د. حامد العطية
01-21-2012, 09:33 PM
ما الصلة بين السيرك وسباق الخيل والإرهاب في العراق؟
د. حامد العطية
الموضوع مستوحى من مقال للأستاذ جواد عزيز بعنوان "عندما قرر الملك فيصل الأول افتتاح سيرك في بغداد" والمنشور في جريدة المدى بتاريخ 9 كانون الثاني 2011م.
تضمن المقال واقعتين تاريختين حول السيرك وسباق الخيل في العراق، الأولى توثق استقدام سيرك تركي لتقديم عروضه في بغداد، استجابة لاقتراح وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل، بهدف صرف اهتمام العراقيين عن المعاهدة العراقية-البريطانية الأولى، والتي أثارت موجة عارمة من الاستياء بين صفوف العراقيين، وبالفعل فقد أنسى السيرك التركي البغداديين - أو بعضهم على الأقل - المعاهدة الجائرة، كما خلفت التجربة انطباعاً قوياً في ذاكرة العراقيين فصار البعض منهم وكلما عصفت بالبلد أزمة يتمنى عودة السيرك للخلاص منها.
حدثت الواقعة الثانية في العهد الملكي أيضاً، وفي العام 1931م على وجه التحديد، حينما اضطربت بغداد بفعل مظاهرات عمالية احتجاجاً على قانون رسوم البلديات، سرعان ما تحولت إلى حملة مناهضة لوزارة نوري السعيد آنذاك، فبادر رئيس الوزراء السعيد لفتح نادي سباق الخيل، والذي كان مغلقاً بسبب العطلة الصيفية، وقدم استقالته لامتصاص غضب الجماهير، وعندما عاد لتشكيل وزارة جديدة كان الشارع العراقي هادءاً تماماً.
السيرك التركي وسباق الخيل العراقي وسيلتان استخدمهما ساسة العراق في العهد الملكي لصرف أنظار واهتمام الناس عن قضايا سياسية هامة، وعندهما توقف مقال الأستاذ جواد عزيز، فهل استمرت سياسة إلهاء العراقيين في العهود الجمهورية؟
استهل النظام الجمهوري بملهاة كبرى، محلية في الفكرة والانتاج والتنفيذ، وهي محكمة المهداوي، وكانت ملهاة على غرار التراجيديا اليونانية الكلاسيكية، تضمنت كل العناصر الدرامية، بما في ذلك الكورس والشعر والتهريج، وتجاوزت شعبيتها الحدود لتصل إلى معظم الدول العربية، ولتكون موضوعاً لسخرية العرب وغيرهم من العراقيين.
عبد السلام عارف هو الآخر استعمل الملهاة، عن قصد أو نتيحة الغباء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الاشتراكية الرشيدة والوحدة الثلاثية.
لا تسألوا عن عبد الرحمن عارف فقد كان في غيبوبة، لم يفق منها إلا على قرقعة سلاح حرسه الجمهوري الذي خانه وتحالف مع البعثيين.
تفنن العهد البعثي، بمرحلتيه البكرية والصدامية، في استعمال الملهاة، في البدأ كانت المصارعة الحرة، بطلها عدنان القيسي، ملهاة من الصنف الطريف المسلي، وفي أيامه لم يعد للناس حديث سوى بطلهم القيسي، ومن المعروف بأن هذا النوع من المصارعة استعراضي بحت.
ثم جاء دور أبي طبر، تلك ملهاة من النوع المرعب، استحوذت على اهتمام العراقيين، وأقضت مضاجعهم، وكان آخر فصولها القبض على السفاح واعدامه، ويرى البعض بأنها كانت ملهاة مختلقة من النظام البعثي.
ما زال الجدل قائماً حول العقارين الوهميين "بكرين" و"صدامين" لمداواة السرطان، فبينما يرجح البعض بأنهما ملهاة صنعها النظام البعثي يرى آخرون بأنها خدعة انطلت على البعثيين الجهلة.
أكبر ملهاة وأكثرها مأساوية كانت حرب النظام البعثي على إيران، شارك فيها معظم العراقيين، وكانت أرض العراق كلها خشبة مسرح للملهاة، فعلى الجبهات دارت مشاهد القتال وسالت دماء مئات الآلاف وانتثرت اشلاؤهم، وفي الداخل تواصلت قوافل الجنائز محفوفة بأصوات الطبول والأبواق والزغاريد والبكاء، وكل عراقي دفع ثمن مشاركته في هذه الملهاة بالدم والألم والحزن والمال والعمر الضائع والفرص المتبددة.
