غفوري
08-13-2011, 02:37 AM
13/08/2011
http://www.alqabas-kw.com/Temp/Pictures/2011/08/13/b24ed6f4-3018-4602-b242-d98988784ecb.jpg
الجواري كن يلعبن دورا كبيرا في العصر العباسي
إعداد صالح السعيدي
الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والأبطال هم الذين يصنعون تاريخهم. ومثلما وجد أبطال من الرجال والنساء الذين أوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم، فان كثيرين غيرهم لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا، لم يأخذوا حقهم من الشهرة في الذاكرة الشعبية، ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين، أو مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه.
في رمضان الماضي قدمنا سلسلة كان للرجال فيها حصة الاسد، وفي هذا العام نخصص مساحة لشخصيات مميزة من النساء اللواتي لم ينصفهن التاريخ، ومن اجل أولئك المغمورات في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
هي شغب زوجة الخليفة العباسي المعتضد وأم الخليفة العباسي المقتدر بالله 295-320 هـ / 908-932 م و«السيدة» هو اللقب الرسمي للجارية «شغب».
تمثل السيدة شغب أم الخليفة العباسي المقتدر بالله نموذجاَ مبكراً وقوياً لتجلّي المرأة كرمز للسلطة والثروة اللتين وصلت إليهما في الدولة والمجتمع. فالسيدة شغب لم تكن أول جارية ترتقي بسرعة في سلّم السلطة والثروة بعد أن أصبحت «أم ولد» وزوجة خليفة ووالدة خليفة.
و«شغب» لقب أطلقه عليها الخليفة المعتضد والتصق بها منذ ذلك الحين.
من آثارها مستشفى أنشأته في بغداد، كان طبيبه سنان بن ثابت، وكان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار.
ضحايا شغب
كان قصر الخليفة يعج بمؤامرات حريم الخلافة، فكل واحدة تسعى لتمهيد الطريق لابنها لولاية العهد، وفي تلك الفترة لقي العديد من نساء الخليفة المعتضد حتفهن بالسم، خصوصا من تلد منهم ذكرا، ومنهن قطر الندى بنت أحمد بن طولون، ومنهن دريرة التى استأثرت ردحا من الزمان بقلب الخليفة المعتضد، وقد أنشأ لها حمام سباحة، وحين ماتت بكاها الخليفة شعرا. وبالطريقة نفسها توفيت جيجك الزوجة التركية للخليفة وام ابنه المكتفي.
ومن ضحايا شغب بقبول أم الخليفة القاهر بالله. وقد اضطرت شغب لكفالة القاهر وتربيته مع ابنها، لكن القاهر لم ينس ثأر أمه عندما تولى الخلافة فانتقم من شغب انتقاما شديدا.
لم ينتبه الخليفة المعتضد للموت السريع لنسائه، وحين بحث في الأمر تحقق له ان شغب هي وراء حوادث الوفاة تلك، إلا أن الأدلة لم تكن كافية فقرر قطع أنفها ثم عدل عن الأمر إكراماً لابنه منها المقتدر بالله وابنه الآخر القاهر وهما تحت رعاية شغب وكفالتها، واكتفى بعزلها فى بيت أصبح لها كالسجن، حيث تربي ولدها المقتدر، ولم يكن يؤنس وحدتها إلا رفيقتها الجارية «ثمل» التي كانت تأتي لها بالأخبار وتساعدها في مؤامراتها.
وفاة المعتضد
كانت شغب تسعى وتدبر لتولية ابنها الخلافة بعد أبيه المعتضد. وبدأت خطتها بإحكام سيطرتها على ابنها بحيث أصبح لا يطيق فراقها ولا يستطيع التصرف بدون أمرها. ثم عملت من خلال ثمل رفيقتها وساعدها الأيمن على التخلص من الجارية الحسناء جيجك أم علي المكتفي أكبر أولاد الخليفة المعتضد والمرشح وليا للعهد بعده. مات المعتضد فجأة سنة 289، وتولى ابنه علي الخلافة باسم المكتفي. وكان من الخلفاء الأقوياء لكن عهده استمر 6 سنوات فقط.
