مقاتل
12-26-2004, 07:50 AM
فريدون هويدا يطرح في كتابه الجديد إجابات بسيطة على سؤال معقد:
يقترح المؤلف سببين:
ينطلق كتاب فريدون هويدا «ما الذي يريده العرب؟» من فرضية ان العرب من بين اكثر الشعوب تعاسة على الكرة الارضية اليوم. ويبلغنا المؤلف ان معظم العرب لا يثقون بحكوماتهم، ويشكون شكا عميقا في الصفوة المثقفة، ولا ينظرون لمستقبلهم نظرة تفاؤل. ويعاني العرب اليوم من اكتئاب عميق.
ولكن ما هي اسباب هذا الاكتئاب؟
الاول، هو ان العرب وجدوا انفسهم محاصرين في عالم لا يلعبون فيه أي دور تقريبا. فالعالم المعاصر يشكله الغرب. وافكاره السياسية جاءت من الثورتين الفرنسية والاميركية، التي استمدت بدورها افكارها من الفلسفة الاغريقية ومن عصر النهضة. وببنيته الاقتصادية ثمرة لجهد الاقتصاديين البريطانيين والثورة الصناعية البريطانية. واخيرا، فالاطر الفلسفية الرئيسية من وضع الاوروبيين، ولاسيما الفلسفة الالمانية في القرنين الثامن والتاسع عشر.
لقد ظل العرب لقرون طويلة موضوعا للتاريخ وليس ذاتا. وبدلا من المشاركة في صنع التاريخ، صنع تاريخ له من قبل الاخرين. ولم يشاهد العرب حتى احداث التاريخ. بل كانت الاشياء تحدث لهم، بدون ابسط احتمالات لرد الفعل.
ان امتصاص صدمة مثل هذا الموقف ليس بالامر السهل بالنسبة للعرب لانه في القرون الاولى من صعود الاسلام تحت راية الاسلام شكلوا ما يمكن ان نطلق عليه الفريق الفائز. فقد اجتاحت جيوشهم الامبراطورتين الفارسية والبيزنطية مثل انتشار النار في الهشيم. وفي وقت من الاوقات كانت الامبراطورية العربية المعروفة بإسم امبراطورية الاسلام، تغطي مناطق تمتد من وسط اسيا والمحيط الهادي الي المحيط الاطلنطي وجنوب اوروبا. ولكن بدأ المد في الانحسار، وتحول الانتشار العربي الى تراجع سريع. وطبقا لهويدا فإن العرب لم يقبلوا وضعهم الجديد كخاسرين في التاريخ. وماداموا يرفضون ذلك، فلن يتمكنوا من التوصل الى مزيج جديد يمكن ان يساعدهم على دخول عالم الانتصار مرة اخرى.
والسبب الثاني، الذي ذكره هويدا، للاكتئاب العربي هو انه في كل مرة يحاولون العثور على وسيلة للخروج من ازمتهم، يحبطون. فقد بدأوا في محاولة التحديث وكانت النتيجة الوحيدة هي ظهور دول على الطراز الغربي تميزت بقدرة افضل على قهر شعوبها ونهب الخزانة العامة لمصلحة النخبة. ثم حاولوا استخدام المشاعر الوطنية وهي ايديولوجية مستوردة من الغرب ايضا، ولكن الامر انتهى بنظم ديكتاتورية اكثر قسوة وفسادا. ولعدة عقود من الزمن جربوا العديد من الافكار الاشتراكية، المستوردة هي الاخرى من الغرب. ومرة اخرى، انتهى الامر بمرارة. وفي الاونة الاخيرة، انشغل العرب بإنواع متعددة من المفاهيم الاسلامية، وتحويل الدين الى ايديولوجية سياسية. وقد تسببت تلك التجربة في اضرار لا يمكن اصلاحها للدين والسياسة في العالم العربي.
ولكن كيف انطلق العرب نحو طريق الاكتئاب؟ يعتقد هويدا ان العملية بدأت في وقت من الاوقات في القرن الثاني عشر. وقد ساهمت عدة عوامل في تغيير مضمون الحياة العربية. الاولى هي تأثير موجات الغزو المتعاقبة من اسيا الوسطى الى ادت الى ظهور حكام غير عرب، المغول والاتراك والمماليك من بين شعوب اخرى. والامر الثاني هو صدمة الصليبيين، التي اوقفت لاول مرة منذ عدة قرون بعد الغزو في حوض البحر المتوسط. ولكن اهم العوامل طبقا لهويدا، هو اغلق باب الاجتهاد وفرض اتجاهات فكرية ثابتة وجامدة على القطاع العربي من العالم الاسلامي. وكأن الحضارة التي تميزت بطاقتها المنفتحة اندفعت للاختباء خوفا.
