المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسالة المرجع فضل الله إلى مؤتمر الجماعة الإسلاميّة في أمريكا وكندا المعقود في شيكاغو



سيد مرحوم
01-08-2005, 03:56 AM
نصُّ الرّسالة التي وجَّهها سماحة العلاّمة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله
إلى مؤتمر الجماعة الإسلاميّة في أمريكا وكندا
الذي عُقد في مدينة "شيكاغو" بين 24 و 26 كانون الأول 2004 م.


http://tahqeq.jeeran.com/5ف55ف5ف5555.jpg








يواجه الإسلام في هذه المرحلة التّاريخية أكثر من مشكلة داخلية وخارجية، تدفع بالواقع الذي يتحرَّك فيه إلى بعض الاهتزاز في حركة إنسانه في ذاته، في تصوّراته وتطلّعاته وحركته وعلاقاته بالحياة وبالآخرين، كما يواجه في الأوضاع الخارجية من حوله التحديات الكبرى على صعيد الثقافة والسياسة والاجتماع والأمن، الأمر الذي يجعله في حالة صراع قويّ مع الآخرين من جهة، ومع التيارات والاتجاهات المتنوّعة المحيطة بساحته العامة من جهة أخرى.

ففي الواقع الداخلي، نلاحظ انكماش الشخصية الإسلامية الإنسانية العالمية التي تنفتح على عالم الإنسان كلّه، لتنغلق على الدوائر القومية والإقليمية والعرقية والطائفية والمذهبية، الأمر الذي أدّى إلى تنوّع الشخصية وتعدّدها وابتعادها عن الأفق الرسالي في شخصية النبي محمد (ص)، في أفق الدعوة الشاملة في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}(الأنبياء/107)، {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}(الأعراف/158).. حيث ضعف الإسلام في نفوس المسلمين، من خلال الحواجز التي أُقيمت في داخل الإنسان المسلم ضدَّ المسلم الآخر، ما أفقد المسلمين معنى الأمة في شخصيّتهم الإسلامية..

وإلى جانب ذلك، برزت العصبيّات في هذه الشخصيّات، في عملية تجاذب وانغلاق يختزن الكثير من السلبيات النفسية والسلوكية، بحيث تحوّل الأمر إلى لونٍ من ألوان التنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى التنافر والتقاطع، كما لو كانت كل شخصية منفصلة انفصالاً كلياً عن الشخصية الأخرى، ما يوحي بالعصبية الفئوية، وخصوصاً في نطاق المسألة المذهبية التي عاشت تاريخاً عنيفاً من الخلافات الدّامية، بالمستوى الذي يكفّر فيه أتباع هذا المذهب أتباع المذهب الآخر، بحيث يستحلّ بعضهم دماء البعض الآخر وأموالهم وأعراضهم، بما لا يستحلّون به أوضاع أتباع الأديان الأخرى، على أساس أنهم أهل ذمّة وعهد، ولا ذمّة ولا عهد ـ عند هؤلاء ـ للمسلمين الآخرين من المذهب الآخر..

وما زالت هذه الذهنية تفرض نفسها على الواقع الإسلامي، من خلال التطوّرات السياسية التي عصفت بالمسلمين في المتغيّرات العالمية، وفي الاحتلالات الاستكبارية لبلادهم التي أدّت إلى الكثير من الاهتزازات النفسية والواقعية، وإلى المزيد من التعقيدات العملية، حتى بدأ الإعلام يتحدَّث عن إمكانات حرب أهلية في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، بفعل الصراع المذهبي على مستوى الثقافة والسياسة والاجتماع، ما ينذر بالسقوط الحضاري للامتداد الإسلامي في ذهنية الأمّة كلِّها، لما تفقده من معناها في التجاذبات العصبية المتحركة من خلال التاريخ في عصرنا الحاضر..

ولعلَّ من الخطورة في هذا التطوّر التراجعي ـ إن صحَّ التعبير ـ أنَّ الأمَّة أصبحت تعيش في الماضي وتستغرق في خلافاته ومنازعاته وحروبه، بالدرجة التي تغفل فيها عن تحدّيات الحاضر الموجَّهة إليها من خلال تحالف الكفر والاستكبار العالميين، اللّذين يخطّطان لإبعاد الأمة الإسلامية عن موقع الوحدة وحركة الفعل في الواقع الإنساني العالمي، لتبقى على هامش الدول الاستكبارية في ثقافتها واقتصادها وأمنها وسياستها، فلا تمارس أيَّ دورٍ لأوضاعها الخاصة في قراراتها وخططها الاستراتيجية، ولا تتوفّر على استغلال ثرواتها الطبيعية من أجل تحقيق مشاريع الاكتفاء الذّاتي في حاجاتها الاستهلاكيَّة، وتطوير اقتصادها في عملية الاستيراد والتصدير، بحيث تتحوّل إلى قوّةٍ اقتصادية من خلال ما تملكه من ثروات طبيعية هائلة يتوقَّفُ رخاء العالم عليها، حتى إنها لو امتنعت عن إمداده بها لفَقَدَ العالم تطوّره ورخاءه.

