المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إصلاح مجتمعات التحريض.. !



جبار
01-05-2005, 11:33 AM
عبد المنعم سعيد

كان للفيلسوف أفلاطون رأي متدن في النظام الديموقراطي، فوضعه في المكان الثالث بين النظم الفاضلة بعد نظام الملك الفليلسوف الذي يحكم بالحكمة والعدل، والنظام الارستقراطي، الذي هو نظام النخب الحكيمة وليس نظام أصحاب الدماء الزرقاء. وذات مرة قال تشرشل إن النظام الديموقراطي هو أسوأ النظم السياسية ولكن لا يوجد ما هو أفضل منه، ونجحت الإنسانية في اختراعه لإدارة البلاد والتعامل بين العباد.

وما بين أفلاطون وتشرشل توجد قائمة طويلة من الفلاسفة والحكماء والساسة الذين لم تكن الديموقراطية على رأس تفضيلاتهم السياسية، أو أنهم قبلوها على مضض لأن كل الخيارات الأخرى أكثر سوءا.

ولم يكن هذا الموقف من الديموقراطية راجعا إلى رفض حكم الأغلبية، فلعل هذا هو مناط العدل والقبول وموطن التفضيل، وإنما كان التشكك راجعا إلى الطريقة التي يتم بها تكوين الأغلبية وطريقتها فى إدارة الشؤون العامة، أي «السياسة». فالأصل في السياسة هي الحكمة التي ينتجها عقل قادر على ميزان الاختيارات والاحتمالات، وتحديد المسارات الأقل تكلفة والأعلى قيمة، والمحققة للقيم العامة، أو القيم التي تشغل بال الأغلبية من المجتمع. هذه الحكمة لا يتم التوصل لها ما لم تتوفر «المعرفة» أولا، ثم القدرة على «الحصافة» في التفكير والتفسير فيما هو معلوم ثانيا، و«التدبر» وتقليب الأمور على وجوهها ثالثا. ولما كان العقل الفردي للملك أو الحاكم قاصرا بطبيعة البشر الذين تغلبهم الأهواء والملذات، ولا يحل هذا القصور العقل الجماعي للنخبة التي قد تتواطأ فيما بينها للاستحواذ على خير الجماعة، فإن العقل الجمعي للمجتمع ممثلا في قرارات الأغلبية يكون هو الأقرب للصواب.

ولكن المعضلة هنا هي أن هذا العقل الجمعي قابل للتلاعب الذي يجعله لا ينطق بالحكمة، وإنما يقول بالطغيان الناجم عن تعصب مطلق لأغلبية عرقية أو دينية أو مذهبية ضد أقليات أخرى، والأخطر من ذلك فإنه قابل للتلاعب من قبل هؤلاء «المحرضين» القادرين على استثارة «الجماهير» و«الشعب».

فقضية الديموقراطية الأساسية هى توفير «المعرفة» و«الحصافة» و«التدبر» للناس، وليس الوصول إلى آرائهم المباشرة والغريزية تجاه القضايا المختلفة، قبل وصولها إلى قرارات واتخاذها لمسارات للمجتمع. ولم يكن واحد من قادة الثورة الأمريكية مخطئا ـ وأظنه كان توماس جيفرسون ـ عندما قال، إنه ليس على استعداد لاستبدال طاغية واحد ـ هو ملك انجلترا ـ بثلاثمائة طاغية هم أعضاء الكونجرس الأمريكى.

ولم يكن كثير من العرب مخطئين، حينما قالوا إن الثورات والانقلابات العسكرية فى دول عربية شتى، استبدلت ملكا طاغيا واحدا بعدد آخر من الطغاة تضمنتهم مجالس قيادة الثورة، حتى ولو كان هؤلاء يزعقون صباح مساء بأنهم يمثلون آمال الأمة، وأحلامها، وفى آخر الكلمات «ضميرها». فمع غياب «المعرفة» و«الحصافة» و«التدبر» فإن «الديموقراطية» لا تكون إلا نوعا من طغيان الأغلبية; وربما لا توجد صدفة الآن في أن جماعات الإخوان المسلمين أصبحت من أكبر دعاة النظام الديموقراطي، الذي يسمح بحكم «الأغلبية» التي تم تحديد كل شيء بالنسبة لها من خلال تفسير بعينه للدين، ومن خلال إعداد «خاص» لمواطن من خلال «خصوصية» «خاصة».

