كانون
01-16-2003, 07:02 AM
من احاديث سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله دام ظله
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدُ للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبهِ الـمُنتجبين، وعلى جميع أنبياءِ اللّه الـمُرسلين.
متابعةً لما تقدم في إطار الحديث عن أولياء اللّه وعن أولياء الشيطان، نقف أمام هذه الآية الكريمة: ]الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[[النساء/76]. إن اللّه سبحانه وتعالى يتحدث في هذه الآية عن أهداف القتال لدى المؤمنين ولدى الكافرين، لنعرف مع من نقف، وفي سبيل من نقاتل، وكيف نفهم حركية القتال وخطه في هذا الجانب أو ذاك الجانب؟! والذين آمنوا هم الذين يخلصون في توحيد اللّه، فلا يخلصون لغيره إلاّ من خلال الإخلاص للّه، فإن هؤلاء عندما يفكرون ففكرهم في خطِّ وحي اللّه، وعندما يتحركون فحركتهم في الخط الذي يرضاه اللّه، وهدفهم هو الهدف الذي يحبه اللّه.
وقد ألمحنا في حديثٍ سابقٍ إلى أنَّ سبيل اللّه الذي يقاتل المؤمنون تحت عنوانه يمثل كل ما يرفع مستوى الإنسان مما يحبه اللّه ويرضاه. فالقتال في سبيل المستضعفين المضطهدين من قبل المستكبرين الذين يمنعوهم من أن يمارسوا حريتهم الفكرية أو السياسية أو العسكرية، فيضغطون عليهم من أجل إسقاط قضاياهم وأوضاعهم، هو قتال في سبيل اللّه، وقتال من أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل، وذلك من أجل أن يأخذ الحق حريته في ممارسة فكره وشريعته وقوته، والقتال من أجل الدفاع عن النفس هو قتال في سبيل اللّه ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ[[البقرة/190] لذلك فإن المؤمن عندما يقاتل فإنه لا يقاتل من أجل اضطهاد الإنسانية أو مصادرة ثرواتها وإذلال شعوبها، بل يقاتل في سبيل اللّه وللمصلحة الإنسانية العليا، وعندما نفهم أن اللّه هو الرحمن الرحيم الحكيم، فإن القتال في سبيله هو من أجل الحضارة الإنسانية المنفتحة على الخير والعدل، أمّا الكافرون، وهم الذين لا يرتكزون على قاعدة روحية أو إنسانية، بل يستغرقون في ذاتياتهم وفي الجوانب المادية لما يستهدفونه في أوضاعهم الخاصة والعامة، فهم يعيشون حالة الضياع في الحياة بسبب فقدانهم الإيمان باللّه، وهو سر الوجود وأساس الكون، ولذلك فقد استغرقوا في شهواتهم ولذاتهم وأطماعهم، وتشبثوا بالأرض ولم يرفعوا ببصرهم إلى السماء، فعندما انطلقوا في الحياة بعيدين عن اللّه، التقوا بالطاغوت فتحاكموا وقاتلوا في سبيله.
