المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثقافة الإنتظار وقيمة العلم ... خطبة الجمعة لسماحة السيد محمد علي فضل الله



ميثم
07-16-2012, 10:24 AM
http://4.bp.blogspot.com/-ysBgs4y1hxI/TmFOa3sb6nI/AAAAAAAAAAQ/tYFxIwiRt1A/s1600/sayedmohammadalifadlalah_332.jpg


خطبة الجمعة 23 شعبان 1433هـ الموافق 13 تموز 2012م


سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله









بسم الله الرحمن الرحيم







والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابِهِ المجيد: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {الأنبياء:105}. ويقول تعالى في سورة القصص: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {القصص:5-6}.

مَرَّت عَلينا في الأسبُوعِ المَاضِي، في الخَامِسِ عَشَرَ مِن شَهرِ شعبان المُبَارَكِ -شَهرِ رَسُولِ اللهِ(ص)-، ذِكرَى مِيلادِ مُخلِّصِ البَشريَّة من الظُّلمِ والطُّغيانِ، الإمَامِ الثَّاني عَشَرَ من أئمَّة أهْلِ البَيتِ(ع) الحجَّة المُنتَظَر، مُحَمَّدُ بن الحسن المهدي(عج).

وهُوَ الإمَامُ الذي غَابَ عَن الأنْظَارِ، وظلَّ حاضِراً في قُلُوبِ كُلِّ الطَّامحينَ إلى إقامَةِ دَولَةِ العَدلِ، التي بشَّر بها رَسُولُ الله(ص) والَّتي نَقَلَها عنهُ كلُّ المسلمينَ على اختلافِ مذاهبِهِم، وَلَم يَنفَرِدْ بِهَا فَريقٌ مِنَهُم دُونَ الآخَر، وهو ما نُلاحظُهُ عندما نقرأُ في كُتُبِهِم الرِّوائيَّة.

فَقَد وَرَدَ في المُستَدْرَك لِلحَاكِمِ النِّيسابُوري عن أبي سَعيدٍ الخِدريِّ قال: قال رسول الله(ص): المَهدِيُّ مِنَّا أهلَ البيتِ، أَشَمُّ الأنفِ، أَقنَى - محدَودِبُ الأَنفِ -، أَجلَى – والأجلى هو الذي انحسر الشعر عن جبهته -، يَملأُ الأَرضَ قِسطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَت جَوْراً وظُلْماً.

وجَاءَ في المُعجَمِ الأوْسَطِ للطَّبرَانيِّ عَن رَسُولِ الله(ص) أنَّهُ قَال: لَو لَمْ يَبقَ مِنَ الدُّنيَا إلَّا يَومٌ، لَطوَّلَ اللهُ ذَلكَ اليومَ حَتَّى يَبعَثَ رَجُلاً مِن أَهلي.. يَمْلأُ الأرضَ قِسطاً وَعدْلاً كَمَا مُلِئَت ظُلْماً وَجَوْراَ.

وفي دَلائِلِ الإمَامَةِ للطَّبَريِّ الشِّيعيِّ بإسنَادِهِ عَن ابنِ مَسعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله(ص): لا تَقُومُ السَّاعَةُ –القِيَامَةُ- حَتَّى يَمْلِكَ –أَيْ يَحكُمَ- رَجُلٌ مِن وُلدِي-وأولادُ رسول الله هُم أولادُ علي(ع) وفاطمة(ع)-، يُوافِقُ اسْمُهُ اسْمِيَ، يَملأُ الأرْضَ قِسطاً وعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلماً وَجَوْراً.