مناسبة الحديث هنا هو أن أقوال الإصلاح في العالم العربي والتي اتجهت نحو «الديموقراطية» باعتبارها عملية لاتخاذ القرار من خلال الأغلبية، وعمليات تداول السلطة المعبرة عنها من خلال الانتخابات العامة، هو اتجاه حميد، ولكنه لا يزال ناقصا وقاصرا في توفير الشروط الأساسية من معرفة وحصافة وتدبر لاتخاذ القرارات. وفي هذا الحيز الصغير ربما كان أخطر ما تتعرض له هذه الشروط مجتمعة، هو ذيوع ثقافة عامة للتحريض والاستثارة والتلاعب بمشاعر الناس.

ومن المدهش أنه وسط ذيوع نظم سياسية بعيدة عن الديموقراطية، فإن المنابر المحتلفة للتعبير عن الرأي كانت تتنافس في عمليات التعبئة النفسية، والشحن المعنوي للجماهير; وكلما انغرس النظام العام فى طغيانه وفساده وجبروته، كانت الكلمة العامة لا تقدم لا معرفة ولا حصافة ولا تدبرا، بل تقدم نوعا من إشاعة الجهل والتسرع في الأحكام. وكلما زادت النخبة الثقافية في مدح السلطان والبحث عن كل ما يتوقى غضبه، كانت في المقابل تقدم ذخيرة هائلة من التعصب والغضب تجاه الآخر، الذي قد يكون خارجيا في شكل الغرب او الهندوس أو الشيوعيين، أو داخليا في شكل أقلية عرقية أو مذهبية، وبالتأكيد سياسية.

هذا المرض «التحريضي» استمر معنا حتى بعد أن زادت مساحات الحرية في العالم العربي، ومع ذيوع القنوات الفضائية التلفزيونية، فإن مساحات الشحن المعنوي اتسعت وليس التفكير والتأمل واستعمال العقل ووزن الأمور. وبينما حلت الديموقراطية الأمريكية والغربية في العموم بعض مشاكلها في طغيان الجماعة، من خلال نظام معقد لتوازن السلطات، وإتاحة الوقت للتفكير والتمحيص والتحليل بين لجان الكونجرس بمجلسيه، ولجان التحقيق السياسية التي تحاور وتراجع; فإن أنصار الديموقراطية العرب ـ وكاتب السطور منهم ـ لم يعطوا اهتماما كافيا لظاهرة التحريض الذائعة، ليس فقط في أدوات الإعلام العربية، بل في كل المجالس العربية تقريبا.

وللأسف فإن موضوع «التحريض» اكتسب ذيوعا في العالم العربى، من خلال القضية الفلسطينية فقط عندما طالبت إسرائيل دوما بوقف «التحريض» ضدها، ولم يعرف له رواج فيما تعلق بقضية الديموقراطية، رغم أنه هو الأكثر أهمية لصحة السياسة العربية. ويبدو أن النظم الديكتاتورية في العالم العربي قد تركت لنا ميراثا ثقيلا من الطغيان، فهي لم تترك لنا قرارات حمقاء كثيرة أدت إلى احتلال الأرض وتخلف المجتمع، وإنما تركت لنا نخبة غير مدربة على المعرفة، وشعوبا جاهزة للتحريض.

ولكن ذلك كله لا ينبغي له أن ينهي المطالبة بالديموقراطية، فهي كما قلنا سابقا أسوأ النظم السياسية، ولكن البشرية لم تخترع أبدا ما هو أفضل منها; وإنما على كل العرب الديموقراطيين معرفة أن مهمة قيام نظام ديموقراطي حق، هي أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو على السطح..!