سيد مرحوم
11-27-2004, 01:17 AM
إطلالة على المشهد الثقافي الشيعي
في حوار خاص مع المفكر العراقي ..الشيخ عبد الجبار الرفاعي*
http://www.islamonline.net/arabic/arts/2004/01/images/pic17.jpg أجرى الحوار في المنامة: وسام السبع**
لا يمكن لمن هو مهتم بحركة الإنتاج الفكري والثقافي في العالم العربي والإسلامي إلا أن يقف بإجلال لروعة الجهد الفكري الرائد الذي يضطلع به الباحث والمفكر العراقي الشيخ عبد الجبار الرفاعي، وإصداره لمجلة "قضايا إسلامية معاصرة"؛ فقد استوعبت شخصية الشيخ الرفاعي جملة من الاشتغالات الفكرية، وتنوعت مجالات اهتمامه من وحي تنوع وغنى المصادر الفكرية التي يقف عليها، ويتوفر على الاحتكاك اليومي بها.
الشيخ الرفاعي أكثر من باحث مهموم بالثقافة الإسلامية وأسئلة التجديد؛ فهو أحد العلماء الذين كانت ولا تزال لهم قدم راسخة في مجال التحصيل العلمي في الحوزة العلمية، وأحد الأساتذة المرموقين في الفلسفة الإسلامية، وهو مترجم نشط لعدد كبير من الأبحاث والإصدارات الإيرانية للغة العربية، وهو آخرا -وليس أخيرا- رئيس تحرير مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، ومؤسس مركز فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وصاحب الإصدارات الفكرية العديدة.
هذا اللقاء يحكي صورة من مقطع طويل لقصة رجل أعطى أكثر مما تعطيه المؤسسات، وهو الذي في مهجره لم يكن يملك الكثير إلا صلابة العزيمة وحيوية الطموح الجامح؛ فإلى الحوار:
ترجمة الهم الإصلاحي إلى مشروع مطبوعة.
تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ الأسئلة الكبرى.
علم الكلام الجديد في إيران والعالم العربي.
العراقيون في المهاجر.. عطاء ثقافي متواصل.
ترجمة الهم الإصلاحي إلى مشروع مطبوعة
* عُرفتم في الأوساط العلمية والفكرية في الوطن العربي من خلال مشروعكم الرائد الذي قام على جهد شخصي كامل، وهو مشروع مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" التي مثلت جسرا تواصليا بين الساحة الفكرية في إيران والساحة الفكرية في الوطن العربي.. ما هي ظروف نشأة هذا المشروع؟ وما هي أبرز دواعي الولادة؟
- بعد أن أنهيت تعليمي الأكاديمي في تخصص الزراعة انخرطت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في سنة 1978، وبعد اضطراب الأحوال الأمنية والسياسية في العراق اضطررت للهجرة إلى إيران؛ لألتحق بعدها بالحوزة العلمية في قم، وواصلت دراستي الحوزوية، ثم بالتدريج وبحسب الطريقة المعروفة وهي أن الطالب في المرحلة المتقدمة يباشر مهام التدريس للمرحلة التي قبلها.. أصبحت طالبا ومدرسا، إلى أن وصلت إلى مرحلة البحث الخارجي.
وفي الوقت نفسه كنت أستاذا للمقدمات والسطوح، وقد أمضيت سنوات طويلة ناهزت ربع قرن في الدراسات الحوزوية، وحاولت أن أدرس بالطريقة التقليدية المتعارف عليها في الحوزة؛ حتى إنني كنت مهتما بالكتب التي توجد مناهج بديلة لها؛ فعلى سبيل المثال قمت بدراسة علم أصول الفقه بالطريقة التقليدية في كتاب "معالم الدين" و"أصول الفقه" المعروف بـ"أصول المظفر"، وكتاب "الرسائل" و"ا
".
ودرست أيضا "دروس في علم الأصول" المعروف بـ"الحلقات" للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وحاولت أن أجمع بين المنهجين، وكنت مثابرا في الدراسة لسنوات طويلة، ووجدت من خلال دراستي للمعارف والعلوم الإسلامية التراثية في الحوزة أن بعض هذه العلوم بحاجة إلى إعادة بناء وتحديث، وبحاجة إلى أن تخرج بأسلوب جديد ولغة جديدة، تنسجم مع التحولات الهائلة التي تجري في عصرنا. وهذه الحقيقة أدركها منذ أكثر من مائة سنة السيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ محمد جواد الجزائري، ثم فيما بعد الشيخ محمد رضا المظفر الذي اضطلع بمشروعه الرائد "جمعية منتدى النشر" و"كلية الفقه"، ثم فيما بعد الإمام الشهيد محمد باقر الصدر الذي اهتم بتحديث مناهج الدراسات الإسلامية في الحوزة العلمية.
أنا لم أكن تواقا لبناء مدرسة في الحوزة العلمية بموازاة المدارس الأخرى الموجودة في الحوزة فعلا، إنما كان شاغلي هو أن الواقع الذي تعيشه الحوزة في بعض جوانبها يعيش حالة من الفقر الثقافي، على الأقل في الوسط الذي عشت فيه شخصيا؛ فكان الاهتمام ينصب على النصوص التراثية التي ندرسها، ثم نقوم بتدريسها. وكان هناك على الدوام حاجة ملحة إلى التواصل مع المشهد الثقافي المحيط بنا، سواء المشهد الثقافي العربي أو الثقافي الإيراني؛ فبدأت أفكر بضرورة التحديث؛ أي إعادة بناء النظام التعليمي في الحوزة، وضرورة الانفتاح على العصر، وقد ولدت مجلة قضايا إسلامية معاصرة في فضاء هذا الهم.