فقد مات المكتفي فجأة وعمره إحدى وثلاثون سنة. ويروي ابن الجوزي في كتابه «المنتظم» تفاصيل انتقال الخلافة من المكتفي الى المقتدر فيقول «ولما اشتدت علة المكتفي في ذي القعدة سنة 295 هجري سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر، فصح عنده أنه بالغ فأحضر القضاة فأشهدهم أنه قد جعل العهد إليه وبويع بالخلافة بعد وفاة المكتفي».
والمفارقة أنه في الوقت نفسه الذي بلغ فيه المقتدر الحلم وأكمل عمره الثالثة عشرة، في اليوم نفسه مات الخليفة الشاب المكتفي فجأة مما يوحي بوجود مؤامرة.
تولي المقتدر ودولة النساء
بويع الفتى الصغير ابن شغب ولقب المقتدر بالله وكان عمره ثلاث عشرة سنة وشهرا واحدا وعشرين يومًا، ولم يكن ولي الخلافة قبله أحد أصغر منه. واستمر حكمه طوال ربع قرن تحكمت خلاله السيدة شغب بمقاليد السلطة وظلت تتحكم فيها ربع قرن من الزمان هي فترة خلافة ابنها المقتدر.
وفي ذلك العهد لعبت شغب دوراً كبيراً في تدبير امور الدولة وشؤون الحكم، بما في ذلك عزل وتعيين الوزراء وكبار المسؤولين، حتى أن عددا من المؤرخين المتأخرين والحديثين اعتبروا تلك الفترة «دولة النساء». وارجع المؤرخ الذهبي ذلك الى أن «والدة المقتدر كانت تأمر وتنهى لركاكة ابنها»، بينما فسر ذلك ابن طباطبا بان «دولة المقتدر كانت ذات تخليط كثير لصغر سنّه ولاستيلاء النساء عليه».
وتتحدث المصادر التاريخية عن الدور الذي لعبته بعض النساء في «دولة النساء»، وبالتحديد السيدة شغب والقهرمانة ثمل والقهرمانة أم موسى في تعيين وعزل الوزراء. وتتحدث المصادر التاريخية عن ثروات كبيرة للنساء في البلاط العباسي.
نفوذ عظيم
وبدأت شغب سلطتها بتحريم النطق بلقب شغب الذي أطلقه عليها زوجها الخليفة المعتضد، وأصبح اسمها الرسمي «السيدة أم المقتدر»، وكان القرار التالى هو مصادرة الجواهر التي كان المعتضد يزين بها نساءه من منافساتها السابقات، وحصلت ثمل على النصيب الأكبر من جواهر الخلافة.
ثم أصدرت السيدة شغب قرارا بتحريم لقب ثمل وأعطتها لقبا جديدا هو أم موسى القهرمانة، وجعلتها وصيفتها الخاصة، وأوسعت لها فى نفوذها بحيث كانت تعزل الوزراء.
ثم اصدر ت قرار لا مثيل له ويعد سابقة فى التاريخ الإسلامي عندما أمرت سنة 306 هـ ثمل أو أم موسى القهرمانة أن تجلس للنظر في عرائض الناس، يوما في كل جمعة، فكانت تجلس ويحضر الفقهاء والقضاة والأعيان وتبرز التواقيع، وعليها خطها.
فأصبحت ثمل، أو أم موسى القهرمانة، تجلس في الرصافة في بغداد كل يوم جمعة لتنظر في شكاوى الناس وقضاياهم ويجلس معها القضاة والفقهاء وكبار الموظفين والحجاب لتنفيذ أحكامها.
وكان لهاتين المرأتين، شغب وام موسى نفوذ عظيم في أمور الخلافة، من كثرة تغيير الوزراء وشراء المناصب وبيع الاقطاعات.
قتل الجواري
وفي 299 هجري تغيرت شغب على خادمتها فاطمة القهرمانة، فصادرت أموالها وعثروا على جثتها غريقة في دجلة، ولحقت بفاطمة القهرمانة بقية الجواري اللاتى أصبحن وصيفات أو قهرمانات. ونال بعض الوزراء اضطهاد شغب ووصيفتها أم موسى، كما حدث للوزير ابن الجراح الذي لم يبد كبير احترام للقهرمانة فتعرض للطرد والمصادرة. والتفتت شغب إلى كبار القوم تصادرهم وتتلاعب بهم ومنهم الوزير حامد بن العباس وعلي بن عيسى، والوزير ين الجراح وكانت تتلاعب بالوزراء، تعين هذا ثم تعزله وتصادره.