إنَّ المشكلة هي أنّ المسلمين لا يزالون يفكّرون في الدوائر الصغيرة المغلقة، بعيداً عن التفكير في الدائرة الإسلامية الواسعة المنفتحة على قضاياها الحيوية وامتداداتها البشرية، وعلى الأوضاع الحركية في العالم كلّه، في الوقت الذي يحاول الآخرون من المستكبرين إغراق الواقع الإسلامي بالخلافات الداخلية المعقّدة المثيرة للحساسيات المذهبية، كنار مشتعلة تحرق الأخضر واليابس في الأرض كلها.

وفي جانب آخر، فإنّ دعوة الوحدة الإسلامية التي تخطِّط لالتقاء المسلمين على مواضع اللقاء في الكلمة السواء، وعلى الحوار حول مواضع الخلاف، لا تزال تواجه الكثير من التعقيدات الثقافية، من خلال إثارة بعض الأمور المتصلة بتفاصيل العقيدة والشريعة، بعيداً عن المنهج العقلي العلمي المتميّز بالهدوء الفكري والموضوعيّة العلميّة، لأنّ القضيّة عندهم ليست قضية الوصول إلى الحق، بل إسقاط الآخر بالطريقة التشهيرية أو الجدلية، على أساس تسجيل كل فريق النقاط السلبية على الآخر، بدلاً من تجميع النقاط الإسلامية في واقع الذهنية العامة للأمة.

وفي ضوء هذا، لم تعد المسألة مسألة اختلاف اجتهادي في هذا الموضوع أو ذاك، بل تحوّلت مسألة التعدّدية الإسلامية إلى فواصل مزروعة بين المسلمين، حتى بدأ البعض يتحدث عن "إسلامَين" أو "إسلامات" متعددة، ليثير في مواجهة الدعاة إلى الإسلام سؤالاً حاسماً متحدياً: عن أيّ إسلام تتحدّثون؟ وإلى أيّ إسلام تدعون؟ وهل يمكنكم التوحّد حول إسلام واحد أصيل لندخل في الحوار معكم حوله، في عملية النظرية والتطبيق؟

ويتحدث بعض دعاة الوحدة عن القاعدة الثابتة في هذه المسألة، أنها لا تعني إلغاء الاختلافات الاجتهادية في التفاصيل، بل اللّقاء على أساس الوحدة في الأصول الذي يمثل الاعتصام بحبل الله جميعاً، والكلمة السواء، لنقف جميعاً على أرض إسلامية مشتركة، ثم لنثير الحوار في الأمور المختلَف عليها، على هدى قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}(النساء/59)، الأمر الذي يتمثّل فيه التنوّع في الوحدة أو الوحدة في التنوّع، ما يؤدي إلى غنى في الفكر في تنوّعاته، بدلاً من الفقر في الدخول في الجدل العقيم، وإلى الثبات في المنهج بدلاً من الفوضى في مفردات الخلاف..

هذا إضافةً إلى مواجهة التحديات الكبرى ضدَّ الإسلام، والتي تعمل على إثارة لهذا الفريق الإسلامي في مرحلة بفعل مصالح الاستكبار، لينتقل إلى عنصر الإثارة في مرحلة أخرى للفريق الإسلامي الآخر، في خطة إسقاط متنقّلة متحركة في ساحة الصراع، كما نلاحظ في الواقع المعاصر عندما كان الحديث عن "إرهاب شيعي" في حركة الثورة الإسلامية في إيران، ثم عن "إرهاب سنّي" في حركة الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول، لتحييد هذا الفريق عن الحرب ضد الفريق الآخر، فلا ينطلق المسلمون في مواجهة التحديات ضد الاحتلال صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص.. ولا سيّما في نطاق خطّة الإثارة لبعض الأوضاع الداخلية الحادّة التي يستغلُّها المستكبرون، للإيحاء للمسلمين بأنهم يتدخّلون ـ في احتلالهم ـ لتحريرهم من الطاغية الذي وظّفوه عندهم ليحقِّق مصالحهم في الماضي، فيغفل المسلمون عن كارثة الاحتلال الكبرى بسبب ذلك.

وتبقى هناك الكثير من السلبيات في الواقع الإسلامي، ولا سيّما في الجانب الأخلاقي على الصعيد الفردي والاجتماعي، التي تستدعي أن نعمل على تمثّل شخصية النبي محمد (ص) الأخلاقية الشمولية التي تحدَّث القرآن الكريم عنها في موقع السلوك الإنساني مع الفرد والمجتمع والعائلة، وفي حركة القيادة المنفتحة على العناصر المرتبطة بالانفتاح على عقل الإنسان الآخر وعاطفته وتطلّعاته، وبالأساليب والوسائل الحركية في اختيار الطريقة الممتدَّة في الحكمة في رصدها لواقع الشخص وللظروف الموضوعية المحيطة به، وبالروح التي ترقُّ وتلين لتنفتح على ما يحفظ للآخر كرامته، ليحترم فيه إنسانيته، وليحتضن مشاعره وإحساسه، لأن الدعوة من أجل اقتناع الإنسان، والقيادة في رعاية أموره، ليست مجرد حالة فكرية أو حركية تقليدية، بل هي مسألة تتصل بانفتاح شخصية الداعية والقائد بكلِّ عناصرها على واقع المدعوّ بكل آفاقه وتطلّعاته وعناصر شخصيته..