وقبل صدور مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" كانت هناك مجلة "قضايا إسلامية" وقد صدرت لمدة أربع سنوات (1994-1998)، وكانت قضايا إسلامية حولية، ثم تحولت إلى نصف سنوية، وكنت أصدرها مع الصديق الأخ الشيخ مهدي العطار، ثم بدأت إصدار "قضايا إسلامية معاصرة"، وقد أكملت المجلة عامها السابع، وأصدرت بجوار هذه المجلة سلسلة كتب بعنوان "سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة"، صدر منها حتى الآن سبعون كتابا، تعالج نفس الإشكاليات التي تشتغل عليها المجلة.
كما أصدرت سلسلة بعنوان "آفاق التجديد" صدر منها خمسة كتب، طبعتها دار الفكر المعاصر في بيروت، كما أصدرت سلسلة كتب مرجعية باسم "المشهد الثقافي في إيران"، صدر منها كتابان مرجعيان: الكتاب الأول بعنوان "فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة"، والكتاب الثاني "علم الكلام الجديد وفلسفة الدين"، والآن أخطط لإصدار سلسلة بعنوان "فلسفة الدين والكلام الجديد" ستستوعب مجموعة من الإسهامات والكتابات في هذه الموضوعات باللغة العربية واللغة الفارسية مترجمة إلى العربية، وكل هذه الأعمال الآن تصدر في إطار مركز قمت بتأسيسه، وأطلقت عليه اسم "مركز دراسات فلسفة الدين والكلام الجديد"، وسنعمل على الانتقال به إلى بغداد إن شاء الله، وسيعتبر المركز بمثابة مظلة تستوعب هذه الجهود.
تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ الأسئلة الكبرى
* قضايا إسلامية معاصرة استطاعت أن تحدث حولها جدلا واسعا؛ بسب طبيعة ما تعالجه من ملفات ساخنة.. ما هي ردات الفعل التي واجهتكم خلال مسيرة المجلة؟
- التحديات التي واجهتها المجلة متنوعة، وربما كان التحدي الأهم بصراحة هو مشكلة الإمكانات؛ لأنه كما تعلم فإن العمل الإعلامي وأي مطبوعة سواء كانت مجلة أو صحيفة تحتاج إلى: ميزانية، وهيئة تحرير، ومبنى، وكل متطلبات العملية التحريرية، والمجلة تفتقر إلى هذه المتطلبات، ولكني كنت أكافح وأجاهد بإصرار لإصدار المجلة؛ لاعتقادي بأهمية وضرورة استمرار صدورها، حتى اضطررت قبل عدة سنوات إلى بيع مكتبتي الشخصية، وهي مكتبة تمثل حصيلة عمري، واستطعت أن أجمع فيها أكثر من 5000 كتاب، ولكني شعرت أن المكتبة يمكن أن تعود، لكن استمرار "قضايا إسلامية معاصرة" في هذه الفترة كان أهم من اقتناء المكتبة. لقد كان هذا التحدي من أقسى التحديات التي واجهتني، ولكن بعد أن عرفت المجلة أصبحت لها مبيعات جيدة في البلاد العربية، خصوصا بعد أن باتت تصدر في بيروت، ومنذ سنوات صارت تغطي مقدارا جيدا من نفقاتها.
أما التحدي الآخر فقد تمثل في اعتراض بعض الناس الذين يحتمون بالتراث؛ فهم عادة يستفزهم الصوت الجديد، الصوت الذي يدعو إلى التحديث؛ لأن الناس بطبيعتهم يألفون القديم ويألفون الماضي. خصوصا إذا تعلقت مسألة التحديث بالفكر الديني؛ لأن الفكر الديني فكر يمتزج بالمقدس.
بالتالي كأنك تطال المقدسات؛ لذلك كان البعض يتحفظون على مثل هذا اللون من الخطاب، لكني بصراحة فوجئت بأن جماعة من العلماء الذين أكن لهم احتراما كبيرا؛ كالإمام الشيخ محمد مهدي شمسي الدين، الذي كان يهاتفني باستمرار، ويثني على هذا الجهد، ويقول: "أنا أعتبر هذه المجلة أهم مجلة باللغة العربية في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر"، وكذلك آية الله السيد محمد حسين فضل الله؛ فإنه أيضا يثني ثناء عاطرا على هذا الجهد، ويساهم بمشاركاته في المجلة، وكذلك العلامة السيد محمد حسن الأمين، والعلامة السيد هاني فحص، كما أن هناك مجموعة علماء وفقهاء آخرين في الحوزة العلمية في قم وفي مواطن أخرى يبادرون للكتابة في المجلة ويحرصون على متابعتها، ويقولون لي: إن هذه دورية مميزة لا نريدها أن تتراجع أو تتوقف، ويمكنكم مراجعة محتويات كل ملف من الملفات التي تنشرها لتطالع المساهمات الكثيرة للفقهاء والباحثين في الحوزة العلمية.
وهذه من الأشياء التي فاجأتني حيث إن هذا الصوت ليس صوتا وترا، وإنما هناك بعض الناس الذي يجدون في هذا الصوت حاجة ملحة، خاصة أن المجلة حاولت أن تهتم بنقل موضوعات جادة وحيوية تمثل تحولات الفكر الديني في إيران إلى القارئ العربي، وأستطيع أن أزعم أن القارئ في بلادنا يطلع على هذه القضايا الإشكالية للمرة الأولى في "قضايا إسلامية معاصرة".
وقد حاولت المجلة أن تشتمل على ملفات ترتبط بتحديث العلوم الحوزوية، من قبيل ملف الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، وملف مقاصد الشريعة، وملف فلسفة الفقه، وملفات أخرى. وأعتقد أن المجلة استطاعت أن تتجاوز هذا التحدي بنجاح؛ لأنها عبرت عن صوت جماعة من المثقفين والباحثين وعلماء الدين وطلاب العلوم الإسلامية في الحوزات العلمية الذين لم يكن لهم صوت فيما سبق، وتحولت "قضايا إسلامية معاصرة" إلى منبر ثقافي، يحكي تيارات تحديث المعرفة الدينية، مضافا إلى أنه لا يتجاهل المواقف المناهضة، وإنما يلاحقها ويعرف بها وينشرها، وبوسعك أن تلاحظ ما ينشر من وجهات نظر متقابلة على صفحات المجلة في أبرز القضايا المطروحة فيها.
