المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ الانصاري .. دراسة في قيمته العلمية وظروفه الاجتماعية.............. حسين الشا مي



سيد مرحوم
11-30-2004, 01:38 PM
الشيخ الانصاري

http://www.annabaa.org/nba49/images/15.gif
دراسة في قيمته العلمية وظروفه الاجتماعية

حسين الشامي

تميز التاريخ الشيعي الطويل بظاهرة جديرة بالدراسة والاهتمام، تلك هي بقاء الشخصية العلمية حية وعدم انتهاء دورها في حدودها الزمنية التي عاشتها.

قد يُفهم من هذا الطرح انّه مسألة طبيعية في المسار العام للتاريخ، بأعتبار ان تاريخ الشعب والدولة والمذهب، انما يتكون من حركة الافراد وتأثيرهم على الاحداث التي عاشوها في جوانبها العقائدية والثقافية والسياسية وغيرها.

ومن الطبيعي ان يبرز الاشخاص ذوو الجدارة والقدرات الاستثنائية على سواهم فيخلدهم التاريخ ويصبحون أبطال الزمن الطويل، وهذه حقيقة يشترك فيها التاريخ الشيعي مع غيره.

ان هذا الكلام لا نملك الا ان نسلّم به ونؤكده، لكن الذي قصدناه مسألة أخرى غير هذه، إننا نقصد التواصل بين شخصيات التاريخ الشيعي، حيث تستمد الشخصية قوتها وعطاءاتها من شخصية سابقة فتساهم في تثبيت دور كبير في حركة الاُمّة فلا تكون معزولة في حدودها الزمنية أو مقطوعة عن مرحلة سابقة، انما الشخصية التاريخية هي امتداد لتراث شيعي واسع وكبير، وهي في نفس الوقت منطلق لنشاط جديد.

ومن اجل ان تتضح الصورة التي نحن بصددها من المناسب ان نوضح العلاقات المتواصلة بين بعض اعلام الشيعة في فتراتهم التاريخية المختلفة.

فالشيخ الصدوق (المتوفى عام 381هـ) صاحب التصانيف التي زادت على الثلثمائة والذي اُعتبر رئيس المحدثين في زمانه وساهم في حفظ تراث اهل البيت عليهم السلام، الشيخ الصدوق هو نتاج شخصية كبيرة سبقت، واستمرار لها، فهو اكمل مدرسة والده الشيخ ابن بابويه (المتوفى عام 329هـ) الذي كان استاذ مدرسة قم المقدسة في الحديث وشيخ الطائفة فيها وعاصر الشيخ الكليني (المتوفى 328هـ) صاحب الموسوعة الحديثية الضخمة (الكافي اصولاً وفروعاً).

وبعد الشيخ الصدوق جاء السيد ابن طاووس (المتوفى عام 664هـ) الذي اكمل هذا الخط الفكري الاصيل في رواية الحديث.

وفي الجال العقلي نلاحظ ان الشريف المرتضى (المتوفى عام 436هـ) الذي دفع البحث الحر والدراسات العقائدية والكلامية إلى درجات عالية من التأصيل والتطور، هو امتداد للمسار الذي إنتهجه استاذه الشيخ المفيد (المتوفى عام 431هـ).

واعقب السيد المرتضى في تطوير المنهج الحر والمباحث العقلية الشيخ ابو جعفر الطوسي (المتوفى عام 460هـ) مؤسس جامعة النجف الاشرف العريقة.

ثم برز العلامة ابن المطهر الحلي (المتوفى عام 726هـ) الذي نهض بالبحث الحر والابحاث العقلية والكلامية والفقهية إلى مراتب متقدمة.

____________________________

1- قدمت هذه الدراسة للمشاركة في المؤتمر العالمي الذي عقد بمناسبة الذكرى المئوية الثانية على ولادة استاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ مرتضى الانصاري(رض) في مدينة قم للفترة 10 ـ 15 رجب 1415 هـ، 14 ـ 19 كانون الاول 1994.

----------------------------------------------

كما ان الشهيد الاول (المتوفى عام 786هـ) يعتبر نشاطه الفقهي العملاق امتداداً لنشاط فقهي سابق قام به المحقق الحلي (المتوفى عام 676هـ).