وجَاءَ في رَسَائِلِ الغَيبَةِ للشَّيخِ المُفيدِ عَن كُميلِ ابنِ زِيادٍ قَال: دَخَلتُ عَلَى أَميرِ المُؤمِنينَ عليٍّ(ع) وَهوَ يَنكُثُ في الأرضِ فَقُلتُ لَه: يَا مَولاي، مَا لَكَ تَنكُثُ الأرضَ؟ أَرَغبَةً فيهَا؟ فَقَال(ع): واللهِ مَا رَغِبتُ فيهَا سَاعَةً قَطُّ، ولكنِّي أُفكِّرُ في التَّاسِعِ مِن وُلدِ الحُسَينِ -وهَذا دَليلٌ وَاضِحٌ مِن كَلامِ الإمَامِ(ع) على هَويَّة الإمَامِ الثَّانِي عَشَر(عج)-، هُو الَّذي يَملأ الأرضَ قِسطاً وَعَدلاً كَمَا مُلئَت ظُلماً وَجَوْراً، تَكُونُ لَهُ غَيْبةٌ يَرتَابُ فِيهَا المُبطِلُونَ- أي أولئكَ الَّذينَ يُعانِدُونَ الحَقَّ ولا يُصغُونَ إلى الحُجَجِ الدَّامِغَة-.

وجَاءَ في الحَدِيثِ عَنِ الإمَامِ الحُسَينِ(ع) -في أكثَرَ مِنْ مَصْدَرٍ- قَالَ: مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهدِيّاً – لأنَّ الأئمَّة كلَّهُم مَعصُمُونَ مِن قِبَلِ اللهِتعالى، وَيَهدُونَ إلَى الحَقِّ بِإذنِ الله وَهَديِه-، أوَّلُهُم أميرُ المُؤمنِينَ عَليُّ بنُ أبي طَالِب(ع)، وآخِرُهُم التَّاسِعُ مِن وُلدِي، وَهُوَ القَائِمُ بالحَقِّ، يُحيِي اللهُ بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوتِهَا –مِن خِلالِ نَشرِ العَدلِ والقَضَاءِ على الظُّلم-، ويُظهِرُ بِه دِينَ الحَقِّ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ. لَهُ غَيبَةٌ –ونَحنُ نَعِيشُ اليَومَ في عَصرِ هَذه الغَيبَة- يَرتَدُّ فِيهَا أقْوَامٌ – فَيَنحَرِفُونَ عَن طَريقِ الحَقِّ- وَيثبُتُ فيهَا عَلَى الدِّينِ آخَرُونَ –مِن خِلالِ قُوَّةِ إيمَانِهِم وعُلُومِهِم الَّتي تَدُلُّهُم إلَى الحَقِّ- فَيُؤذَوْنَ ويُقَالُ لَهُم: مَتَى هَذا الوَعدُ إنْ كُنتُم صَادِقينَ؟ أَمَا إنَّ الصَّابِرَ في غَيبَتِه عَلَى الأَذَى والتَّكذِيبِ بِمَنزِلَةِ المُجَاهِدِ بِالسَّيفِ بَينَ يَدَي رَسُولِ الله(ص).

وهكذا أيُّها الإخوة، نَجِدُ أنَّ الأحَادِيثَ الوَارِدَةَ في المَهديِّ(عج) بَلَغَت حَدَّ الاسْتفاضَةِ مِن طُرُقِ السُّنَّةِ والشِّيعَة، وقد أُحصِيَ مَجمُوعُ مَا وَرَدَ مِنَ الأَخبَارِ مِن طُرُقِ الفَريقَينِ فَبَلَغَتْ كَمَا يُقالُ ستَّةَ آلافِ حَديثٍ، وهَذَا رَقمٌ إحصائيٌّ كبيرٌ لا يتوفَّرُ في كَثيرِ مِنَ القَضَايَا الإسْلامِيَّةِ البَدِيهِيَّةِ، والَّتي لا يشُكُّ فيها أَحَد.

إِذَن.. لا شَكَّ في أَصلِ فِكرَةِ المَهدِيِّ عِندَ أَحدٍ مِنَ المُسلِمِينَ، بَلْ حَتَّى عِندَ غَيرِ المُسلِمينَ كَمَا يَظهَرُ مِن خِلَالِ مُراجَعَةِ وتَتَبُّعِ كُتُبِهِم واعْتِقَادَاتِهِم.