ويتمتع هويدا، المولود في دمشق والمتضلع باللغة والثقافة العربيتين، بسيرة عمل دبلوماسي مميزة ومديدة خلفه. وكدبلوماسي شاب كان عضوا في الفريق الذي أعد مسودة الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 برئاسة السيدة اليانور روزفيلت، أرملة الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفيلت. وفي وقت لاحق عمل لسنوات عدة مع منظمة اليونسكو في باريس قبل أن يصبح مساعدا لوزير خارجية ايران وأخيرا الممثل الدائم في الأمم المتحدة. ولكن هويدا يتمتع أيضا بسيرة مماثلة كروائي وناقد سينمائي وخبير في القصص البوليسية. وكان واحدا من مؤسسي المجلة الفرنسية الشهيرة "دفاتر السينما"، وهو معترف به باعتباره واحدا من رواد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية سوية مع اريك رومر وكلود شابرول وفرانسوا تروفو.
وقد رشحت رواية هويدا الأولى الموسومة "المحاجر الصحية" في القائمة النهائية لجائزة غونكور الأدبية المتميزة عام 1960. ومنذ ذلك الحين نشر تسع روايات أخرى بينها "ثلوج سيناء" التي أشارت الى بداية اهتمام هويدا بحالة الحياة العربية المعاصرة. وهويدا أيضا محلل نفسي هاو حيث تعمق خلال سنوات في دراسة فرويد ويونغ ليجد نظريات يمكن أن تطبق على مجتمعات انسانية أوسع.
ويعيش هويدا، البالغ 80 عاما، في الوقت الحالي في مدينة وسط الغابات تبعد ساعتين بالسيارة عن واشنطن حيث تحول بيته الى مكان واجب الزيارة بالنسبة للدبلوماسيين والسياسيين والفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين من مختلف أنحاء العالم. ومن بين من يتصلون به الكثير من العرب الذين يرغبون في الاستماع الى تشخيصات هويدا للاكتئاب العربي. ولكن الى أي مدى يعتبر ذلك التشخيص دقيقا؟ هل العرب يعانون من الكآبة حقا؟ وفي ظل غياب الدراسات العلمية فان أفضل ما يمكن للمرء فعله الاعتماد على الدلائل العرضية. وعلى أساس ذلك فان مستعرض الكتاب الحالي يجد من الصعوبة دعم التشخيص.
وابتداء فان الافتراض بأن هناك عالما عربيا واحدا وأن كل العرب يشعرون ويتصرفون بالطريقة ذاتها يصعب اقامة الدليل عليه بالحقائق. بل انه من الصعب تقرير من يتعين اعتباره عربيا ومن لا يتعين. هل يكفي لبلد معين أن يعتبر عربيا لكي يستطيع الانتماء الى الجامعة العربية؟ وهل العروبة تتحدد باللغة الأم؟ وهل هناك ثقافة عربية أوسع يمكن، في اطار التعريف، أن تنفصل عن الاسلام؟ وهل يتعين ان نستند ببساطة الى اختبار المشاعر الفردية الذي يعني أن أي واحد يشعر بأنه عربي يجب أن يعتبر كذلك؟ وأيا كان المنهج الذي نختاره فان أعدادا كبيرة من الناس سيتركون خارج تعريف العربي. وهناك ملايين من الناس في العالم العربي ممن لا تعتبر العربية لغتهم. وهناك أيضا ملايين ممن هم من غير المسلمين. والأكثر اهمية أنه من غير المؤكد على الاطلاق أن أغلبية من الناس الذين يعيشون في الدول العربية يشعرون كعرب أولا ويأتي أي شعور آخر بعد ذلك. وعلى سبيل المثال هل يشعر العماني انه عربي أولا ثم عماني؟
وبينما لا يوجد شك بوجود حساسية عربية معينة ويشترك فيها ملايين الناس في ما يقرب من 24 دولة فان الحقيقة هي ان العالم العربي متنوع الى الحد الذي لا يمكن اخضاعه الى تعميمات شاملة.
