المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإمام الصادق (ع) يحاور كل التيارات...



سيد مرحوم
12-05-2004, 01:57 PM
ونحن نقترب من ذكرى شهادة الإمام جعفر بن محمد الصادق "ع"، نحاول أن ننفتح على شيء من حياته، ومن سيرته، ومن عطائه لنتخذ من ذلك زادا يملأ حياتنا نورا وخيرا وهداية وبصيرة، فما خسر من كان زاده زادا من عطاءات آل محمد "ص" الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين جعلهم الله سفن النجاة، وأدلاء على طريق الإيمان، فمن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن تولاهم فقد تولى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله. .. اللهم ثبتنا على ولايتهم وبصرنا بمعرفتهم، وافتح قلوبنا على محبتهم، وخذ بأيدينا في طريق هدايتهم واملأ حياتنا بأنوار علومهم، يا خير المعطين.

الإمام الصادق يحاور كل التيارات

السيد عبدالله الغريفي

http://www.alghuraifi.org/img/sayed1.gif



الهدف الكبير في حركة الأئمة من أهل البيت "ع" هو "الحفاظ على الإسلام والدفاع عن قيمه الأصيلة، وترشيد مسار الأمة في خط الرسالة، والتصدي لكل المحاولات التي تشكل خطرا على العقيدة وعلى نقاوة الدين، وعلى سلامة الشريعة، والعمل من أجل وحدة المسلمين وتلاحمهم وتماسكهم ومواجهة كل أسباب الخلاف والصراع والتمزق والعداوة والافتراق".
كانت للإمام الصادق "ع" حوارات متنوعة، إلا أنها جميعا تصب في اتجاه الهدف الكبير الذي يحكم حركة الأئمة مهما تعددت الأساليب والأدوار في حياة الأئمة "ع"... هذا التعدد والتنوع فرضته مجموعة عوامل، منها:

1- اختلاف الظروف الموضوعية التي تمر بها الرسالة.
2- اختلاف الظروف الموضوعية المتحركة حول الإمام نفسه.
3- اختلاف المستوى الذي تعيشه الأمة.
4- اختلاف الأهداف المرحلية.

وعلى رغم التنوع الذي فرضته هذه العوامل، فالهدف المركزي - الاستراتيجي - لحركة الأئمة "ع" هو "مصلحة الرسالة وحماية مسيرتها".

وبناء على ذلك، فقد نتج في حياة الأئمة نمطان من الأدوار:

النمط الأول: الأدوار المشتركة: وهي أدوار تحركت في كل المراحل، ولم تتجمد ضمن مرحلة واحدة.

ومن أمثلة هذه الأدوار:

- الترشيد الروحي، التحصين الفكري، الحفاظ على المسار التشريعي، التصدي للتيارات الطارئة التي تشكل خطرا على الرسالة والحفاظ على وحدة الأمة وتلاحمها.

النمط الثاني: الأدوار المتنوعة: وهنا يتميز كل موقف بخصوصياته المرحلية، فلكل مرحلة عناصرها ومفرداتها الخاصة بها، الأمر الذي يفرض أسلوبا عمليا من دون أي تفريط في الهدف، والضوابط والثوابت والقيم.

فالواقعية في معناها الأصيل لا تعني الاستسلام لمكونات الواقع بكل أخطائه وانحرافاته، وإنما تعني العمل على تغيير هذا الواقع، بأدوات تملك قدرة الحركة ومحكومة لضوابط الشريعة... وإذا عجزنا عن أن نغير هذا الواقع، فلا يبرر ذلك أن نساهم في تكريسه وتجذيره، كونه أصبح واقعا مفروضا لا خيار لنا في رفضه.

إن نظرية تطبيع المواقف مع الخيارات المفروضة من قبل مؤسسات السياسة أو من قبل ضغوط الأعراف الفاسدة نظرية في غاية الخطورة بما تنتجه من مصادرة للضوابط والثوابت والقيم، وبما تؤسسه من حال الانهزام والضغط والخنوع والسقوط أمام المواقع، وإن كان بوهم العمل على تغييره من خلال الولوج إلى داخله.