وَلَكِنَّ الاختِلافَ وَقَعَ في بَعضِ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الفِكرَةِ، مِن قبيل الاختِلافِ في صِفَاتِ هَذا المُصْلِحِ الكَبيرِ الَّذي سَوفَ تَمتَدُّ أعمَالُهُ الإصلاحِيَّةُ لِتَشمَلَ العَالَمَ كُلَّه، مثلاً هل وُلِدَ أم لَم يُولَدْ؟ وَمَا هُوَ نَسَبُهُ؟ وما هِي صَفاتُهُ الجَسَديَّة؟ وَمَن هُم أَصحَابُهُ، وَمَا هِيَ عَلامَاتُ خُرُوجِه؟

وعَلى كُلِّ حَالٍ، فإنَّ هَذا لا يُؤثِّرُ في جَوهَرِ عَقيدَتِنَا في المَهْديِّ(عج)، خاصَّة أنَّنا نَشتَرِكُ مَعَ البَشَريَّةِ كُلِّهَا، لا مَعَ المُسلِمِينَ فَقَط، في انْتِظَارِ خُرُوجِهِ وحَرَكَتِهِ المُبَارَكَين.

ولذَلِكَ يَجِبُ أنْ تَكُونَ ثَقَافَةُ الانتِظَارِ بِكُلِّ مَا تَحمِلُهُ مِن عَمَلٍ وجُهدٍ، هيَ ثَقَافَةُ كُلِّ إنسَانٍ يُؤمِنُ بالمُخلِّصِ المهديِّ الَّذي سَوفَ يَظهَرُ في آخِرِ الزَّمان، لا ثَقَافَةَ المُسلِمينَ وَحدَهُم، ولا ثَقَافَةَ الشِّيعَةِ وَحدَهُم، لأنَّه يَجِبُ عَلى الجَميعِ أنْ يَعمَلُوا مِن أَجلِ دَولَةِ الحَقِّ والعَدلِ في العَالَمِ كُلِّهِ.

ولكن أيُّ ثَقَافَةِ انتِظَارٍ عَلَينَا أَنْ نَحمِل؟ ثَقَافَةَ المَنَامَاتْ؟! أم ثَقَافَةَ جَمْعِ عَلامَاتِ الظُّهُورِ وحِسَابِ السَّنَوَاتِ والشُّهُورِ المُتَبقِّيَةِ قَبلَ الظُّهُورِ المُبَارَك؟!

إنَّ اللهَ تعالى لَنْ يَسأَلَنَا عَنْ الوَقتِ الَّذي يَخرُجُ فيهِ الإمَامُ لِيَملَأَ الأرْضَ قِسطاً وَعَدْلاً؛ لأنَّ هذا الأمر العظيم من مختصَّاتِهِ هو عزَّ وجَلَّ، ولَكنَّهُ سَوفَ يَسألُنَا عَن الأمُورِ الَّتي تَخُصُّنا وتَتَعلَّقُ بِتَكلِيفِنَا في غَيبَتِهِ(عج)، سوفَ يَسألُنا عن ما فعلناهُ للتمهيدِ لظهورِه المبارك، وسَوفَ يَسألُنَا عَنْ مَوقِفِنَا يَومَ يَخرُجُ ليملأَ الأرضَ قسطاً وعدلاً.

ولذلك أيُّها الإخوَة المؤمنون.. يَجِبُ أنْ تَدفَعَنَا هذه الغَيْبَةُ إلى التَّفكِيرِ في الأعَمَالِ الَّتي تعجِّلُ في فَرَجِهِ الشَّريفِ، وفِي كَيفيَّةِ إعدَادِ النَّفسِ وتَهيِئَتِها لمواجَهَة الظُّهُورِ المُبَارَكِ، لأنَّه يجِبُ علينا في تِلكَ اللَّحظَةِ الحَاسِمَةِ مِنْ تَارِيخِ البَشَرِيَّة أن نُحسِنَ الاختِيارَ حَتَّى نَكُونَ في جَانِبِ الحَقِّ؛ لأنَّ الإمَامَ يُمثِّل الحقَّ في كلِّ خُطُوطِهِ: العَامَّة والتفصيليَّة، ولأنَّ البَاطِلَ سَوفَ يَزهَقُ ويَنتَهي وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا { الإسراء: 81}

وهَذا مَا نَفهَمُهُ مِنَ الانتِظَارِ ومِن ثَقَافتِه:

تَدريبُ النَّفسِ وتَعويدُهَا على اختيَارِ الحَقِّ وإنْ كانَ لا يُوَافِقُ هَواهَا، حَتَّى تَظَلَّ في إطَارِ الحَقِّ، ولا تنحرفَ عنه عند الشَّدائد.