ما يسمى بالهوية العربية اشبه بالهوية الاوروبية المزعومة، فحتى في دول تتوفر فيها لغة مشتركة، مثل فرنسا وبلجيكا وسويسرا تندرج الهوية الاوروبية داخل هوية قومية اكبر. يؤكد هويدا ان العرب لا يزالون يشعرون بالحزن والحسرة ازاء خسارة اسبانيا، ضمن اراض اخرى خسروها بعد سيطرتهم عليها ردحا من الزمن. إلا انه من الصعب الاعتماد هنا على الدليل التاريخي. فحكام الاندلس لم يعتبروا انفسهم عربا، بل كانوا ينظرون الى انفسهم كمسلمين.
وفي واقع الأمر هم ليسوا عربا بل بربر من شمال افريقيا اختلطوا بسكان الاندلس المحليين. وحتى ذلك التاريخ لم يكن هناك دليل على ان المغرب، اقرب الدول العربية جغرافيا الى اسبانيا، شعر بالحزن او الفزع إزاء فقدان الاندلس. ومن المؤكد ان الكثير من المغاربة يرغبون في العيش في اسبانيا حيث من الممكن ان يحصلوا على وظائف افضل ويتمتعون بمستوى معيشة اعلى، فمساعيهم ومجهوداتهم للهجرة ليست مدفوعة بأي حنين الى الاندلس. تأكيد هويدا على ان العرب سعوا الى ايجاد حل لمشاكلهم في الماضي امر مفتوح للجدل والنقاش.
فغالبية الايدولوجيات الموجودة في العالم العربي، ابتداء من القومية ومرورا بالاشتراكية والقومية العربية، جرى استيرادها من اوروبا اصلا وتحمل وجهة النظر الاوروبية تجاه التاريخ كونه متوالية من اسفل الى اعلى. كل هذه الايدولوجيات يعد بمستقبل ذهبي ويصور الماضي كونه «ظلام» و«قمع إقطاعي». الفكر القومي والقومية العربية دخلا الى المنطقة بواسطة القوى الاوروبية والنخب المحلية، خصوصا المسيحيون والاقليات غير المسلمة المرتبطة معها. ظهر فكر البعث في سوريا ولبنان عندما كانت خاضعة لسيطرة فرنسا خلال فترة حكم فيشي، كما من الواضح ان الفاشية كانت مصدر إلهام للفكر القومي.
اما الاحزاب الاشتراكية والشيوعية، التي دعمها، إن لم يكن قد أنشأها، الاتحاد السوفياتي، فقد رفضت هذه الاحزاب العروبة والاسلاموية باعتبارها في عرفها أيدولوجيات رجعية. حتى ما يسمى بالاسلاموية، وهي ايدولوجية رائجة الآن، لا يمكن وصفها بأنها توجه ماضوي. ليس ثمة شك ان هناك شعار «الاسلام هو الحل»، فيما هناك بعض منظّري هذا التوجه ممكن انهم يرسمون صورة خيالية لتجارب الدولة الاسلامية الاولى التي قامت في القرن السابع الميلادي، إلا ان هؤلاء لا يريدون إحياء الخلافة في أي صورة من الصور، كما لا يعتزمون إلغاء التقدم البشري الذي حدث خلال الـ 1300 عام الماضية. يؤكد هويدا على ان خوف الحكام العرب من الإصلاح والتغيير امر مبلغ فيه، فيما مطالب الجماهير العربية من حكامها لا تزال متواضعة. ثمة حاجة الى نخبة فكرية تلعب دور الوسيط بين الجماهير والحكام، أي أشخاص لا يستخدمون موقعهم كمفكرين سواء كان ذلك لضمان الحصول على نصيب من الامتيازات الممنوحة من الحكام او تحريض الجماهير في نهاية الأمر على ثورة مدمرة.
رغم عيوبه، يعتبر كتاب هويدا مساهمة مثيرة للاهتمام في فهم العالم العربي الحديث، ذلك ان الكاتب يستخدم تقنيات علم النفس الفردي على شعوب بكاملها. يحتوي الكتاب على نظرات بعيدة تنم عن عمق وذكاء المؤلف، خصوصا فيما يتعلق بجوانب النفس العربية. الجانب الاكثر اهمية يتمثل في ان الرسالة الاخيرة التي لخصها هويدا في ان العرب يعانون من نقص في الحريات ترجم الى عجز في الشعور بالأمل، رغم انه ليس بمقدور أي مجتمع الاضطلاع باصلاحات طويلة الامد واستثمارات اقتصادية رئيسية والدخول في مغامرات ثقافية طموحة بدون الإبقاء على الأمل باستمرار.
