المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الربيع في السعودية أفول هيبة النظام.. بانتظار سقوطه



القمر الاول
12-22-2011, 07:15 AM
فؤاد ابراهيم - جريدة السفير اللبنانيه

باحث في الفكر السياسي من السعودية


زلزلة متوسطة على مقياس الربيع العربي ضربت السعودية الشهر الفائت وحطّمت الزجاج العازل عن العالم الخارجي، كما أدى إلى تصدّع البنى القديمة السياسية والأيديولوجية..

الزلزلة تمثّلت في انتقال الاحتجاجات الشعبية في محافظة القطيف بالمنطقة الشرقية إلى مرحلة جديدة بعد سقوط خمسة شهداء، أغلبهم من الطلبة الجامعيين، وجرح بضعة أشخاص آخرين إضافة الى حملة اعتقالات واسعة في صفوف المحتّجين..

تزامن ذلك مع صدور أحكام غاشمة ضد مجموعة من الإصلاحيين تطلق عليهم الصحافة الرسمية (خلية الاستراحة)، في إشارة الى المكان الذي تمّ فيه اعتقالهم، والتهمة التي جرى تلبيسها لهم، حيث تراوحت أحكام عقوبة السجن بين 5 ـ 30 سنة.

حدثان عظيمان ولافتان استوجب بياناً من ستين إصلاحياً ينتمون إلى أطياف سياسية واجتماعية وأيديولوجية متعدّدة، اعتبروا أن (تظاهرات المواطنين السلمية في القطيف ومطالبهم المحقة، كانت تحتاج إلى تعامل أكثر حكمة، دون الحاجة إلى استخدام الوسائل القمعية المؤلمة)، كما طالبوا بإلغاء الأحكام القضائية الصادرة بحق الإصلاحيين، وقالوا إن (معتقلي جدة لا يستحقون التعامل معهم بإصدار تلك الأحكام الجائرة). وكانت محكمة سعودية أصدرت أحكاماً قضائية بلغ مجموعها (228 عاماً) ضد 16 ناشطاً إصلاحياً، بتهمة تشكيل تنظيم سري، وقد مضى على اعتقالهم أكثر من خمس سنوات.

بيانات أخرى موازية صدرت بعد ذلك، وتدور حول حقوق سياسية واجتماعية ودينية محدّدة، جرى التعامل معها بفظاظة وقسوة من قبل السلطات السعودية، انعكست على أداء المسؤولين وعلى لهجة الصحف المحلية.

لغة البيانات الهادئة والمتوازنة كشفت عن نسيج مهترئ لمقولات الإصلاح التي ملأت الفضاء الإعلامي المحلي والعالمي، وفي نهاية المطاف غرقت في النهر العريض لحملة الصحافة الرسمية بشقّيها المحلي والخارجي على أصحاب البيان. حملة تفتقر للحد الأدنى من الأخلاقية والمهنيّة والعقلانية، وتنزع الى تلبيد المناخ السياسي والاجتماعي العام بسيل عرم من الاتهامات وألوان القدف والتشهير، وكأن أمر عمليات صدر من (غرفة أمنيّة) لكل هؤلاء للرد على البيان..

حقيقة الأمر، أن البيان في أثره النهائي، تسبب في (انكسار الخطاب الرسمي)، ما أدى إلى صدمة في الدوائر التي اعتقدت أنها ما زالت تمسك بزمام التوجيه العام.

وما حصل، على وجه الخيبة، أن البيان وضع حدًّا لمفعول التهويل الأمني والإعلامي، تهويل يلزم الضحيّة بتقديم الاعتذار للجاني. فمن يعايش وتيرة الحراك الشعبي في السعودية منذ بدء الربيع العربي حتى الآن يلحظ التحوّل العميق في مستوى الرؤية العامة لدى غالبية السكّان إزاء الدولة، وكذلك الارتقاء المفاجئ لأداء المجموعات الناشطة المؤلّفة في الغالب من الشباب في كل مناطق المملكة.

لقد بات واقعاً اليوم أن السعودية ليست كما كانت قبل عام، وكل الاعوام السابقة على الإطلاق، بل إن مجمل النشاطات السياسية والحقوقية والثقافية تشير الى أن تغييراً كبيراً وعميقاً ينتظر حصوله في المدى المنظور.

فالقول بأن (عدم استقرار نظام الحكم السعودي من بين أخطر التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة في العام 2012)، بحسب خلاصة البحث الذي توصّل إليه مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك في 10 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، له ما يصدّقه على الأرض.

وخلاقاً للتوقّعات كافة، فإن الناس تعايشت مع هلوسات الإعلام الرسمي بربط كل فعل مطلبي سلمي بجهة ما في الخارج، حتى استبدل بعض المدرجين على قائمة العار إبان العدوان الإسرائيلي على غزّة (بسبب مقالات كتبها ضد المقاومة الفلسطينية)، مصطلح (اللوبي الصهيوني) بـ(لوبي إيراني)، ووصم به الإصلاحيين..!.. في غياب دولة القانون يصبح القذف والتشهير من شرور المباحات!

