المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإشاعة بين الذات والموضوعية



سيد مرحوم
12-24-2004, 03:17 AM
الإشاعة بين الذات والموضوعية

شبكة العراق الثقافية : algiashi

لا نقصد بالإشاعة ذلك النوع الموجه بالتحريض والتآمر الذي يعتمد على الأضاليل والدعاية المغرضة والأخبار الملتوية بهدف إيقاع الخصم في فخ الأزمات والشبهات والمشاكل، بل نقصد ذلك النوع العفوي الفوضوي غير المتعمد الذي يتطور فيما بعد إلى بلوغ مرحلة "الإشاعة الكاملة" التي يترتب عليها إثارة البلبلة وتحريف الحقائق وتشويه الأفكار والتشنيع في البشر والأمم.

فليست كل إشاعة هي إفك وتزوير بل لربما تحمل في طياتها بعض الحقيقة والتي تتحول حين تلوكها الألسن عبر مسيرتها إلى أكاذيب ضخمة وأقاويل متضاربة.

فالشائعة وليدة الغموض والتناقض للمواقف والأحداث الأمر الذي يتيح الفرصة لإطلاق التفسيرات المشبوهة في ظل عدد من المؤشرات التي تؤيد أو تعارض الواقعة ومما يزيد من حدتها ضبابية رؤية الحدث وانعدام الثقة في مصدر الخبر.

خلصت كثير من الدراسات إلى أن 70 بالمائة من التفاصيل تسقط خلال خمسة أو ستة تنقلات من فم إلى فم حتى وإن لم يكن هناك فترة زمنية فاصلة في النقل فمعدل سقوطها يتبع اتجاهاً هبوطياً مطرداً وإن كان أكبر معدل لسقوط التفاصيل يتم في الاستعدادات الأولى حتى تنتهي الواقعة إلى خبر مقتضب مضافاً أليه كثير من المبالغات والأقاصيص المختلفة.

بناء المعرفة وواقع الذات

ينطلق الإنسان في بناء منظومة المواقف والتصورات للعالم الخارجي ومجريات الأحداث من خلال بناء معرفي لبشرٍ على شبكة الواقع الاجتماعي يرتكز على علاقات وقيم معقدة وهي عوامل تؤثر على بناء المعرفة ورؤية الأحداث والوقائع، إذ أن مسيرة البناء المعرفي عند الإنسان تنمو عبر وسط اجتماعي ومصدر ثقافي ومناخ ذاتي وليس فقط بين الذات والموضوع.
ومن هنا فإن البعد الإنساني يقوم بدور إبداء التصورات والمواقف وفق منظومة الانفعالات والمشاعر التي تؤثر بدورها على موضوع الإدراك الحسي للشائعة فقد يظهر المرء ما يرغب فيه ويسقط ما يخالف هواه. ولذلك يدخل الشعور بالنقص، والتعصب والتحيز والعوامل الشخصية من حب وبغض وكره بين طيات الشائعة المحمولة

وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا

ففي دراسة أجريت على عينتين من الأطفال، الأولى من المتعصبين ضد الزنوج والأخرى من غير المتعصبين، أعدت الدراسة لقياس "أثر التعصب في الإدراك الحسي" أخذت الباحثة تحكي للمجموعتين قصة عن وصول طفلين جدد أحدهما والده زنجي والآخر يهودي، ثم طلبت من الأطفال إعادة القصة وروايتها من جديد فكانت رواية المتعصبين كلها ضد الزنوج وأضافوا الكثير من الحسد والحكايات غير الحقيقية وقاموا بتشويه الوقائع بأكاذيب لم ترد في القصة.
أما الأطفال غير المتعصبين، فكان إدراكهم أقرب ما يكون إلى الواقع دون أي تشويه للقصة كما روتها الباحثة.


الإشاعة تنعيش داخلي

من هنا تتحول القصة إلى مناسبة جيدة للتنفيس والتفريج عما يلج في النفس وفرصة مواتية لتهدئة التوترات الانفعالية الحادثة أو للضغوط الفكرية أو الانفعالية وكما يتدخل التعصب في عملية الإشاعة فإن العوامل الذاتية أو الإسقاط أو عامل التميز له تأثيره أيضاً.

فالحقد يسرد أقاصيص الاتهام والافتراء والكذب، والطموحات والآمال تكمن وراءها الإشاعة الحالمة، والقلق هو القوة الدافعة إلى أقاصيص الكوارث، وحب الظهور يجعل سرد القصص المضحكة مجالاً للهيمنة على المستمعين، والتشنيع والتجريم وسيلة للتنفيس عن مشاعر الضعف والحق.

اتجاهات الرأي العام

إن الغموض الذي يكتنف الإشاعة الواحدة يجعلها تنتشر وتتوالد بطريقة مركبة وغالباً ما يصدر من شائعة واحدة إشاعات تنشر الأكاذيب الضخمة بصورة أكثر من انتشار الحقائق الصادقة وكلما كانت الشائعة تدور حول حديث هام ومثير يزيد تأثيرها ارتباطاً من حب الاستطلاع المعرفي ويكون أثرها عميقاً في نفوس الناس حين تكثر الأقاويل المتعارضة.

للشائعة قدرة في أحداث صنوف البلبلة في المجتمع الواحد وإحداث الوقيعة بين الفرق وتحطيم وشائج القربى وعرى الصداقات، فهي معول هدم لجسور الثقة بين الأفراد ومشوش عظيم لرؤيتهم تدفعهم للتحزّب بين مصدق ومكذّب ومشكك حول واقعة لربما الأصل فيها خيال.
فالإشاعة تنجح في تكوين نسق من الاتجاهات مشحونة فيما بينها حيث تكون تصورات غير حقيقية مشوهة للوقائع يتأثر الرأي العام بانعكاساتها.

مقبرة الإشاعة

المبدأ الأخلاقي الذي يتمثل بالتربية السليمة والصدق والانصراف عن الغيبة والنميمة أمور تقوي الأواصر والتماسك الاجتماعي.

والإسلام يعتبر الإشاعة كذباً وافتراءً وخداعاً وتضليلاً ووسيلة الانتهازيين الذين في قلوبهم مرض، ومن هذا المنطلق شدد الدين الحنيف على وجوب التثبت عند سماع الأخبار والتأكد من مصداقية مصدرها.

قال الله تعالى.. (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).

كما أكد على عدم الخوض في الإشاعات التي يعتذر التحقق من مصدرها أو المشكوك في صحتها. قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا).

وشدد على الالتزام بالموضوعية في سياق الرد المنطقي المدعم بالوقائع مع التقبل للنقد البناء والاعتراف بالخطأ لتجنب الانحراف للعوامل الشخصية.