وهكذا، ينبغي للقائمين على شؤون العمل الإسلامي أن يعيشوا أخلاقيَّةَ الإسلام كلّه على صعيد المنهج الأخلاقي القرآني، وعلى مستوى القدوة في شخصية الرسول (ص)، لأن المجتمع عندما يأخذ بأسباب الأخلاق، فإنه يملك الامتداد في المجتمعات الأخرى ـ على مستوى العلاقات والمعاملات ـ على أساس الثقة والمحبّة والانفتاح، لينعكس ذلك إيجاباً على مبادئ الدعوة والانتماء التي تجذب الآخرين في أخلاقيتها المنفتحة عليهم.

وفي هذا الجانب، يمكن أن نطلَّ على عنوان الإسلام في أمريكا؛ هل هو نحو الازدهار أو الاندثار؟ لنؤكد أنّ حيوية الإسلام الثقافية، وخطوطه الإنسانية، وأساليبه الروحية، ووسائله الواقعية، يسمح له بالنموّ والازدهار والامتداد في شخصيَّة الإنسان الأمريكي الذي يمثل التنوّع الإنساني العالمي، باعتبار أن مجتمع أمريكا ليس مجتمعاً واحداً، بل هو مجتمع مختلط متعدد ومزيج من أمم متعددة، ومن بلدان مختلفة، ما يمكن معه أن ندرس عادات وتقاليد وذهنيات تلك الشعوب، لنغتني بدراسة أوضاعهم من جهة، وتنمية وسائلنا وأساليبنا في حق الدعوة والحوار معهم من جهة أخرى، إضافةً إلى مسؤولية الإنسان المسلم في التعامل مع المجتمع الأمريكي بالاحترام والمرونة، والانفتاح على كلِّ قضاياهم وأوضاعهم العامة، ورعاية مطالبهم الحياتية على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني والإنمائي، بحيث يشعرون بمشاركة المواطن المسلم لهم في كل أمورهم الحيوية والمصيرية، الأمر الذي يجعلهم ينظرون إلى الإسلام من خلال شخصية الإنسان المسلم الأخلاقية التي تعيش مع الشعوب الأخرى في عملية اندماج مجتمعي يحتفظ فيه الإنسان بهويته، ويتفاعل مع الآخرين بالأوضاع العامة، فيلتقي معهم بما يحفظ للوطن الذي يقيم فيه أموره العامة، ويلتزم خصوصيته بما يحفظ له هويته.. ولعل هذا التنوّع في الشعب الأمريكي في اختلاف الهويات القومية والدينية يساعد على ذلك، لأن هؤلاء لا يتنكّرون لهويتهم الخاصة، في الوقت الذي يعيشون التلاقي مع أفراد المجتمع كله.

إنَّ مسألة الاجتماع الأمريكي الانصهاري في واقع المسلمين، لا يعني الذوبان المطلق الذي يفقد الإنسان معه تاريخه وانتماءه الديني والقومي، ولكنه يعني الانفتاح على واقع المواطنة الجديدة في مسؤوليّاتها وحاجاتها وتطلّعاتها، وإحساسه بأنه جزء من الوطن في تعامل الجزء مع الكلّ بواقعية واندماج.

أمَّا مسألة الأدوار الفاعلة في التعامل مع الدعاية المضادَّة للإسلام، فلا بدَّ من تحريكها في الخطوط الثقافيّة والإعلاميّة التي تشرح حقائق الإسلام في احترامه لإنسانيّة الإنسان، وفي الاعتراف بالآخر، وفي إيمانه بالحوار كحلٍّ حضاريّ للتفاهم بين الشعوب، وحلّ الخلافات بين الناس، ورفض العنف في العلاقات العامة، ولا سيّما في الاختلاف السياسي، وإدانة الإرهاب ضدَّ الأبرياء، مع التفريق في مفهومه بينه في الهجوم على المدنيين، وفي مواجهة قضايا الاحتلال من أجل التحرر من عنف الفرد والدولة في ما لا حق لها فيه.. والتأكيد على السلام للعالم كله، والعدل بين الناس، واعتبار الجهاد حركة دفاعية أو وقائية لا عدوانية هجومية، والتخطيط لحوار الحضارات بدلاً من صراع الحضارات، إلى غير ذلك من الخطوط الإنسانية الإسلامية في قضايا الحريات المسؤولة وحقوق الإنسان.

أيُّها الأحبة:

"كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الصدق والخير والورع، فإن ذلك داعية".. وانطلقوا لتوحيد كلمتكم، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، وأبعدوا كل صوت للفتنة عن مجتمعكم ومؤتمركم، {وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}(المائدة/2).. واتقوا الله في عباده وبلاده.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مع محبتي ودعائي
السيد محمد حسين فضل الله



مكتب سماحة المرجع آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
بيروت:19ذو القعدة 1425 هـ/31 كانون الأول2004م