التحدي الآخر هو التحدي الشخصي، وذلك أن المجلة تستنزف أغلب جهدي تقريبا؛ باعتباري أباشر كل العمليات التحريرية في ظل غياب هيئة تحرير للمجلة، هذا في الوقت الذي ما زلت فيه طالبا ومدرسا في الحوزة العلمية. والعملية التحريرية تحتاج إلى جهد كبير؛ فعلى سبيل المثال أنا الذي أعقد الندوات للمجلة، وبعد ذلك أقوم بتفريغ أشرطة الكاسيت وأحررها، كما أني أقوم بوضع خطط الملفات، وأجري الاتصالات مع الكتاب، وأنفذ الحوارات، وأترجم بعض النصوص، وأقوم أحيانا بمراجعة ما يترجمه المترجمون إن لزم الأمر، وبالتالي فالعمل يستنزف مني جهدا مرهقا، خاصة أن المجلة فصلية، وتصدر في أكثر من 300 صفحة، هذا هو التحدي الشخصي الذي أتعبني كثيرا، حتى إنني فكرت أكثر من مرة بإيقاف المجلة حتى أتفرغ لأعمال كتابية أخرى.
* ذكرتم موقفا إيجابيا إزاء خطاب المجلة والملفات التي تشتمل عليها، أبداه علماء من خارج إيران.. ماذا عن علماء إيران لا سيما ونحن نجد بعض الأسماء المرجعية التي تشارك في المجلة باستمرار كالشيخ جعفر السبحاني وناصر مكارم الشيرازي؟
- المجلة طبعا خطاب موجه للقارئ العربي، فهي تصدر في بيروت وتوزع في البلاد العربية، وبالتالي فهي غير مقروءة في إيران؛ لأن ما يقرأ في إيران عادة ما يكون مدونا باللغة الفارسية. أما العلماء الذي يكتبون في المجلة، أو تهتم المجلة بنشر أعمالهم، وتجري معهم حوارات فموقفهم إيجابي.
و"قضايا إسلامية معاصرة" أساسا لا تحاول أن تتبنى موقفا وتعتبره هو الصواب، المجلة لا تقف مواقف معيارية من الأفكار، بمقدار ما تحاول أن تقدم للقارئ وجهات نظر متنوعة، ولذلك فإن من التقاليد التي ترسخت في المجلة منذ عددها الأول هو أنها تحاول أن تنشر وجهات نظر مختلفة في باب في المجلة يتكرر بعنوان "وجهان وقضية"، وهذا الباب ننشر فيه وجهات نظر متقابلة في قضية واحدة، وجهة نظر محافظة ووجهة نظر إصلاحية، وجهة نظر تقليدية ووجهة نظر تحديثية، وجهة نظر تنتمي إلى التراث ووجهة نظر تنتمي إلى العصر، وبالتالي فإن القارئ بنفسه هو الذي يتخذ موقفا. المجلة تعتقد أنه من المهم فتح ثغرات لإطلاق عملية التفكير، وإطلاق عملية التفكير لا تتم إلا من خلال إثارة الأسئلة؛ لأن تاريخ الفكر البشري هو تاريخ الأسئلة الكبرى.
علم الكلام الجديد في إيران والعالم العربي
* تيار علم الكلام الجديد ذو "الولادة" الإيرانية اجتاح حيزا من الفضاء الفكري في العالم العربي بفضل الموجة التواصلية التي أحدثتها "قضايا إسلامية معاصرة" مع المشهد الثقافي الإيراني.. ما هي مخاضات نشأة هذا العلم في الساحة الإيرانية؟ ومن هم أبرز ممثليه؟
- أولاً: نشأة الكلام الجديد ليست نشأة إيرانية، حتى إن مصطلح الكلام الجديد هو بالأصل ليس مصطلحا من المصطلحات التي نحتت في إيران. ربما من أقدم الكتب في هذا الموضوع هو كتاب باسم "علم الكلام الجديد" ألفه المفكر الهندي الشهير شبلي النعماني، وشبلي النعماني كان في بداية مساره يعمل مع السير سيد أحمد خان، والأخير كان رمزا تحديثيا مهما في شبه القارة الهندية، وبعد ذلك حصل افتراق بينهما، وكل واحد أخذ مسارا، فذهب شبلي النعماني ليؤسس ندوة العلماء، فيما واصل سير سيد أحمد خان مشواره، وسط ردود أفعال مناهضة لمساعيه ومشككة في أعماله.
فالتسمية إذن أطلقها النعماني على كتابه في بداية القرن العشرين، وهذا الكتاب مترجم إلى الفارسية مبكرا، وإن كانت المقاربات التي يشتمل عليها الكتاب بسيطة، ولكن في الكتاب دعوة حثيثة لتنمية دائرة علم الكلام ليتسع لمباحث لم يعرفها من قبل، وإعادة بناء التراث الكلامي. إضافة إلى ذلك فإن أهم عمل كتب برأيي في المائة سنة الأخيرة في علم الكلام الجديد وفي فلسفة الدين هو كتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" للمفكر المسلم محمد إقبال، وهو كتاب في غاية الأهمية، ومع الأسف أن محمد إقبال غير معروف للعالم العربي كمفكر بل هو معروف كشاعر، وكتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" أيضا غير معروف، بالرغم من أنه مؤلف قبل أكثر من سبعين سنة، وهو مترجم إلى العربية والفارسية وغيرهما من اللغات.
وهناك مساهمات متميزة فيما عرف بعلم الكلام الجديد للإمام الشهيد محمد باقر الصدر، وأنا كتبت مدخلا لكتاب "موجز في أصول الدين" للشهيد الصدر في مائة صفحة، تحدثت فيه عن دوره في إعادة بناء علم الكلام، صحيح أنه لم يكن يعبر عنه بعلم الكلام الجديد، لكنه قام بنفس المهمة. وهناك أيضا مساهمات أخرى في العالم العربي، كجهود الدكتور محمد عبد الله دراز وجهود أخرى.