مرجعية الطاغوت
وقد حدثنا القرآن الكريم عن الطاغوت، وأنه لا يمكن للإنسان أن يكون مع اللّه ومع الطاغوت في آن واحد، وكلمة الطاغوت مأخوذة من الطغيان، وهو تجاوز الحد الذي يفرضه المبدأ والعدل والحق والخير. والطاغوت هو الذي يمثل ذلك كله ويتنوع حسب تنوع الموقف الذي يطغى فيه. فهناك طاغوت تجاوز الخط الديني المتمثل في وحي اللّه فكراً وشريعةً ومنهجاً وأخذ بفكر ومنهج آخر وشريعة أخرى، ففكره منحرف عمّا أوحى به اللّه ومنحرف عن شريعته ومنهجه سبحانه. وهناك طاغوت اجتماعي، وهو الذي يمثل القيم الاجتماعية التي ترتبط بالقيم الجاهلية، والتي تقع تحت سيطرة مواقع النفوذ ومراكز القوة لتفرضها على الناس، كما نلاحظ ذلك في المجتمعات التي تخضع لتقاليد وأعراف ترتبط بالجاهلية، وفي المجتمعات العشائرية، حيث يأخذ هؤلاء بقانون العشائر بدلاً من قانون الإسلام، وهو ما يمثل الطاغوت الاجتماعي. أما الطاغوت السياسي، فهو المنهج الذي يأخذ بالظلم السياسي والسلوك الشرّير الذي يصادر حياة الناس وواقعهم، وقد يتمثل في شخص أو دولة أو محور دولي وعالمي. وهناك طاغوت عسكري، وهو القوة العسكرية التي تبغي في الأرض بغير الحق، وتستغل ما لديها من وسائل القوة لاضطهاد الناس ومصادرة أموالهم وأمنهم وما إلى ذلك. لذا فالطاغوت لا ينحصر بخطّ أو شخص معين، بل إن لكلٍ منهما طاغوته ولكل مجتمع طواغيته. وقد حضّت الديانات على رفض الطاغوت جملةً وتفصيلاً، لأن على الإنسان أن يستمسك بموقع القوة التي لا تنقضم ولا تهتز، كما في قوله سبحانه وتعالى: ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى[[البقرة/256] فالإيمان باللّه وحده هو الذي يفرض على الإنسان الكفر بالطاغوت، لأنه يفرض الالتزام العقيدي والعملي باللّه وحده بما يؤكده رفض كل ما عداه في أي جانب من الجوانب، وهو يمثل القاعدة الصلبة التي إذا ما استند إليها فإنه سيقف في موقع الثبات والصلابة.
ونقرأ أيضاً الآية ]اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[[البقرة/257]، فنجد أن اللّه سبحانه وتعالى يفرق بين المؤمنين في أخذهم بأسباب الإيمان وبين الكافرين في أخذهم بأسباب الكفر، وذلك أن الإيمان يوحي إلى الإنسان بأن اللّه وليه، وعندما يعيش الإنسان تحت ولاية اللّه، الذي هو نور السموات والأرض، وهو الخير كله والعدل كله والنور كله، فإن اللّه يخرجه من ظلمات الجهل والتخلف ومن كل ظلمات الشر والظلم وما إلى ذلك لينفتح على النور كله.
فالقرآن يقول: ]قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ[[المائدة/15]، فالشريعة التي أنزلها اللّه للنبي محمد (ص) هي شريعة الحياة التي لا تحمل الموت، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[[الأنفال/24].
وهكذا في كل المنهج الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى للإنسان في الحياة الفردية والاجتماعية، فإن هذا المنهج يمثل النور الذي يضيء في الإنسان معاني الإنسانية ليعيشها في إنسانية الآخر، حيث يشرق العقل على العقل، والقلب على القلب، والشعور على الشعور، ليكون الإنسان كله نوراً في نفسه وفي مواقع الإنسانية. أما الذين أولياؤهم الطاغوت فإن الطاغوت يمثل الظلام الذي لا ينفتح على النور للإنسان وللحياة كلها، والطاغوت يمثل الشر، والشر هو الظلمات، ويمثل الاستكبار وكل العناصر السلبية في واقع الإنسان. ولذلك فإن الطاغوت يخرج الإنسان من العدل إلى الظلم، ومن الخير إلى الشر، ومن الحق إلى الباطل، لأن ذلك هو معنى الطغيان في التجاوز عن الحد، ليبقى الإنسان متحركاً في الظلمات ]ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[[النور/40] ولذلك قال اللّه سبحانه وتعالى: ]وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ[. وهكذا نرى الذين يسيرون مع الطاغوت الذي لا يلتقي باللّه من قريب ولا بعيد، كيف أنهم ينشرون الظلام الفكري والروحي والاجتماعي والسياسي على كل الناس، وإن خيّل للناس من خلال عمى الألوان أن هذا الظلام هو النور.