وفي هَذا المَجَال، نَتَوقَّفُ أمَامَ قِيمَةِ العِلْمِ في بِنَاءِ النَّفسِ وفي إعدَادِهَا، فقَدْ يقُولُ قائل: إنَّ عَلَينَا أَنْ نَتَدرَّبَ عَلَى حَمْلِ السِّلاحِ وتِقَنيَّاتِ اسْتِعمَالِه حَتَّى نَستَطيعَ أنْ نُحَارِبَ مَعَ إمَامِ العَصرِ والزَّمان(عج)، نَعَم، التَّدريبُ عَلى ذلك مُهمُّ ومطلوب، ولكنَّ الأهمَّ هُوَ أنْ نَتَدرَّبَ ونتعلَّم كَيفَ نَصنَعُ هَذا السِّلاحَ، وأنْ نَتَدرَّبَ ونَتَعلَّمَ كَيفَ نَصنَعُ كُلَّ مَوَاطِنَ القُوَّةِ في حَيَاتِنَا، فَقَد قَالَ تَعَالى في كِتَابِهِ العَزيزِ: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ {الأنفال:60}، وهذا نداء مستمرٌّ مُلزِمٌ لِكُلِّ مَن يَجِدُ في الطُّغيانِ والاستِكبَارِ عَدُوّاً لَه، فَعَليهِ أنْ يُعِدَّ لَهُ القُوَّةَ في المُقَابِل.

إنَّنا نعيشُ اليومَ في عَصرِ التَّطوُّرِ العلميِّ والتِّكنولوجيِّ الَّذي يقفزُ قفزاتٍ هائلةٍ في كلِّ يوم، ولذا فإنَّ عَلينَا أنْ نَهتَمَّ بإعدَادِ القُوَّةَ العِلمِيَّةَ والمعرفيَّة، في مخْتَلَفِ فُرُوعِ العِلمِ والمَعرِفَة، وَعَلينَا أنْ نُوجِّهَ أبْنَاءَنا إلَى التَّعلُّم؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُريِدُ لَنا أنْ نَكُونَ المُتَعلِّمينَ الوَاعِينَ، لأنَّ العِلمَ يَحرُسُنا مِنَ الجَهلِ الَّذي لا يَستَطِيعُ المَالُ الكَثيرُ ولا الأسلِحَةُ الحَدِيثَةُ حمايَتَنا مِنْه، ولأنَّ العِلمَ يَحرُسُنَا مِن سَيطَرَةِ الاستِكبَارِ والاستِعمَارِ كَمَا يَحرُسُنَا السِّلاحُ مِن ذَلِكَ، وكُلُّنا نَعلَمُ اليومَ أنَّهُ حتَّى السِّلاح باتَ يَحتاجُ إلى العِلمِ في صِناعَتِهِ واستخدامِه، والحروبُ الحديثةُ تتَّجِهُ أكثرَ فأكثرَ للإعتمادِ على العِلمِ والتِّكنولوجيا الَّذينِ باتا من العناصرِ الضروريَّةِ والحاسِمَةِ في أيِّ حرب، وبالنتيجةِ فالعِلمُ هوَ الحارسُ لا السِّلاحُ ولا المال، وقد قالَ علي(ع) في وصيَّتِهِ لكُميل بن زياد: يَا كُميلُ، العِلْمُ خَيرٌ مِنَ المَالِ، العِلْمُ يَحرُسُكَ وأنتَ تَحرُسُ المَالَ، وَجَاءَ في كَلامِ اللهِ سبحانَه وتَعَالى عَن فِرعَونَ وقَومِه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ {الزخرف:54}، أي إنَّهُ –كَمَا يقُولُ المُفَسِّرُونَ- استخفَّ عُقُولَهُم مِن خِلالِ جَهلِهِمُ وَعَدَمِ مَعرِفَتِهِم بِاللهِ فَأطَاعُوهُ لأنَّهُم لا يَملِكُونَ مَواطِنَ القُوَّةِ في الفِكرِ وفي العَقِيدَةِ وفي الإرَادَةِ حَتَّى يُقاومُوه ويَتَصَدُّوا لَه، ولِذَلِكَ نَجِدُ أنَّ الله تعالى قَالَ عَن فِرعَونَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ {القصص:4}، أي: بَغَى وَتَجَبَّرَ واسْتَكبَرَ في أَرضِ مِصْرَ، وذَلِكَ بِسَبَبِ جَهلِ قَومِهِ وضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وعَدَم مُنَاقَشَتِهِم لَهُ في مَا يَفرِضُهُ عَلَيهِمُ الاعتِقَادَ بِه من دَعوَى أُلُوهِيَّتِه، أَو مَا يُقدِّمُهُ من أَدِلَّةٍ ضَعِيفَةٍ وسَخِيفَةٍ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ دَعْوَةِ نَبيِّهِم مُوسَى(ع).