يقترح المؤلف سببين:
ينطلق كتاب فريدون هويدا «ما الذي يريده العرب؟» من فرضية ان العرب من بين اكثر الشعوب تعاسة على الكرة الارضية اليوم. ويبلغنا المؤلف ان معظم العرب لا يثقون بحكوماتهم، ويشكون شكا عميقا في الصفوة المثقفة، ولا ينظرون لمستقبلهم نظرة تفاؤل. ويعاني العرب اليوم من اكتئاب عميق.
ولكن ما هي اسباب هذا الاكتئاب؟
الاول، هو ان العرب وجدوا انفسهم محاصرين في عالم لا يلعبون فيه أي دور تقريبا. فالعالم المعاصر يشكله الغرب. وافكاره السياسية جاءت من الثورتين الفرنسية والاميركية، التي استمدت بدورها افكارها من الفلسفة الاغريقية ومن عصر النهضة. وببنيته الاقتصادية ثمرة لجهد الاقتصاديين البريطانيين والثورة الصناعية البريطانية. واخيرا، فالاطر الفلسفية الرئيسية من وضع الاوروبيين، ولاسيما الفلسفة الالمانية في القرنين الثامن والتاسع عشر.
لقد ظل العرب لقرون طويلة موضوعا للتاريخ وليس ذاتا. وبدلا من المشاركة في صنع التاريخ، صنع تاريخ له من قبل الاخرين. ولم يشاهد العرب حتى احداث التاريخ. بل كانت الاشياء تحدث لهم، بدون ابسط احتمالات لرد الفعل.
ان امتصاص صدمة مثل هذا الموقف ليس بالامر السهل بالنسبة للعرب لانه في القرون الاولى من صعود الاسلام تحت راية الاسلام شكلوا ما يمكن ان نطلق عليه الفريق الفائز. فقد اجتاحت جيوشهم الامبراطورتين الفارسية والبيزنطية مثل انتشار النار في الهشيم. وفي وقت من الاوقات كانت الامبراطورية العربية المعروفة بإسم امبراطورية الاسلام، تغطي مناطق تمتد من وسط اسيا والمحيط الهادي الي المحيط الاطلنطي وجنوب اوروبا. ولكن بدأ المد في الانحسار، وتحول الانتشار العربي الى تراجع سريع. وطبقا لهويدا فإن العرب لم يقبلوا وضعهم الجديد كخاسرين في التاريخ. وماداموا يرفضون ذلك، فلن يتمكنوا من التوصل الى مزيج جديد يمكن ان يساعدهم على دخول عالم الانتصار مرة اخرى.
والسبب الثاني، الذي ذكره هويدا، للاكتئاب العربي هو انه في كل مرة يحاولون العثور على وسيلة للخروج من ازمتهم، يحبطون. فقد بدأوا في محاولة التحديث وكانت النتيجة الوحيدة هي ظهور دول على الطراز الغربي تميزت بقدرة افضل على قهر شعوبها ونهب الخزانة العامة لمصلحة النخبة. ثم حاولوا استخدام المشاعر الوطنية وهي ايديولوجية مستوردة من الغرب ايضا، ولكن الامر انتهى بنظم ديكتاتورية اكثر قسوة وفسادا. ولعدة عقود من الزمن جربوا العديد من الافكار الاشتراكية، المستوردة هي الاخرى من الغرب. ومرة اخرى، انتهى الامر بمرارة. وفي الاونة الاخيرة، انشغل العرب بإنواع متعددة من المفاهيم الاسلامية، وتحويل الدين الى ايديولوجية سياسية. وقد تسببت تلك التجربة في اضرار لا يمكن اصلاحها للدين والسياسة في العالم العربي.
ولكن كيف انطلق العرب نحو طريق الاكتئاب؟ يعتقد هويدا ان العملية بدأت في وقت من الاوقات في القرن الثاني عشر. وقد ساهمت عدة عوامل في تغيير مضمون الحياة العربية. الاولى هي تأثير موجات الغزو المتعاقبة من اسيا الوسطى الى ادت الى ظهور حكام غير عرب، المغول والاتراك والمماليك من بين شعوب اخرى. والامر الثاني هو صدمة الصليبيين، التي اوقفت لاول مرة منذ عدة قرون بعد الغزو في حوض البحر المتوسط. ولكن اهم العوامل طبقا لهويدا، هو اغلق باب الاجتهاد وفرض اتجاهات فكرية ثابتة وجامدة على القطاع العربي من العالم الاسلامي. وكأن الحضارة التي تميزت بطاقتها المنفتحة اندفعت للاختباء خوفا.
