كوثر
08-31-2012, 02:09 AM
29 آب 2012
بقلم : مصطفى قطبي
لقد تحوّل ربيع تونس إلى ربيع سلفي وهابي ترهيبي، كل واحد فيه ينصّب نفسه قاضياً، ويقيم محكمته الخاصة ليجيز القتل والحرق وبتر الأعضاء وإصدار الفتاوى وإعلان ''الجهاد'' لإقامة الإمارات الإسلامية في طول البلاد وعرضها.
الرباط/ البديع ـ كيف تحوّل ربيع تونس على يد السلطات الجديدة، إلى ربيع مسموم: فوضى وتمرد ودعوات إلى القتل والاقتتال وفتنة طائفية وإسقاط رموز الدولة الوطنية؟ وربما الأصح أن نسأل: كيف حوّلت السلطات ربيع تونس إلى ربيع مسموم؟
وهل من أجل ذلك قامت الثورة في تونس؟
لقد تحوّل ربيع تونس إلى ربيع سلفي وهابي ترهيبي، كل واحد فيه ينصّب نفسه قاضياً، ويقيم محكمته الخاصة ليجيز القتل والحرق وبتر الأعضاء وإصدار الفتاوى وإعلان ''الجهاد'' لإقامة الإمارات الإسلامية في طول البلاد وعرضها.
فبعد عام ونصف عام على ربيع تونس هناك مئات آلاف العاطلين عن العمل، والمستثمرون والشركات يفرون جماعات جماعات من البلاد... وبعد عام ونصف عام تنقسم تونس إلى شارعين متواجهين: علمانيين وسلفي، وبينما يخرج العلمانيون رافعين اللافتات والشعارات، يخرج سلفيون بالسيوف والرايات السوداء ودعوات القتل والاقتتال وإسقاط الدولة العلمانية، فتونس كانت بالأمس رائدة العلمانية والحقوق الاجتماعية وخصوصاً حقوق المرأة، لكن اليوم، يريد السلفيون إعادتها إلى عصر الجواري.
فلم يستوعب جوهر الثورة وقيمتها، لقد أضفى قراءاته الأيديولوجية على حدود الفقراء المهمشين، فحاد بالثورة عن مسارها الحقيقي، والتجاذبات السياسية التي يشهدها المشهد السياسي العام هو أحد الإفرازات المكشوفة.
ففي مرحلة مابعد الثورة، و تحديداً منذ أن استلم حزب النهضة السلطة، تزايدت العلامات التي تظهر ''أسلمة'' المجتمع التونسي، ومنها سيطرة المجموعات السلفية على مئات المساجد في كامل تراب الجمهورية، من خلال تنصيب أئمة يدينون بالولاء للسلفيين، الذين بدؤوا يمارسون العنف ضد المجتمع المدني، تجلى ذلك في الاعتدءات العنيفة المتكررة على أساتذة جامعيين ومثقفين معروفين بانتماءاتهم الأيديولوجية العلمانية والليبرالية، والقيام بالغزوات ''المقدسة''.
لقد طفت أخبار المجموعات السلفية على سطح المشهد السياسي التونسي، وعادت مظاهر العنف والفوضى والغزوات ''المقدسة'' ضد قطاعات واسعة من التونسيين، وأصبح لافتاً تنامي سريع ومريب لسطوة التيارات السلفية الوهابية التي لم تتردد في أكثر من مناسبة بالتهديد بـ''حرب دينية، من أجل تطبيق شرع الله'' وبناء '' دولة الخلافة الراشدة'' و''رفض مدنية الدولة'' و''النظام الجمهوري العلماني الكافر''.
كل ما سبق ليس كلامنا حتى لا يتهمنا أحد بالدفاع عن مرحلة ''بن علي''، أو أننا نتحامل على الغنوشي ومسؤوليه... ما سبق يؤكده حرفياً الرئيس التونسي ''منصف المرزوقي''، حيث شبّه ممارسات حركة النهضة، أو الحزب الحاكم، بممارسات الرئيس المخلوع ''زين العابدين بن علي''، وذلك بالسيطرة على مختلف دواليب الحكم وتعيين أتباعه في مختلف المراكز الحساسة للدولة إلى جانب المماطلة في تحقيق التنمية.
وقال المرزوقي ''ومما زاد الطين بلة الشعور المتفاقم بأن إخواننا في النهضة يسعون للسيطرة على مفاصل الدولة الادارية والسياسية عبر تسمية أنصارهم توفرت بهم الكفاءات أم لم تتوفر وكلها ممارسات تذكر بالعهد البائد''.
ولفت إلى أن ''كل هذا لايزيد إلا من حذر مشروع، إزاء إصرارهم على النظام البرلماني والحال أننا لدغنا من هذا الجحر مباشرة بعد الإستقلال وعانينا نصف قرن من تبعات حزب بن علي، وأن تحصل على أغلبية بصفة ديمقراطية، للسلطتين التنفيذية والتشريعية في بلد هيأته القرون للدكتاتورية لا للديمقراطية''.
وتوقع محللون بداية تصدع في صفوف التحاف الحاكم في تونس، وذلك بعد اتهام الرئيس منصف المرزوقي حزب النهضة (بالترويج للوهابية).