وهَذَا مَا نُلاحِظُهُ -أيُّها الإخوَةُ- في أَسَاليبِ جَميعِ الطُّغَاةِ في العَالَم، حَيْثُ يَستَخِفُّونَ أقْوامَهُم، مِن خِلالِ تَجهِيلِهِم، وَبَدَلاً مِنَ انْصِرَافِهِم إلَى العِلْمِ وإلَى التَّعلُّمِ، يَنشَغِلُونَ بالَّلهْوِ وبِالقَضَايَا غَيرِ المُفِيدَةِ، واللهُ تَعالى يَقولُ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {الزخرف:54}، وهَذا بَعضُ مَا عَلَينا أنْ نَسعَى إليهِ في ظِلِّ غَيبَةِ إمَامِنَا وَوَلِيِّنَا، حَتَّى نَستَطِيعَ أن نمهِّدَ لهُ ونَنْصُرَهُ عِندَ ظُهُورِه، وَحَتَّى نَكونَ الرَّافِضِينَ للظُّلمِ في غَيبَتِه قَبلَ ظُهُورِه، لأنَّ الَّذي يَرضَى بالظُّلمِ اليَومَ، لَنْ يَثُورَ عَلَيهِ مع المهديِّ المُنتَظَرِ غَداً.

وهذا ما يجبُ أن نُلاحظَهُ في حَرَكَةِ العالَمِ المُستكبِرِ من حولِنا، والَّذي يَتَّبِعُ أسلوبَ فرعونَ في تَجهيلِنا وفي إلهائِنا بالقضايا الخِلافيِّةِ الصَّغيرةِ وغيرِ المُجدِيَةِ، في حينِ ينصرفُ هوَ إلى استغلالِ أرضِنا وثَرواتِنا المادِّيَّةِ والبَشَريَّةِ، حتَّى أنَّ العالَمَ الإسلاميَّ الَّذي كان بالأمسِ مهدَ الحضاراتِ وموطنَ العلومِ وقِبلَةَ العلماءِ في شتَّى ميادينِ العِلمِ والمَعرِفَة، يكادُ اليومَ لا يُلحظُ في خريطةِ العالَمِ المُتقدِّمِ علميّاً وتكنولوجيّاً، إلَّا بوصفِهِ مُستَهلِكاً شرِهاً وغبياً للمُنتَجَات الَّتي يستوردُها من الغرب والشرق –ونحن نسمع بين الفينَةِ والأخرى عن صفقات أسلحةٍ بمليارات الدولارات يعقدها ملوكٌ وحكامٌ في عالَمِنا العربيِّ والإسلاميِّ مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا أو غيرهم من الدُّولِ الغربيَّة، في حين لا تتحرَّك جيوشُهُم وأسلحتُهُم في مواجهَةِ غَطرَسَةِ إسرائيل واستكبارِها أو في مواجهة أعداء الأمَّة، وإنَّما في مواجهة شعوبهم-، هذا في الوقت الَّذي تنوءُ دولُ هذا العالَمِ الإسلاميِّ ومجتمعاتِهِ تحتَ وَطأَةِ الجَهلِ والتَّخلُّفِ والأُميَّةِ الَّتي تَتَفَشَّى فيهِ بشكلٍ مُرعِب.