ما يلحظ في الإعلام الرسمي، أنه أفرغ كل ما في جوفه شتم، وتشهير، وقذف (فليس بعد القاع قاع)، وحاول تجريب، ولا يزال، اللعب على التناقضات الاجتماعية والإيديولوجية والسياسية بهدف تقطيع أوصال التيار الإصلاحي، وتحقيقاً لمبدأ الحكم في السعودية: وحدة السلطة مكفولة بقسمة المجتمع، فإن الغالبية الساحقة من الشبّاب باتت محصّنة إزاء الفعل التحريضي..

يبحث اليوم الإصلاحيون من مختلف الطبقات والأعمار عن حلول بجوهر رؤيوي، ولم يعد مقبولاً الارتهان لوعود لا تتحقق أبداً، فنموذج المواطن في هيئة (كائن انتظاري) قد سقط، وسلك الفعل الشعبي دروباً أخرى، فثمة أفكار إبداعية تبزغ الآن لأنها ضرورة لاستكمال مهمة التغيير، أي أن الغالبية الشعبية باتت خارج مجال المغنطة الإعلامية الرسمية.. وهناك خطاب يقف على قدميه في مقابل خطاب الدولة الشمولية، وما لا تحسن الإمبراطورية الاعلامية السعودية إدراكه أن مواكبة التاريخ المتحوّل لا يكون بإعادة إنتاج لغة تخاطب، أول ما تحققه من غايات هو القطيعة مع الشعب والقفز على تطلّعاته، والأنكى مصادمته.

التغيير المأمول لم يعد فكرة رغم كثافة حضوره الثقافي، وليس أيضاً علامة فارقة لمكوّن اجتماعي أو سياسي، بل أصبح فعلاً شعبياً، وهذا ما يجعل الحملة شرسة على نقاط انطلاقها.. ولكن في لحظة يجمد الإعلام الرسمي بعد أن نضبت لغته، وهذا مؤشّر واضح على أفول أثره النفسي والسياسي والثقافي.

بمجرد استعراض محتويات الحملة الصحافية المتواصلة على موقّعي البيان، يصل القارئ في نهاية المطاف إلى أن ذخيرة التشهير والقذف نفدت في اليوم الأول للحملة، وما جرى بعد ذلك هو مجرد اجترار لذات الباقة من الشتائم!.. ولكن ما هو أهم أن الحملة كشفت عن حالة إفلاس مريعة، وكأنما الربيع العربي يثبت حقيقة في أي بلد يزوره بأن الكيانات الجيوبوليتيكية العربية أصبحت كمناجم فحم هالكة ولا بد من إغلاقها، فلم تعد تتواءم مع الثورة الرقمية..

مشكلة السعودية، كما كل بلدان العرب، تكمن في دعوى (الخصوصية) و(الاستثناء)، فكل طاغية ينفي عن نفسه شبهة التماثل مع نظيره في البلدان العربية الأخرى.. ولأن الحرية، كما الاستبداد، معدية ولا متناهية، فإن لا أحد من الطغاة قادر على اجتراح طريقة خلاّقة للخروج من النفق، ولأن فعل القدرة يعني الحرية، فإن التيار الإصلاحي، بمن فيهم القابعون خلف القضبان، بات يملك قدرة على أن يريد ما يستطاع فعله، وهنا فحسب تتقرر لحظة تغيير الأشياء، أي تحويل التطلّعات الى إرادات فاعلة، بمعنى أن تصبح الإرادة بمثابة قابلة تساعد على ولادة فعل التغيير..

ردود الفعل الرسمية على مجمل الحراك الشعبي، والذي يتبلور حالياً في هيئة أشكال شتى وإبداعية من النشاط السياسي والحقوقي والاجتماعي والثقافي تقصر عن المواكبة، فكأنما جمدت الدماء في شرايين الدولة. وبإمكان المرء، والمراقب على وجه الخصوص، أن يرصد جملة تحوّلات ذات مغزى وتصبّ في رافد التغيير الكبير.

لا بد من لفت الانتباه إلى أن الحراك الشعبي في أشكاله المتعددة يعبّر هذه المرة، وهنا مصدر فزع النظام السعودي، عن روح مشتركة، فمن أفشل الانتخابات البلدية الأخيرة بسبب حملة المقاطعة التي دامت لشهور، ينتمون إلى بيان الإصلاحيين الأخير للدفاع عن رفاقهم في المعتقلات السعودية، ويطالبون بكف أجهزة الأمن عن التعامل الوحشي مع طلاّب الحرية، وهم أنفسهم أيضاً من يشاركون في فعاليات حقوقية وثقافية وشعبية الآن.. فثمة تعاضد غير منظور يتحقق بين مجموعات ناشطة من كل المكوّنات والأماكن تقيم وطناً بحجم تطلّعاتها، وتعجز أجهزة الدولة الشمولية عن الوصول إليها والإضرار بها، ببساطة لأنها أرقى وعيّاً وحضوراً من الدولة نفسها.