ونقرأ أيضاً في خطاب اللّه للرسول (ص) وهو يتحدث عن اليهود، الذين كانوا يحدِّثون الكافرين عن النبي القادم (ص) من خلال قراءتهم لكتبهم، ولكنهم عندما جاء النبي (ص) كفروا به، فقال سبحانه وتعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ[[النساء/51] وهو التوراة ]يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ[ فعندما سألهم المشركون قائلين لليهود: أنتم أصحاب الكتاب الأول، هل نحن أهدى أم محمد (ص)، وهل أن خطنا هو الأكثر هداية أم خط هؤلاء المسلمين؟! ولا إشكال في أن أي إنسان يؤمن باللّه فإنه لا يعتبر أن هناك هدىً لدى المشركين الذين يعبدون الأصنام، ومع ذلك كان اليهود بسبب حقدهم الذي يختزنونه ضد المسلمين يقولون إن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، مع أن المسلمين يعبدون اللّه وحده ويؤمنون بالتوراة والإنجيل، وقد جاء القرآن مصدقاً لما بين يديه وهو يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء ]أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ[[آل عمران/64] ويوجه المسلمين إلى أن لا يجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، ومع ذلك كان اليهود نتيجة حقدهم وعصبيتهم يقولون وهم يشيرون إلى المشركين ]هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا[[النساء/51-52] لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يملك القوة كلها ويملك العزة كلها.
ونحن نلاحظ - أيها الأحبة - وجود هذه الظاهرة عندنا، حينما يقارن البعض بين المسلمين وبين غير المسلمين، فيفضلون غير المسلمين على المسلمين، واللّه أجاب بقوله ]أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[[القلم/35-36] لأن المسلمين وإن كانوا مخطئين في بعض أقوالهم أو أعمالهم، ولكن تبقى قضية الإيمان فوق كل قضية، و لا يمكن أن نقدِّم الذين لا يؤمنون على المؤمنين في أي حالة من الحالات.
التحاكم إلى الطاغوت
ثم يتحدث اللّه سبحانه وتعالى عن مسألة التحاكم إلى الطاغوت، فعندما يدعى الإنسان إلى حكم اللّه، فإنه أحياناً يرفض حكمه اللّه، ولكن عندما يُدعى البعض إلى حكم الطاغوت الذي يرتكز على غير شريعة اللّه فإنه يبادر إليه، ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ[[النساء/60] لأنه سبحانه وتعالى قال: ]فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى[[البقرة/256]، ]وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا[[النساء/60].
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدُ للّه ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبهِ الـمُنتجبين، وعلى جميع أنبياءِ اللّه الـمُرسلين.
متابعةً لما تقدم في إطار الحديث عن أولياء اللّه وعن أولياء الشيطان، نقف أمام هذه الآية الكريمة: ]الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[[النساء/76]. إن اللّه سبحانه وتعالى يتحدث في هذه الآية عن أهداف القتال لدى المؤمنين ولدى الكافرين، لنعرف مع من نقف، وفي سبيل من نقاتل، وكيف نفهم حركية القتال وخطه في هذا الجانب أو ذاك الجانب؟! والذين آمنوا هم الذين يخلصون في توحيد اللّه، فلا يخلصون لغيره إلاّ من خلال الإخلاص للّه، فإن هؤلاء عندما يفكرون ففكرهم في خطِّ وحي اللّه، وعندما يتحركون فحركتهم في الخط الذي يرضاه اللّه، وهدفهم هو الهدف الذي يحبه اللّه.
وقد ألمحنا في حديثٍ سابقٍ إلى أنَّ سبيل اللّه الذي يقاتل المؤمنون تحت عنوانه يمثل كل ما يرفع مستوى الإنسان مما يحبه اللّه ويرضاه. فالقتال في سبيل المستضعفين المضطهدين من قبل المستكبرين الذين يمنعوهم من أن يمارسوا حريتهم الفكرية أو السياسية أو العسكرية، فيضغطون عليهم من أجل إسقاط قضاياهم وأوضاعهم، هو قتال في سبيل اللّه، وقتال من أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل، وذلك من أجل أن يأخذ الحق حريته في ممارسة فكره وشريعته وقوته، والقتال من أجل الدفاع عن النفس هو قتال في سبيل اللّه ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ[[البقرة/190] لذلك فإن المؤمن عندما يقاتل فإنه لا يقاتل من أجل اضطهاد الإنسانية أو مصادرة ثرواتها وإذلال شعوبها، بل يقاتل في سبيل اللّه وللمصلحة الإنسانية العليا، وعندما نفهم أن اللّه هو الرحمن الرحيم الحكيم، فإن القتال في سبيله هو من أجل الحضارة الإنسانية المنفتحة على الخير والعدل، أمّا الكافرون، وهم الذين لا يرتكزون على قاعدة روحية أو إنسانية، بل يستغرقون في ذاتياتهم وفي الجوانب المادية لما يستهدفونه في أوضاعهم الخاصة والعامة، فهم يعيشون حالة الضياع في الحياة بسبب فقدانهم الإيمان باللّه، وهو سر الوجود وأساس الكون، ولذلك فقد استغرقوا في شهواتهم ولذاتهم وأطماعهم، وتشبثوا بالأرض ولم يرفعوا ببصرهم إلى السماء، فعندما انطلقوا في الحياة بعيدين عن اللّه، التقوا بالطاغوت فتحاكموا وقاتلوا في سبيله.
