها معصية سهلة: فالسرقة والقتل والزنا فيها مقدمات متعبة ومكلفة.. بينما المعاصي القولية، كلها تتفق في هذه الخاصية، بأن الدخول فيها سهل، لا يحتاج إلا إلى تحريك اللسان، الذي هو من أكثر الأعضاء تحكما وقيدا.. ويستطيع أن يشغله بالطاعة بدلا من الحرام.. فمثلا إن ذكر: (لا إله إلا الله) وهو أشرف الأذكار، وسيدها.. يمكن استعماله باللسان، والإنسان مطبق شفتيه.

ثانياً: ومن سلبيات المعاصي القولية: أنها لا تتناول عالم الأبدان فحسب!.. فإذا أخذ إنسان مدية وجرح بها بدنا، فإن ذلك البدن يلتئم بعد فترة.. (جراحات السنان لها التيام، ولا يلتام ما جرح اللسان).. وأما الغيبة، فإنها قضية تصرّف في الأفكار وفي الرؤى.. وطبيعة الإنسان طبيعة متأثرة بالقول.. حتى أن النبي (ص) قال: (ما عمر مجلس بالغيبة إلا خرب من الدين).. فمثلا: من الممكن أن يكون هناك إنسان قيادي، ولكن الدعاية القولية من الممكن أن تسقطه من أعين الناس.


والشارع المقدس لم يصب اللوم والعتاب، ولم يشدد النكيرة على المغتاب فقط، بل قال أن الذي يسمع الغيبة، فإنه بسكوته قد أمضى ذلك الفعل.. وعندما يسكت الإنسان عن شيء، فإن معنى ذلك أنه راضٍ عن ذلك الشيء أولا.. وثانيا: فإنه قد ترك إنسانا يشق هذا الطريق الانحرافي دون ردع، لأنه لو ردعه من الممكن أن يعيده إلى رشده.. ومن هنا قال النبي (ص): (فنزّهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فإن القائل والمستمع لها شريكان في الإثم).

ومن الأمور التي تحزن الإنسان، المفاجآت يوم القيامة.. فمن صفات القيامة أنه يوم الحسرة.. عن النبي (ص): (يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله، ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته.. فيقول: إلهي!.. ليس هذا كتابي، فإني لا أرى فيه طاعتي، فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس.. ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه، فيرى فيها طاعات كثيرة فيقول: إلهي!.. ما هذا كتابي، فإني ما عملت هذه الطاعات.. فيقال: لأن فلاناً اغتابك فدفعت حسناته إليك).. فلو كشف الغطاء للإنسان يوم القيامة عن هذه الحقيقة المرة، فإنه لن يتهنأ لا بالحور ولا بالقصور.

إن من موجبات شجب الغيبة والمغتاب، أن نلقن أنفسنا حسن الظن بالمؤمنين، فالإنسان الذي بناؤه على وضع المؤمنين في خانة السلامة دائما، فإنه سوف يتحرز من الغيبة.. قال الإمام الكاظم (ع): (يا محمد!.. كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولا.. فصدقه وكذّبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به، وتهدم به مروّته....).

النهي عن الغيبة من باب إشاعة الفاحشة في أوساط المؤمنين.. قال أمير المؤمنين (ع): (ذوي العيوب يحبون إشاعة معائب الناس، ليتسع لهم العذر في معائبهم).

إن الإنسان المؤمن إذا رأى في أخيه عيبا، عليه أن يستر ذلك العيب ليس بعدم ذكره فحسب!.. بل بالقضاء على موجبات ذلك العيب.. يقول النبي (ص): (يا علي!.. إذا رأيت رجلا على فاحشة ماذا تعمل؟.. قال علي: أستره، قال: إن رأيته ثانيا؟.. قال: أستره بإزاري وردائي.. فقال النبي (ص): لا فتى إلا علي).. أي لا يشيع ذلك في الناس، وفي الخطوة الثانية يقضي على ذلك الأمر.