يودع التونسيون فرحة لم تكتمل، هزمت أحلامهم بالديمقراطية والإصلاح بوجود (النهضويون)، عادوا إلى المربع الأول، حيث لغة القمع والميليشيات السلفية الجديدة تتصدر المشهد، اليوم أيضاً لايحق لهم أن يثوروا ضد حكامهم الإسلاميين، عليهم أن يستعدوا إلى ما هو غير متوقع.
تغيرت الخارطة في تونس، ورسمت عكس مايتمنى الثوريون وأصحاب الآمال العريضة بالديمقراطية والإنجازات والحضارة، عاد هؤلاء إلى بداية الطريق، إلى الشوارع أملاً بأن تنصفهم كما فعلت سابقاً، لايرغبون بالانزلاق نحو مصير مشابه لما حدث لبعض جيرانهم الأفارقة ممن يشتركون معهم بالمصير.
ينشد الثوريون في تونس نشيد ظلم أقسى وأشد بعد أن سلبت مقدراتهم الفكرية منهم، يرفضون التنحي خدمة للإسلاميين الجدد، يرفضون إخلاء الساحات والإيحاء بأن شيئاً لم يحدث في تونس بعد الثورة، ربما كانت ثورة مزيفة أو الأصح أنها ثورة زيّفها من جلس على عرش الحكم اليوم، لكنه لن يستطيع خداع التونسيين أكثر.
''أسلمة'' المجتمع التونسي اتخذت طابعاً عنيفاً واضحاً من جانب المجموعاتالسلفية، التي استفادت من التواطؤ المكشوف من قبل حزب النهضة الموجود في السلطة،الذي يحتوي في داخله تياراً سلفياً متشدداً.
فمن يرعى حرب السلفيين في تونس؟ هل هو حزب النهضة، أم جهات خارجية أصبحت لاعباً أساسياَ في دول ما يسمى ''الربيع العربي'' أم القاعدة التي دعا زعيمها ''أيمن الظواهري'' سلفيي تونس إلى الدفاع عن الشريعة الإسلامية والانقلاب على حكومة الإسلاميين؟
بغضّ النظر عن الراعي وعن صدق الدعوات وصحة المعلومات، فإن هذه الحرب تتسع كل يوم، تمتد إلى مناطق تونسية جديدة لفرض هيمنة المدّ السلفي الوهابي الساعي إلى تغيير الواقع من خلال خلق الأزمات والقيام بأعمال عنف وتخريب في محاولة من السلفيين لتفصيل تونس جديدة تكون على مقاس شريعتهم الخاصة، وخاضعة لمنطقهم المتطرف.
فالسلفيون الذين كانوا تياراً متوارياً لا حسّ لهم ولاخبر طيلة فترة حكم ''زين العابدين بن علي''، والذين نأوا بأنفسهم عن الثورة وعن الخوض في غمارها، وحافظوا على موقع المتفرج والمترقب لما ستؤول إليه الأمور، يستغلون اليوم مفرزات هذه الثورة بدءاً من الحريات وانتهاء بالفوضى وعدم الاستقرار، أي يحاولون فرض نمط عيش معين على المجتمع يتلاءم وشريعتهم الخاصة.
فقد قال ''سيف الله بن حسين'' الناطق الرسمي بإسم حركة ''أنصار الشريعة''، وهي جماعة سلفية جهادية: ''نحن لانعترف بحكومة لا تحتكم إلى شرع الله''.
وأضاف، ''نحن مشروعنا هو إعادة الثقة بأن الحكم بالشريعة هو الضامن لحياة رغدة لهذا الشعب...وحراكنا في هذه المرحلة هو تمهيد لقيام دولة الإسلام''.
ويرى عدد من المتابعين للشأن العام التونسي أن الثورة التونسية تتجه نحو دكتاتورية دينية وأن المسار الديمقراطي يواجه تحديات خطيرة قد تؤدي إلى إعادة سيناريو الجزائر.
ويبقى السؤال المطروح دائماً:
لماذا يتجرأ السلفيون على رفع وتيرة العنف في البلاد؟
وكيف انقلبوا فجأة من تيار تحت السطح إلى مشكلة حقيقية وأزمة تضرب في عرض البلاد وطولها؟
وكيف أصبح السلفيون مصدر إرهاب؟
ولماذا تسكت هذه الحكومة عن تجاوزاتهم وتحدّ من ممارساتهم الاستفزازية؟
رغم أنها وصفتهم بأنهم مصدر إرهاب؟
كل ماسبق، أسئلة لاتفضي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أن السلفيين يتسلحون بتواطىء من حكومة ''الجبالي'' لفعل كل ما يقومون به، وإلا لماذا هذا الصمت المطبق من جانب مسؤولي الحكومة الذين لم يكلف أحدهم نفسه ليقول شيئاً أو يتخذ موقفاً مطمئناً للشعب سوى وصف هذه الأعمال بالإرهابية كنوع من الترويج الإعلامي ليس إلا.
يتوسل السلفيون على اختلاف ألوانهم ومشاربهم في تونس العنف، لكن النموذج المجتمعي الذي يدعون إليه خطير.
فرؤيتهم إلى المجتمع ضيقة الأفق، وهي ثمرة مشكلة مزدوجة مع الماضي والحداثة على حد سواء، ويُخشى أن تفضي إلى حروب وفتن.
