المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إطلالة على المشهد الثقافي الشيعي مع المفكر الشيخ عبد الجبار الرفاعي



سيد مرحوم
11-27-2004, 01:17 AM
إطلالة على المشهد الثقافي الشيعي

في حوار خاص مع المفكر العراقي ..الشيخ عبد الجبار الرفاعي*
http://www.islamonline.net/arabic/arts/2004/01/images/pic17.jpg أجرى الحوار في المنامة: وسام السبع**

لا يمكن لمن هو مهتم بحركة الإنتاج الفكري والثقافي في العالم العربي والإسلامي إلا أن يقف بإجلال لروعة الجهد الفكري الرائد الذي يضطلع به الباحث والمفكر العراقي الشيخ عبد الجبار الرفاعي، وإصداره لمجلة "قضايا إسلامية معاصرة"؛ فقد استوعبت شخصية الشيخ الرفاعي جملة من الاشتغالات الفكرية، وتنوعت مجالات اهتمامه من وحي تنوع وغنى المصادر الفكرية التي يقف عليها، ويتوفر على الاحتكاك اليومي بها.

الشيخ الرفاعي أكثر من باحث مهموم بالثقافة الإسلامية وأسئلة التجديد؛ فهو أحد العلماء الذين كانت ولا تزال لهم قدم راسخة في مجال التحصيل العلمي في الحوزة العلمية، وأحد الأساتذة المرموقين في الفلسفة الإسلامية، وهو مترجم نشط لعدد كبير من الأبحاث والإصدارات الإيرانية للغة العربية، وهو آخرا -وليس أخيرا- رئيس تحرير مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، ومؤسس مركز فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وصاحب الإصدارات الفكرية العديدة.

هذا اللقاء يحكي صورة من مقطع طويل لقصة رجل أعطى أكثر مما تعطيه المؤسسات، وهو الذي في مهجره لم يكن يملك الكثير إلا صلابة العزيمة وحيوية الطموح الجامح؛ فإلى الحوار:


ترجمة الهم الإصلاحي إلى مشروع مطبوعة.

تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ الأسئلة الكبرى.

علم الكلام الجديد في إيران والعالم العربي.

العراقيون في المهاجر.. عطاء ثقافي متواصل.

ترجمة الهم الإصلاحي إلى مشروع مطبوعة

* عُرفتم في الأوساط العلمية والفكرية في الوطن العربي من خلال مشروعكم الرائد الذي قام على جهد شخصي كامل، وهو مشروع مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" التي مثلت جسرا تواصليا بين الساحة الفكرية في إيران والساحة الفكرية في الوطن العربي.. ما هي ظروف نشأة هذا المشروع؟ وما هي أبرز دواعي الولادة؟

- بعد أن أنهيت تعليمي الأكاديمي في تخصص الزراعة انخرطت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في سنة 1978، وبعد اضطراب الأحوال الأمنية والسياسية في العراق اضطررت للهجرة إلى إيران؛ لألتحق بعدها بالحوزة العلمية في قم، وواصلت دراستي الحوزوية، ثم بالتدريج وبحسب الطريقة المعروفة وهي أن الطالب في المرحلة المتقدمة يباشر مهام التدريس للمرحلة التي قبلها.. أصبحت طالبا ومدرسا، إلى أن وصلت إلى مرحلة البحث الخارجي.

وفي الوقت نفسه كنت أستاذا للمقدمات والسطوح، وقد أمضيت سنوات طويلة ناهزت ربع قرن في الدراسات الحوزوية، وحاولت أن أدرس بالطريقة التقليدية المتعارف عليها في الحوزة؛ حتى إنني كنت مهتما بالكتب التي توجد مناهج بديلة لها؛ فعلى سبيل المثال قمت بدراسة علم أصول الفقه بالطريقة التقليدية في كتاب "معالم الدين" و"أصول الفقه" المعروف بـ"أصول المظفر"، وكتاب "الرسائل" و"ا
".

ودرست أيضا "دروس في علم الأصول" المعروف بـ"الحلقات" للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وحاولت أن أجمع بين المنهجين، وكنت مثابرا في الدراسة لسنوات طويلة، ووجدت من خلال دراستي للمعارف والعلوم الإسلامية التراثية في الحوزة أن بعض هذه العلوم بحاجة إلى إعادة بناء وتحديث، وبحاجة إلى أن تخرج بأسلوب جديد ولغة جديدة، تنسجم مع التحولات الهائلة التي تجري في عصرنا. وهذه الحقيقة أدركها منذ أكثر من مائة سنة السيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ محمد جواد الجزائري، ثم فيما بعد الشيخ محمد رضا المظفر الذي اضطلع بمشروعه الرائد "جمعية منتدى النشر" و"كلية الفقه"، ثم فيما بعد الإمام الشهيد محمد باقر الصدر الذي اهتم بتحديث مناهج الدراسات الإسلامية في الحوزة العلمية.

أنا لم أكن تواقا لبناء مدرسة في الحوزة العلمية بموازاة المدارس الأخرى الموجودة في الحوزة فعلا، إنما كان شاغلي هو أن الواقع الذي تعيشه الحوزة في بعض جوانبها يعيش حالة من الفقر الثقافي، على الأقل في الوسط الذي عشت فيه شخصيا؛ فكان الاهتمام ينصب على النصوص التراثية التي ندرسها، ثم نقوم بتدريسها. وكان هناك على الدوام حاجة ملحة إلى التواصل مع المشهد الثقافي المحيط بنا، سواء المشهد الثقافي العربي أو الثقافي الإيراني؛ فبدأت أفكر بضرورة التحديث؛ أي إعادة بناء النظام التعليمي في الحوزة، وضرورة الانفتاح على العصر، وقد ولدت مجلة قضايا إسلامية معاصرة في فضاء هذا الهم.