أعود إلى عنوان الحديث "الإمام الصادق يحاور كل التيارات". في عصر الإمام الصادق شهدت الساحة الإسلامية زخما كبيرا من التيارات متعددة الاتجاهات والنزعات والمنطلقات، فبرزت في الساحة تيارات لا دينية، وتيارات دينية منحرفة، وتيارات دينية ذات مناح اجتهادية مختلفة، ما أنتج الكثير من النظريات والفلسفات والمذاهب الفقهية.

وحاور الإمام الصادق كل هذه التيارات حوارا علميا هادفا، بروح لا تحمل التشنج والانفعال ولا تحمل التحجر والانغلاق، ولا تحمل الإقصاء والإلغاء.

- كانت للإمام الصادق حوارات مع الملحدين المنكرين لوجود الله.
- وكانت له حوارات مع المشككين في الدين والعقيدة.
- وكانت له حوارات مع أتباع الملل والديانات، كاليهود والنصارى والمجوس.
- وكانت له حوارات مع الفلاسفة وعلماء الطبيعة والطب والفلك فيما طرحوه من أفكار وآراء ونظريات.
- وله حوارات مع الغلاة والمفوضة والمجسمة والمتصوفة وأصحاب البدع والأهواء والانحرافات.
- وله حوارات مع أئمة المذاهب في قضايا العقيدة والفقه والتفسير ومختلف أمور الشريعة والدين.

لقد شكلت حوارات الإمام الصادق مع مختلف التيارات والاتجاهات والمذاهب نموذجا من أرقى النماذج في "الحوار الفكري والثقافي" وفي "الحوار الديني العقيدي" انفتح الإمام الصادق بكل شفافية على كل الأفكار والآراء والعقائد والمذاهب، استمع إليها بصبر ونفس طويل وحاورها بكل نزاهة وموضوعية، وبكل منهجية وعلمية، وجادلها بالتي هي أحسن استرشادا بقول الله تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن" "النحل: 125".

وإذا كان الإمام الصادق اعتمد المرونة والشفافية والانفتاح في حواراته ومناظراته، فقد كان يملك القوة في الحجة، والصلابة في الموقف، والقناعة الواثقة التي لم تكن نتيجة هوى في الرأي، ولا طيشا في الفهم، وإنما هي البصيرة المعصومة، النهج الذي لا يضل والمسار الذي لا يتيه.

وأتناول هنا نموذجين من حوارات الإمام الصادق "ع":

النموذج الأول: حوار الإمام الصادق مع أبي شاكر الديصاني، أحد الملحدين المنكرين لوجود الله، كان مجلس الإمام مفتوحا لكل الناس على مختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم ومذاهبهم.

دخل أبوشاكر الديصاني - وكان منكرا لله رافضا للدين - مجلس الإمام ودار بينه وبين الإمام حوار عن "العقيدة والدين والإيمان بالله"، أصغى إليه الإمام بلا تشنج ولا انفعال، واستمع إليه وهو يطرح إشكالاته بشأن أقدس قضية، وهي قضية "الألوهية"، لم تستفزه هذه الإشكالات، وهنا درس كبير لكل العاملين في خط الدعوة إلى الله، ألا يتعقدوا من أي سؤال... في الحوار لا يوجد سؤال محرج، وفي الحوار لا توجد خطوط حمراء مادام هدف الحوار نظيفا ومادامت لغة الحوار نظيفة، ومادامت الظروف الموضوعية تسمح للسؤال أن ينطلق، وتسمح للجواب أن يتحرك.
نعم استمع الإمام الصادق إلى إشكالات الديصاني، وراح يحاصرها ويقارعها بالحجة والبرهان، ما اضطر هذا الرجل الملحد إلى أن يقول للإمام: يا جعفر بن محمد، دلني على معبودي. هكذا بدأ هذا الإنسان يقترب من الهداية. إنه كان يبحث عن الحقيقة ولم يكن معاندا، والفارق كبير جدا بين الباحث عن الحقيقة والإنسان المعاند الذي يصر على الضلال والغواية والانحراف، ويصر على الخطأ.