ويتمتع هويدا، المولود في دمشق والمتضلع باللغة والثقافة العربيتين، بسيرة عمل دبلوماسي مميزة ومديدة خلفه. وكدبلوماسي شاب كان عضوا في الفريق الذي أعد مسودة الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 برئاسة السيدة اليانور روزفيلت، أرملة الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفيلت. وفي وقت لاحق عمل لسنوات عدة مع منظمة اليونسكو في باريس قبل أن يصبح مساعدا لوزير خارجية ايران وأخيرا الممثل الدائم في الأمم المتحدة. ولكن هويدا يتمتع أيضا بسيرة مماثلة كروائي وناقد سينمائي وخبير في القصص البوليسية. وكان واحدا من مؤسسي المجلة الفرنسية الشهيرة "دفاتر السينما"، وهو معترف به باعتباره واحدا من رواد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية سوية مع اريك رومر وكلود شابرول وفرانسوا تروفو.
وقد رشحت رواية هويدا الأولى الموسومة "المحاجر الصحية" في القائمة النهائية لجائزة غونكور الأدبية المتميزة عام 1960. ومنذ ذلك الحين نشر تسع روايات أخرى بينها "ثلوج سيناء" التي أشارت الى بداية اهتمام هويدا بحالة الحياة العربية المعاصرة. وهويدا أيضا محلل نفسي هاو حيث تعمق خلال سنوات في دراسة فرويد ويونغ ليجد نظريات يمكن أن تطبق على مجتمعات انسانية أوسع.
ويعيش هويدا، البالغ 80 عاما، في الوقت الحالي في مدينة وسط الغابات تبعد ساعتين بالسيارة عن واشنطن حيث تحول بيته الى مكان واجب الزيارة بالنسبة للدبلوماسيين والسياسيين والفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين من مختلف أنحاء العالم. ومن بين من يتصلون به الكثير من العرب الذين يرغبون في الاستماع الى تشخيصات هويدا للاكتئاب العربي. ولكن الى أي مدى يعتبر ذلك التشخيص دقيقا؟ هل العرب يعانون من الكآبة حقا؟ وفي ظل غياب الدراسات العلمية فان أفضل ما يمكن للمرء فعله الاعتماد على الدلائل العرضية. وعلى أساس ذلك فان مستعرض الكتاب الحالي يجد من الصعوبة دعم التشخيص.
وابتداء فان الافتراض بأن هناك عالما عربيا واحدا وأن كل العرب يشعرون ويتصرفون بالطريقة ذاتها يصعب اقامة الدليل عليه بالحقائق. بل انه من الصعب تقرير من يتعين اعتباره عربيا ومن لا يتعين. هل يكفي لبلد معين أن يعتبر عربيا لكي يستطيع الانتماء الى الجامعة العربية؟ وهل العروبة تتحدد باللغة الأم؟ وهل هناك ثقافة عربية أوسع يمكن، في اطار التعريف، أن تنفصل عن الاسلام؟ وهل يتعين ان نستند ببساطة الى اختبار المشاعر الفردية الذي يعني أن أي واحد يشعر بأنه عربي يجب أن يعتبر كذلك؟ وأيا كان المنهج الذي نختاره فان أعدادا كبيرة من الناس سيتركون خارج تعريف العربي. وهناك ملايين من الناس في العالم العربي ممن لا تعتبر العربية لغتهم. وهناك أيضا ملايين ممن هم من غير المسلمين. والأكثر اهمية أنه من غير المؤكد على الاطلاق أن أغلبية من الناس الذين يعيشون في الدول العربية يشعرون كعرب أولا ويأتي أي شعور آخر بعد ذلك. وعلى سبيل المثال هل يشعر العماني انه عربي أولا ثم عماني؟
وبينما لا يوجد شك بوجود حساسية عربية معينة ويشترك فيها ملايين الناس في ما يقرب من 24 دولة فان الحقيقة هي ان العالم العربي متنوع الى الحد الذي لا يمكن اخضاعه الى تعميمات شاملة.