بعد ضرب رقم زمني قياسي انتهت ملهاة الحرب على إيران لتبدأ بعدها بسنتين فقط ملهاة من نفس النوع وهي احتلال الكويت، فكانت نسخة قصيرة الأمد من الملهاة الدموية السابقة.
استمر النظام البعثي بسياسة الإلهاء، فكانت الحملة الإيمانية وشحة الغذاء والدواء ومغامرات أبناء الطاغية وأزواج بناته.
جاء الأمريكيون المحتلون، فأزاحوا النظام البعثي وحلوا محله، وسرعان ما استشعروا الحاجة لملهاة، تشغل العراقيين وتفرقهم، حتى لا يجتمعوا على مناهضة الاحتلال، كما فعلوا في ثورة العشرين، فجعلوا الفدرالية والمحاصصة الطائفية اساساً للعملية السياسية، وتحدوا الإرهاب السلفي لمنازلتهم على أرض العراق، وهكذا حقق المحتلون الأمريكيون هدفهم في اضعاف العراق بفعل التفتيت المناطقي والاستقطاب الطائفي والعرقي والإرهاب المستوطن وعسر العملية السياسية، فهل يدرك العراقيون الذين يقترفون الجرائم الإرهابية وأعوانهم بأنهم مجرد دمى في ملهاة دموية مدمرة يحركهم أعداء العراق في الداخل والخارج؟
سيظل حكام العراق يستقدمون السيرك والحروب والإرهاب وغيرها من الملاهي، البريئة منها والمميتة، لصرف انظار واهتمام العراقيين عن مصالحهم الأساسية في نبذ الفرقة والحفاظ على وحدة وقوة العراق واعادة البناء والاعمار واختيار المخلصين الأكفاء لإدارة مؤسساتهم، وتحذرنا الآية الكريمة التالية من الاستسلام لإغراء الملهاة: [وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا] (الجمعة :11).
20 كانون الثاني 2012م
د. حامد العطية
الموضوع مستوحى من مقال للأستاذ جواد عزيز بعنوان "عندما قرر الملك فيصل الأول افتتاح سيرك في بغداد" والمنشور في جريدة المدى بتاريخ 9 كانون الثاني 2011م.
تضمن المقال واقعتين تاريختين حول السيرك وسباق الخيل في العراق، الأولى توثق استقدام سيرك تركي لتقديم عروضه في بغداد، استجابة لاقتراح وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل، بهدف صرف اهتمام العراقيين عن المعاهدة العراقية-البريطانية الأولى، والتي أثارت موجة عارمة من الاستياء بين صفوف العراقيين، وبالفعل فقد أنسى السيرك التركي البغداديين - أو بعضهم على الأقل - المعاهدة الجائرة، كما خلفت التجربة انطباعاً قوياً في ذاكرة العراقيين فصار البعض منهم وكلما عصفت بالبلد أزمة يتمنى عودة السيرك للخلاص منها.
حدثت الواقعة الثانية في العهد الملكي أيضاً، وفي العام 1931م على وجه التحديد، حينما اضطربت بغداد بفعل مظاهرات عمالية احتجاجاً على قانون رسوم البلديات، سرعان ما تحولت إلى حملة مناهضة لوزارة نوري السعيد آنذاك، فبادر رئيس الوزراء السعيد لفتح نادي سباق الخيل، والذي كان مغلقاً بسبب العطلة الصيفية، وقدم استقالته لامتصاص غضب الجماهير، وعندما عاد لتشكيل وزارة جديدة كان الشارع العراقي هادءاً تماماً.
السيرك التركي وسباق الخيل العراقي وسيلتان استخدمهما ساسة العراق في العهد الملكي لصرف أنظار واهتمام الناس عن قضايا سياسية هامة، وعندهما توقف مقال الأستاذ جواد عزيز، فهل استمرت سياسة إلهاء العراقيين في العهود الجمهورية؟
استهل النظام الجمهوري بملهاة كبرى، محلية في الفكرة والانتاج والتنفيذ، وهي محكمة المهداوي، وكانت ملهاة على غرار التراجيديا اليونانية الكلاسيكية، تضمنت كل العناصر الدرامية، بما في ذلك الكورس والشعر والتهريج، وتجاوزت شعبيتها الحدود لتصل إلى معظم الدول العربية، ولتكون موضوعاً لسخرية العرب وغيرهم من العراقيين.