الباحث عن الحقيقة ربما يتيه به الطريق، ربما يضل، ينحرف... إلا أنه يبقى مشدودا إلى الدرب، يبقى مشدودا إلى النور، ومتى لامس عقله شيء من هذا النور، انفتح له، انجذب إليه، تعاطى معه... وأما المعاند فهو مغلوق العقل، مأسور إلى الهوى، تائه في طريق الغواية، لا تنفع معه حجة ولا برهان، لا يزداد من الحق إلا بعدا ونفورا. وتحدث القرآن عن هذا النمط من الناس في قوله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون". "الأعراف: 179".

وفي قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" "البقرة: 6-7".

من الناس من لا يجدي معهم الحوار، ماداموا يعيشون التكلس والجمود والانغلاق والعناد والاستكبار، وهذه أسباب تجعل الحوار عقيما، وتجعل الحوار فاشلا وبلا جدوى، فالحوار الذي يبحث عن الحقيقة، ويحمل عقلا مفتوحا، وقلبا مفتوحا، هو حوار منتج وحوار هادف، وحوار يقود إلى الهدف...

في النموذج الذي طرحناه، كان الديصاني رجلا يبحث عن الحقيقة، فما أن أبصر بعض معالم الدرب إلى هذه الحقيقة، حتى سارع إلى القول "يا جعفر بن محمد دلني على معبودي".
فالتفت الإمام إلى غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها، فقال له الإمام: ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها...
فقال الإمام الصادق موجها كلامه إلى الديصاني: "يا ديصاني، هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، تحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح، فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدرى للذكر خلقت أو للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟".
فأطرق الديصاني مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه...

النموذج الثاني: حوار الإمام الصادق مع الإمام أبي حنيفة عن "القياس في الدين"

من العلامات البارزة في مدرسة الإمام الصادق وجود عدد من كبار أئمة الحديث والفقه المنتمين إلى مختلف الفرق والمذاهب ضمن رواد هذه المدرسة.

ومن هؤلاء:

1- الإمام أبوحنيفة - إمام المذهب الحنفي: فقد انقطع إلى مجلس الإمام الصادق طوال عامين قضاهما بالمدينة.

2- الإمام مالك بن أنس - إمام المذهب المالكي: وكان من رواد مجلس الإمام الصادق وممن نهلوا من علومه واستفادوا من دروسه.

3- سفيان الثوري: وهو أحد الأعلام الكبار ومن رؤساء المذاهب الفقهية التي لم يكتب لها الانتشار، وحضر مجلس الإمام الصادق واستفاد من علومه وروى حديثه.

قال ابن حجر في الصواعق المحرقة وهو يتحدث عن الإمام الصادق: "ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الكبار، كيحيى بن سعيد، ابن جريح، مالك، السفيانيين وأبي حنيفة.

وجاء في هوامش الصواعق: "وله - يعني الإمام الصادق "ع" - منزلة رفيعة في العلم، آخذ عنه جماعة منهم الإمام أبوحنيفة ومالك، ولقب بالصادق لأنه لم يعرف عنه الكذب قط، كان جريئا صداعا بالحق".

وقال ابن طلحة الشافعي في كتابه "مطالب السؤول" وهو يتحدث عن الإمام الصادق: "نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، ابن جريح، مالك بن أنس، الثوري، ابن عيينة، شعبة وأيوب وغيرهم".

في مثل هذه الأجواء العلمية المنفتحة كانت تتحرك حوارات الإمام الصادق مع أئمة الفقه والحديث من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، وكانت الحوارات في غاية الشفافية والحب والموضوعية.