فهناك ارتباط عضوي تنظيمي ولوجستيً ومالي بين التيار السلفي المتشدد في تونس، وبين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والإسلاميين المتشددين في ليبيا، حيث يتدرب الشباب التونسي المتطرف في معسكرات بليبيا، ويحاول إنشاء معسكرات تدريب في تونس وفي صالات الرياضة.
ويؤكد المختصون في دراسة جماعات الإسلام السياسي، أن ''راشد الغنوشي'' هو نفسه ''سلفي الفكر والعقيدة والمنهج'' وهو ''يحاول استغلال مساحات الحرية التي تعيشها تونس بعد الثورة لـ ''إقناع التونسيين بأن النهضة حزب سياسي في خطابه العلني، وبالمقابل ينتهج خطاب عقائدي لا فرق بينه وبين خطاب أمراء السلفية الجهادية''.
الوضع في تونس بات يشبه إلى حدّ كبير الوضع في ليبيا، فالمسلحون هنا يرفضون سلطة حكام ليبيا الجدد، ويستمرون في الاقتتال فيما بينهم ومع غيرهم دون أن تجرؤ الحكومة على الاقتراب... يقابلهم في تونس السلفيون والقاعديون الذين يرفضون سلطة حزب النهضة ويستمرون في محاولات فرض قوانينهم المتطرفة دون أن يقترب منهم أحد، لا من الرئاسة ولا من الحكومة.
وكما أن ليبيا تعيش أجواء الحرب الأهلية والاقتتال والانقسام، فإن تونس تبدو على خطاها، وهذا ليس قولنا، بل قول التونسيين أنفسهم الذين انتفضوا على الإهانة مطلقين ناقوس الخطر من السلفيين والقاعديين، قائلين: إذا كان النظام السابق سلبنا حريتنا لأكثر من 23 سنة، فإن هؤلاء سيسلبوننا إياها مدى الحياة... ولا ننسى أن هؤلاء كان لهم أكثر من محاولة لإقامة إمارات إسلامية في الشمال.
فالتونسيون باتوا يتحدثون بصورة أكبر عن حرب أهلية يجاهر السلفيون بسعيهم إليها، بينما السلطات القائمة لاتحرك ساكناً، لا فعلاً ولا قولاً.
والمنطق السياسي السليم يقول إن فرض الدولة الرقابة على الجوامع والمساجد واجب.
ولايجوز أن يكون هناك تباين بين استراتيجية الحكومة و استراتيجية حزب النهضة.
فالحزب يشن حرباً ثقافية ضد النهج العلماني للدولة التونسية من خلال إفساحه في المجال لدعاة السلفية الوهابية لكي يسرحوا و يجولوا في تونس كما يحلو لهم من دون التعرض للمواجهة و الملاحقة القانونية، علماً أن المجتمع التونسي منفتح وينبذ العنف ويلفظه.
وإزاء استفحال تمظهرات الإسلام الوهابي، قال الباحث في الإسلام السياسي ''كمال الساكري'' ''نحن نعيش بداية فتنة حقيقية في تونس، فالوهابية السعودية لها موطىء قدم ما فتىء يتعاظم في بلادنا بفضل البترودولار والأئمة القادمين من دول الخليج [الفارسي].
وأضاف ''ثمة أطراف خليجية كالسعودية وقطر تمول عملية فتنة طائفية في تونس والرمي بالبلاد في أتون معركة بين المذاهب''.
وفي هذا السياق، أكد وزير الثقافة التونسي ''مهدي مبروك''، ''أن محاولات نشر الوهابية من خلال دورات تشرف عليها الجماعات السلفية بالمدن التونسية أمر مدعاة للفتنة، بخاصة وأن علماء الزيتونة تصدوا للمذهب الوهابي منذ مطلع القرن العشرين''.
وندّد الوزير التونسي، مهاجمة الجماعات السلفية لعدة مهرجانات فنية وثقافية عقدت في عدة مدن ولفت ''أن هذا يخالف ما تعوّد عليه التونسيون من تنوع ثقافي وفكري وانفتاح على الثقافات والفنون، مؤكداً أن ما يجري الآن هو محاولة لإحلال المذهب الحنبلي الذي يعتنقه الوهابيون بديلاً للمذهب المالكي، وهو السائد في تونس''.
فما حدث في القيروان وقابس وبنزرت هو نفخ في شرارة الفتنة وضرب لوحدة التونسيين وطعن للثورة في الظهر.
وكون الفرصة لاتأتي كل يوم، ولأن ثورات الربيع العربي الزائفة يستطيع كل من يتحكم بها أن يفصلها على قياسه وقياس أزلامه، فكان أن خان حكام تونس الجدد الإعلام الوطني.
فقد ازدادت الانتقادات لحزب النهضة الحاكم بسبب التراجع في حرية التعبير، تحت شعار رفض المسبا لمقدسات، وتجريمه في نص الدستور الجديد باقتراح من حزب النهضة، الأمر الذي اعتبرته الأحزاب العلمانية واليسارية والقومية بأنه يشكل انتكاسة وتراجعاً كبيراًفي حرية التعبير، ويؤسس لإرساء رقابة شديدة باسم الدين، ويمثل في الوقت عينه تحولاً في خطاب حزب النهضة، حيث كان قبل الانتخابات يتبنى ''خطاباً مدنياً لإرساء دولة حديثة''، لكنه بعد ذلك تحول إلى ''موقع أكثر ارتباطاً بالدين واحتكاره سياسياً''.