وفي مجال النزاع الاخباري الاصولي يبرز الاسم اللامع للشيخ جعفر كاشف الغطاء حيث استطاع ان يثبت مرتكزات المدرسة الاصولية في الساحة الشيعية بشكل حاسم، وهو بذلك اكمل منهج المدرسة الجديدة التي اسسها استاذه الوحيد البهبهاني (المتوفى عام 1205هـ) في الفقه والاصول والحديث.

وبذلك نلاحظ ان الشخصيات العلمية الشيعية والتي تركت آثارها الكبيرة على الساحة الفكرية الإسلامية لم تكن منفصلة عن بعضها انما هي تتواصل فيما بينها بترابط علمي وثيق، مما جعل العطاءات تتكامل مع بعضها البعض لتثري مدرسة اهل البيت عليهم السلام في العلوم الإسلامية ولا سيما في حقلي الفقه والاصول حيث سجل فيهما علماء الشيعة تقدماً ملحوظاً مع تقدم الزمن.

ان هذه الظاهرة التي نتحدث عنها ونصطلح عليها بـ(ظاهرة التكامل العلمي للشخصية الشيعية) استطاعت ان تعطي نتائج علمية ضخمة، ساهمت في ازدهار المدرسة الشيعية فهي لم تكن نتائج شخصية محدودة في الاطار الذاتي، بل كانت اوسع من هذه الحدود الضيقة. فالنشاط العلمي للشخصية يخرج عن دائرة الذات الصغيرة إلى أفق المدرسة الاكبر. وهذه احدى نقاط القوة في المدرسة الشيعية المتتميزة بالتطور العلمي المستمر.

وإذا اردنا ان نطرح الاسباب التي تقف وراء ظاهرة التكامل والابداع فاننا نلاحظ المرتكزات التالية:

اولاً: المنهج الرائد لمدرسة اهل البيت(ع)

ان الحوزات العلمية الشيعية بمختلف مواقعها وظروفها هي امتداد عقائدي وفكري للمنهج الذي وضع اسسه وحدّد خطوطه ائمة اهل البيت(ع)، حيث كثفوا جهودهم في انشاء مدرسة علمية اصيلة تحفظ المسار الاسلامي من الانحراف، وتقدم للامة اصالة الإسلام الذي حمل رسالته جدهم الرسول الاكرم(ص)، وقد بذل الائمة الاطهار جهودهم لمواجهة الانحرافات العقائدية، ووضعوا القواعد الاساسية لفهم الشريعة والتعامل مع نصوصها ومبادئها وتعاليمها، وقد كانت مهمتهم ذات منهج شمولي، حيث اعدوا اجيالاً من العلماء انتشروا في ارجاء العالم الاسلامي ليركزوا الاصالة الإسلامية في حياة الاُمّة ويبعثوا النهضة العلمية فى اوساطها.

وقد ظهرت نتائج هذا التخطيط البعيد المدى، بعد غيبة الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث لم يواجه الشيعة ازمة في استنباط الاحكام الشرعية أو في طرح الفكر الاسلامي والعقيدة الحقة، حيث كانت الاسس العقائدية والمعالم الفقهية واضحة عند علمائهم الذين نهضوا بادوارهم العلمية في تثبيت تلك المعالم والاصول توظيفها بالصورة الصحيحة في المجال العلمي، فكانت جهود اعلام التشيع ورموزه الفكريين تتضافر مع بعضها البعض ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، لان المسار العلمي كان ينحدر من اصول واحدة ويمضي في طريق موحد نحو هدف واضح مشخّص ولعل هذه الحقيقة الكبيرة هي التي جعلت المدرسة الفكرية والفقهية الشيعية تنفرد عن غيرها من المذاهب الإسلامية وتمثل المدرسة الحقيقية للاسلام في تشريعه واحكامه وثقافته واخلاقه.

وعلى هذا فان الشخصية العلمية البارزة في الوسط الشيعي تتحرك في خط موصول الحلقات وهي خلاصة سلسلة طويلة من جهود الاعلام الفقهاء. ونتاج تاريخ ومحصّلة زمن، وهي في نفس الوقت عطاء للحاضر ورفد للمستقبل.

وعندما نضع شخصية الشيخ الانصاري وغيره من اعلام الشيعة في هذا المسار الطويل ووفق الحقائق والسمات التي تميزه، نكتشف بسهولة موقعه ودوره في التاريخ العلمي الشيعي. فهو نقطة التواصل بين التراث الشيعي الضخم الذي وصل إليه وبين المستقبل الفقهي والاصولي الذى انطلق من مدرسته المتطورة الخلاّقة.