ما يسمى بالهوية العربية اشبه بالهوية الاوروبية المزعومة، فحتى في دول تتوفر فيها لغة مشتركة، مثل فرنسا وبلجيكا وسويسرا تندرج الهوية الاوروبية داخل هوية قومية اكبر. يؤكد هويدا ان العرب لا يزالون يشعرون بالحزن والحسرة ازاء خسارة اسبانيا، ضمن اراض اخرى خسروها بعد سيطرتهم عليها ردحا من الزمن. إلا انه من الصعب الاعتماد هنا على الدليل التاريخي. فحكام الاندلس لم يعتبروا انفسهم عربا، بل كانوا ينظرون الى انفسهم كمسلمين.
وفي واقع الأمر هم ليسوا عربا بل بربر من شمال افريقيا اختلطوا بسكان الاندلس المحليين. وحتى ذلك التاريخ لم يكن هناك دليل على ان المغرب، اقرب الدول العربية جغرافيا الى اسبانيا، شعر بالحزن او الفزع إزاء فقدان الاندلس. ومن المؤكد ان الكثير من المغاربة يرغبون في العيش في اسبانيا حيث من الممكن ان يحصلوا على وظائف افضل ويتمتعون بمستوى معيشة اعلى، فمساعيهم ومجهوداتهم للهجرة ليست مدفوعة بأي حنين الى الاندلس. تأكيد هويدا على ان العرب سعوا الى ايجاد حل لمشاكلهم في الماضي امر مفتوح للجدل والنقاش.
فغالبية الايدولوجيات الموجودة في العالم العربي، ابتداء من القومية ومرورا بالاشتراكية والقومية العربية، جرى استيرادها من اوروبا اصلا وتحمل وجهة النظر الاوروبية تجاه التاريخ كونه متوالية من اسفل الى اعلى. كل هذه الايدولوجيات يعد بمستقبل ذهبي ويصور الماضي كونه «ظلام» و«قمع إقطاعي». الفكر القومي والقومية العربية دخلا الى المنطقة بواسطة القوى الاوروبية والنخب المحلية، خصوصا المسيحيون والاقليات غير المسلمة المرتبطة معها. ظهر فكر البعث في سوريا ولبنان عندما كانت خاضعة لسيطرة فرنسا خلال فترة حكم فيشي، كما من الواضح ان الفاشية كانت مصدر إلهام للفكر القومي.
اما الاحزاب الاشتراكية والشيوعية، التي دعمها، إن لم يكن قد أنشأها، الاتحاد السوفياتي، فقد رفضت هذه الاحزاب العروبة والاسلاموية باعتبارها في عرفها أيدولوجيات رجعية. حتى ما يسمى بالاسلاموية، وهي ايدولوجية رائجة الآن، لا يمكن وصفها بأنها توجه ماضوي. ليس ثمة شك ان هناك شعار «الاسلام هو الحل»، فيما هناك بعض منظّري هذا التوجه ممكن انهم يرسمون صورة خيالية لتجارب الدولة الاسلامية الاولى التي قامت في القرن السابع الميلادي، إلا ان هؤلاء لا يريدون إحياء الخلافة في أي صورة من الصور، كما لا يعتزمون إلغاء التقدم البشري الذي حدث خلال الـ 1300 عام الماضية. يؤكد هويدا على ان خوف الحكام العرب من الإصلاح والتغيير امر مبلغ فيه، فيما مطالب الجماهير العربية من حكامها لا تزال متواضعة. ثمة حاجة الى نخبة فكرية تلعب دور الوسيط بين الجماهير والحكام، أي أشخاص لا يستخدمون موقعهم كمفكرين سواء كان ذلك لضمان الحصول على نصيب من الامتيازات الممنوحة من الحكام او تحريض الجماهير في نهاية الأمر على ثورة مدمرة.
رغم عيوبه، يعتبر كتاب هويدا مساهمة مثيرة للاهتمام في فهم العالم العربي الحديث، ذلك ان الكاتب يستخدم تقنيات علم النفس الفردي على شعوب بكاملها. يحتوي الكتاب على نظرات بعيدة تنم عن عمق وذكاء المؤلف، خصوصا فيما يتعلق بجوانب النفس العربية. الجانب الاكثر اهمية يتمثل في ان الرسالة الاخيرة التي لخصها هويدا في ان العرب يعانون من نقص في الحريات ترجم الى عجز في الشعور بالأمل، رغم انه ليس بمقدور أي مجتمع الاضطلاع باصلاحات طويلة الامد واستثمارات اقتصادية رئيسية والدخول في مغامرات ثقافية طموحة بدون الإبقاء على الأمل باستمرار.