وبعيداً عن كون الإعلام خاض غمار (الثورة) في تونس أم لا، فليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في إصرار حزب الغنوشي على رمي عجزهم وخيبتهم في احتواء أزمة البلاد على عاتق الآخرين المتمثلين في رجال الإعلام، الذين باتوا أعداء حزب النهضة الحاكم، الذي لم يوفر جهداً في تكميم حرياتهم، ومصادرة أصواتهم التي لا تنطق بما يريد حزب النهضة سماعه منها.
فالمضحك المبكي، أن حديث ''الجبالي'' يوحي أن لا أزمة في تونس سوى أزمة الإعلام الوطني.
فماذا عن البطالة والفساد والتظاهرات اليومية، والاعتصامات، وتحكم المتأسلمين في حال البلاد والعباد بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان؟.
هذه تونس، تونس المسمومة، لقد تلاشت الآمال وانتهت ''الثورة'' في تونس إلى مجرد رقابة صارمة وتعصب متنام وبطالة... تلك هي النتيجة التي خلص إليها روبرت فيسك الصحفي البريطاني الشهير، وذلك في تحقيق مصور بجريدة الغارديان حول تونس. ويضيف فيسك، أن ما يقض مضجع التونسيين هذه الأيام ليس فقط اعتقال الصحفيين، بل ثمة حقائق أخرى لايمكنهم الهروب منها أو تجاهلها، ومنها حقيقة وجود أكثر من 800 ألف من أصل الملايين العشرة من سكان البلاد هم الآن عاطلون عن العمل.
فمعدَّل النموفي البلاد خلال عام الثورة بلغ صفراً في المائة، إذ غادرت أكثر من 80 في المائة من الشركات الدولية تونس بعد اندلاع تلك الثورة.
ويتساءل فيسك: ''لقد بدأتالنساء بارتداء النقاب، وأخذ الرجال يطلقون لحاهم ويرتدون ألبسة على الطرازالأفغاني، والحكومة لم تفعل شيئاً.
تُرى، هل قام حزب النهضة بدعم السلفيين بذلك؟''.
هل هذا ما أراده التونسيون الذين فتحوا أبواب ما يسمى الربيع العربي؟
نحن هنا لا نشكك مطلقاً بحسن نيات التونسيين وصدق ثورتهم من أجل حياة ومستقبل أفضل، ومن أجل تونس أكثر استقراراً وأمناً، لكننا نحمل معهم المخاوف والقلق نفسه إزاء ذلك المستقبل الذي أرادوه ناصعاً، بينما حزب النهضة السلفي ممن قَادَته المخططات الخارجية إلى واجهة المشهد، يريده مستقبلاً متطرفاً أسود، ويريد العودة بالبلاد إلى عصور الجاهلية... تونس حولها (النهضويون) إلى آثمة تحاسب على حريتها وأفكارها المتقدمة، وتوضع في رقبتها مشنقة متنقلة تقتلها في اليوم الواحد آلاف المرات.
ففي ظل التجاذبات السياسية الحادة، ترى الأحزاب والتنظيمات اليسارية التونسية أنّه بعدالانتخابات اتضح أن الحكم الحالي مازال يعمل بنفس آليات النظام السابق ويكرّس نفس العلاقات مع القوى الأجنبية من خلال تجديد التحالفات وآخرها الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة وتكريس الاتفاقيات المشتركة مع الاتحاد الأوروبي. كما تمت ملاحظة التوجه الليبرالي في السياسة الاقتصادية للحكومة التي يرأسها ''حمادي الجبالي''،مايعني حسب تعبير هذه القوى اليسارية والقومية أنّ هذه الحكومة تسير في الاتجاه المعاكس لأهداف ثورة الياسمين.
وفي هذا السياق هاجمت ''الجبهة الشعبية'' حزب ''النهضة''، وقالت إن التونسيين ''لم يجنوا من ثورتهم سوى مزيد من التفقير والتهميش والاستبلاه والتسويف''، متهمة الحكومة بـ ''السمسرة بدماء شهداء الثورة وجرحاها''.
ويتساءل الكثيرون عمّا آلت إليه تونس بعد الثورة، كالكتاب التونسي كالكاتب ''عبدالحميد قماطي'' الذي يقول: ''لقد أعطت تونس للعالم أبطالاً عظاماً مثل هانيبعل وجوغورثا وابن خلدون... فعَلام نجلب إلى هنا هؤلاء السلفيين والإسلاميين والوهابيين والأفغان والواعظين الذين يتحدثون عن بتر الأعضاء ويصدرون الفتاوى، وهم لا علاقة لهم بحضارتنا وبفكرتنا عن الدين وبقيمنا التي تطورت على مرّ آلاف السنين؟''.
وأخيراً وليس آخر، فالوجه الاخضر الذي اعتاده بعض العرب والتونسيون لن يغيب طويلاً، فالشرفاء وأحرار تونس الخضراء، عادوا إلى النضال من جديد، لا يتخوفون من مشنقة (النهضة) ولا يعرفون تراجعاً عن مطالبهم، اختصروا شعارهم: الشعب التونسي يريد اجتثاث الخوف والتخلف.