وفاة المقتدر
في سنة 320 هـ ثار القائد التركي مؤنس الخادم على الخليفة المقتدر، فلما أراد المقتدر الخروج لمحاربة مؤنس طلب من امه مالا يستعين به على حرب مؤنس، فقالت له: قد أخذت مني يوم سار القرمطي إلى بغداد ثلاثة آلاف ألف دينار وما بقيت لي بعدها ذخيرة إلا ما ترى.
وأحضرته خمسين ألف دينار فقال المقتدر: وأي شيء تغني عني هذه الدنانير، وأي مقام تقوم لي في عظيم ما أستقبله.
ثم قال لها: أما أنا فخارج كيف كنت وعلى ما استطعت ولعلي أقتل فأستريح.
واصر قادة الجيش على أن يتقدم الخليفة بنفسه لبدء الهجوم، فاضطر الى الموافقة وقبل أن يصل الخليفة الى معسكر مؤنس فر الكثير من جنوده. فلما التقى الجمعان رمى احد الجند المقتدر بحربة سقط منها على الأرض، فقال المقتدر للجندي: أنا الخليفة. فقال له: لك أطلب.
ثم أضجعه وذبحه بالسيف وشيل رأسه على رمح وسلب ما عليه، وبقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له بالموضع ودفن. وخلف اثني عشر ولداً ذكراً وولي الخلافة من أولاده ثلاثة الراضي والمتقي والمطيع.
وقيل إنه دفن مع أبيه وقيل أيضا انه طرح في دجلة ولم يزل الناس يصلون في مصرعه ويدعون على قاتله وبني في الموضع مسجد وحظيرة كبيرة، وكان عمر المقتدر يوم قتل ثمانية وثلاثين سنة، وكانت ولايته الخلافة أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا.
وقيل ان المقتدر يومها سأل احد وزرائه: أي وقت هو؟
فاجابه الوزير: وقت الزوال.
فتشاءم المقتدر وهم بالرجوع، فأشرفت خيل المؤنس ونشبت الحرب ونجح الخليفة القاهر هذه المرة في تولي الخلافة بعد فشله في المرة السابقة.
مشهد النهاية
يورد القاضي التنوخي في كتابه «نشوان المحاضرة» مشهدا من مشاهد نهاية شغب فيقول: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني عمي أبو محمد، قال: أنفذني أبو الحسين بن أبي عمر القاضي وابن حباب الجوهري، إلى «الخليفة» القاهر، وكان قد طلب منه شاهدين، ليشهدا على أم المقتدر بتوكيلها في بيع أملاكها.
قال: فصرنا إلى دار الخلافة، واستؤذن لنا، فدخلنا إلى الخليفة القاهر وهو جالس في صحن كبير. فسلمنا عليه ووقفنا. ودفع إلينا أحد الخدم كتاباً أوله: «أقرت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه».
فوقفنا عليه، فإذا الكتاب وكالة ببيع أملاكها في سائر الانحاء. فقلنا للخادم: فأين السيدة شغب؟
قال: وراء الباب.
فاستأذنا الخليفة في خطابها، فقال: افعلا.
فقلنا: أنت. عافاك. الله هاهنا حتى نقرأ عليك.؟
فقالت شغب: نعم.
فقرأنا عليها الكتاب وقرّرناها. ثم توقفنا عن كتابة الشهادة، فأومأ بعضنا إلى بعض، كيف نعمل في رؤيتها؟ وإلا لم يُمكنا إقامة الشهادة. وهبنا (أي خفنا) الخليفة.
فقال: ما لكم تتآمرون؟
فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذه شهادة نحتاج أن نقيمها عند قاض من قضاة أمير المؤمنين؟
فقال: نعم.
قلنا: فإنها لا تصح لنا دون أن نرى المرأة بأعيننا، ونعرفها بعينها واسمها، وما تنسب إليه.
فقال: افعلوا.
قال: فسمعت من وراء الستارة بكاءً ونحيباً. ورُفعت الستارة. فقلت لها: أنت. شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد بالله صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه؟
فبكت ساعة، ثم قالت: نعم.