وقبل صدور مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" كانت هناك مجلة "قضايا إسلامية" وقد صدرت لمدة أربع سنوات (1994-1998)، وكانت قضايا إسلامية حولية، ثم تحولت إلى نصف سنوية، وكنت أصدرها مع الصديق الأخ الشيخ مهدي العطار، ثم بدأت إصدار "قضايا إسلامية معاصرة"، وقد أكملت المجلة عامها السابع، وأصدرت بجوار هذه المجلة سلسلة كتب بعنوان "سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة"، صدر منها حتى الآن سبعون كتابا، تعالج نفس الإشكاليات التي تشتغل عليها المجلة.

كما أصدرت سلسلة بعنوان "آفاق التجديد" صدر منها خمسة كتب، طبعتها دار الفكر المعاصر في بيروت، كما أصدرت سلسلة كتب مرجعية باسم "المشهد الثقافي في إيران"، صدر منها كتابان مرجعيان: الكتاب الأول بعنوان "فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة"، والكتاب الثاني "علم الكلام الجديد وفلسفة الدين"، والآن أخطط لإصدار سلسلة بعنوان "فلسفة الدين والكلام الجديد" ستستوعب مجموعة من الإسهامات والكتابات في هذه الموضوعات باللغة العربية واللغة الفارسية مترجمة إلى العربية، وكل هذه الأعمال الآن تصدر في إطار مركز قمت بتأسيسه، وأطلقت عليه اسم "مركز دراسات فلسفة الدين والكلام الجديد"، وسنعمل على الانتقال به إلى بغداد إن شاء الله، وسيعتبر المركز بمثابة مظلة تستوعب هذه الجهود.

تاريخ الفكر الإنساني هو تاريخ الأسئلة الكبرى

* قضايا إسلامية معاصرة استطاعت أن تحدث حولها جدلا واسعا؛ بسب طبيعة ما تعالجه من ملفات ساخنة.. ما هي ردات الفعل التي واجهتكم خلال مسيرة المجلة؟

- التحديات التي واجهتها المجلة متنوعة، وربما كان التحدي الأهم بصراحة هو مشكلة الإمكانات؛ لأنه كما تعلم فإن العمل الإعلامي وأي مطبوعة سواء كانت مجلة أو صحيفة تحتاج إلى: ميزانية، وهيئة تحرير، ومبنى، وكل متطلبات العملية التحريرية، والمجلة تفتقر إلى هذه المتطلبات، ولكني كنت أكافح وأجاهد بإصرار لإصدار المجلة؛ لاعتقادي بأهمية وضرورة استمرار صدورها، حتى اضطررت قبل عدة سنوات إلى بيع مكتبتي الشخصية، وهي مكتبة تمثل حصيلة عمري، واستطعت أن أجمع فيها أكثر من 5000 كتاب، ولكني شعرت أن المكتبة يمكن أن تعود، لكن استمرار "قضايا إسلامية معاصرة" في هذه الفترة كان أهم من اقتناء المكتبة. لقد كان هذا التحدي من أقسى التحديات التي واجهتني، ولكن بعد أن عرفت المجلة أصبحت لها مبيعات جيدة في البلاد العربية، خصوصا بعد أن باتت تصدر في بيروت، ومنذ سنوات صارت تغطي مقدارا جيدا من نفقاتها.

أما التحدي الآخر فقد تمثل في اعتراض بعض الناس الذين يحتمون بالتراث؛ فهم عادة يستفزهم الصوت الجديد، الصوت الذي يدعو إلى التحديث؛ لأن الناس بطبيعتهم يألفون القديم ويألفون الماضي. خصوصا إذا تعلقت مسألة التحديث بالفكر الديني؛ لأن الفكر الديني فكر يمتزج بالمقدس.

بالتالي كأنك تطال المقدسات؛ لذلك كان البعض يتحفظون على مثل هذا اللون من الخطاب، لكني بصراحة فوجئت بأن جماعة من العلماء الذين أكن لهم احتراما كبيرا؛ كالإمام الشيخ محمد مهدي شمسي الدين، الذي كان يهاتفني باستمرار، ويثني على هذا الجهد، ويقول: "أنا أعتبر هذه المجلة أهم مجلة باللغة العربية في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر"، وكذلك آية الله السيد محمد حسين فضل الله؛ فإنه أيضا يثني ثناء عاطرا على هذا الجهد، ويساهم بمشاركاته في المجلة، وكذلك العلامة السيد محمد حسن الأمين، والعلامة السيد هاني فحص، كما أن هناك مجموعة علماء وفقهاء آخرين في الحوزة العلمية في قم وفي مواطن أخرى يبادرون للكتابة في المجلة ويحرصون على متابعتها، ويقولون لي: إن هذه دورية مميزة لا نريدها أن تتراجع أو تتوقف، ويمكنكم مراجعة محتويات كل ملف من الملفات التي تنشرها لتطالع المساهمات الكثيرة للفقهاء والباحثين في الحوزة العلمية.

