د. حامد العطية
04-16-2012, 06:41 PM
يوم واحد لملكة بريطانيا وسبعة أيام لحكام العراق
د. حامد العطية
في شهر أيار من هذا العام ستحتفل بريطانيا بمرور ستين عاماً على اعتلاء الملكة إليزابيث العرش، واحتفاءً بهذه المناسبة تقرر أن يكون الخامس من ذلك الشهر عطلة وطنية.
في العراق انعقد مؤتمر قمة الدول العربية في آذار من هذا العام، ومن اجله قررت الحكومة العراقية تعطيل العمل في المؤسسات الحكومية بالعاصمة لمدة اسبوع كامل.
منذ بدء التحضير لاحتفالات بريطانيا تركز الاهتمام على كلفة فعاليات الاحتفال وطريقة تسديدها، وحرص الساسة ومنظمو الاحتفال على تقليص ما تتحمله الميزانية الحكومية من تكاليف الاحتفال، والاعتماد بدرجة كبيرة على التبرعات ومصادر التمويل الأخرى.
أما تكاليف مؤتمر قمة بغداد فقد تحملتها حكومة البلد المضيف وحدها، كما جرت العادة في قمم سابقة، وهي أموال الشعب لا القابعين في المنطقة الخضراء، وتراوحت التقديرات الحكومية والبرلمانية للتكلفة بين نصف مليار إلى مليار وربع مليار دولار أمريكي.
حذر حاكم البنك المركزي البريطاني السير مرفن كينج من الآثار السلبية المباشرة ليوم العطلة الإضافي المقررللإحتفال بعيد جلوس الملكة على العرش، وفي اجابته على سؤال في مجلس اللوردات حول هذا الموضوع لم يستبعد تقلص الناتج القومي البريطاني في الربع الثاني من السنة الحالية نتيجة ذلك، وقدرت وزارة الثقافة البريطانية خسارة الاقتصاد البريطاني بسبب عطلة اليوم الواحد بما يقارب الملياري دولار بأقل تقدير، مع احتمال ارتفاعها إلى اكثر من خمسة مليارات دولار.
في العراق تعطل الدوام في المؤسسات الحكومية في بغداد أسبوعاً كاملاً، لا يوماً واحداً كما هو مقرر في بريطانيا، ولا يبدو أن الحكومة العراقية تكترث للنتائج الاقتصادية السلبية الناجمة عن هذا التعطيل، إذ أغفلت ذكرها واكتفت بعرض الكلفة المباشرة للمؤتمر.
ورد في أحد التقارير الصحفية المنشورة على الإنترنت بأن الخبير الاقتصادي العراقي ماجد الصوري قدر تكلفة تعطيل الدوام بملياري دولار، على أساس أن عدد العاملين في القطاعين الحكومي والخاص عشرة ملايين والدخل اليومي لكل واحد منهم عشرون دولاراً ومن عملية ضرب الرقمين حصل على مبلغ الملياري دولار.
من المعروف أن معظم الموظفين الحكوميين يعملون في العاصمة بغداد، وهؤلاء قبضوا رواتبهم لاسبوع كامل من دون عمل، ويقدر مجموع هذه الرواتب على أساس أرقام الميزانية العراقية بحوالي نصف مليار دولار، وهذا جانب واحد من التكلفة.
في بريطانيا يبلغ اجمالي الناتج المحلي إثنان وربع التريليون دولار، أي أن كل يوم من أيام السنة يضيف حوالي ستة مليارات دولار إلى الإجمالي، وهو رقم قريب من تقديرات الحد الأعلى لوزارة الثقافة البريطانية لتكلفة عطلة اليوم الواحد الإضافية.
لو طبقنا نفس الطريقة على عطلة الإسبوع في العراق الذي يبلغ إجمالي الناتج المحلي فيه حوالي إثنان وثمانون مليار دولار، لكانت النتيجة خسارة مليار ونصف من إجمالي الناتج المحلي بإفتراض أن تعطيل الدوام في بغداد تسبب بشلل شامل أو شبه شامل للإنتاج في العراق برمته، وهو افتراض مقبول.