ومن هذه الحوارات، النموذج الآتي، وهو حوار يعبر عن موقف مدرسة أهل البيت من "القياس".
كان الإمام أبوحنيفة يعتمد "القياس" أحد مصادر الاستنباط حينما يفقد النص... وفي المقابل اتجهت مدرسة الأئمة من أهل البيت إلى رفض "القياس بصفته مصدرا من مصادر الشريعة، وللأئمة في هذا أحاديث متشددة، وفي هذا السياق جاء قول الإمام الصادق: "إن السنة لا تقاس، ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها، إن السنة إذا قيست محق الدين".
وفي هذا السياق جاء حوار الإمام الصادق مع أبي حنيفة... وهذا جانب من الحوار:

قال الإمام الصادق مخاطبا الإمام أبا حنيفة: انظر في قياسك إن كنت مقيسا، أيهما أعظم عند الله، القتل أو الزنى؟ قال أبوحنيفة: بل القتل. قال الإمام الصادق: فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنى إلا بأربعة؟ ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل. قال عليه السلام: فيجب على قياسك قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصيام دون الصلاة. ثم قال له: البول أقذر أم المني؟ قال: البول أقذر. قال عليه السلام: على قياسك يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول...".

هذا النمط من الحوارات يكشف عن مرحلة متقدمة جدا، أين منها شعارات عصرنا التي تتغنى بالحوار والشفافية والديمقراطية، وما هي إلا عناوين للاستهلاك والمزايدة...

حوارات هذا العصر في قضايا الفكر والثقافة والسياسة مازالت متخلفة، ومازالت محكومة للأهداف والأغراض والمصالح الضيقة التي لا تنفتح على الحقيقة في آفاقها الكبيرة... حوارات هذه المرحلة بحاجة إلى صوغ جديد، وما أحرى هذا الصوغ أن يسترشد منهج القرآن في الحوار، وأن نسترشد تجربة الإمام الصادق "ع" بما تحمل من غنى وأصالة وتنوع.

سيد مرحوم
12-15-2004, 10:14 AM
الإمام الصادق يحاور كل التيارات (2)..


في البدء نؤكد ضرورة أن تتحرك في واقعنا "ثقافة المعرفة" بالأئمة من أهل البيت "ع" في مواجهة "مشروع التغييب الثقافي المعرفي" الذي حاول - عبر تاريخ طويل - أن يفصل الأئمة من أهل البيت عن "ذاكرة الأجيال" وعن "وعي الأجيال" وكان لهذه المصادرة أسبابها السياسية والمذهبية والذاتية...
ومازال "مشروع التغييب والمصادرة" قائما حتى الآن... فالمؤسسات التربوية والتعليمية في بلداننا لعربية والإسلامية تمارس هذا التغييب المتعمد، فكم هو الحضور للأئمة من أهل البيت في المناهج والمقررات الدراسية؟ لا شيء يذكر يتناسب مع المستوى الكبير الذي يحمله هؤلاء الأئمة في تاريخ الرسالة.
وكذلك المؤسسات الثقافية في مجتمعاتنا تمارس الدور نفسه في التغييب والمصادرة، ما أنتج ثقافة التجهيل بمعرفة الأئمة وبتاريخهم وبسيرتهم، وبعلومهم، وبفقههم، وبمدرستهم... فدونكم أجيال الأمة في هذا العصر، امتحنوا ثقافتهم، ووعيهم، وفهمهم... لتكتشفوا كم هو الفراغ الكبير في هذه الثقافة وفي هذا الوعي وفي هذا الفهم بالنسبة إلى معرفة الأئمة من أهل البيت "ع"...
وإذا انتقلنا إلى مؤسسات الإعلام في واقعنا العربي والإسلامي، فدورها في التغييب والمصادرة أوضح وأوضح. فأين هو حضور الأئمة من أهل البيت في التلفاز والإذاعة والصحافة؟ وإن كنا لا نستكثر على إعلام دولنا هذا الإهمال المقصود مادامت حصة "الدين والإسلام" في هذا الإعلام حصة زهيدة جدا، غير أن نصيب أئمتنا في هذه الحصة الزهيدة نصيب مغبون...
وفي ضوء هذا الواقع من سياسة التغييب والإقصاء لأئمة أهل البيت في مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام، تتأكد الضرورة لتحريك ثقافة التعريف بالأئمة "ع" عبر مختلف الوسائل المتوافرة لدينا، من أجل خلق تواصل فاعل بين أجيال الأمة وهذه الرموز الإيمانية المباركة فيما يشكله هذه التواصل من دفع كبير لحركة "التأصيل" وحركة "الانتماء" في زحمة مشروعات "التغريب والاستلاب".