وهذه من الأشياء التي فاجأتني حيث إن هذا الصوت ليس صوتا وترا، وإنما هناك بعض الناس الذي يجدون في هذا الصوت حاجة ملحة، خاصة أن المجلة حاولت أن تهتم بنقل موضوعات جادة وحيوية تمثل تحولات الفكر الديني في إيران إلى القارئ العربي، وأستطيع أن أزعم أن القارئ في بلادنا يطلع على هذه القضايا الإشكالية للمرة الأولى في "قضايا إسلامية معاصرة".

وقد حاولت المجلة أن تشتمل على ملفات ترتبط بتحديث العلوم الحوزوية، من قبيل ملف الاتجاهات الجديدة في علم الكلام، وملف مقاصد الشريعة، وملف فلسفة الفقه، وملفات أخرى. وأعتقد أن المجلة استطاعت أن تتجاوز هذا التحدي بنجاح؛ لأنها عبرت عن صوت جماعة من المثقفين والباحثين وعلماء الدين وطلاب العلوم الإسلامية في الحوزات العلمية الذين لم يكن لهم صوت فيما سبق، وتحولت "قضايا إسلامية معاصرة" إلى منبر ثقافي، يحكي تيارات تحديث المعرفة الدينية، مضافا إلى أنه لا يتجاهل المواقف المناهضة، وإنما يلاحقها ويعرف بها وينشرها، وبوسعك أن تلاحظ ما ينشر من وجهات نظر متقابلة على صفحات المجلة في أبرز القضايا المطروحة فيها.

التحدي الآخر هو التحدي الشخصي، وذلك أن المجلة تستنزف أغلب جهدي تقريبا؛ باعتباري أباشر كل العمليات التحريرية في ظل غياب هيئة تحرير للمجلة، هذا في الوقت الذي ما زلت فيه طالبا ومدرسا في الحوزة العلمية. والعملية التحريرية تحتاج إلى جهد كبير؛ فعلى سبيل المثال أنا الذي أعقد الندوات للمجلة، وبعد ذلك أقوم بتفريغ أشرطة الكاسيت وأحررها، كما أني أقوم بوضع خطط الملفات، وأجري الاتصالات مع الكتاب، وأنفذ الحوارات، وأترجم بعض النصوص، وأقوم أحيانا بمراجعة ما يترجمه المترجمون إن لزم الأمر، وبالتالي فالعمل يستنزف مني جهدا مرهقا، خاصة أن المجلة فصلية، وتصدر في أكثر من 300 صفحة، هذا هو التحدي الشخصي الذي أتعبني كثيرا، حتى إنني فكرت أكثر من مرة بإيقاف المجلة حتى أتفرغ لأعمال كتابية أخرى.

* ذكرتم موقفا إيجابيا إزاء خطاب المجلة والملفات التي تشتمل عليها، أبداه علماء من خارج إيران.. ماذا عن علماء إيران لا سيما ونحن نجد بعض الأسماء المرجعية التي تشارك في المجلة باستمرار كالشيخ جعفر السبحاني وناصر مكارم الشيرازي؟

- المجلة طبعا خطاب موجه للقارئ العربي، فهي تصدر في بيروت وتوزع في البلاد العربية، وبالتالي فهي غير مقروءة في إيران؛ لأن ما يقرأ في إيران عادة ما يكون مدونا باللغة الفارسية. أما العلماء الذي يكتبون في المجلة، أو تهتم المجلة بنشر أعمالهم، وتجري معهم حوارات فموقفهم إيجابي.

و"قضايا إسلامية معاصرة" أساسا لا تحاول أن تتبنى موقفا وتعتبره هو الصواب، المجلة لا تقف مواقف معيارية من الأفكار، بمقدار ما تحاول أن تقدم للقارئ وجهات نظر متنوعة، ولذلك فإن من التقاليد التي ترسخت في المجلة منذ عددها الأول هو أنها تحاول أن تنشر وجهات نظر مختلفة في باب في المجلة يتكرر بعنوان "وجهان وقضية"، وهذا الباب ننشر فيه وجهات نظر متقابلة في قضية واحدة، وجهة نظر محافظة ووجهة نظر إصلاحية، وجهة نظر تقليدية ووجهة نظر تحديثية، وجهة نظر تنتمي إلى التراث ووجهة نظر تنتمي إلى العصر، وبالتالي فإن القارئ بنفسه هو الذي يتخذ موقفا. المجلة تعتقد أنه من المهم فتح ثغرات لإطلاق عملية التفكير، وإطلاق عملية التفكير لا تتم إلا من خلال إثارة الأسئلة؛ لأن تاريخ الفكر البشري هو تاريخ الأسئلة الكبرى.

علم الكلام الجديد في إيران والعالم العربي

* تيار علم الكلام الجديد ذو "الولادة" الإيرانية اجتاح حيزا من الفضاء الفكري في العالم العربي بفضل الموجة التواصلية التي أحدثتها "قضايا إسلامية معاصرة" مع المشهد الثقافي الإيراني.. ما هي مخاضات نشأة هذا العلم في الساحة الإيرانية؟ ومن هم أبرز ممثليه؟

- أولاً: نشأة الكلام الجديد ليست نشأة إيرانية، حتى إن مصطلح الكلام الجديد هو بالأصل ليس مصطلحا من المصطلحات التي نحتت في إيران. ربما من أقدم الكتب في هذا الموضوع هو كتاب باسم "علم الكلام الجديد" ألفه المفكر الهندي الشهير شبلي النعماني، وشبلي النعماني كان في بداية مساره يعمل مع السير سيد أحمد خان، والأخير كان رمزا تحديثيا مهما في شبه القارة الهندية، وبعد ذلك حصل افتراق بينهما، وكل واحد أخذ مسارا، فذهب شبلي النعماني ليؤسس ندوة العلماء، فيما واصل سير سيد أحمد خان مشواره، وسط ردود أفعال مناهضة لمساعيه ومشككة في أعماله.