مهما كانت تكلفة مؤتمر قمة بغداد فقد كانت باهضة جداً، في أعين العراقيين، وبالأخص الملايين العاطلين عن العمل وملايين الأرامل واليتامى والملايين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهؤلاء جميعاً لم يجنوا أي فائدة مباشرة أو غير مباشرة من انعقاد المؤتمر في عاصمة بلادهم. كما خابت الآمال العريضة للحكومة العراقية في الكسب المعنوي من المؤتمر بسبب غياب معظم ملوك ورؤوساء العرب وتدني مستوى مشاركتهم، وتأكد بأنه حدث هامشي، إذ جاءت مقرارته متطابقة تماماً مع مشيئة القوى الفاعلة في تطورات المنطقة، من القوى الغربية وبعض الحكومات العربية، ومستنسخة لقرارات صدرت عن اجتماعات سابقة، وما أن انتهى المؤتمر حتى استقبلت السعودية وقطر نائب رئيس الجمهورية الهاشمي المتهم بالإرهاب الطائفي، في رسالة بليغة للحكومة العراقية بأن عزلتها لم تنتهي بانعقاد المؤتمر.
في بريطانيا اعتمدوا عطلة يوم واحد للإحتفال بملكتهم على الرغم من كلفته الباهضة لأنهم يتوقعون من ذلك فائدة معنوية جمة ستكون لها نتائج إيجابية واسعة فيما بعد، وفي العراق انعقد مؤتمر القمة بكلفة باهضة أيضاً، مباشرة وغير مباشرة، ولم يجنى العراقيون وحكومتهم أي فائدة تذكر منه.
ما زال بعض الكتاب يدافعون عن المؤتمر، ويختلقون له المحاسن والفوائد، على الرغم من كل الأدلة بالضد، وهم ذكروني بأيام الصبا، عندما كان عبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق، وكنا نتحمس لخطبه، ونتحمل طولها الممل، وعباراتها المكررة، ونغالب النعاس حتى تنتهي، لسبب واحد، وهو معرفة إن كان الزعيم الأوحد سيعلن اليوم التالي عطلة مدرسية، وهو لم يخيب آمالنا في اكثر من مناسبة، وتمادى الزعيم الأوحد في سعيه لكسب رضانا نحن الطلاب فاصدر قرار "الزحف " المشهور الذي أتاح للطالبين الراسبين الانتقال إلى الصف التالي مما تسبب في تدهور السمعة العلمية للمؤسسات التعليمية العراقية.
هل فرح طلاب المدارس في بغداد بعطلة الأسبوع؟ من الصعب تصور ذلك في الوقت الذي يكابد أهاليهم مشاعر الاحباط والكآبة التي خلفتها في نفوسهم أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) الرعد:17.
انفض مؤتمر قمة بغداد وذهب جفاءً ولم يمكث منه شيئ في أرض العراق، فما اشبهه بزبد السيل.
15 نيسان 2012م
د. حامد العطية
في شهر أيار من هذا العام ستحتفل بريطانيا بمرور ستين عاماً على اعتلاء الملكة إليزابيث العرش، واحتفاءً بهذه المناسبة تقرر أن يكون الخامس من ذلك الشهر عطلة وطنية.
في العراق انعقد مؤتمر قمة الدول العربية في آذار من هذا العام، ومن اجله قررت الحكومة العراقية تعطيل العمل في المؤسسات الحكومية بالعاصمة لمدة اسبوع كامل.
منذ بدء التحضير لاحتفالات بريطانيا تركز الاهتمام على كلفة فعاليات الاحتفال وطريقة تسديدها، وحرص الساسة ومنظمو الاحتفال على تقليص ما تتحمله الميزانية الحكومية من تكاليف الاحتفال، والاعتماد بدرجة كبيرة على التبرعات ومصادر التمويل الأخرى.
أما تكاليف مؤتمر قمة بغداد فقد تحملتها حكومة البلد المضيف وحدها، كما جرت العادة في قمم سابقة، وهي أموال الشعب لا القابعين في المنطقة الخضراء، وتراوحت التقديرات الحكومية والبرلمانية للتكلفة بين نصف مليار إلى مليار وربع مليار دولار أمريكي.
حذر حاكم البنك المركزي البريطاني السير مرفن كينج من الآثار السلبية المباشرة ليوم العطلة الإضافي المقررللإحتفال بعيد جلوس الملكة على العرش، وفي اجابته على سؤال في مجلس اللوردات حول هذا الموضوع لم يستبعد تقلص الناتج القومي البريطاني في الربع الثاني من السنة الحالية نتيجة ذلك، وقدرت وزارة الثقافة البريطانية خسارة الاقتصاد البريطاني بسبب عطلة اليوم الواحد بما يقارب الملياري دولار بأقل تقدير، مع احتمال ارتفاعها إلى اكثر من خمسة مليارات دولار.
في العراق تعطل الدوام في المؤسسات الحكومية في بغداد أسبوعاً كاملاً، لا يوماً واحداً كما هو مقرر في بريطانيا، ولا يبدو أن الحكومة العراقية تكترث للنتائج الاقتصادية السلبية الناجمة عن هذا التعطيل، إذ أغفلت ذكرها واكتفت بعرض الكلفة المباشرة للمؤتمر.