بقلم : مصطفى قطبي
لقد تحوّل ربيع تونس إلى ربيع سلفي وهابي ترهيبي، كل واحد فيه ينصّب نفسه قاضياً، ويقيم محكمته الخاصة ليجيز القتل والحرق وبتر الأعضاء وإصدار الفتاوى وإعلان ''الجهاد'' لإقامة الإمارات الإسلامية في طول البلاد وعرضها.
الرباط/ البديع ـ كيف تحوّل ربيع تونس على يد السلطات الجديدة، إلى ربيع مسموم: فوضى وتمرد ودعوات إلى القتل والاقتتال وفتنة طائفية وإسقاط رموز الدولة الوطنية؟ وربما الأصح أن نسأل: كيف حوّلت السلطات ربيع تونس إلى ربيع مسموم؟
وهل من أجل ذلك قامت الثورة في تونس؟
لقد تحوّل ربيع تونس إلى ربيع سلفي وهابي ترهيبي، كل واحد فيه ينصّب نفسه قاضياً، ويقيم محكمته الخاصة ليجيز القتل والحرق وبتر الأعضاء وإصدار الفتاوى وإعلان ''الجهاد'' لإقامة الإمارات الإسلامية في طول البلاد وعرضها.
فبعد عام ونصف عام على ربيع تونس هناك مئات آلاف العاطلين عن العمل، والمستثمرون والشركات يفرون جماعات جماعات من البلاد... وبعد عام ونصف عام تنقسم تونس إلى شارعين متواجهين: علمانيين وسلفي، وبينما يخرج العلمانيون رافعين اللافتات والشعارات، يخرج سلفيون بالسيوف والرايات السوداء ودعوات القتل والاقتتال وإسقاط الدولة العلمانية، فتونس كانت بالأمس رائدة العلمانية والحقوق الاجتماعية وخصوصاً حقوق المرأة، لكن اليوم، يريد السلفيون إعادتها إلى عصر الجواري.
فلم يستوعب جوهر الثورة وقيمتها، لقد أضفى قراءاته الأيديولوجية على حدود الفقراء المهمشين، فحاد بالثورة عن مسارها الحقيقي، والتجاذبات السياسية التي يشهدها المشهد السياسي العام هو أحد الإفرازات المكشوفة.
ففي مرحلة مابعد الثورة، و تحديداً منذ أن استلم حزب النهضة السلطة، تزايدت العلامات التي تظهر ''أسلمة'' المجتمع التونسي، ومنها سيطرة المجموعات السلفية على مئات المساجد في كامل تراب الجمهورية، من خلال تنصيب أئمة يدينون بالولاء للسلفيين، الذين بدؤوا يمارسون العنف ضد المجتمع المدني، تجلى ذلك في الاعتدءات العنيفة المتكررة على أساتذة جامعيين ومثقفين معروفين بانتماءاتهم الأيديولوجية العلمانية والليبرالية، والقيام بالغزوات ''المقدسة''.
لقد طفت أخبار المجموعات السلفية على سطح المشهد السياسي التونسي، وعادت مظاهر العنف والفوضى والغزوات ''المقدسة'' ضد قطاعات واسعة من التونسيين، وأصبح لافتاً تنامي سريع ومريب لسطوة التيارات السلفية الوهابية التي لم تتردد في أكثر من مناسبة بالتهديد بـ''حرب دينية، من أجل تطبيق شرع الله'' وبناء '' دولة الخلافة الراشدة'' و''رفض مدنية الدولة'' و''النظام الجمهوري العلماني الكافر''.
كل ما سبق ليس كلامنا حتى لا يتهمنا أحد بالدفاع عن مرحلة ''بن علي''، أو أننا نتحامل على الغنوشي ومسؤوليه... ما سبق يؤكده حرفياً الرئيس التونسي ''منصف المرزوقي''، حيث شبّه ممارسات حركة النهضة، أو الحزب الحاكم، بممارسات الرئيس المخلوع ''زين العابدين بن علي''، وذلك بالسيطرة على مختلف دواليب الحكم وتعيين أتباعه في مختلف المراكز الحساسة للدولة إلى جانب المماطلة في تحقيق التنمية.
وقال المرزوقي ''ومما زاد الطين بلة الشعور المتفاقم بأن إخواننا في النهضة يسعون للسيطرة على مفاصل الدولة الادارية والسياسية عبر تسمية أنصارهم توفرت بهم الكفاءات أم لم تتوفر وكلها ممارسات تذكر بالعهد البائد''.
ولفت إلى أن ''كل هذا لايزيد إلا من حذر مشروع، إزاء إصرارهم على النظام البرلماني والحال أننا لدغنا من هذا الجحر مباشرة بعد الإستقلال وعانينا نصف قرن من تبعات حزب بن علي، وأن تحصل على أغلبية بصفة ديمقراطية، للسلطتين التنفيذية والتشريعية في بلد هيأته القرون للدكتاتورية لا للديمقراطية''.
وتوقع محللون بداية تصدع في صفوف التحاف الحاكم في تونس، وذلك بعد اتهام الرئيس منصف المرزوقي حزب النهضة (بالترويج للوهابية).