الأصالة والإنتماء

فما أحوج أجيال أمتنا في هذه المرحلة الصعبة إلى عودة حقيقية إلى أصالة الانتماء، وإلى مكونات الهوية... وإن أي تجاوز للأئمة من أهل البيت سوف لن يشكل عودة حقيقية إلى الأصالة والانتماء والهوية...
وهذه الرؤية لا تنطلق من فهم مذهبي ضيق، كون الأئمة من أهل البيت ليسوا ملكا لطائفة أو جماعة أو مذهب، إنهم يجسدون حركة الرسالة في أصالتها ونقائها، فالحديث عنهم ليس تمذهبا، وانما هو ضرورة الانتماء إلى الأصالة والهوية يفرض ذلك...
وهذا ما يستفاد من الروايات الكثيرة الصحيحة الصادرة عن رسول الله "ص" والتي أكدت الرجوع إلى الأئمة من أهل البيت كحديث الثقلين المشهور بين المسلمين وهو قول الرسول "ص": "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"، وحديث السفينة المعروف والمدون في مصادر الحديث، ونصه بحسب رواية الحاكم النيسابوري في مستدركه عن الكناني قال: سمعت أباذر يقول وهو آخذ بباب الكعبة: أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم، ومن أنكرني فأنا أبوذر، سمعت رسول الله "ص" يقول: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".

1- قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه... أئمة مذهب، ووفق هذا الفهم فإن ما يصدر عن أئمة أهل البيت يمثل "آراء اجتهادية" لا تعني إلا الشيعة، كما هي الآراء الاجتهادية الصادرة عن أئمة المذاهب الأخرى والتي لا تعني إلا أتباعها...
هذا الفهم - بحسب وجهة نظرنا - فهم خاطئ، فالأئمة من أهل البيت لا يفتون الناس بآرائهم، وما يصدر عنهم ليس وجهات نظر اجتهادية، الأئمة حفاظ أمناء لأحاديث جدهم رسول الله "ص"...
قال الإمام الصادق "ع": "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله "ص"، وحديث رسول الله "ص" قول الله عز وجل".
وقال الإمام الصادق: "إنا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنها آثار من رسول الله "ص" نتوارثها كابرا عن كابرا...".
وسئل الإمام الرضا "ع": كل شيء تقولون به في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه برأيكم؟ قال: "بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيه "ص"".
وتأسيسا على هذه الرؤية لا يصح أن نضع الأئمة من أهل البيت في دائرة مذهبية، فهم الروافد النقية التي يجب أن يستقي منها كل المسلمين بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم...