مرجعية الطاغوت
وقد حدثنا القرآن الكريم عن الطاغوت، وأنه لا يمكن للإنسان أن يكون مع اللّه ومع الطاغوت في آن واحد، وكلمة الطاغوت مأخوذة من الطغيان، وهو تجاوز الحد الذي يفرضه المبدأ والعدل والحق والخير. والطاغوت هو الذي يمثل ذلك كله ويتنوع حسب تنوع الموقف الذي يطغى فيه. فهناك طاغوت تجاوز الخط الديني المتمثل في وحي اللّه فكراً وشريعةً ومنهجاً وأخذ بفكر ومنهج آخر وشريعة أخرى، ففكره منحرف عمّا أوحى به اللّه ومنحرف عن شريعته ومنهجه سبحانه. وهناك طاغوت اجتماعي، وهو الذي يمثل القيم الاجتماعية التي ترتبط بالقيم الجاهلية، والتي تقع تحت سيطرة مواقع النفوذ ومراكز القوة لتفرضها على الناس، كما نلاحظ ذلك في المجتمعات التي تخضع لتقاليد وأعراف ترتبط بالجاهلية، وفي المجتمعات العشائرية، حيث يأخذ هؤلاء بقانون العشائر بدلاً من قانون الإسلام، وهو ما يمثل الطاغوت الاجتماعي. أما الطاغوت السياسي، فهو المنهج الذي يأخذ بالظلم السياسي والسلوك الشرّير الذي يصادر حياة الناس وواقعهم، وقد يتمثل في شخص أو دولة أو محور دولي وعالمي. وهناك طاغوت عسكري، وهو القوة العسكرية التي تبغي في الأرض بغير الحق، وتستغل ما لديها من وسائل القوة لاضطهاد الناس ومصادرة أموالهم وأمنهم وما إلى ذلك. لذا فالطاغوت لا ينحصر بخطّ أو شخص معين، بل إن لكلٍ منهما طاغوته ولكل مجتمع طواغيته. وقد حضّت الديانات على رفض الطاغوت جملةً وتفصيلاً، لأن على الإنسان أن يستمسك بموقع القوة التي لا تنقضم ولا تهتز، كما في قوله سبحانه وتعالى: ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى[[البقرة/256] فالإيمان باللّه وحده هو الذي يفرض على الإنسان الكفر بالطاغوت، لأنه يفرض الالتزام العقيدي والعملي باللّه وحده بما يؤكده رفض كل ما عداه في أي جانب من الجوانب، وهو يمثل القاعدة الصلبة التي إذا ما استند إليها فإنه سيقف في موقع الثبات والصلابة.
ونقرأ أيضاً الآية ]اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[[البقرة/257]، فنجد أن اللّه سبحانه وتعالى يفرق بين المؤمنين في أخذهم بأسباب الإيمان وبين الكافرين في أخذهم بأسباب الكفر، وذلك أن الإيمان يوحي إلى الإنسان بأن اللّه وليه، وعندما يعيش الإنسان تحت ولاية اللّه، الذي هو نور السموات والأرض، وهو الخير كله والعدل كله والنور كله، فإن اللّه يخرجه من ظلمات الجهل والتخلف ومن كل ظلمات الشر والظلم وما إلى ذلك لينفتح على النور كله.