ثانياً: الابداع والنقد العلمي في المدرسة الشيعية

تتميز الحوزات العلمية الشيعية بنشاط علمي حر، فهي لا تقف عند حدود النظرية والفكرة التي تصلها من الماضي وتأخذ بها على انها مسلّمة غير قابلة للنقاش، انما تخضع نتائج الدراسات والاراء الاجتهادية التي توصل اليها العلماء السابقون إلى بحث متجدد ونقد مستمر من قبل اجيال العلماء اللاحقين. مما يجعل من اي جهد علمي موضع دراسة دائمة في الحوزات العلمية. وبذلك تظل الشخصية الشيعية في الغالب حية مع الزمن من خلال ما تقدمه من افكار ونتائج وهذا ما يساهم بطبيعة الحال في تطوير النظرية والوصول بها إلى التكامل. كما انّه يساهم في بقاء روح الابداع حية داحل الحوزة، إذا ما قدر لشخصية علمية ان توظف التراث الواصل اليها وتنطلق منه في ابداعات جديدة، وهذا ما فعله الشيخ الانصاري قدس سره. فلقد استوعب التراث الفقهي والاصولي الذي وصل إليه ثم اضاف ابداعاته الهائلة في هذين العلمين والمتمثلة بكتابيه الخالدين (الرسائل والمكاسب).

ثالثاً: الاستقالية السياسية

من الخصائص التي تتميز بها الحوزة العلمية الشيعية انها مؤسسة غير منتمية لاي جهة رسمية، وهذا ما جعلها على الدوام تعيش حرية البحث الفكري والاختيار المنهجي. وقد تعرضت لضغوط هائلة من قبل الحكومات الجائرة في فترات مختلفة من التاريخ، الا انها استطاعت ان تواجه التحديات بصلابة وتحافظ على وجودها العلمي واستقلالها السياسي.

ان من اهم نتائج الاستقلالية في الحوزة العلمية ان اساتذتها لا يصلون إلى مواقعهم الاولى في المجال العلمي، الا من خلال الكفاءة والعلمية، وليس هناك عامل خارجي يؤثر في تعيين الاستاذ أو المرجع دون توفر الشروط المطلوبة فيه.

وقد ساهمت هذه الخصيصة التاريخية المهمة في اثراء وتكامل الحوزة العلمية، حيث سارت على القيم العلمية الصحيحة في تحديد المواقع في مراتبها العلمية والقيادية، ولم يحدث ان تبوأ مرتبة الزعامة فيها رجل غير مؤهل علمياً.

ان الزعامة عندما تكون خاضعة للمقدرة العلمية، فانها بلا شك تدفع بالتطور العلمي إلى الامام، وتحقق التكامل في الشخصية العلمية الشيعية مع تواصل الزمن. كما انها في الغالب تفسح المجال للطاقات الابداعية ان تظهر على الساحة وتأخذ موقعها الحقيقي في المجالات العلمية وفي حياة الاُمّة وهذا ما حدث مع الشيخ الانصاري، فالمعروف عنه انّه لم يسع إلى المرجعية، انما هي التي سعت إليه، وعندما اضطلع بمهامها كان اميناً عليها، وكان عامل الدفع الكبير في تطوير رسالتها العلمية، حيث يمكن الحديث بوضوح عن مسارها العلمي بمرحلة ما قبل ومرحلة ما بعد الشيخ الانصاري

فترة الشيخ الانصاري

عاش الشيخ الانصاري بين عامي 1214 هـ ـ 1281 هـ اي منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي وحتى العقد السادس منه وكانت تلك الفترة واحدة من الفترات الحساسة في التاريخ الشيعي والاسلامي المعاصر، حيث شهدت احداثاً ضخمة وخطيرة على المستويات العقائدية والثقافية والسياسية ملأت ارجاء الدولة العثمانية واثرت بعضها بقوة على الساحة العراقية عموماً وعلى النجف الاشرف بالخصوص. وكان من الطبيعي ان تنعكس تلك الاجواء على شخصية الشيخ الانصاري واتجاهاته العلمية التي تميز بها عن معاصريه، فالشخصية لا يمكن ان تنفصل عن محيطها الاجتماعي والثقافي، ولابد ان تتأثر بالاحداث التي ترسم معالمها وتحدد مساراتها العامة، انما تتفاوت نسبة التأثر من شخص لآخر كما تختلف نتائج التأثر سلباً أو ايجاباً.