2- وفهم آخر خاطئ يحمله بعض المسلمين الشيعة يتجه إلى احتكار الأئمة من أهل البيت في الدائرة المذهبية الخاصة، فهذا البعض يحاول أن يطرح الأئمة "ع" كأئمة مذهب في مقابل أئمة المذاهب الأخرى... إن هذا الطرح يساهم في "تحجيم الأئمة" بما لا يتناسب وموقعهم الكبير الذي طرحته النصوص والأحاديث.
وهكذا اشترك الفهمان في الدائرة السنية، وفي الدائرة الشيعية وأنتجا وضعا منكفئا على الذات في التعاطي مع أئمة أهل البيت... وقد كان لهذا الانكفاء آثاره السلبية في حرمان المسلمين من بركات مدرسة أهل البيت وعطاءاتها العظيمة...
إن المسلمين جميعا بكل مذاهبهم وانتماءاتهم مدعوون إلى أن ينفتحوا على مدرسة الأئمة من أهل البيت ليستفيدوا من عطاءاتها الربانية في الحديث والتفسير والفقه والعقيدة والفكر والأخلاق وفي كل المجالات، فهي مدرسة الإسلام الغنية، ومدرسة القرآن والسنة، ومدرسة الأصالة والهوية والانتماء...
وفي هذا السياق نؤكد ضرورة أن يكون "الخطاب" الذي يقدم الأئمة من أهل البيت ويعرفهم لأجيال الأمة خطابا واعيا بصيرا حكيما، خطابا منفتحا مرنا شفافا، خطابا كفئا قادرا واثقا، خطابا جادا هادفا فاعلا، خطابا صادقا مخلصا...
وكما عانت مدرسة أهل البيت عبر تاريخ طويل ومازالت من "خطاب التغييب والإقصاء والمصادرة" الذي مارسه المناوئون لهذه المدرسة، فقد عانت كذلك ومازالت من "خطاب قاصر" مارسه بعض المنتمين إلى هذه المدرسة، بما يحمله هذا الخطاب من طروحات غير واعية، ومن مرويات غير موثوقة، ومن استغراق في قضايا نظرية لا جدوى عملية في إثارتها... الأمر الذي ساهم في تكريس الأفكار المغلوطة والخاطئة التي أساءت إلى سمعة هذه المدرسة الأصيلة..

عودة إلى الحديث عن الإمام الصادق "ع":

تناول حديث الجمعة الماضية لقطة عاجلة من حياة الإمام الصادق "ع" تحت عنوان: "الإمام الصادق يحاور كل التيارات" أوضح هذا العنوان النهج الحواري الذي اعتمده الإمام الصادق "ع" في التعاطي مع التيارات الدينية والفكرية والثقافية ومع كل الاتجاهات والانتماءات...

وأهم ما يميز هذا النهج الحواري عند الإمام الصادق "ع":

الشمولية والاتساع

فعلى مستوى الاطراف التي حاورها الامام الصادق "ع" فقد اتسع الحوار ليشمل كل التيارات والاتجاهات كما أوضحنا ذلك، وعلى مستوى "الموضوعات" فقد امتدت حوارات الامام الصادق لتلامس كل قضايا العقيدة والفكر والشريعة والاخلاق والسياسة، وجميع شئون الحياة، ومسائل العلم.

هدفية الحوار

لم يكن الامام الصادق "ع" يحاور من اجل الحوار... كان يحاور لتنطلق الحقيقة "الحقيقة"، فالحقيقة بنت البحث والحوار، فلا يمكن أن تفرض الحقيقة على الآخرين فرضا بلا بحث ولا حوار... فيجب ألا نتعقد من الحوار مادام حوارا يبحث عن الحقيقة...

ولم يكن الإمام الصادق "ع" يحاور من أجل أن يؤكد "ذاته" وان كانت ذاته معصومة، كان يحاور من أجل أن يؤكد "الحق" في مضمونه الأصيل، وليس في صياغاته الكاذبة... فما أكثر من يحملون "شعار الحق" ولكنه شعار زائف كاذب مخادع. فحذار حذار أن تخدعنا الشعارات وخصوصا في هذا العصر الذي راجت فيه تجارة الدجل والكذب والخداع، والعبث بعقول الناس وعواطفهم... فقد سقطت شعوب بكاملها في أسر الشعارات الزائفة الكاذبة، وهددت حقوق بكاملها وصودرت حريات، وانتهكت كرامات باسم الحرية والعدالة والديمقراطية...