ورد في أحد التقارير الصحفية المنشورة على الإنترنت بأن الخبير الاقتصادي العراقي ماجد الصوري قدر تكلفة تعطيل الدوام بملياري دولار، على أساس أن عدد العاملين في القطاعين الحكومي والخاص عشرة ملايين والدخل اليومي لكل واحد منهم عشرون دولاراً ومن عملية ضرب الرقمين حصل على مبلغ الملياري دولار.
من المعروف أن معظم الموظفين الحكوميين يعملون في العاصمة بغداد، وهؤلاء قبضوا رواتبهم لاسبوع كامل من دون عمل، ويقدر مجموع هذه الرواتب على أساس أرقام الميزانية العراقية بحوالي نصف مليار دولار، وهذا جانب واحد من التكلفة.
في بريطانيا يبلغ اجمالي الناتج المحلي إثنان وربع التريليون دولار، أي أن كل يوم من أيام السنة يضيف حوالي ستة مليارات دولار إلى الإجمالي، وهو رقم قريب من تقديرات الحد الأعلى لوزارة الثقافة البريطانية لتكلفة عطلة اليوم الواحد الإضافية.
لو طبقنا نفس الطريقة على عطلة الإسبوع في العراق الذي يبلغ إجمالي الناتج المحلي فيه حوالي إثنان وثمانون مليار دولار، لكانت النتيجة خسارة مليار ونصف من إجمالي الناتج المحلي بإفتراض أن تعطيل الدوام في بغداد تسبب بشلل شامل أو شبه شامل للإنتاج في العراق برمته، وهو افتراض مقبول.
مهما كانت تكلفة مؤتمر قمة بغداد فقد كانت باهضة جداً، في أعين العراقيين، وبالأخص الملايين العاطلين عن العمل وملايين الأرامل واليتامى والملايين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهؤلاء جميعاً لم يجنوا أي فائدة مباشرة أو غير مباشرة من انعقاد المؤتمر في عاصمة بلادهم. كما خابت الآمال العريضة للحكومة العراقية في الكسب المعنوي من المؤتمر بسبب غياب معظم ملوك ورؤوساء العرب وتدني مستوى مشاركتهم، وتأكد بأنه حدث هامشي، إذ جاءت مقرارته متطابقة تماماً مع مشيئة القوى الفاعلة في تطورات المنطقة، من القوى الغربية وبعض الحكومات العربية، ومستنسخة لقرارات صدرت عن اجتماعات سابقة، وما أن انتهى المؤتمر حتى استقبلت السعودية وقطر نائب رئيس الجمهورية الهاشمي المتهم بالإرهاب الطائفي، في رسالة بليغة للحكومة العراقية بأن عزلتها لم تنتهي بانعقاد المؤتمر.
في بريطانيا اعتمدوا عطلة يوم واحد للإحتفال بملكتهم على الرغم من كلفته الباهضة لأنهم يتوقعون من ذلك فائدة معنوية جمة ستكون لها نتائج إيجابية واسعة فيما بعد، وفي العراق انعقد مؤتمر القمة بكلفة باهضة أيضاً، مباشرة وغير مباشرة، ولم يجنى العراقيون وحكومتهم أي فائدة تذكر منه.
ما زال بعض الكتاب يدافعون عن المؤتمر، ويختلقون له المحاسن والفوائد، على الرغم من كل الأدلة بالضد، وهم ذكروني بأيام الصبا، عندما كان عبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق، وكنا نتحمس لخطبه، ونتحمل طولها الممل، وعباراتها المكررة، ونغالب النعاس حتى تنتهي، لسبب واحد، وهو معرفة إن كان الزعيم الأوحد سيعلن اليوم التالي عطلة مدرسية، وهو لم يخيب آمالنا في اكثر من مناسبة، وتمادى الزعيم الأوحد في سعيه لكسب رضانا نحن الطلاب فاصدر قرار "الزحف " المشهور الذي أتاح للطالبين الراسبين الانتقال إلى الصف التالي مما تسبب في تدهور السمعة العلمية للمؤسسات التعليمية العراقية.
هل فرح طلاب المدارس في بغداد بعطلة الأسبوع؟ من الصعب تصور ذلك في الوقت الذي يكابد أهاليهم مشاعر الاحباط والكآبة التي خلفتها في نفوسهم أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) الرعد:17.
انفض مؤتمر قمة بغداد وذهب جفاءً ولم يمكث منه شيئ في أرض العراق، فما اشبهه بزبد السيل.
15 نيسان 2012م