والذي حدث مع شيخنا الانصاري انّه تأثر بها ايجابياً، واستطاع ان يجعل حصيلة عمره منطقة اشعاع وهّاج وسط الساحة الإسلامية، وعلامة شاخصة في التاريخ العلمي للشيعة، ومصدر عطاء مستقبلي للامة ولاجيالها في مختلف الحوزات العلمية.

ومن اجل ان نكتشف ابعاد هذ الشخصية العملاقة نرى من الضروري تثبيت بعض الملامح الرئيسية التي عاصرها منذ نشأته وحتى تسلمه المرجعية، وذلك حسب المعالم الاساسية التالية:

اولاً: الاجواء العلمية في النجف الاشرف

خلال فترة دراسة الشيخ الانصاري، كانت الحوزة العلمية في النجف الاشرف تشهد مرحلة الازدهار والتقدم. حيث بلغ عدد طلابها حوالي عشرة آلاف طالب، وهو رقم كبير قياساً بالظروف المعيشية الصعبة آنذاك. وقد كان اساتذة الحوزة في تلك الفترة يتمتعون بقدرات علمية عالية، بحيث ان بروز احدهم وتميزه على غيره لا يكون الا من خلال امتلاكه قدرات علمية نادرة، على هذا فان تفرد الشيخ الانصاري وتقدمه على معاصريه يشير بوضوح إلى سمو منزلته العلمية حيث ان استاذه الشيخ محمد حسن (صاحب الجواهر) اوصى بالمرجعية إليه، وهي بادرة لم تكن مألوفة في الحياة الشيعية، ولا شك ان هذا التعيين انما كان عن استيعاب الشيخ صاحب الجواهر لشخصية تلميذه الانصاري.

ثانياً: جذور النزاع الاصولي الاخباري

نشأ الشيخ الانصاري في الفترة التي شهدت انحسار الاتجاه الاخباري بعد نزاع فكري طويل بين علماء الشيعة، وقد تحقق الانتصار على يد الرائد المجدد الوحيد محمد باقر البهبهاني المتوفى عام 1206 والشيخ الكبير جعفر كاشف الغطاء غير ان هذا الانتصار الفكري وبسبب العوامل السياسية والاجتماعية المتشابكة التي احاطت به لم يستكمل مشروعه النظري ولم يكن يستند على رصيد علمي كبير من القواعد والمباني المدونة في علم الاصول، ولعل هذه المسألة المعقدة هي التي جعلت الشيخ الانصاري يكرس حياته العلمية لتطوير هذا لعلم ويكون رائده الكبير في المرحلة المعاصرة وعلى هذا الاساس يعتبر الشيخ الانصاري (قدس سره) رائداً لارقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ اكثر من مائة سنة حتى اليوم.

ثالثاً: تصاعد الحركة الشيخية

عاصر الشيخ الانصاري واحدة من الفترات المضطربة في تاريخ الفكر والثقافة حيث ظهرت الاتجاهات الفكرية المنحرفة واستطاعت ان تتغلغل داخل اوساط الاُمّة الإسلامية. وكان منطلق بعض هذه الاتجاهات من الاوساط العلمية الشيعية وهي مسألة حساسة وخطيرة باعتبار ان الحوزة العلمية تمثل منطقة العصب الحي للفكر الشيعي. وان اي أرباك طارىء فيها يؤثر على عطاءاتها ورسالتها الفكرية الاصيلة التي تميزت بها لقرون طويلة.

لقد عاصر الشيخ الانصاري قوّة الحركة الشيخية وهي الحركة التي وضع اسسها الشيخ احمد الاحسائي في كربلاء بعد ان درس على السيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء ونال منهما اجازة في الرواية وقيل درجة الاجتهاد، وتميز عن أقرانّه بقدراته العلمية، لكنه أذ يتحدث لطلابه بأرائه الخاصة، مما اثار حوله ضجة في الاوساط العلمية. اضطر على أثرها إلى ترك العراق والهجرة إلى الحجاز.

وكان يعتمد الشيخ الاحسائي في اصدار دعاواه واحكامه على ما يدعيه من رؤية الائمة عليهم السلام لذلك سميت طريقتهُ (بالكشفية) وهي طريقة لا تنسجم مع المناهج المتبعة في الاوساط العلمية للحوزات الشيعية.