فالتسمية إذن أطلقها النعماني على كتابه في بداية القرن العشرين، وهذا الكتاب مترجم إلى الفارسية مبكرا، وإن كانت المقاربات التي يشتمل عليها الكتاب بسيطة، ولكن في الكتاب دعوة حثيثة لتنمية دائرة علم الكلام ليتسع لمباحث لم يعرفها من قبل، وإعادة بناء التراث الكلامي. إضافة إلى ذلك فإن أهم عمل كتب برأيي في المائة سنة الأخيرة في علم الكلام الجديد وفي فلسفة الدين هو كتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" للمفكر المسلم محمد إقبال، وهو كتاب في غاية الأهمية، ومع الأسف أن محمد إقبال غير معروف للعالم العربي كمفكر بل هو معروف كشاعر، وكتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" أيضا غير معروف، بالرغم من أنه مؤلف قبل أكثر من سبعين سنة، وهو مترجم إلى العربية والفارسية وغيرهما من اللغات.

وهناك مساهمات متميزة فيما عرف بعلم الكلام الجديد للإمام الشهيد محمد باقر الصدر، وأنا كتبت مدخلا لكتاب "موجز في أصول الدين" للشهيد الصدر في مائة صفحة، تحدثت فيه عن دوره في إعادة بناء علم الكلام، صحيح أنه لم يكن يعبر عنه بعلم الكلام الجديد، لكنه قام بنفس المهمة. وهناك أيضا مساهمات أخرى في العالم العربي، كجهود الدكتور محمد عبد الله دراز وجهود أخرى.

ما حصل في إيران هو أن تكوين المثقف الإيراني تكوين مزدوج في الغالب، من تكوين تراثي حوزي، وتكوين علمي حديث، فقد توفر نخبة من الباحثين الإيرانيين على تأهيل أكاديمي في فلسفة العلم، وقضايا التأويل، والفلسفة الغربية الحديثة، واطلعوا على الدراسات الإنسانية الحديثة في الغرب، واهتموا باللاهوت الأوربي الحديث، بل هناك من يلاحق اللاهوت في الهند واليابان والصين، وتطورت الدراسات المقارنة للأديان، وتنامى الاهتمام بأديان آسيا.

أيضا وجود أرضية في إيران للدرس الفلسفي، ولدراسة العرفان النظري أو قل التصوف الفلسفي، ويمكن القول: إن الحاضرة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تدرس التصوف الفلسفي أو العرفان النظري وحتى الفلسفة الإسلامية بالطريقة التقليدية هي الحوزة العلمية في قم، والطالب الحوزوي يبذل جهدا هائلا ولسنوات طويلة من عمره في هذا المضمار.

هذا الواقع وفر مرجعية مزدوجة للباحث، من تراث ومعاصرة، ومن عرفان نظري وفلسفة وكلام قديم ومعقول بشكل عام وعلوم إنسانية حديثة، وملاحقة لمقولات اللاهوت الحديث في الغرب، بدءا من الحركة البروتستانتية لمارتن لوثر، مرورا بشلاير ماخر ومجموعة من اللاهوتيين الغربيين في القرنين الأخيرين حتى الآن. كل ذلك أوجد أرضية خصبة لولادة ونمو وازدهار اللاهوت الجديد في إيران، مما لا نعرف عنه إلا القليل في العالم العربي، وأحسب أنه سيفضي لاحقا لتحولات عميقة في الفكر الديني، ستظهر آثارها في تفكيرنا بعد حين.

أما من هم الذين اشتغلوا على هذه الموضوعات من الإيرانيين؟ ففي الحقيقة هناك أكثر من جيل:

الجيل الأول الرائد فيه هو العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، وهو يعتبر أستاذ الجيل، وبعض طلابه وعلى رأسهم الشهيد مرتضى مطهري، وإن كان إسهامه في هذا الحقل هو بمثابة عرض وتيسير، وإعادة تنظيم الأفكار، وتعميقها، وإعادة بناء البراهين الموروثة في علم الكلام والتراث القديم من جديد، والإجابة من خلال هذه البراهين على الأسئلة والاستفهامات والإشكالات الجديدة.

المهندس مهدي بازركان أيضا كان لديه إسهام، خصوصا بما يتعلق بقضية جدل العلم والدين، والدكتور علي شريعتي أيضا لديه جهود مهمة، بالذات فيما يتعلق بمقارنات الأديان، وما يمكن أن يعبر عنه بسوسيولجيا الدين، وأنثربولوجيا الدين، والدكتور السيد حسين نصر أيضا يسعى لتقديم الماضي بقناع تحديثي، فهو يحذر الإنسان من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، ويدعو للاهتمام بالعلم المقدس، والمزاوجة بين المعرفة والأمر القدسي، ومن الواضح أن دعوته إلى ما يسمى بالعلم المقدس يكتنفها الإبهام، ولا تخلو من هجاء، ونفي لكل ما هو غربي، وربما يتمدد فيها مدلول المقدس فيستوعب التراث برمته، والتمثلات المتنوعة للاجتماع الإسلامي، وهو مدلول يستقي مرجعياته من آثار المتصوفة والعرفاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب.