تفقد عوامل الانقسام (المذهب، والقبيلة، والمنطقة/الإقليم) وأجهزة التقسيم (الإعلام، والأمن، والطائفية..) مفاعليها كلما تكاثرت المشاريع الوطنية، وازدادت درجة انخراط المجموعات الإصلاحية في برامج ذات أبعاد مشتركة وسياسية. الخطاب الإعلامي الرسمي يصرّ على تذكير الإصلاحيين بانتماءاتهم الفرعية/التقليدية لأن النظام السياسي يحقق بذلك هدفه في البقاء، ولذلك استحضر لغة مدقعة. من مفارقات الحملة الإعلامية الرسمية على الإصلاحيين أن استحضار إيران لا يتصّل بالصراع الإيراني ـ السعودي، ولا ينطوي حتى على تهمة بضلوع إيران في الحراك الداخلي، بل هو جزء من حملة التهويل (على غرار خدعة الاتهام السياسي والاتهام القضائي مجدداً)..

في ما مضى من السنوات، لم يكن متاحاً لكل الساخطين على سياسات النظام السعودي أن يصوّبوا غضبهم نحوه. ربما كان الربيع العربي ضرورة، وكان ينبغي أن تعزى إليه قيمة خاصة. وكما في كل شؤون العرب، التي تقوم على ثنائية مخزية، فإن الربيع العربي في السعودية يراد وأده إن أمكن، وقطع الاتصال عنه، لأن المطلوب ربيع لعرب دون عرب.. فالقنوات الفضائية المنغمسة في ثورات تونس ومصر وليبيا وأخيراً (ثورة سوريا) أصيبت بالرمد والجذام.. بالنسبة لمواطني خليج النفط ليست تلك (الفضائيات) التي تنطلق من تربة خليجية سوى جزء من البنية الشمولية الاستبدادية، وإن اعتلت مطيّة الثورات، وأتقنت لغتها، أو تحدّثت باسمها.. لا يتقن أحد ملاّك فضائية عربية مشهور لغة الأرقام، حتى اختزل عدد شهداء البحرين من خمسين شهيداً الى ثلاثة وربما أربعة (إبراءً للذمة!).

وبالرغم من أن الإصلاحيين في المملكة لا يجدون في الإعلام العربي سوى رسول غير وفي، تماماً كما هو حال أغلب الحكومات الغربية التي تجاهلت فعل القتل ضد احتجاجات سلميّة في القطيف، وضد أحكام جائرة ضد إصلاحيين في سجون السعودية، وتواطأت بالصمت إزاء حراك شعبي واسع يطالب بإصلاحات سياسية جوهرية، تمثّل فيها حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية بعداً جوهرياً، فإن ما يعزّي النفس هو أن الحراك الشعبي يزداد ثباتاً وتنامياً، بما يؤكّد أن ثمة تاريخاً جديداً يسجّله هؤلاء الذين وضعوا خاتمة لاحتكار الدولة لقنوات الاتصال الجماهيري.

الامبراطورية الإعلامية السعودية التي كانت بمثابة حيلة أحادية الشكل تعيش أسوأ أيامها، ولا شيء أسوأ من حيلة تلبس قناع قيمة إنسانية، فالخطاب الإعلامي المتناقض بانكشافه على الربيع العربي، يخضع لاختبار تحت تأثير الثنائية العقيمة التي تحيل من شعار الحرية مطلباً مشروعاً في كل العالم إلا في السعودية، حيث يصبح عمالة للخارج.. تنهار تفاهة الخطاب الإعلامي الرسمي أمام رقي الخطاب الإصلاحي.. فالإصلاحي يريد تحسين الإنسانية، والإعلام الرسمي يقتلها..

حيثما يلتفت المراقب اليوم، يحَر إزاء الصدّوع التي تهز البناء الذي لم يسبق أن توقّع أحد أنه يمكن أن يكون سريع العطب.. فمناطق الاحتجاجات التي لم تكن في (مفضّلة) صحف الحكومة وكاميراتها باتت اليوم مقصدها العزيز لإثبات، على غرار كل وسائل الاعلام الرسمي في مناطق الاحتجاجات في العالم العربي، أن الحياة فيها تسير بصورة عادية!


التشابك بين عالم يفيض بشتى أنواع الحراك الحقوقي والسياسي في مقابل عالم ينزع الى تحطيم العالم الجديد، في سياق تقديم حساب التزام مع نظام المصالح الذي يرتهن في وجوده البيولوجي لقدرته على الإبقاء على تفاوت حاد بين العالمين. في واقع الأمر، أن ضمور الموهبة في الخطاب الرسمي يجعل تعويله مصوّباً على أدوات قهرية، وتثبت فظاظتها أن خطاب الدولة دخل مرحلة الفناء التام، ولم يعد لديه ملكة التعويض، والإنقاذ.

([) باحث في الفكر السياسي من السعودية


http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=2030&articleId=1873&ChannelId=48174&Author=%D9%81%D8%A4%D8%A7%D8%AF%20%D8%A7%D8%A8%D8% B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85