بعد وفاة الشيخ الاحسائي خلفه السيد كاظم الرشتي بوصية منه، وكان من اهم وصاياه أن يترقب ظهور الامام الحجة عجل الله فرجه الشريف الذي أزفت ساعة ظهوره بعد ان مضى على غيبته ألف عام وقد سار كاظم الرشتي في هذا الاتجاه واستطاع أن يؤثر على الاوساط الشيعية في كربلاء بشكل ملحوظ، واستمر في هذا النهج حتى وفاته عام 1259 هـ(1843م) ولم يعين السيد الرشتي خليفة له، لدعوته ان الامام الحجة سيظهر ولا حاجة لتعيين الخليفة، وقد حدد لتلامذته علامات خاصة يعرفون بها الامام الغائب.

وكان لهذا المنهج والوصية التي تركها الرشتي الاثر الكبير في ظهور الحركة البابية التي اعلنها احد تلامذة الرشتي في ايران وهو (علي محمد) الذي إدعى بانه الباب إلى الامام الغائب.

استطاعت هذه الحركة ان تنجح في ايران وان تصل إلى ذروة نجاحها خلال فترة مرجعية الشيخ الانصاري.

ورغم ان المصادر المتوفرة لدينا لم تتحدث بوضوح عن موقف الشيخ الانصاري في مواجهة هذه الحركة الضالة، الا انّه يمكن اكتشاف دوره من خلال معرفة حقيقة تاريخية هامة. وهي ان الحركة البابية التي استندت جذورها إلى الوسط العلمي في كربلاء وكان يفترض في ضوء ذلك ان تنتشر في العراق ولا سيما في المناطق المقدسة منه، إلاّ ان العكس هو الذي حدث، حيث لم تستطع هذه الحركة ان تحقق نجاها الا في أوساط كربلاء، اما في النجف فلم تستطع الحركة الوصول اليها.

ولعل عمق الشخصية العلمية للشيخ الانصاري وضخامة عطائه الفكري وقوّة الدور التاريخي الذي كان يقوم به جعل من النجف الاشرف قلعة حصينة لا تخترقها الافكار الضالة، لان اي نشاط فكري منحرف ما كان ليقف على قدميه امام الزخم الفكري الهائل الذي حققه شيخنا الانصاري (قدس سره) في النجف التي ظلت الموقع المتقدم للفقه والاصول سائر المعارف والعلوم الإسلامية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

رابعاً: الاضطرابات السياسية

كانت الفترة التي عاصرها الشيخ الانصاري تتميز باضطراب سياسي عام، حيث كان الصراع على السلطة شديد بين المماليك الذين حكموا العراق، ثم نهاية حكم المماليك وعودة السلطة إلى السلطان العثماني. وقد رافقت ذلك أحداث سياسية قلقة وكوارث مدمرة مثل المجاعة والطاعون وفقدان الأمن، وهي العوامل تفتك بالاجواء الثقافية وتجمد النشاط والابداع العلمي، ولا سيما إذا أضفنا لها ان سياسة الدولة العامة كانت تتميز بالطائفية، وكان الشيعة يتعرضون لمضايقة الحكام خصوصاً وان أزمة العلاقة بين ايران والدولة العثمانية كانت تتسم دائماً بالشدة والتوتر، ان تلك الاوضاع القلقة كانت تقف في الجانب المعرقل لنمو الفكر والحركة العلمية، غير ان قدرة الشيخ الانصاري العلمية مكنتهُ من تحدي الظروف الاجتماعية والسياسية.

وان يؤسس مدرستهُ العلمية المعطاءة، فقدم نتاجاته الضخمة في الفقه والاصول في واحدة من الفترات المظلمة التي شهدها التاريخ الاسلامي. وقد عبر عنه سيدنا الشهيد الصدر (رض) بأنه يقف على رأس جيل من أجيال النوابغ في العصر الثالث من عصور تاريخ علم الاصول وهو عصر الكمال العلمي للمدرسة الجديدة وعصارها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموها ونشاطها وقدّر له ان يرتفع بالعلم إلى القمة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها اليها.

قيمة الشيخ النصاري في حركة الزمن

الشيخ الانصاري احد القلائل الذين اكتشفهم المستقبل اكثر مما اكتشفهم حاضرهم. وليس معنى هذا انّه لم يأخذ موقعه الحقيقي في زمانه بل انّه كان العلم الابرز في الوسط الشيعي وكان مرجع الشيعة بعد وفاة استاذه، فلم يقف إلى جانبه نظير، بحيث ان وفاته جعلت المرجعية تتوزع على عدة مراجع بعدما كانت متوحدة فيه.