هذا هو الجيل السابق. وكل واحد من هؤلاء له جهده الخاص؛ فجهد حسين نصر غير جهد شريعتي، وهناك حالة من التقاطع بينهما، فالأخير يعمل على أنسنة الدين واكتشاف أبعاده الاجتماعية، فيما يغوص سيد حسين نصر في عوالم الباطن، ويحاول استكناه عوالم السر والمعنى، في عالم مشبع بالمادة ويبحث عن المعنى.

الجيل الثاني من المفكرين، وهؤلاء تجاوزوا المرحلة التي بدأها الرواد، وبعبارة أخرى فإن هؤلاء مثلوا مرحلة مختلفة انتقلوا فيها من الأيديولوجيا إلى الأبستمولوجيا، وهذا ما نلاحظه بوضوح في طبيعة الجهود التي أنجزها الدكتور علي شريعتي من الجيل الأول مثلا مقارنة بالجيل الثاني، ذلك أن شريعتي كان داعية يحرص على ترويج أفكاره والتبشير بها وتثقيف الناس عليها، ويحرض الجماهير على النضال والثورة، وبالتالي إحداث تغيير جذري انقلابي طبقا لما يرنو إليه في المجتمع، غير أن الدكتور عبد الكريم سروش أو الأستاذ مصطفى ملكيان وغيرهما من هذا الجيل يقاربون المسائل المدروسة من منظور مختلف، يحرص على التحرر من النزعة الأيديولوجية، ويقدم رؤى تفسيرية وصفية، هي أقرب لمنظور الباحث الأنثربولوجي والسسيولوجي وفيلسوف العلم وعالم النفس منه إلى الداعية والأيديولوجي.

وقد تفشت أفكار الجيل الجديد وسط النخبة في الجامعات والحوزات العلمية، وحصلت أصداء واسعة لهذه الأفكار، وهناك دوريات باللغة الفارسية مهتمة بموضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد. وهناك جدل مستمر تشهده الساحة الثقافية في إيران، وهناك حراك ذهني وفكري، وهذا الحراك في اعتقادي ضرورة ملحة لولادة الأفكار ونموها وتطورها وحياتها؛ لأن من شروط حياة الفكر وتكامله أن يظل في عملية جدل وصيرورة مستمرة.

سيد مرحوم
11-27-2004, 01:22 AM
* سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، ما هي حدود تمثيلها لخط الحوار الإسلامي-الإسلامي، ودرجة إسهامها في تقريب مساحات التلاقي والامتزاج بين تراث الحوزة والفكر الحديث والمعاصر؟

- الموضوعات التي تتناولها هذه السلسة موضوعات تتصل بعلاقة الإسلام بالآخر، سواء كان الآخر داخليا أو خارجيا مختلفا، يعني من قبيل: الإسلام والغرب، أو الحوار الإسلامي الإسلامي، وإصلاح النظام التعليمي في الحوزة العلمية، والاتجاهات الجديدة في علم الكلام، وقضايا التأويل، وفلسفة الدين، وفلسفة الفقه، ومقاصد الشريعة، وغير ذلك، وأعتقد أن أهمية السلسلة تكمن في تنوع المساهمات المنشورة فيها، بمعنى أن هناك وجهات نظر إصلاحية، ووجهات نظر محافظة، وهناك مؤلفين من السنة، وهناك مؤلفين من الشيعة. السلسلة والمجلة تحاول أن تتسلح بروح شفافة ومرنة، وتنفتح على الجميع، وتعتقد أن هذا الإنتاج بمجمله هو إنتاج إسلامي، ويمثل وجهات نظر في فهم النص والتراث والواقع. ولا أزعم أن كل ما صدر في السلسلة هو كتابات جادة وكتابات رصينة، فربما اخترقت السلسلة بعض الكتابات "العادية"، لكن هناك بالتأكيد كتب جادة وفي غاية الأهمية. وأتمنى أن تكون السلسلة القادمة فيما يتعلق بفلسفة الدين والكلام الجديد أكثر جدية وأعمق وأبعد مدى في معالجاتها.

** الأجيال العراقية التي نشأت في المهجر، ما هي أبرز ملامح شخصيتها الفكرية وتكوينها النفسي؟

- المنفى العراقي منفى حديث؛ لأن الشخصية العراقية ليست من الشخصيات المهاجرة، العراق من البلاد التي تستقطب الهجرات من الخارج تاريخيا، وكل العراقيين الذي توطنوا العراق هم مهاجرون إلى العراق من بلاد أخرى، السومريون هاجروا من ديارهم إلى العراق، وأسسوا أول وأعرق حضارة في المنطقة، وهم الذين علموا البشرية الكتابة والتدوين، وتواصل استخدام الخط المسماري الذي ابتكروه أكثر من 3000 سنة في حوض بلاد الرافدين وبلاد الشام وإيران وشواطئ الخليج حتى حضارة دلمون في البحرين، كما أن الأكاديين هاجروا أيضا إلى العراق، وهاجر الآموريون من شواطئ الفرات العليا إلى بابل، ثم هاجر فيما بعد أقوام آخرون إلى العراق، وحتى العرب هاجروا إلى العراق من الجزيرة العربية والبلاد المتاخمة للعراق.