فالقرآن يقول: ]قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ[[المائدة/15]، فالشريعة التي أنزلها اللّه للنبي محمد (ص) هي شريعة الحياة التي لا تحمل الموت، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[[الأنفال/24].
وهكذا في كل المنهج الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى للإنسان في الحياة الفردية والاجتماعية، فإن هذا المنهج يمثل النور الذي يضيء في الإنسان معاني الإنسانية ليعيشها في إنسانية الآخر، حيث يشرق العقل على العقل، والقلب على القلب، والشعور على الشعور، ليكون الإنسان كله نوراً في نفسه وفي مواقع الإنسانية. أما الذين أولياؤهم الطاغوت فإن الطاغوت يمثل الظلام الذي لا ينفتح على النور للإنسان وللحياة كلها، والطاغوت يمثل الشر، والشر هو الظلمات، ويمثل الاستكبار وكل العناصر السلبية في واقع الإنسان. ولذلك فإن الطاغوت يخرج الإنسان من العدل إلى الظلم، ومن الخير إلى الشر، ومن الحق إلى الباطل، لأن ذلك هو معنى الطغيان في التجاوز عن الحد، ليبقى الإنسان متحركاً في الظلمات ]ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[[النور/40] ولذلك قال اللّه سبحانه وتعالى: ]وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ[. وهكذا نرى الذين يسيرون مع الطاغوت الذي لا يلتقي باللّه من قريب ولا بعيد، كيف أنهم ينشرون الظلام الفكري والروحي والاجتماعي والسياسي على كل الناس، وإن خيّل للناس من خلال عمى الألوان أن هذا الظلام هو النور.
ونقرأ أيضاً في خطاب اللّه للرسول (ص) وهو يتحدث عن اليهود، الذين كانوا يحدِّثون الكافرين عن النبي القادم (ص) من خلال قراءتهم لكتبهم، ولكنهم عندما جاء النبي (ص) كفروا به، فقال سبحانه وتعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ[[النساء/51] وهو التوراة ]يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ[ فعندما سألهم المشركون قائلين لليهود: أنتم أصحاب الكتاب الأول، هل نحن أهدى أم محمد (ص)، وهل أن خطنا هو الأكثر هداية أم خط هؤلاء المسلمين؟! ولا إشكال في أن أي إنسان يؤمن باللّه فإنه لا يعتبر أن هناك هدىً لدى المشركين الذين يعبدون الأصنام، ومع ذلك كان اليهود بسبب حقدهم الذي يختزنونه ضد المسلمين يقولون إن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، مع أن المسلمين يعبدون اللّه وحده ويؤمنون بالتوراة والإنجيل، وقد جاء القرآن مصدقاً لما بين يديه وهو يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء ]أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ[[آل عمران/64] ويوجه المسلمين إلى أن لا يجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، ومع ذلك كان اليهود نتيجة حقدهم وعصبيتهم يقولون وهم يشيرون إلى المشركين ]هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا[[النساء/51-52] لأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يملك القوة كلها ويملك العزة كلها.
ونحن نلاحظ - أيها الأحبة - وجود هذه الظاهرة عندنا، حينما يقارن البعض بين المسلمين وبين غير المسلمين، فيفضلون غير المسلمين على المسلمين، واللّه أجاب بقوله ]أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[[القلم/35-36] لأن المسلمين وإن كانوا مخطئين في بعض أقوالهم أو أعمالهم، ولكن تبقى قضية الإيمان فوق كل قضية، و لا يمكن أن نقدِّم الذين لا يؤمنون على المؤمنين في أي حالة من الحالات.
التحاكم إلى الطاغوت
ثم يتحدث اللّه سبحانه وتعالى عن مسألة التحاكم إلى الطاغوت، فعندما يدعى الإنسان إلى حكم اللّه، فإنه أحياناً يرفض حكمه اللّه، ولكن عندما يُدعى البعض إلى حكم الطاغوت الذي يرتكز على غير شريعة اللّه فإنه يبادر إليه، ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ[[النساء/60] لأنه سبحانه وتعالى قال: ]فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى[[البقرة/256]، ]وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا[[النساء/60].