ما حصل في إيران هو أن تكوين المثقف الإيراني تكوين مزدوج في الغالب، من تكوين تراثي حوزي، وتكوين علمي حديث، فقد توفر نخبة من الباحثين الإيرانيين على تأهيل أكاديمي في فلسفة العلم، وقضايا التأويل، والفلسفة الغربية الحديثة، واطلعوا على الدراسات الإنسانية الحديثة في الغرب، واهتموا باللاهوت الأوربي الحديث، بل هناك من يلاحق اللاهوت في الهند واليابان والصين، وتطورت الدراسات المقارنة للأديان، وتنامى الاهتمام بأديان آسيا.
أيضا وجود أرضية في إيران للدرس الفلسفي، ولدراسة العرفان النظري أو قل التصوف الفلسفي، ويمكن القول: إن الحاضرة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تدرس التصوف الفلسفي أو العرفان النظري وحتى الفلسفة الإسلامية بالطريقة التقليدية هي الحوزة العلمية في قم، والطالب الحوزوي يبذل جهدا هائلا ولسنوات طويلة من عمره في هذا المضمار.
هذا الواقع وفر مرجعية مزدوجة للباحث، من تراث ومعاصرة، ومن عرفان نظري وفلسفة وكلام قديم ومعقول بشكل عام وعلوم إنسانية حديثة، وملاحقة لمقولات اللاهوت الحديث في الغرب، بدءا من الحركة البروتستانتية لمارتن لوثر، مرورا بشلاير ماخر ومجموعة من اللاهوتيين الغربيين في القرنين الأخيرين حتى الآن. كل ذلك أوجد أرضية خصبة لولادة ونمو وازدهار اللاهوت الجديد في إيران، مما لا نعرف عنه إلا القليل في العالم العربي، وأحسب أنه سيفضي لاحقا لتحولات عميقة في الفكر الديني، ستظهر آثارها في تفكيرنا بعد حين.
أما من هم الذين اشتغلوا على هذه الموضوعات من الإيرانيين؟ ففي الحقيقة هناك أكثر من جيل:
الجيل الأول الرائد فيه هو العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، وهو يعتبر أستاذ الجيل، وبعض طلابه وعلى رأسهم الشهيد مرتضى مطهري، وإن كان إسهامه في هذا الحقل هو بمثابة عرض وتيسير، وإعادة تنظيم الأفكار، وتعميقها، وإعادة بناء البراهين الموروثة في علم الكلام والتراث القديم من جديد، والإجابة من خلال هذه البراهين على الأسئلة والاستفهامات والإشكالات الجديدة.
المهندس مهدي بازركان أيضا كان لديه إسهام، خصوصا بما يتعلق بقضية جدل العلم والدين، والدكتور علي شريعتي أيضا لديه جهود مهمة، بالذات فيما يتعلق بمقارنات الأديان، وما يمكن أن يعبر عنه بسوسيولجيا الدين، وأنثربولوجيا الدين، والدكتور السيد حسين نصر أيضا يسعى لتقديم الماضي بقناع تحديثي، فهو يحذر الإنسان من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، ويدعو للاهتمام بالعلم المقدس، والمزاوجة بين المعرفة والأمر القدسي، ومن الواضح أن دعوته إلى ما يسمى بالعلم المقدس يكتنفها الإبهام، ولا تخلو من هجاء، ونفي لكل ما هو غربي، وربما يتمدد فيها مدلول المقدس فيستوعب التراث برمته، والتمثلات المتنوعة للاجتماع الإسلامي، وهو مدلول يستقي مرجعياته من آثار المتصوفة والعرفاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب.
هذا هو الجيل السابق. وكل واحد من هؤلاء له جهده الخاص؛ فجهد حسين نصر غير جهد شريعتي، وهناك حالة من التقاطع بينهما، فالأخير يعمل على أنسنة الدين واكتشاف أبعاده الاجتماعية، فيما يغوص سيد حسين نصر في عوالم الباطن، ويحاول استكناه عوالم السر والمعنى، في عالم مشبع بالمادة ويبحث عن المعنى.
الجيل الثاني من المفكرين، وهؤلاء تجاوزوا المرحلة التي بدأها الرواد، وبعبارة أخرى فإن هؤلاء مثلوا مرحلة مختلفة انتقلوا فيها من الأيديولوجيا إلى الأبستمولوجيا، وهذا ما نلاحظه بوضوح في طبيعة الجهود التي أنجزها الدكتور علي شريعتي من الجيل الأول مثلا مقارنة بالجيل الثاني، ذلك أن شريعتي كان داعية يحرص على ترويج أفكاره والتبشير بها وتثقيف الناس عليها، ويحرض الجماهير على النضال والثورة، وبالتالي إحداث تغيير جذري انقلابي طبقا لما يرنو إليه في المجتمع، غير أن الدكتور عبد الكريم سروش أو الأستاذ مصطفى ملكيان وغيرهما من هذا الجيل يقاربون المسائل المدروسة من منظور مختلف، يحرص على التحرر من النزعة الأيديولوجية، ويقدم رؤى تفسيرية وصفية، هي أقرب لمنظور الباحث الأنثربولوجي والسسيولوجي وفيلسوف العلم وعالم النفس منه إلى الداعية والأيديولوجي.
وقد تفشت أفكار الجيل الجديد وسط النخبة في الجامعات والحوزات العلمية، وحصلت أصداء واسعة لهذه الأفكار، وهناك دوريات باللغة الفارسية مهتمة بموضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد. وهناك جدل مستمر تشهده الساحة الثقافية في إيران، وهناك حراك ذهني وفكري، وهذا الحراك في اعتقادي ضرورة ملحة لولادة الأفكار ونموها وتطورها وحياتها؛ لأن من شروط حياة الفكر وتكامله أن يظل في عملية جدل وصيرورة مستمرة.