وظل العراق يستوعب الهجرات والطاقات والكفاءات، وفي العصر الإسلامي تحولت بغداد إلى حاضرة ثقافية وعلمية، وإلى مركز لاستقطاب أبرز رجال الفكر، من متكلمين ومفسرين وفقهاء وعلماء وأدباء من مختلف أنحاء البلاد الإسلامية لعدة قرون، وقد تشكلت نواة غير واحدة من العلوم والمعارف في الحضارة الإسلامية في الكوفة والبصرة وبغداد، بل انبثقت المدارس الأم للكلام والفقه والتفسير والنحو وعلوم اللغة العربية في تلك الحواضر، وهكذا انطلقت أعنف الثورات في التاريخ الإسلامي في العراق. والعراقي معروف بأنه من الناس الذين يلتصقون بالأرض ولا يغادرون بلدهم، ولكن دموية وبشاعة وجور نظام صدام حسين فرض على العراقي أن يتغرب ويتشرد.

نعم، هناك هجرات حصلت في العصر الملكي في القرن العشرين، ولكن كانت هجرات محدودة جدا، فمثلا هاجر بعض السياسيين الذين كانوا مطاردين، بعد سقوط النظام الملكي وظهور النظام الجمهوري في العراق، إذ هاجر بعض الذين يعملون في البلاط الملكي أو في أجهزة الدولة، كما هاجر بعض أصحاب رؤوس الأموال من رجال الأعمال، ولكنها كانت هجرة محدودة وهامشية وفردية، أما في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين فقد تضاعفت الهجرة العراقية، وتحولت إلى موجات، وربما لا تعثر على بلد في العالم لا يعيش فيه مهاجرون عراقيون، حيث تشتت العراقيون في العالم.

وفي العقود الثلاثة من حكم البعث للعراق يمكن أن نرصد ملامح ثلاثة أجيال في المهجر: الأول: هو الجيل الذي نشأ وتربى وتعلم، وباشر تجربته الحياتية والثقافية والسياسية في العراق، وهؤلاء ممن اكتمل بناؤهم وتكوينهم في العراق، وهم الآن في العقد السادس والسابع وقليل منهم في العقد الثامن من عمره.

وهذا الجيل لم يطرأ عليه تغيير حقيقي، يمثل حالة تحول وتبدل في شخصيته وسلوكه، وحتى مواقفه، صحيح حصلت في المهجر خبرات إضافية، وفرص جديدة، ومتاعب من نوع مختلف، وقد عمّق الاغتراب لديهم كثيرا من الشجون والهموم والآلام، ولكن لم يحصل منعطف في مسار هذا الجيل فبقي وفيا للمقولات التي تعلمها وتربى عليها في العراق، هذا الجيل هو من أكثر الأجيال وفاء للماضي، ونجد تمثيلاً لهذا الجيل في الزعامات والكوادر الحركية والسياسية.

الثاني: هو الجيل الذي بدأ تكوينه في العراق، وكان في مطلع العقد الثالث من العمر عندما اضطر إلى مغادرة العراق، وهؤلاء من خريجي الجامعات وأصحاب التأهيل الأكاديمي، وهؤلاء اكتمل تكوينهم العلمي والثقافي والحركي والسياسي في المهجر.

وهذا الجيل نشهد لديه جملة من التحولات والمنعطفات الحادة، فعلى سبيل المثال فإن بعض هؤلاء كانوا متعلمين ومن ذوي التأهيل الأكاديمي، وقد هاجر الكثير منهم إلى سوريا وإيران وانخرط بعضهم في الحوزة العلمية، فيما اتجه البعض الآخر إلى العمل في الحقل الثقافي والإعلامي، وقد تعرفوا على المشهد الثقافي العربي؛ لأنهم في العراق لم يكن بوسعهم أن يتواصلوا مع هذا الأفق الثقافي بحرية، بسبب الحصار الإعلامي الذي فرضه النظام. لقد توفر هذا الجيل على تأهيل ثقافي، والبعض واصل دراساته الجامعية العليا، وحصلت في تقديري تطورات مهمة في تفكير هؤلاء، وغادر البعض مقولات تربى عليها، وظل وفيا لها لزمن في العراق، كما غادر البعض مواقعه الحركية والسياسية إلى عالم آخر، ودخل في تجارب ذات آفاق وفضاءات حرة ومفتوحة؛ لأنه توفر على فسحة أوسع من الحرية.

كما برز نزوع نقدي عند الكتاب والمثقفين من هذا الجيل، فللمرة الأولى نعثر في كتاباتهم وأحاديثهم على محاولات جادة في نقد الحركة الإسلامية وأدبياتها وتجربتها وسلوك رموزها، ونقد النظام التعليمي في الحوزة العلمية، ونقد التراث والماضي، ونقد الواقع... إلخ.

ومما يميز النخبة في هذا الجيل أن طائفة منها توافرت على تأهيل أكاديمي جيد وتعليم حوزوي جاد، وأمست تفكر بمعزل عن الدوائر التقليدية في التفكير الديني الحركي والحوزوي.