يودع التونسيون فرحة لم تكتمل، هزمت أحلامهم بالديمقراطية والإصلاح بوجود (النهضويون)، عادوا إلى المربع الأول، حيث لغة القمع والميليشيات السلفية الجديدة تتصدر المشهد، اليوم أيضاً لايحق لهم أن يثوروا ضد حكامهم الإسلاميين، عليهم أن يستعدوا إلى ما هو غير متوقع.
تغيرت الخارطة في تونس، ورسمت عكس مايتمنى الثوريون وأصحاب الآمال العريضة بالديمقراطية والإنجازات والحضارة، عاد هؤلاء إلى بداية الطريق، إلى الشوارع أملاً بأن تنصفهم كما فعلت سابقاً، لايرغبون بالانزلاق نحو مصير مشابه لما حدث لبعض جيرانهم الأفارقة ممن يشتركون معهم بالمصير.
ينشد الثوريون في تونس نشيد ظلم أقسى وأشد بعد أن سلبت مقدراتهم الفكرية منهم، يرفضون التنحي خدمة للإسلاميين الجدد، يرفضون إخلاء الساحات والإيحاء بأن شيئاً لم يحدث في تونس بعد الثورة، ربما كانت ثورة مزيفة أو الأصح أنها ثورة زيّفها من جلس على عرش الحكم اليوم، لكنه لن يستطيع خداع التونسيين أكثر.
''أسلمة'' المجتمع التونسي اتخذت طابعاً عنيفاً واضحاً من جانب المجموعاتالسلفية، التي استفادت من التواطؤ المكشوف من قبل حزب النهضة الموجود في السلطة،الذي يحتوي في داخله تياراً سلفياً متشدداً.
فمن يرعى حرب السلفيين في تونس؟ هل هو حزب النهضة، أم جهات خارجية أصبحت لاعباً أساسياَ في دول ما يسمى ''الربيع العربي'' أم القاعدة التي دعا زعيمها ''أيمن الظواهري'' سلفيي تونس إلى الدفاع عن الشريعة الإسلامية والانقلاب على حكومة الإسلاميين؟
بغضّ النظر عن الراعي وعن صدق الدعوات وصحة المعلومات، فإن هذه الحرب تتسع كل يوم، تمتد إلى مناطق تونسية جديدة لفرض هيمنة المدّ السلفي الوهابي الساعي إلى تغيير الواقع من خلال خلق الأزمات والقيام بأعمال عنف وتخريب في محاولة من السلفيين لتفصيل تونس جديدة تكون على مقاس شريعتهم الخاصة، وخاضعة لمنطقهم المتطرف.
فالسلفيون الذين كانوا تياراً متوارياً لا حسّ لهم ولاخبر طيلة فترة حكم ''زين العابدين بن علي''، والذين نأوا بأنفسهم عن الثورة وعن الخوض في غمارها، وحافظوا على موقع المتفرج والمترقب لما ستؤول إليه الأمور، يستغلون اليوم مفرزات هذه الثورة بدءاً من الحريات وانتهاء بالفوضى وعدم الاستقرار، أي يحاولون فرض نمط عيش معين على المجتمع يتلاءم وشريعتهم الخاصة.
فقد قال ''سيف الله بن حسين'' الناطق الرسمي بإسم حركة ''أنصار الشريعة''، وهي جماعة سلفية جهادية: ''نحن لانعترف بحكومة لا تحتكم إلى شرع الله''.
وأضاف، ''نحن مشروعنا هو إعادة الثقة بأن الحكم بالشريعة هو الضامن لحياة رغدة لهذا الشعب...وحراكنا في هذه المرحلة هو تمهيد لقيام دولة الإسلام''.
ويرى عدد من المتابعين للشأن العام التونسي أن الثورة التونسية تتجه نحو دكتاتورية دينية وأن المسار الديمقراطي يواجه تحديات خطيرة قد تؤدي إلى إعادة سيناريو الجزائر.
ويبقى السؤال المطروح دائماً:
لماذا يتجرأ السلفيون على رفع وتيرة العنف في البلاد؟
وكيف انقلبوا فجأة من تيار تحت السطح إلى مشكلة حقيقية وأزمة تضرب في عرض البلاد وطولها؟
وكيف أصبح السلفيون مصدر إرهاب؟
ولماذا تسكت هذه الحكومة عن تجاوزاتهم وتحدّ من ممارساتهم الاستفزازية؟
رغم أنها وصفتهم بأنهم مصدر إرهاب؟
كل ماسبق، أسئلة لاتفضي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أن السلفيين يتسلحون بتواطىء من حكومة ''الجبالي'' لفعل كل ما يقومون به، وإلا لماذا هذا الصمت المطبق من جانب مسؤولي الحكومة الذين لم يكلف أحدهم نفسه ليقول شيئاً أو يتخذ موقفاً مطمئناً للشعب سوى وصف هذه الأعمال بالإرهابية كنوع من الترويج الإعلامي ليس إلا.
يتوسل السلفيون على اختلاف ألوانهم ومشاربهم في تونس العنف، لكن النموذج المجتمعي الذي يدعون إليه خطير.
فرؤيتهم إلى المجتمع ضيقة الأفق، وهي ثمرة مشكلة مزدوجة مع الماضي والحداثة على حد سواء، ويُخشى أن تفضي إلى حروب وفتن.