علينا أن لا نسارع في نقل القول من دون تثبت، فبعض الناس يغتابون لا بنية عدوانية، ولكن يلهج بما ينقل، وهذه درجة من درجات السفاهة التي لا يريدها الشارع.. يقول رجل لعلي بن الحسين -وهو زين العابدين-: (إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال مبتدع، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: ما رعيت حق مجالسة الرجل، حيث نقلت إلينا حديثه.. ولا أديت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه.. إن الموت يعمّنا، والبعث محشرنا، والقيامة موعدنا، والله يحكم بيننا.. إياك والغيبة!.. فإنها إدام كلاب النار، واعلم أن من أكثر من ذكر عيوب الناس، شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه).. قال رسول الله (ص): (مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل مِِن هؤلاء؟!.. قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم).. وقال النبي (ص): (من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلا أن يغفر له صاحبه).. قال النبي (ص): (من اغتاب مسلماً في شهر رمضان، لم يؤجر على صيامه).. وفي عبارة مخيفة: أن الله عز وجل يخرجه من ولايته إلى ولاية الشيطان.

كيف نصلح المفاسد الاجتماعية؟.. إن الإسلام دين الواقعية، فهناك مجموعة من المستثنيات في هذا المجال:

إلقاء جلباب الحياء:

عن النبي (ص): من ألقى جلباب الحياء عن وجهه، فلا غيبة له.

الضيف عندما يقصر في حقه:

قال الصادق (ع) في قول الله {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ}: من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم، فهو ممن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه.. وقال (ع): الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه.

الظلم:

إن الإنسان إذا ذهب إلى قاضٍ، وأحرز ظلمه وأخذه للرشوة، جاز له أن يذكر ظلامته، وأنه أُخذ منه الحق.. لأنه لا يمكنه استيفاء حقه إلا بذلك.

تغيير المنكر:

فمثلا: إنسان يرى شابا مقبلا على نفق مظلم محرم، ولا يمكن الإصلاح إلا من خلال ذكر ذلك لوالده، ليردعه عن هذا الحرام.

الاستفتاء:

كأن يذكر إنسان للمفتي، فيقول: ظلمني فلان في ملك أو ما شابه ذلك.. يريد أن يستفتيه في هذا المجال.. والأفضل أن يقول للمفتي: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه، فقام بكذا وكذا.. زيادة في الحيطة والحذر.

تحذير المسلم من الوقوع في الخطر:

ونصح المستشير، إذا أراد الإنسان أن يقدم على عمل أو زواج أو غيره، أو ما شابه ذلك، فعلى المؤمن أن يقدم يحذر أخيه.

الغيبة العلمية:

وقد مارسها العلماء العدول العظماء، وذلك في مقام البحث العلمي، وجرح الرواة. إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها، فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي، فإن ذلك جائز.. ومع ذلك يقولون: بأن الأولى تنزيه النفس واللسان عن ذلك، لعدم وجود غرض راجح.. فعلى المؤمن أن ينزه سمعه ولسانه عن ذلك.


ولكن المصيبة في تلبيس إبليس، كأن يقول إنسان: الحمد لله الذي نجاني مما ابتلى به فلان.. فهو يريد بذلك أن يعرض بالآخرين الذين ابتلوا بذلك.. أو يقول: فلان إنسان مؤمن طاهر، لولا العمل الكذائي.. أو الأمر قد يكون أكثر خفاء.. كأن يقول: يا فلان!.. أطلب منك الليلة أن تدعو لفلان في جوف الليل، لأنه وقع في ذلك الإثم العظيم.. فادعوا له بالهداية!.. فإن للشيطان طرقه الخاصة، في أن يلبس الباطل بالحق.. ومن هنا وجب علينا الحذر، قال أحدهم: إن ترك الحرام بقول مطلق، لا يتم إلا من خلال المراقبة الدقيقة، فإن من لا يراقب نفسه مراقبة دقيقة، فإنه سيرتطم بالحرام.. كمن دخل السوق من غير فقه، فإنه يرتطم بالربا ارتطاما، كالسفينة التي ترتطم بجبل ثلجي.

عندما يندم الإنسان على ارتكابه لهذه المعصية، فإنه لا يرجح له أن يذهب إلى كل من اغتابه ليكشف ستره، لأن بذلك ستزيد الفجوة بينهما.. سئل النبي (ص): ما كفّارة الاغتياب؟.. قال: (تستغفر الله لمن اغتبته كلمّا ذكرته).. حيث إن رب العالمين يجمع هذه الاستغفارات المتوالية، فإذا جاء يوم القيامة وطالب بحقه، يكون له من المخزون ما يدفعه له، بدل أن يأخذ من حسناته.. فيعطيه الاستغفار والصدقة، وما قام به من الصالحات في هذا المجال.

نقلا من شبكة السراج