الثالث: هو الجيل الذي ولد ونشأ في المهجر، وهذا الجيل يتسم بملامح تختلف كليا عن الجيلين الأول والثاني، فقد عانى مما يمكن أن أسميه بـ "تشظي الهوية"؛ لأن هذا الجيل، خصوصا من عاش منهم في البلاد غير العربية لم يتعلم اللغة العربية، وإنما أصبحت لغة الثقافة والتعليم والتخاطب الاجتماعي لديه هي لغة البلد الحاضن له طوال فترة المهجر، فالمقيمون في بريطانيا مثلاً تعلموا الإنجليزية، ومن ولد في إيران تعلم الفارسية، وبالتالي تراجعت اللغة العربية. واللغة تعتبر أحد العناصر التي تشكل هوية الإنسان، ولبنة من لبنات بناء شخصيته، وكما تقول النظريات الحديثة: إن الإنسان يفكر طبقا للغة التي يتكلم بها، وبالتالي تأثر هؤلاء باللغة التي أصبحت مهيمنة على وعيهم، وعلى لا وعيهم، فتمت صياغة شخصيتهم طبقا للغة المنفى، وثقافته، والفضاء الاجتماعي الذي احتضنهم، وبذلك انشطرت هويتهم، وأضحت شخصيهم مركبة من عناصر لا تنتمي إلى موطن آبائهم في معظمها. ولعل أزمة هذا الجيل هي من أعمق الأزمات؛ لأنه لو عاد إلى العراق فإنني على يقين بأنه سيعيش في غربة لغة، وغربة عادات وتقاليد، وغربة ثقافة، بفعل تأثيرات المحيط الذي عاشوا وتربوا فيه لسنوات طويلة، وأصبحوا جزءا من عوالمه.

العراقيون في المهاجر.. عطاء ثقافي متواصل

* كيف ترون دور عراق المستقبل على المستوى الثقافي؟ وما هي بنظركم الآفاق المستقبلية للثقافة العراقية بعد سقوط النظام العراقي الذي تحكم بمفاصل الحياة السياسية والفكرية والثقافية؟

- أنا لا أريد أن أتحدث بمنطق ربما يشي بمركزية عراقية، لكن أشير إلى حقيقة تاريخية؛ وهي أن ما بين النهرين بلاد فيها حيوية حضارية متميزة، وكل من يقرأ التاريخ سيجد هذه الحقيقة ماثلة أمامه، حتى إن الحضارة الإسلامية تشكلت معظم فرقها الدينية ومذاهبها وتياراتها السياسية وعلومها بين الكوفة والبصرة وبغداد، وأظن أن هذه الأرض ما زالت محتفظة بحيويتها، وما زال العراق أرضا ولودا، قادرا على الخلق والعطاء بشكل مستمر.

ويمكن بملاحظة بسيطة إدراك ما قدمه العراقيون في المهجر للعالم العربي والإسلامي، فمثلاً في دمشق تعتبر أهم مؤسسة ثقافية وأهم دار نشر هي "دار المدى" وهذه الدار التي أصدرت عشرات الكتب في مختلف حقول المعرفة، تقوم بإصدار مجلة "المدى" ومجلة "النهج"، وهي دار عراقية، وقد أطلقت قبل أكثر من عام مشروعها المتميز "كتاب مع جريدة" وهو مشروع رائد وكبير.

وفي بيروت ربما كان أن أهم مركز دراسات هو مركز دراسات الوحدة العربية، وهذا المركز له جهد بحثي وثقافي جاد؛ لأنه استوعب قطاعا واسعا من النخبة العربية. أيضا من المشروعات المتميزة في العالم العربي والإسلامي "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" وهو مؤسسة بحثية وتعليمية في أمريكا، ونواة هذه المؤسسة مجموعة من الباحثين ورجال الفكر، وعلى رأسهم الدكتور طه جابر العلواني وهو فقيه وعالم معروف. والدكتور جمال البرزنجي، والدكتور هشام الطالب، والدكتور أحمد التتنجي، وهم بمجموعهم من العراق، بالإضافة إلى إخوانهم من البلاد الأخرى.

كما صدرت في المنفى العراقي عشرات الدوريات الثقافية والأدبية والفنية، مثل مجلة "الاغتراب الأدبي" التي أصدرها الشاعر صلاح نيازي وزوجته القاصة سميرة المانع في لندن، ومجلة "عيون" التي يصدرها الشاعر خالد المعالي في ألمانيا، ومجلة "ألواح" التي يصدرها القاص محسن الرملي في أسبانيا، ومجلة "القصب" التي يصدرها الشاعر مدين الموسوي في بيروت، ومجلة "دراسات عراقية" التي يصدرها عادل رءوف بدمشق، ومجلة "الموسم" التي يصدرها محمد سعيد الدطريحي في هولندا، ومجلة "الفكر الجديد" التي أصدرها السيد حسين الشامي وسليم الحسني في لندن... وغيرها.

فالدور العراقي ثقافيا دور مميز، بالرغم من أن العراقيين مشردون، ويعيشون في ظروف صعبة، ويعملون في حالة طوارئ، وأتوقع أن هذا الإنسان عندما يعود إلى بلده سيكون أداؤه أمثل وأفضل، وأظن أن هامش الحرية الذي أتيح الآن في العراق، والذي نأمل أن يتعزز ويترسخ سيلعب دورا كبيرا في تنمية الفكر والإبداع.

* يلاحظ كثرة المؤسسات الثقافية ومراكز الأبحاث العراقية التي تنهض على جهود فردية، ولعل هناك أمثلة عديدة كما ذكرتم قبل قليل.. ما هي برأيكم أسباب "وفرة المشاريع الفردية" العراقية وتبعثرها؟

- الإنسان العراقي إنسان يحترق من الداخل، والتشرد والاغتراب كان يمثل تحديا هائلاً للشخصية العراقية، وكان العراقي دائما بحاجة إلى أن يؤكد ذاته، ويحمي نفسه من الانهيار والانسحاق أمام تحديات المنفى القاسية، وأعتقد أن هذه المشاريع والمكاسب الثقافية هي تعبير عن تأكيد الذات في عالم تعرض فيه العراقي للتهميش والإقصاء والطرد، حتى من أقرب المقربين.