فهناك ارتباط عضوي تنظيمي ولوجستيً ومالي بين التيار السلفي المتشدد في تونس، وبين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والإسلاميين المتشددين في ليبيا، حيث يتدرب الشباب التونسي المتطرف في معسكرات بليبيا، ويحاول إنشاء معسكرات تدريب في تونس وفي صالات الرياضة.
ويؤكد المختصون في دراسة جماعات الإسلام السياسي، أن ''راشد الغنوشي'' هو نفسه ''سلفي الفكر والعقيدة والمنهج'' وهو ''يحاول استغلال مساحات الحرية التي تعيشها تونس بعد الثورة لـ ''إقناع التونسيين بأن النهضة حزب سياسي في خطابه العلني، وبالمقابل ينتهج خطاب عقائدي لا فرق بينه وبين خطاب أمراء السلفية الجهادية''.
الوضع في تونس بات يشبه إلى حدّ كبير الوضع في ليبيا، فالمسلحون هنا يرفضون سلطة حكام ليبيا الجدد، ويستمرون في الاقتتال فيما بينهم ومع غيرهم دون أن تجرؤ الحكومة على الاقتراب... يقابلهم في تونس السلفيون والقاعديون الذين يرفضون سلطة حزب النهضة ويستمرون في محاولات فرض قوانينهم المتطرفة دون أن يقترب منهم أحد، لا من الرئاسة ولا من الحكومة.
وكما أن ليبيا تعيش أجواء الحرب الأهلية والاقتتال والانقسام، فإن تونس تبدو على خطاها، وهذا ليس قولنا، بل قول التونسيين أنفسهم الذين انتفضوا على الإهانة مطلقين ناقوس الخطر من السلفيين والقاعديين، قائلين: إذا كان النظام السابق سلبنا حريتنا لأكثر من 23 سنة، فإن هؤلاء سيسلبوننا إياها مدى الحياة... ولا ننسى أن هؤلاء كان لهم أكثر من محاولة لإقامة إمارات إسلامية في الشمال.
فالتونسيون باتوا يتحدثون بصورة أكبر عن حرب أهلية يجاهر السلفيون بسعيهم إليها، بينما السلطات القائمة لاتحرك ساكناً، لا فعلاً ولا قولاً.
والمنطق السياسي السليم يقول إن فرض الدولة الرقابة على الجوامع والمساجد واجب.
ولايجوز أن يكون هناك تباين بين استراتيجية الحكومة و استراتيجية حزب النهضة.
فالحزب يشن حرباً ثقافية ضد النهج العلماني للدولة التونسية من خلال إفساحه في المجال لدعاة السلفية الوهابية لكي يسرحوا و يجولوا في تونس كما يحلو لهم من دون التعرض للمواجهة و الملاحقة القانونية، علماً أن المجتمع التونسي منفتح وينبذ العنف ويلفظه.
وإزاء استفحال تمظهرات الإسلام الوهابي، قال الباحث في الإسلام السياسي ''كمال الساكري'' ''نحن نعيش بداية فتنة حقيقية في تونس، فالوهابية السعودية لها موطىء قدم ما فتىء يتعاظم في بلادنا بفضل البترودولار والأئمة القادمين من دول الخليج [الفارسي].
وأضاف ''ثمة أطراف خليجية كالسعودية وقطر تمول عملية فتنة طائفية في تونس والرمي بالبلاد في أتون معركة بين المذاهب''.
وفي هذا السياق، أكد وزير الثقافة التونسي ''مهدي مبروك''، ''أن محاولات نشر الوهابية من خلال دورات تشرف عليها الجماعات السلفية بالمدن التونسية أمر مدعاة للفتنة، بخاصة وأن علماء الزيتونة تصدوا للمذهب الوهابي منذ مطلع القرن العشرين''.
وندّد الوزير التونسي، مهاجمة الجماعات السلفية لعدة مهرجانات فنية وثقافية عقدت في عدة مدن ولفت ''أن هذا يخالف ما تعوّد عليه التونسيون من تنوع ثقافي وفكري وانفتاح على الثقافات والفنون، مؤكداً أن ما يجري الآن هو محاولة لإحلال المذهب الحنبلي الذي يعتنقه الوهابيون بديلاً للمذهب المالكي، وهو السائد في تونس''.
فما حدث في القيروان وقابس وبنزرت هو نفخ في شرارة الفتنة وضرب لوحدة التونسيين وطعن للثورة في الظهر.
وكون الفرصة لاتأتي كل يوم، ولأن ثورات الربيع العربي الزائفة يستطيع كل من يتحكم بها أن يفصلها على قياسه وقياس أزلامه، فكان أن خان حكام تونس الجدد الإعلام الوطني.
فقد ازدادت الانتقادات لحزب النهضة الحاكم بسبب التراجع في حرية التعبير، تحت شعار رفض المسبا لمقدسات، وتجريمه في نص الدستور الجديد باقتراح من حزب النهضة، الأمر الذي اعتبرته الأحزاب العلمانية واليسارية والقومية بأنه يشكل انتكاسة وتراجعاً كبيراًفي حرية التعبير، ويؤسس لإرساء رقابة شديدة باسم الدين، ويمثل في الوقت عينه تحولاً في خطاب حزب النهضة، حيث كان قبل الانتخابات يتبنى ''خطاباً مدنياً لإرساء دولة حديثة''، لكنه بعد ذلك تحول إلى ''موقع أكثر ارتباطاً بالدين واحتكاره سياسياً''.