في حوار خاص مع المفكر العراقي ..الشيخ عبد الجبار الرفاعي*
http://www.islamonline.net/arabic/arts/2004/01/images/pic17.jpg أجرى الحوار في المنامة: وسام السبع**
لا يمكن لمن هو مهتم بحركة الإنتاج الفكري والثقافي في العالم العربي والإسلامي إلا أن يقف بإجلال لروعة الجهد الفكري الرائد الذي يضطلع به الباحث والمفكر العراقي الشيخ عبد الجبار الرفاعي، وإصداره لمجلة "قضايا إسلامية معاصرة"؛ فقد استوعبت شخصية الشيخ الرفاعي جملة من الاشتغالات الفكرية، وتنوعت مجالات اهتمامه من وحي تنوع وغنى المصادر الفكرية التي يقف عليها، ويتوفر على الاحتكاك اليومي بها.
الشيخ الرفاعي أكثر من باحث مهموم بالثقافة الإسلامية وأسئلة التجديد؛ فهو أحد العلماء الذين كانت ولا تزال لهم قدم راسخة في مجال التحصيل العلمي في الحوزة العلمية، وأحد الأساتذة المرموقين في الفلسفة الإسلامية، وهو مترجم نشط لعدد كبير من الأبحاث والإصدارات الإيرانية للغة العربية، وهو آخرا -وليس أخيرا- رئيس تحرير مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، ومؤسس مركز فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وصاحب الإصدارات الفكرية العديدة.
هذا اللقاء يحكي صورة من مقطع طويل لقصة رجل أعطى أكثر مما تعطيه المؤسسات، وهو الذي في مهجره لم يكن يملك الكثير إلا صلابة العزيمة وحيوية الطموح الجامح؛ فإلى الحوار:
ترجمة الهم الإصلاحي إلى مشروع مطبوعة.
تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ الأسئلة الكبرى.
علم الكلام الجديد في إيران والعالم العربي.
العراقيون في المهاجر.. عطاء ثقافي متواصل.
ترجمة الهم الإصلاحي إلى مشروع مطبوعة
* عُرفتم في الأوساط العلمية والفكرية في الوطن العربي من خلال مشروعكم الرائد الذي قام على جهد شخصي كامل، وهو مشروع مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" التي مثلت جسرا تواصليا بين الساحة الفكرية في إيران والساحة الفكرية في الوطن العربي.. ما هي ظروف نشأة هذا المشروع؟ وما هي أبرز دواعي الولادة؟
- بعد أن أنهيت تعليمي الأكاديمي في تخصص الزراعة انخرطت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في سنة 1978، وبعد اضطراب الأحوال الأمنية والسياسية في العراق اضطررت للهجرة إلى إيران؛ لألتحق بعدها بالحوزة العلمية في قم، وواصلت دراستي الحوزوية، ثم بالتدريج وبحسب الطريقة المعروفة وهي أن الطالب في المرحلة المتقدمة يباشر مهام التدريس للمرحلة التي قبلها.. أصبحت طالبا ومدرسا، إلى أن وصلت إلى مرحلة البحث الخارجي.
وفي الوقت نفسه كنت أستاذا للمقدمات والسطوح، وقد أمضيت سنوات طويلة ناهزت ربع قرن في الدراسات الحوزوية، وحاولت أن أدرس بالطريقة التقليدية المتعارف عليها في الحوزة؛ حتى إنني كنت مهتما بالكتب التي توجد مناهج بديلة لها؛ فعلى سبيل المثال قمت بدراسة علم أصول الفقه بالطريقة التقليدية في كتاب "معالم الدين" و"أصول الفقه" المعروف بـ"أصول المظفر"، وكتاب "الرسائل" و"ا
".
ودرست أيضا "دروس في علم الأصول" المعروف بـ"الحلقات" للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وحاولت أن أجمع بين المنهجين، وكنت مثابرا في الدراسة لسنوات طويلة، ووجدت من خلال دراستي للمعارف والعلوم الإسلامية التراثية في الحوزة أن بعض هذه العلوم بحاجة إلى إعادة بناء وتحديث، وبحاجة إلى أن تخرج بأسلوب جديد ولغة جديدة، تنسجم مع التحولات الهائلة التي تجري في عصرنا. وهذه الحقيقة أدركها منذ أكثر من مائة سنة السيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ محمد جواد الجزائري، ثم فيما بعد الشيخ محمد رضا المظفر الذي اضطلع بمشروعه الرائد "جمعية منتدى النشر" و"كلية الفقه"، ثم فيما بعد الإمام الشهيد محمد باقر الصدر الذي اهتم بتحديث مناهج الدراسات الإسلامية في الحوزة العلمية.
أنا لم أكن تواقا لبناء مدرسة في الحوزة العلمية بموازاة المدارس الأخرى الموجودة في الحوزة فعلا، إنما كان شاغلي هو أن الواقع الذي تعيشه الحوزة في بعض جوانبها يعيش حالة من الفقر الثقافي، على الأقل في الوسط الذي عشت فيه شخصيا؛ فكان الاهتمام ينصب على النصوص التراثية التي ندرسها، ثم نقوم بتدريسها. وكان هناك على الدوام حاجة ملحة إلى التواصل مع المشهد الثقافي المحيط بنا، سواء المشهد الثقافي العربي أو الثقافي الإيراني؛ فبدأت أفكر بضرورة التحديث؛ أي إعادة بناء النظام التعليمي في الحوزة، وضرورة الانفتاح على العصر، وقد ولدت مجلة قضايا إسلامية معاصرة في فضاء هذا الهم.
وقبل صدور مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" كانت هناك مجلة "قضايا إسلامية" وقد صدرت لمدة أربع سنوات (1994-1998)، وكانت قضايا إسلامية حولية، ثم تحولت إلى نصف سنوية، وكنت أصدرها مع الصديق الأخ الشيخ مهدي العطار، ثم بدأت إصدار "قضايا إسلامية معاصرة"، وقد أكملت المجلة عامها السابع، وأصدرت بجوار هذه المجلة سلسلة كتب بعنوان "سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة"، صدر منها حتى الآن سبعون كتابا، تعالج نفس الإشكاليات التي تشتغل عليها المجلة.