والشيخ الانصاري رغم علو شأنه في زمانه الا انّه اكتسب منزلة اكثر سمواً بعد وفاته بفضل التراث الفقهي والاصولي الذي تركه للحوزات العلمية دافعاً اياها إلى مراحل متقدمة من التطور والتقدم العلمي، بحيث يمكن اعتباره القيمة الحية المتجددة مع الزمن.

ان الشيخ الاعظم قدم في حياته ما ارسى دعائم المدرسة الاصولية وساهم بشكل فاعل واساس في تطور مدرسة النجف العلمية. وهو بعد وفاته فتح باب مرحلة جديدة من مراحل الازدهار فيها والتي كان من اعلامها المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني والشيخ حسين النائيني والسيد ابو القاسم الخوئي والسيد الشهيد محمد باقر الصدر.

وهكذا كان الشيخ مرتضى الانصاري يمثل منطقة استيعاب الماضي العلمي للمدرسة الشيعية، ومنطلق الابداع للمستقبل العلمي المشرق لهذه المدرسة الإسلامية الاصيلة.

ان الآثار التي تركها الشيخ الانصاري ظلت حية مع حركة الزمن فكتاباه الكبيران (الرسائل والمكاسب) يمثلان محطة اساسية في المسار العلمي حيث لا يمكن للطالب في الدراسات الشرعية ان يتخطاهما في حياته العلمية، فهما المعلمان البارزان في الحوزات العلمية الشيعية.

وكما عاش الشيخ الانصاري حياً من خلال تراثه العلمي فانه ظل حياً من خلال تلامذته الذين مارسوا أدواراً سياسية ذات أثر كبير في حياة الاُمّة الإسلامية كالميرزا محمد حسن الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد جمال الدين الافغاني (الاسد آبادي).

فالميرزا محمد حسن الشيرازي كان موضع اهتمام خاص من قبل استاذه الشيخ الانصاري وقد سار على نهج استاذه في الزهد والورع والابتعاد عن الدنيا واستطاع من خلال سيرته الاخلاقية ومواقفه الاجتماعية والإنسانيّة ان يكسب ثقة الاُمّة بشكل لم يحدث له مثيل من قبل وقد مثلت فتواه الشهيرة بثورة التنباك احد النقاط المضيئة في التاريخ السياسي الشيعي المعاصر.

كما ان دور الشيخ الاخوند الخراساني يعتبر من الادوار المتميزة في الحياة الإسلامية والسياسية من خلال مواقفه في قضية المشروطة أوائل القرن العشرين الميلادي وتصديه لحركة الجهاد ضد احتلال الروس لايران عام 1911 ميلادية.

اما السيد جمال الدين الافغاني فقد كان نمطاً آخر من تلامذة الشيخ الانصاري اذ مارس نشاطاً اصلاحياً اختلف في نهجه عن الاسلوب الذي كان سائداً في الحوزات العلمية وطريقة العلماء المصلحين الذين عاصروه.

فاستطاع ان يقوم بحركة اصلاح سياسي وبث وعي اسلامي واسع في العديد من البلدان الإسلامية.

ولاشك انّه استفاد كثيراً من السنوات التي قضاها في النجف الاشرف تلميذاً متميزاً من تلامذة الشيخ الانصاري الذي منحه اجازة الاجتهاد وهو لم يبلغ العشرين من عمره ولا تزال شخصية السيد جمال الدين موضع خلاف شديد بين المؤرخين والباحثين في تاريخ الحركات الاصلاحية في العصر الحديث.

الا انهم يتفقون جميعاً بانه استطاع ان يشكل تياراً قوياً من الصحوة والاصلاح لا يزال موضع تقدير واهتمام الاجيال ولا تزال آثاره الاصلاحية وافكاره السياسية ممتدة لعقود من الزمن.

ان دراسة فترة الشيخ الانصاري تبين بوضوح القيمة الكبيرة لهذه الشخصية التي ظهرت في أجواء مضطربة وقلقة فقدمت للفكر وللامة عطاءاً دائماً يتسم بالثبات والاستقرار فرض نفسه على حركة الزمن المتسارعة المتجددة.