العراقي عندما هاجر إلى بعض البلاد التي كان يعتقد أنها ستؤويه وتنصره وتحتضنه، تعرض فيها إلى شيء من الحيف والاضطهاد والإهمال، وقد جرد العراقي من بعض حقوقه الإنسانية، ولذا هذا تعبير واستجابة للتحديات التي واجهها العراقي في تشرده.

أما لماذا هي مشاريع فردية؟ فأعتقد أن الهجرة كانت كشظايا تشتت في الآفاق، وبالتالي توزع العراقيون في مختلف البلاد، ولم يكن بوسعهم أن يأتلفوا ويشكلوا لهم مؤسسات. لا سيما أن المؤسسات تحتاج إلى رأسمال، وكل مستلزمات العمل التحريري المطبوع، وهذه حالة تمثل استحقاقا طبيعيا للمنفى كما أعتقد. وربما كان المزاج الشرقي الفردي أحد البواعث الخفية لنجاح المشاريع والجهود الفردية، وإخفاق غير واحدة من التجارب الجماعية المشتركة.

* الترجمة من الفارسية إلى العربية -الذين تمثلون أنتم أبرز وجوهها- تبدو غير منظمة، فهناك تراث فكري مهمل يحتاج إلى ترجمة والتعريف به في العالم العربي، فيما يتم إعادة تكرار ترجمة أعمال بعينها.. ما هي أسباب هذه الحالة؟

- الترجمة التي حصلت عن الفارسية تحكمت فيها عدة اعتبارات:

الاعتبار الأول اعتبار اقتصادي؛ لأن الذي يترجم في الأساس هو الاسم أولا ثم الكتاب، ولهذا فإن أكثر الأعمال التي ترجمت هي لأسماء تجد لها سوقا مربحة في العالم العربي، ولذلك يحرص الناشر على اقتراح اسم لكاتب معين على المترجم، ودافع العملية أساسا دافع اقتصادي تجاري.

الاعتبار الثاني اعتبار ثقافي، مرتبط بالتكوين الثقافي للمترجم نفسه، فأحيانا يقترح المترجم على الناشر ترجمة كتاب معين، وهذا الكتاب ينسجم مع اهتماماته وتوجهه الثقافي، ومعظم المترجمين أو أكثرهم هم من طلاب الحوزات العلمية، أو من ذوي التكوين الحوزوي في تعليمهم، وهم يعتقدون أن بعض النصوص في الفلسفة الإسلامية مثلاً هي نصوص من الضروري أن تنقل للعربية، لشعورهم بحاجتهم الشخصية لمثل هذه النصوص في دراستهم.

الاعتبار الثالث هو الجو الدعائي الذي حصل لبعض رجال الفكر من قبل أجهزة الإعلام نفسها، وكان له أثر في التأكيد على بعض الشخصيات وبعض الأعمال دون غيرها.

ولكن في الغالب فإن معظم النصوص التي ترجمت من الفارسية هي نصوص لا تمثل الكتب الأساسية في الفكر الديني في إيران، باستثناء كتب العلامة الطباطبائي، وبعض كتابات تلميذه الشهيد المطهري، إذ إن هناك تحولات عميقة في الفكر الديني في إيران لم يطلع عليها القارئ العربي، ونحن نترجم عادة في مجلة قضايا إسلامية معاصرة بعض النصوص، وقمنا بنشر بعض الأعمال ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، ونعتزم إصدار بعض الكتب الأساسية في موضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد في السلسلة التي سنصدرها. وأعمل الآن مع الأخ حيدر نجف على ترجمة كتاب للصديق الأستاذ مصطفى ملكيان، وهو كتاب مهم يقع في 500 صفحة، وقد فرغنا من ترجمة 90% منه، وهو عبارة عن مقاربات في فلسفة الدين والكلام الجديد.

* كواحد من أبرز المشتغلين في مضمار الترجمة العربية من الفارسية، من الأسماء التي تجدون في ترجماتها العربية عن الفارسية أداء أمينا ومتميزا في أعمالها المترجمة؟

- الترجمات التي نهض بها بعض المترجمين المصريين قبل خمسين سنة، مثل ترجمات الدكتور يحيى الخشاب، وعبد الرحمن عزام، الذين اهتموا بالنصوص الأدبية الفارسية، كذلك ترجمات الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، والإخوة سرمد الطائي، وحيدر نجف، اللذين عملا على ترجمة بعض النصوص من الفكر الديني هي ترجمات جيدة، وتنطوي على قدر ممتاز من الأمانة ووضوح الصياغة.






----------------------------------

.

*الشيخ عبد الجبار الرفاعي
-------------------------------

ولد في جنوب العراق سنة 1954.

تخرج في المعهد الزراعي الفني في بغداد سنة 1975.

انخرط في دراسة العلوم الإسلامية في الحوزة العلمية في النجف الأشرف سنة 1978. ليسانس دراسات إسلامية 1987.

ماجستير أصول فقه 1989.

يحضر دكتوراة فلسفة في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن.

أصدر مجلة قضايا إسلامية بمؤازرة بعض الإخوان، ورأس تحريرها للسنوات 1994-1999.

أصدر مجلة قضايا إسلامية معاصرة سنة 1998، ويرأس تحريرها حاليا.

أصدر سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، التي صدر منها 70 كتابا في بيروت، ويرأس تحريرها حاليا.

مدير مركز دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.

أستاذ في الحوزة العلمية في قم، وأستاذ الدراسات العليا في بعض الجامعات الإيرانية