عبد السلام عارف هو الآخر استعمل الملهاة، عن قصد أو نتيحة الغباء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الاشتراكية الرشيدة والوحدة الثلاثية.
لا تسألوا عن عبد الرحمن عارف فقد كان في غيبوبة، لم يفق منها إلا على قرقعة سلاح حرسه الجمهوري الذي خانه وتحالف مع البعثيين.
تفنن العهد البعثي، بمرحلتيه البكرية والصدامية، في استعمال الملهاة، في البدأ كانت المصارعة الحرة، بطلها عدنان القيسي، ملهاة من الصنف الطريف المسلي، وفي أيامه لم يعد للناس حديث سوى بطلهم القيسي، ومن المعروف بأن هذا النوع من المصارعة استعراضي بحت.
ثم جاء دور أبي طبر، تلك ملهاة من النوع المرعب، استحوذت على اهتمام العراقيين، وأقضت مضاجعهم، وكان آخر فصولها القبض على السفاح واعدامه، ويرى البعض بأنها كانت ملهاة مختلقة من النظام البعثي.
ما زال الجدل قائماً حول العقارين الوهميين "بكرين" و"صدامين" لمداواة السرطان، فبينما يرجح البعض بأنهما ملهاة صنعها النظام البعثي يرى آخرون بأنها خدعة انطلت على البعثيين الجهلة.
أكبر ملهاة وأكثرها مأساوية كانت حرب النظام البعثي على إيران، شارك فيها معظم العراقيين، وكانت أرض العراق كلها خشبة مسرح للملهاة، فعلى الجبهات دارت مشاهد القتال وسالت دماء مئات الآلاف وانتثرت اشلاؤهم، وفي الداخل تواصلت قوافل الجنائز محفوفة بأصوات الطبول والأبواق والزغاريد والبكاء، وكل عراقي دفع ثمن مشاركته في هذه الملهاة بالدم والألم والحزن والمال والعمر الضائع والفرص المتبددة.
بعد ضرب رقم زمني قياسي انتهت ملهاة الحرب على إيران لتبدأ بعدها بسنتين فقط ملهاة من نفس النوع وهي احتلال الكويت، فكانت نسخة قصيرة الأمد من الملهاة الدموية السابقة.
استمر النظام البعثي بسياسة الإلهاء، فكانت الحملة الإيمانية وشحة الغذاء والدواء ومغامرات أبناء الطاغية وأزواج بناته.
جاء الأمريكيون المحتلون، فأزاحوا النظام البعثي وحلوا محله، وسرعان ما استشعروا الحاجة لملهاة، تشغل العراقيين وتفرقهم، حتى لا يجتمعوا على مناهضة الاحتلال، كما فعلوا في ثورة العشرين، فجعلوا الفدرالية والمحاصصة الطائفية اساساً للعملية السياسية، وتحدوا الإرهاب السلفي لمنازلتهم على أرض العراق، وهكذا حقق المحتلون الأمريكيون هدفهم في اضعاف العراق بفعل التفتيت المناطقي والاستقطاب الطائفي والعرقي والإرهاب المستوطن وعسر العملية السياسية، فهل يدرك العراقيون الذين يقترفون الجرائم الإرهابية وأعوانهم بأنهم مجرد دمى في ملهاة دموية مدمرة يحركهم أعداء العراق في الداخل والخارج؟
سيظل حكام العراق يستقدمون السيرك والحروب والإرهاب وغيرها من الملاهي، البريئة منها والمميتة، لصرف انظار واهتمام العراقيين عن مصالحهم الأساسية في نبذ الفرقة والحفاظ على وحدة وقوة العراق واعادة البناء والاعمار واختيار المخلصين الأكفاء لإدارة مؤسساتهم، وتحذرنا الآية الكريمة التالية من الاستسلام لإغراء الملهاة: [وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا] (الجمعة :11).
20 كانون الثاني 2012م