ولم يكن الإمام الصادق "ع" يحاور من أجل "أن ينتصر" وانما من أجل أن "تنتصر الحقيقة"، وإن كان بالنسبة للإمام المعصوم لا انفصال بين "انتصاره" و"انتصار الحقيقة"...

فمسئوليتنا في الحوار أن نتحرك لكي تنتصر الحقيقة، وليس من أجل أن تنتصر ذواتنا... مشكلة الكثيرين من المتحاورين أنهم يحملون "هم الانتصار" وإن كان على حساب الحقيقة... إنهم يفكرون كيف تكون لهم "الغلبة" على الآخر وإن كان الحق مع الآخر....

ولم يكن الإمام الصادق "ع" يحاور في القضايا الاستهلاكية، وفي القضايا الصغيرة على حساب القضايا الحقيقية، والقضايا المصيرية، والقضايا الكبيرة...

فما أكثر ما تستغرقنا حوارات استهلاكية، وحوارات تلامس قضايا هامشية، وتموت في زحمة هذه الحوارات القضايا المهمة والخطيرة والكبيرة...

وهذا الاستغراق الاستهلاكي قد يكون تعبيرا عن سذاجة وغباء وتخلف في المستوى الفكري والثقافي والسياسي...

وقد يكون بتوجيه هادف من بعض السياسات الحاكمة من أجل إلهاء الشعوب في جدليات عقيمة، وفي صراعات هامشية وحتى تتفرغ تلك الأنظمة الحاكمة لتمرير مشروعاتها ومخططاتها وأهدافها في غفلة من الشعوب، وفي غياب من الوعي.

وقد يكون بوحي من قوى خارجية تهدف إلى فرض الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية على شعوبنا وعلى أوطاننا... ولاشك أن تدجين وعي الشعوب من خلال تلك الاستهلاكات الثقافية والسياسية يساهم بدرجة كبيرة في توفير المناخ الملائم لتلك الهيمنة... وهنا مسألة جديرة بالالتفات...


الأولويات والتزاحم

إن قضية الأولويات، وقضية التزاحم في الأهميات، قضية في حاجة إلى أن تتحدد معاييرها وضوابطها، فرب قضية يضعها إنسان في بداية قائمة الأولويات، فيأتي آخر فيضعها في خاتمة القائمة، وربما اعتبرها في خارج دائرة الأولويات...

فمن الذي يحدد لنا "سلم الأولويات" في الساحة البحرينية المعاصرة. قضايا كثيرة أخلاقية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية في حاجة إلى معالجة وفي حاجة إلى حوار وفي حاجة إلى ترتيب أولويات...

لنأخذ بعض أمثلة من قضايا الساحة: قضية "الفساد الأخلاقي"...

أين موقعها في "اجندة الخطابات"؟ في الساحة خطاب يهزأ بقضايا القيم والأخلاق، فليس لها موقع في اجندته بل يرى أن التعاطي معها لون من الظلامية والتخلف والانغلاق، وشكل من أشكال الغيبوبة في أحضان الأعراف البالية التي عفا عليها الزمن...

وفي الساحة خطاب آخر لا يحمل عداوة للقيم والأخلاق، إلا أنها لا تشكل هما من همومه، ولا تقع ضمن أولوياته، وهي على هامش اهتماماته، فهذا الخطاب يصر على إرجاء قضايا الفساد الأخلاقي وعدم اشغال الخطاب بها في زحمة القضايا التي تشكل أولويات في هذه المرحلة.

وفي الساحة خطاب ثالث يحمل إيمانا بموضوعات القيم والأخلاق، ويرى ضرورة مقاربة هذا الموضوعات، إلا أن هذا الخطاب يتعاطى مع المسألة الأخلاقية على استحياء وخجل، خشية أن يتهم بالتخلف والرجعية، والارتماء في أحضان القيم العتيقة...