كما أصدرت سلسلة بعنوان "آفاق التجديد" صدر منها خمسة كتب، طبعتها دار الفكر المعاصر في بيروت، كما أصدرت سلسلة كتب مرجعية باسم "المشهد الثقافي في إيران"، صدر منها كتابان مرجعيان: الكتاب الأول بعنوان "فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة"، والكتاب الثاني "علم الكلام الجديد وفلسفة الدين"، والآن أخطط لإصدار سلسلة بعنوان "فلسفة الدين والكلام الجديد" ستستوعب مجموعة من الإسهامات والكتابات في هذه الموضوعات باللغة العربية واللغة الفارسية مترجمة إلى العربية، وكل هذه الأعمال الآن تصدر في إطار مركز قمت بتأسيسه، وأطلقت عليه اسم "مركز دراسات فلسفة الدين والكلام الجديد"، وسنعمل على الانتقال به إلى بغداد إن شاء الله، وسيعتبر المركز بمثابة مظلة تستوعب هذه الجهود.
تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ الأسئلة الكبرى
* قضايا إسلامية معاصرة استطاعت أن تحدث حولها جدلا واسعا؛ بسب طبيعة ما تعالجه من ملفات ساخنة.. ما هي ردات الفعل التي واجهتكم خلال مسيرة المجلة؟
- التحديات التي واجهتها المجلة متنوعة، وربما كان التحدي الأهم بصراحة هو مشكلة الإمكانات؛ لأنه كما تعلم فإن العمل الإعلامي وأي مطبوعة سواء كانت مجلة أو صحيفة تحتاج إلى: ميزانية، وهيئة تحرير، ومبنى، وكل متطلبات العملية التحريرية، والمجلة تفتقر إلى هذه المتطلبات، ولكني كنت أكافح وأجاهد بإصرار لإصدار المجلة؛ لاعتقادي بأهمية وضرورة استمرار صدورها، حتى اضطررت قبل عدة سنوات إلى بيع مكتبتي الشخصية، وهي مكتبة تمثل حصيلة عمري، واستطعت أن أجمع فيها أكثر من 5000 كتاب، ولكني شعرت أن المكتبة يمكن أن تعود، لكن استمرار "قضايا إسلامية معاصرة" في هذه الفترة كان أهم من اقتناء المكتبة. لقد كان هذا التحدي من أقسى التحديات التي واجهتني، ولكن بعد أن عرفت المجلة أصبحت لها مبيعات جيدة في البلاد العربية، خصوصا بعد أن باتت تصدر في بيروت، ومنذ سنوات صارت تغطي مقدارا جيدا من نفقاتها.
أما التحدي الآخر فقد تمثل في اعتراض بعض الناس الذين يحتمون بالتراث؛ فهم عادة يستفزهم الصوت الجديد، الصوت الذي يدعو إلى التحديث؛ لأن الناس بطبيعتهم يألفون القديم ويألفون الماضي. خصوصا إذا تعلقت مسألة التحديث بالفكر الديني؛ لأن الفكر الديني فكر يمتزج بالمقدس.
بالتالي كأنك تطال المقدسات؛ لذلك كان البعض يتحفظون على مثل هذا اللون من الخطاب، لكني بصراحة فوجئت بأن جماعة من العلماء الذين أكن لهم احتراما كبيرا؛ كالإمام الشيخ محمد مهدي شمسي الدين، الذي كان يهاتفني باستمرار، ويثني على هذا الجهد، ويقول: "أنا أعتبر هذه المجلة أهم مجلة باللغة العربية في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر"، وكذلك آية الله السيد محمد حسين فضل الله؛ فإنه أيضا يثني ثناء عاطرا على هذا الجهد، ويساهم بمشاركاته في المجلة، وكذلك العلامة السيد محمد حسن الأمين، والعلامة السيد هاني فحص، كما أن هناك مجموعة علماء وفقهاء آخرين في الحوزة العلمية في قم وفي مواطن أخرى يبادرون للكتابة في المجلة ويحرصون على متابعتها، ويقولون لي: إن هذه دورية مميزة لا نريدها أن تتراجع أو تتوقف، ويمكنكم مراجعة محتويات كل ملف من الملفات التي تنشرها لتطالع المساهمات الكثيرة للفقهاء والباحثين في الحوزة العلمية.
وهذه من الأشياء التي فاجأتني حيث إن هذا الصوت ليس صوتا وترا، وإنما هناك بعض الناس الذي يجدون في هذا الصوت حاجة ملحة، خاصة أن المجلة حاولت أن تهتم بنقل موضوعات جادة وحيوية تمثل تحولات الفكر الديني في إيران إلى القارئ العربي، وأستطيع أن أزعم أن القارئ في بلادنا يطلع على هذه القضايا الإشكالية للمرة الأولى في "قضايا إسلامية معاصرة".
وقد حاولت المجلة أن تشتمل على ملفات ترتبط بتحديث العلوم الحوزوية، من قبيل ملف الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، وملف مقاصد الشريعة، وملف فلسفة الفقه، وملفات أخرى. وأعتقد أن المجلة استطاعت أن تتجاوز هذا التحدي بنجاح؛ لأنها عبرت عن صوت جماعة من المثقفين والباحثين وعلماء الدين وطلاب العلوم الإسلامية في الحوزات العلمية الذين لم يكن لهم صوت فيما سبق، وتحولت "قضايا إسلامية معاصرة" إلى منبر ثقافي، يحكي تيارات تحديث المعرفة الدينية، مضافا إلى أنه لا يتجاهل المواقف المناهضة، وإنما يلاحقها ويعرف بها وينشرها، وبوسعك أن تلاحظ ما ينشر من وجهات نظر متقابلة على صفحات المجلة في أبرز القضايا المطروحة فيها.