وبعيداً عن كون الإعلام خاض غمار (الثورة) في تونس أم لا، فليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في إصرار حزب الغنوشي على رمي عجزهم وخيبتهم في احتواء أزمة البلاد على عاتق الآخرين المتمثلين في رجال الإعلام، الذين باتوا أعداء حزب النهضة الحاكم، الذي لم يوفر جهداً في تكميم حرياتهم، ومصادرة أصواتهم التي لا تنطق بما يريد حزب النهضة سماعه منها.
فالمضحك المبكي، أن حديث ''الجبالي'' يوحي أن لا أزمة في تونس سوى أزمة الإعلام الوطني.
فماذا عن البطالة والفساد والتظاهرات اليومية، والاعتصامات، وتحكم المتأسلمين في حال البلاد والعباد بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان؟.
هذه تونس، تونس المسمومة، لقد تلاشت الآمال وانتهت ''الثورة'' في تونس إلى مجرد رقابة صارمة وتعصب متنام وبطالة... تلك هي النتيجة التي خلص إليها روبرت فيسك الصحفي البريطاني الشهير، وذلك في تحقيق مصور بجريدة الغارديان حول تونس. ويضيف فيسك، أن ما يقض مضجع التونسيين هذه الأيام ليس فقط اعتقال الصحفيين، بل ثمة حقائق أخرى لايمكنهم الهروب منها أو تجاهلها، ومنها حقيقة وجود أكثر من 800 ألف من أصل الملايين العشرة من سكان البلاد هم الآن عاطلون عن العمل.
فمعدَّل النموفي البلاد خلال عام الثورة بلغ صفراً في المائة، إذ غادرت أكثر من 80 في المائة من الشركات الدولية تونس بعد اندلاع تلك الثورة.
ويتساءل فيسك: ''لقد بدأتالنساء بارتداء النقاب، وأخذ الرجال يطلقون لحاهم ويرتدون ألبسة على الطرازالأفغاني، والحكومة لم تفعل شيئاً.
تُرى، هل قام حزب النهضة بدعم السلفيين بذلك؟''.
هل هذا ما أراده التونسيون الذين فتحوا أبواب ما يسمى الربيع العربي؟
نحن هنا لا نشكك مطلقاً بحسن نيات التونسيين وصدق ثورتهم من أجل حياة ومستقبل أفضل، ومن أجل تونس أكثر استقراراً وأمناً، لكننا نحمل معهم المخاوف والقلق نفسه إزاء ذلك المستقبل الذي أرادوه ناصعاً، بينما حزب النهضة السلفي ممن قَادَته المخططات الخارجية إلى واجهة المشهد، يريده مستقبلاً متطرفاً أسود، ويريد العودة بالبلاد إلى عصور الجاهلية... تونس حولها (النهضويون) إلى آثمة تحاسب على حريتها وأفكارها المتقدمة، وتوضع في رقبتها مشنقة متنقلة تقتلها في اليوم الواحد آلاف المرات.
ففي ظل التجاذبات السياسية الحادة، ترى الأحزاب والتنظيمات اليسارية التونسية أنّه بعدالانتخابات اتضح أن الحكم الحالي مازال يعمل بنفس آليات النظام السابق ويكرّس نفس العلاقات مع القوى الأجنبية من خلال تجديد التحالفات وآخرها الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة وتكريس الاتفاقيات المشتركة مع الاتحاد الأوروبي. كما تمت ملاحظة التوجه الليبرالي في السياسة الاقتصادية للحكومة التي يرأسها ''حمادي الجبالي''،مايعني حسب تعبير هذه القوى اليسارية والقومية أنّ هذه الحكومة تسير في الاتجاه المعاكس لأهداف ثورة الياسمين.
وفي هذا السياق هاجمت ''الجبهة الشعبية'' حزب ''النهضة''، وقالت إن التونسيين ''لم يجنوا من ثورتهم سوى مزيد من التفقير والتهميش والاستبلاه والتسويف''، متهمة الحكومة بـ ''السمسرة بدماء شهداء الثورة وجرحاها''.
ويتساءل الكثيرون عمّا آلت إليه تونس بعد الثورة، كالكتاب التونسي كالكاتب ''عبدالحميد قماطي'' الذي يقول: ''لقد أعطت تونس للعالم أبطالاً عظاماً مثل هانيبعل وجوغورثا وابن خلدون... فعَلام نجلب إلى هنا هؤلاء السلفيين والإسلاميين والوهابيين والأفغان والواعظين الذين يتحدثون عن بتر الأعضاء ويصدرون الفتاوى، وهم لا علاقة لهم بحضارتنا وبفكرتنا عن الدين وبقيمنا التي تطورت على مرّ آلاف السنين؟''.
وأخيراً وليس آخر، فالوجه الاخضر الذي اعتاده بعض العرب والتونسيون لن يغيب طويلاً، فالشرفاء وأحرار تونس الخضراء، عادوا إلى النضال من جديد، لا يتخوفون من مشنقة (النهضة) ولا يعرفون تراجعاً عن مطالبهم، اختصروا شعارهم: الشعب التونسي يريد اجتثاث الخوف والتخلف.