ومن هذه النَّافذة نُطلُّ على ما يجري في عالَمِنا العربيِّ والإسلامي.

في فلسطين المحتلَّة، تَستَمِرُّ عَمليَّاتُ القَتلِ والإعتِقَالِ المُمنهجة الَّتي تَطالُ أبناءَ الشَّعبِ الفلسطينيِّ المظلومِ في كلِّ المناطق، بحيثُ بلَغَ عددُ المُعتَقَلينَ الفلسطينيينَ حوالي ثلاثمائةِ مُعتَقَلٍ في الشَّهرِ الماضي فقط.

وفي خطٍ موازٍ تزدادُ عمليَّاتُ التَّهويدِ اتِّسَاعاً في كلِّ المُستَويَاتِ العَمليَّةِ التَّنفيذيَّة، مِن خِلالِ استمْرَارِ بِنَاءِ المُستَوطَنَاتِ على الأراضِي المُصَادَرَة، والبُيُوتِ المَهدُومَةِ ظُلماً وعُدوَاناً، ومِن خِلالِ القَوانِينَ الأخيرةِ الصَّادرَةِ عن المُشرِّعينَ الصَّهاينة في الكنيستِ الصِّهيوني، والَّتي تَعتَبِرُ الأرضَ مُلكاً للكيانِ الصِّهيونيِّ الغاصِبِ مِن خِلالِ نَفي صِفَةِ الاحتلالِ عنه، وليُمهِّدَ ذلكَ لعمليَّةِ بناءٍ واسعةٍ لبؤرٍ استيطانيَّةٍ كثيرة، في نَفسِ الوقتِ الَّذي تَستَمِرُّ فيهِ أعمالُ حَفرِ الأنفاقِ تحتَ المسجِدِ الأقصى في سعيٍ دؤوبٍ لتَغييرِ هويَّةِ القُدسِ، عبرَ مُحاولَةِ إنتاجِ تاريخٍ موهومٍ مبنيٍّ على الأساطيرِ الصِّهيونيِّة، ولا يستطيعُ العرَبُ والعالَمُ أن يعترِضوا عليها ببِنتِ شَفَة، هذا لو كانوا ما يزالونَ يَملِكونَ مِنَ الحياءِ ما يَدفَعُهُم إلى الاعتراض.. ولكن لا حياءَ لمن تُنادي.

وفي بلادِ الحَرَمَينِ الشَّريفَين، حيثُ الأرضُ الَّتي تَحتَضِنُ البيتَ الحرامَ الَّذي جَعَلَهُ الله تعالى مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا {البقرة:125} شَهِدنا في مَنطِقَةِ القَطيف عمليَّةَ الاعتقالِ العَنيفَةِ والمُستَنكَرَةِ لِسماحَةِ الشَّيخ نمر باقر النمر الَّتي جَرَت مُنذُ أيام، على خلفيَّة قضايا متَّصلةٍ بحُريَّةِ الرأي والتَّعبير ومطالبَ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ مُلِحَّةٍ تطالُ شَريحَةً كبيرةً من المواطنينَ المُسلِمينَ الباحثينَ عَن حياةٍ كريمةٍ وعزيزةٍ.

إنَّنا إذ نأسَفُ لِما جَرى عبرَ عمليَّةِ الاعتِقالِ هذِه، وما استَتبَعَها من عمليَّاتِ عُنفٍ أدَّت إلى قَتلِ وجَرحِ عدَدٍ من المواطنينَ الأبرياءِ العُزَّلِ الَّذينَ خَرَجوا في تَظاهُراتٍ عفويَّةٍ احتجاجاً على ما حصَل، نؤكَّدُ على أنَّ مُعالَجَةَ أمثالِ هذِهِ القَضايا والتَّحرُّكاتِ لا يُمكنُ أن يَتمَّ من خلالِ العُنف، لأنَّ العُنفَ يَستَدعي العُنف، ولذلِكَ فإنَّ على السُّلُطاتِ المعنيَّةِ أن تُبادِرَ إلى إطلاقِ سَراحِ الشَّيخِ النمر، وتبدأَ بحوارٍ جديٍّ مع مواطنيها لأنَّ هذا هوَ طريقُ الحلِّ الأمثَل.