وفي الساحة خطاب رابع يملك الإيمان والجرأة في التعاطي مع قضايا القيم والأخلاق إلا أنه لا يملك الوعي والبصيرة والقدرة على المعالجة والطرح، ومقاربة هذا القضايا في أجواء تزدحم فيها الصياغات المناهضة، والخطابات الرافضة.

وفي الساحة الخطاب الديني الأصيل الذي يملك الرؤية البصيرة، والقناعة المتجذرة، والموقف الواثق، والإرادة الصلبة، والأداء الواعي، واللغة القادرة، والحس المعاصر، هذا الخطاب تتحرك في اجندته مجموعة من الأولويات المتوازنة، وتنتظم في هذه الأولويات: قضايا الأخلاق، وقضايا المعيشة، وقضايا الأمن، وقضايا الحريات، وقضايا الدستور، وقضايا المواطنة، وقضايا التمييز، وقضايا الانتماء والهوية والأصالة... وقضايا أخرى تشكل ضرورات المرحلة...
وفي ضوء قناعات هذا الخطاب فإن مشروعات الفساد الأخلاقي التي أصبحت مصدر قلق ورعب لكل أبناء البلد المسلم، باتت تهدد كل المسارات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية...

وإذا كان هناك خطر حقيقي يهدد مشروع الإصلاح في كل مكوناته، فهو خطر العبث بالدين والقيم والأخلاق، وإن أية "تراتبية" في قضايا الساحة يعتمدها هذا الخطاب أو ذاك الخطاب ولا تضع في حسابها وفي أولوياتها قضايا الدين والقيم والأخلاق فهي "تراتبية" ظالمة وفاشلة وخاطئة... إن غياب القيم الدينية والروحية يؤسس لأزمات خطيرة في كل الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والأمني...

اليوم العالمي لمكافحة الفساد

بالمناسبة احتفلت الأمم المتحدة يوم التاسع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري - ولأول مرة - بـ "اليوم العالمي لمكافحة الفساد" احتفاء بمرور عام على تدشين "الاتفاق العالمي لمكافحة الفساد".

إذا كانوا يتحدثون عن مكافحة الفساد المالي فهو تعبير عن "أزمة قيم"...
وإذا كانوا يتحدثون عن مكافحة الفساد الإداري فهو تعبير عن "أزمة قيم"...
وإذا كانوا يتحدثون عن مكافحة الفساد السياسي فهو تعبير عن "أزمة قيم"...
وإذا كانوا يتحدثون عن مكافحة الفساد الاجتماعي فهو تعبير عن "أزمة قيم"...
وإذا كانوا يتحدثون عن مكافحة الفساد الإعلامي فهو تعبير عن "أزمة قيم"...
وإذا كانوا يتحدثون عن مكافحة الفساد الثقافي فهو تعبير عن "أزمة قيم"...

فما أحرى أن يخصص المجتمع الدولي يوما عالميا "لمكافحة فساد القيم والمعايير". فأزمة الإنسان في هذا العصر هي "أزمة قيم" قبل أن تكون أزمة ثقافة وقبل أن تكون أزمة سياسة وقبل أن تكون أزمة اقتصاد، وأزمة اجتماع، وأزمة إعلام، وأزمة إدارة...

فكثير من المثقفين يمارسون الثقافة بضمير مأزوم...
وكثير من السياسيين يمارسون السياسة بضمير مأزوم...
وكثير من الاقتصاديين يمارسون الاقتصاد بضمير مأزوم...
وكثير من الإداريين يمارسون الإدارة بضمير مأزوم...
وكثير من الإعلاميين، والصحافيين والكتاب والباحثين والدارسين يمارسون الإعلام والصحافة والكتابة والبحث والدراسة بضمير مأزوم...

إن الضمير المأزوم قيميا وأخلاقيا هو مصدر المأساة في حركة كل الواقع الفاسد بكل امتداداته الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية...

نتابع الحديث عن "خصائص النهج الحواري عند الإمام الصادق "ع"" في لقاء قادم إن شاء الله تعالى...