----------------------------------



مصادر الدراسة

1 ـ السيد محسن الامين، اعيان الشيعة ج10.

2 ـ هاشم معروف الحسني، تاريخ الفقه الجعفري.

3 ـ الشيخ جعفر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها.

4 ـ محمد باقر الخوانساري، روضات الجنات ج2.

5 ـ السيد الشهيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للاصول.

6 ـ علي الفاضل القائيني، علم الاصول تاريخاً وتطوراً.

7 ـ د. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج2 ـ ج3.

8 ـ علي حسين الجابري، الفكر السلفي عند الشيعة.

9 ـ عبدالرزاق الحسين، البابيون والبهائيون في حاضرهم وماضيهم.

1 ـ تكتيكهاي انقلابي، محمد جواد صاحبي. (سيد جمال الدين اسد آبادي).

11 ـ زندكاني آخوند خراساني........ عبد الحسين كفائي.

ابو اليقظان
12-02-2004, 12:16 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
احسنت مولاي على النقل
اذا كان عندكم مولاي دراسات تحليلية للحركة الشيخية وربطها بالحركة البابية ومتوفرة على الانترنت يا ريت تزودونها بيها لو تعمل لنا توصية على كتاب معين مفيد في هذا الخصوص
كما ان لدي سؤال مولاي المقال الي جنابكم نقله تكلم عن جمال الدين الافغاني (السيد)
هذا نفسه مولاي صاحب فكرة الجامعة الاسلامية ؟ يعني وهل صحيح حصل على الاجتهاد من الشيخ الانصاري ؟ ما عندك فكرة مولاي عن المنهج الاصلاحي الي انتهجه جمال الدين الافغاني وشنو الي سبب هيجي خلاف بين المؤرخين والتايخيين في تقييم خطه الاصلاحي ؟

عذرا مولاي اذا اكثرت السؤال واذا جنابكم ما عنده اجابة معذورين عزيزي
تحياتي

سيد مرحوم
12-02-2004, 05:14 AM
الاخ العزيز ابو اليقظان

لا ادعي الاطلاع الواسع على اتجاه الشيخية وان كانت لي بعض الكتابات التوثيقية وبالصور حولها ولاسيما على سبيل المثال المجلة الدورية "المرشد" حيث صدر ملف خاص حولها..بالاضافة الى كتابات متفرقة تحدثت عن نشؤها في هذا الخصوص واما وجود بعضها على النت فلم اصادف ذلك خلال ابحاري فيه وان كنت لا اشك بتاتا بوجود ذلك وربما توفقت مستقبلا لطرح ذلك او نقل ماعندي من كتابات موثقة هنا انشاء الله لنصل الى صورة موضوعية ودقيقة حول اتجاه الشيخية كمدرسة شيعية لها اصولها ومقلديها في بعض دول الخليج وايران على وجه الخصوص.

واما بالنسبة لماذكره السيد حسين الشامي من حصول الافغاني على شهادة الاجتهاد من الشيخ الانصاري فهذا ما اطلعت عليه منه لاول مرة حيث مبلغ علمي بحسب قراءاتي التاريخية في ذلك (ولا ادعي شموليتها ودقتها) هو في تلمذه في النجف بضع سنين لا اكثر ..على العموم السيد حسين الشامي كاتب تحسب له الدقة العلمية وحديثه في ذلك لابد وان يكون مؤرخا او منقولا من مصادر لها قيمتها في ذلك بغض النظر عن صواب وجهة النظر التي ذهب لها في ذلك من عدمه..وان كان هذا يخالف ما سمعته ولأول مرة من الاخ الدكتور عادل في موضوع سابق لا اتذكر موقعه عن سنية السيد جمال الدين الافغاني دون ان اعرف مصدره في ذلك ...واخيرا وفي خصوص الخلاف الحاصل بين بعض المؤرخين او الناقدين لحركته ودوره وتقييمهم لاداءه فهو مايحتاج في نظري مواضيع مستقلة وتتبع اكثر دقة واطلاعا وهو ما لا املكه من حيث حدود اطلاعي على ملف هذا السيد المجاهد وان كنت ايضا ساحاول تناول ملفه مستقبلا انشاء الله بما يوضح او يلقي الضوء على موضع تساؤلكم المهم حيث لاتكفي معه الاراء الشخصية العبارة لاسيما مع شخصية ارتبطت بالاصلاح وبهذا الحجم والتأثير .


خالص تحياتي لكم...