التحدي الآخر هو التحدي الشخصي، وذلك أن المجلة تستنزف أغلب جهدي تقريبا؛ باعتباري أباشر كل العمليات التحريرية في ظل غياب هيئة تحرير للمجلة، هذا في الوقت الذي ما زلت فيه طالبا ومدرسا في الحوزة العلمية. والعملية التحريرية تحتاج إلى جهد كبير؛ فعلى سبيل المثال أنا الذي أعقد الندوات للمجلة، وبعد ذلك أقوم بتفريغ أشرطة الكاسيت وأحررها، كما أني أقوم بوضع خطط الملفات، وأجري الاتصالات مع الكتاب، وأنفذ الحوارات، وأترجم بعض النصوص، وأقوم أحيانا بمراجعة ما يترجمه المترجمون إن لزم الأمر، وبالتالي فالعمل يستنزف مني جهدا مرهقا، خاصة أن المجلة فصلية، وتصدر في أكثر من 300 صفحة، هذا هو التحدي الشخصي الذي أتعبني كثيرا، حتى إنني فكرت أكثر من مرة بإيقاف المجلة حتى أتفرغ لأعمال كتابية أخرى.
* ذكرتم موقفا إيجابيا إزاء خطاب المجلة والملفات التي تشتمل عليها، أبداه علماء من خارج إيران.. ماذا عن علماء إيران لا سيما ونحن نجد بعض الأسماء المرجعية التي تشارك في المجلة باستمرار كالشيخ جعفر السبحاني وناصر مكارم الشيرازي؟
- المجلة طبعا خطاب موجه للقارئ العربي، فهي تصدر في بيروت وتوزع في البلاد العربية، وبالتالي فهي غير مقروءة في إيران؛ لأن ما يقرأ في إيران عادة ما يكون مدونا باللغة الفارسية. أما العلماء الذي يكتبون في المجلة، أو تهتم المجلة بنشر أعمالهم، وتجري معهم حوارات فموقفهم إيجابي.
و"قضايا إسلامية معاصرة" أساسا لا تحاول أن تتبنى موقفا وتعتبره هو الصواب، المجلة لا تقف مواقف معيارية من الأفكار، بمقدار ما تحاول أن تقدم للقارئ وجهات نظر متنوعة، ولذلك فإن من التقاليد التي ترسخت في المجلة منذ عددها الأول هو أنها تحاول أن تنشر وجهات نظر مختلفة في باب في المجلة يتكرر بعنوان "وجهان وقضية"، وهذا الباب ننشر فيه وجهات نظر متقابلة في قضية واحدة، وجهة نظر محافظة ووجهة نظر إصلاحية، وجهة نظر تقليدية ووجهة نظر تحديثية، وجهة نظر تنتمي إلى التراث ووجهة نظر تنتمي إلى العصر، وبالتالي فإن القارئ بنفسه هو الذي يتخذ موقفا. المجلة تعتقد أنه من المهم فتح ثغرات لإطلاق عملية التفكير، وإطلاق عملية التفكير لا تتم إلا من خلال إثارة الأسئلة؛ لأن تاريخ الفكر البشري هو تاريخ الأسئلة الكبرى.
علم الكلام الجديد في إيران والعالم العربي
* تيار علم الكلام الجديد ذو "الولادة" الإيرانية اجتاح حيزا من الفضاء الفكري في العالم العربي بفضل الموجة التواصلية التي أحدثتها "قضايا إسلامية معاصرة" مع المشهد الثقافي الإيراني.. ما هي مخاضات نشأة هذا العلم في الساحة الإيرانية؟ ومن هم أبرز ممثليه؟
- أولاً: نشأة الكلام الجديد ليست نشأة إيرانية، حتى إن مصطلح الكلام الجديد هو بالأصل ليس مصطلحا من المصطلحات التي نحتت في إيران. ربما من أقدم الكتب في هذا الموضوع هو كتاب باسم "علم الكلام الجديد" ألفه المفكر الهندي الشهير شبلي النعماني، وشبلي النعماني كان في بداية مساره يعمل مع السير سيد أحمد خان، والأخير كان رمزا تحديثيا مهما في شبه القارة الهندية، وبعد ذلك حصل افتراق بينهما، وكل واحد أخذ مسارا، فذهب شبلي النعماني ليؤسس ندوة العلماء، فيما واصل سير سيد أحمد خان مشواره، وسط ردود أفعال مناهضة لمساعيه ومشككة في أعماله.
فالتسمية إذن أطلقها النعماني على كتابه في بداية القرن العشرين، وهذا الكتاب مترجم إلى الفارسية مبكرا، وإن كانت المقاربات التي يشتمل عليها الكتاب بسيطة، ولكن في الكتاب دعوة حثيثة لتنمية دائرة علم الكلام ليتسع لمباحث لم يعرفها من قبل، وإعادة بناء التراث الكلامي. إضافة إلى ذلك فإن أهم عمل كتب برأيي في المائة سنة الأخيرة في علم الكلام الجديد وفي فلسفة الدين هو كتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" للمفكر المسلم محمد إقبال، وهو كتاب في غاية الأهمية، ومع الأسف أن محمد إقبال غير معروف للعالم العربي كمفكر بل هو معروف كشاعر، وكتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" أيضا غير معروف، بالرغم من أنه مؤلف قبل أكثر من سبعين سنة، وهو مترجم إلى العربية والفارسية وغيرهما من اللغات.
وهناك مساهمات متميزة فيما عرف بعلم الكلام الجديد للإمام الشهيد محمد باقر الصدر، وأنا كتبت مدخلا لكتاب "موجز في أصول الدين" للشهيد الصدر في مائة صفحة، تحدثت فيه عن دوره في إعادة بناء علم الكلام، صحيح أنه لم يكن يعبر عنه بعلم الكلام الجديد، لكنه قام بنفس المهمة. وهناك أيضا مساهمات أخرى في العالم العربي، كجهود الدكتور محمد عبد الله دراز وجهود أخرى.