وفي البحرين، لا يزالُ الشَّعبُ البحرينيُّ المظلومُ يُعاني من تعسُّفِ السُّلطةِ وبَطشِها في ظِلِّ تَغطيةٍ عربيَّةٍ ودوليَّةٍ لنظامِها القمعيِّ المُجرِم، وتَعمِيَةٍ إعلاميَّةٍ مُتَقَصَّدَة، مُترافِقَةٍ مع سكوتٍ عربيٍّ ودوليٍّ متآمرٍ ومُخزٍ.

أمَّا في سوريَّا، فتستمرُّ المؤامرةُ الدَّوليَّةُ على الشَّعبِ السُّوريِّ الَّذي يُعاني مِنَ العُنفِ المُسلَّحِ المجنونِ الَّذي تُغذِّيهِ محاور إقليميَّةٌ ودوليَّة، والَّذي يَسقُطُ من جَرَّائِهِ في كلِّ يومٍ مزيدٌ من القتلى والجَرحى الأبرياء، في ظلِّ سعيٍ استكباريٍ لتخريبِ الإقتصادِ وإنتاجِ الفِتَنِ الطَّائفيَّةِ والمَذهَبيَّةِ الَّتي لا تُبقي ولا تَذَر. وقد استمعَنا مُنذُ أيامٍ إلى تصريحِ وزيرةِ الخارجيَّةِ الأمريكيَّةِ كلينتو الَّتي هدَّدَت سوريَّا والمنطقة بـ "هجومٍ كارثي" ستشنُّهُ المجموعاتُ المسلَّحَةُ ما لم يتوقَّفِ العُنف!! هذا العُنفُ الَّذي ما تزال تُنتِجُهُ حكومَتُها الشَّيطانيَّةُ وأذنابُها في المنطقة. في ظلِّ مساعيَ مستمرَّةٍ لإفشالِ أيِّ حلٍ سلميٍّ للأزمَةِ المُشتَعِلَة.

وأخيراً نصِلُ إلى لبنان الَّذي باتَ مَسرَحاً للفوضَى المُتَنَقِّلةِ والعُنفِ المُتنَامي في أكثرِ مِن منطِقَة، حتَّى باتَ المواطِنُ اللبنَانيُّ لا يأمنُ على نَفسِهِ وأهلِهِ ومالِهِ من المشاكلِ المتنوِّعَةِ الَّتي لا يعرِفُ كيفَ تبدأُ ولا كيف تَنتَهي، والَّتي تترافَقُ مع أَزَماتٍ اجتماعيَّةٍ ومعيشيَّةٍ خانِقَةٍ تضغطُ على حياةِ النَّاسِ وأعصابِهِم، وخاصَّةً مُشكلَةُ الماءِ والكهرباءِ الَّتي دائماً ما تتفاقَمُ مع بدايةِ الصَّيفِ اللاهب، في حين يغرَقُ السِّياسيُّونَ في حِسابَاتِهِمُ الطَّائفيَّةِ والإنتخابيَّةِ الضيِّقَة، الَّتي يَضيعُ مَعَها مشروعُ الدَّولَة.

إنَّ هذا الشَّعبَ الَّذي صَنَعَ بصُمودِهِ ومقاومَتِهِ الباسِلَةِ الانتصارَ في تموز 2006م يَستَحِقُّ قياداتٍ تَتَحمَّلُ المسؤوليَّةَ وتقدِّرُ التَّضحياتِ العظيمةِ الَّتي بَذَلَها هوَ ومقاومتَهُ الشَّريفة -الَّتي تتكاثَرُ عليها في هذهِ الأيامِ خناجِرُ الغَدرِ وعمليَّاتُ التآمُرِ الإقليميَّةِ والدَّوليَّة- هذه التَّضحياتُ الَّتي ما يزالانِ يبذِلانِها مُنذُ سِتِّ سنواتٍ في سبيلِ العدالَةِ والكرامَةِ والحُريَّةِ والإستقلال.

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ {التوبة:105}

والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين.

المصدر:http://shazaraatamiliyya.blogspot.com (http://shazaraatamiliyya.blogspot.com)