ما حصل في إيران هو أن تكوين المثقف الإيراني تكوين مزدوج في الغالب، من تكوين تراثي حوزي، وتكوين علمي حديث، فقد توفر نخبة من الباحثين الإيرانيين على تأهيل أكاديمي في فلسفة العلم، وقضايا التأويل، والفلسفة الغربية الحديثة، واطلعوا على الدراسات الإنسانية الحديثة في الغرب، واهتموا باللاهوت الأوربي الحديث، بل هناك من يلاحق اللاهوت في الهند واليابان والصين، وتطورت الدراسات المقارنة للأديان، وتنامى الاهتمام بأديان آسيا.
أيضا وجود أرضية في إيران للدرس الفلسفي، ولدراسة العرفان النظري أو قل التصوف الفلسفي، ويمكن القول: إن الحاضرة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تدرس التصوف الفلسفي أو العرفان النظري وحتى الفلسفة الإسلامية بالطريقة التقليدية هي الحوزة العلمية في قم، والطالب الحوزوي يبذل جهدا هائلا ولسنوات طويلة من عمره في هذا المضمار.
هذا الواقع وفر مرجعية مزدوجة للباحث، من تراث ومعاصرة، ومن عرفان نظري وفلسفة وكلام قديم ومعقول بشكل عام وعلوم إنسانية حديثة، وملاحقة لمقولات اللاهوت الحديث في الغرب، بدءا من الحركة البروتستانتية لمارتن لوثر، مرورا بشلاير ماخر ومجموعة من اللاهوتيين الغربيين في القرنين الأخيرين حتى الآن. كل ذلك أوجد أرضية خصبة لولادة ونمو وازدهار اللاهوت الجديد في إيران، مما لا نعرف عنه إلا القليل في العالم العربي، وأحسب أنه سيفضي لاحقا لتحولات عميقة في الفكر الديني، ستظهر آثارها في تفكيرنا بعد حين.
أما من هم الذين اشتغلوا على هذه الموضوعات من الإيرانيين؟ ففي الحقيقة هناك أكثر من جيل:
الجيل الأول الرائد فيه هو العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، وهو يعتبر أستاذ الجيل، وبعض طلابه وعلى رأسهم الشهيد مرتضى مطهري، وإن كان إسهامه في هذا الحقل هو بمثابة عرض وتيسير، وإعادة تنظيم الأفكار، وتعميقها، وإعادة بناء البراهين الموروثة في علم الكلام والتراث القديم من جديد، والإجابة من خلال هذه البراهين على الأسئلة والاستفهامات والإشكالات الجديدة.
المهندس مهدي بازركان أيضا كان لديه إسهام، خصوصا بما يتعلق بقضية جدل العلم والدين، والدكتور علي شريعتي أيضا لديه جهود مهمة، بالذات فيما يتعلق بمقارنات الأديان، وما يمكن أن يعبر عنه بسوسيولجيا الدين، وأنثربولوجيا الدين، والدكتور السيد حسين نصر أيضا يسعى لتقديم الماضي بقناع تحديثي، فهو يحذر الإنسان من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، ويدعو للاهتمام بالعلم المقدس، والمزاوجة بين المعرفة والأمر القدسي، ومن الواضح أن دعوته إلى ما يسمى بالعلم المقدس يكتنفها الإبهام، ولا تخلو من هجاء، ونفي لكل ما هو غربي، وربما يتمدد فيها مدلول المقدس فيستوعب التراث برمته، والتمثلات المتنوعة للاجتماع الإسلامي، وهو مدلول يستقي مرجعياته من آثار المتصوفة والعرفاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب.
هذا هو الجيل السابق. وكل واحد من هؤلاء له جهده الخاص؛ فجهد حسين نصر غير جهد شريعتي، وهناك حالة من التقاطع بينهما، فالأخير يعمل على أنسنة الدين واكتشاف أبعاده الاجتماعية، فيما يغوص سيد حسين نصر في عوالم الباطن، ويحاول استكناه عوالم السر والمعنى، في عالم مشبع بالمادة ويبحث عن المعنى.
الجيل الثاني من المفكرين، وهؤلاء تجاوزوا المرحلة التي بدأها الرواد، وبعبارة أخرى فإن هؤلاء مثلوا مرحلة مختلفة انتقلوا فيها من الأيديولوجيا إلى الأبستمولوجيا، وهذا ما نلاحظه بوضوح في طبيعة الجهود التي أنجزها الدكتور علي شريعتي من الجيل الأول مثلا مقارنة بالجيل الثاني، ذلك أن شريعتي كان داعية يحرص على ترويج أفكاره والتبشير بها وتثقيف الناس عليها، ويحرض الجماهير على النضال والثورة، وبالتالي إحداث تغيير جذري انقلابي طبقا لما يرنو إليه في المجتمع، غير أن الدكتور عبد الكريم سروش أو الأستاذ مصطفى ملكيان وغيرهما من هذا الجيل يقاربون المسائل المدروسة من منظور مختلف، يحرص على التحرر من النزعة الأيديولوجية، ويقدم رؤى تفسيرية وصفية، هي أقرب لمنظور الباحث الأنثربولوجي والسسيولوجي وفيلسوف العلم وعالم النفس منه إلى الداعية والأيديولوجي.
وقد تفشت أفكار الجيل الجديد وسط النخبة في الجامعات والحوزات العلمية، وحصلت أصداء واسعة لهذه الأفكار، وهناك دوريات باللغة الفارسية مهتمة بموضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد. وهناك جدل مستمر تشهده الساحة الثقافية في إيران، وهناك حراك ذهني وفكري، وهذا الحراك في اعتقادي ضرورة ملحة لولادة الأفكار ونموها وتطورها وحياتها؛ لأن من شروط حياة الفكر وتكامله أن يظل في عملية جدل وصيرورة مستمرة.