فقررناها على ما في الكتاب، وأسبل الستر، فتوقفنا عن الشهادة. فقال القاهر بضجر: فأي شيء بقي؟
فقلنا: يُعرّفنا أمير المؤمنين إنها هي.
فقال: نعم، هذه شغب مولاة أبي المعتضد بالله، أمير المؤمنين، وأم أخي جعفر المقتدر بالله.
ونهض. فأوقعنا خطوطنا في الكتاب، وانصرفنا.
قال: ولما رأيتها، وجدتها امرأة عجوزاً دقيقة الوجه والمحاسن، سمراء اللون إلى البياض والصفرة، عليها أثر ضرر شديد، وثياب غير فاخرة. فما انتفعنا بأنفسنا ذلك اليوم فكراً في تقلب الزمان وتصرف الحدثان.
عذاب القاهر لشغب
كانت وفاة الخليفة المقتدر نهاية حكم أمه شغب وتقلب أحوالها، وأفول عزها. فبعد وفاة المقتدر نصب العسكر أخاه محمد ولقب بالقاهر، سيئ الأخلاق شرير الفعل خبيث الطوية أساء لكل من ساعده وخان القريب والبعيد وكان شرهاً ومحباً للمال.
وصفه معاصره المؤرخ أبو بكر الصولي فقال عنه: «كان أهوج، سفاكا للدماء، كثير التلون، قبيح السيرة، مدمن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل». وكان قد صنع حربة يحملها فلا يطرحها حتى يقتل إنسانا، ورغم أن السيدة شغب كفلت القاهر في صغره بعد وفاة أمه، إلا انه كان يتهمها في داخله بأنها هي من قتلت أمه.
تشاغل القاهر في تتبع أموال المقتدر والفتك بأولاده وخواصه، وأحضر السيدة شغب وعذبها عذاباً شديداً حتى تعترف على مكان الأموال وكانت مريضة بشدة بسبب حزنها على ولدها المقتدر، قيل إنه علقها بثدييها يطالبها بالأموال، وحتى علقها منكسة، فبالت، فكان بولها يجري على وجهها. ولكنها لم تعترف بشيء فأجبرها على بيع كل أملاكها وأوقافها وقبض ذلك المال.
ثم نقلها الحاجب علي بن بليق إلى داره وجعلها عند والدته، وأكرمها ورفهها، إلا أن ع.لتها من عذاب القاهر اشتدت عليها، فتوفيت.
• الجواري كن يلعبن دورا كبيرا في العصر العباسي
http://www.alqabas-kw.com/Temp/Pictures/2011/08/13/b24ed6f4-3018-4602-b242-d98988784ecb.jpg
الجواري كن يلعبن دورا كبيرا في العصر العباسي
إعداد صالح السعيدي
الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والأبطال هم الذين يصنعون تاريخهم. ومثلما وجد أبطال من الرجال والنساء الذين أوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم، فان كثيرين غيرهم لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا، لم يأخذوا حقهم من الشهرة في الذاكرة الشعبية، ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين، أو مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه.
في رمضان الماضي قدمنا سلسلة كان للرجال فيها حصة الاسد، وفي هذا العام نخصص مساحة لشخصيات مميزة من النساء اللواتي لم ينصفهن التاريخ، ومن اجل أولئك المغمورات في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
هي شغب زوجة الخليفة العباسي المعتضد وأم الخليفة العباسي المقتدر بالله 295-320 هـ / 908-932 م و«السيدة» هو اللقب الرسمي للجارية «شغب».
تمثل السيدة شغب أم الخليفة العباسي المقتدر بالله نموذجاَ مبكراً وقوياً لتجلّي المرأة كرمز للسلطة والثروة اللتين وصلت إليهما في الدولة والمجتمع. فالسيدة شغب لم تكن أول جارية ترتقي بسرعة في سلّم السلطة والثروة بعد أن أصبحت «أم ولد» وزوجة خليفة ووالدة خليفة.
و«شغب» لقب أطلقه عليها الخليفة المعتضد والتصق بها منذ ذلك الحين.
من آثارها مستشفى أنشأته في بغداد، كان طبيبه سنان بن ثابت، وكان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار.
ضحايا شغب
كان قصر الخليفة يعج بمؤامرات حريم الخلافة، فكل واحدة تسعى لتمهيد الطريق لابنها لولاية العهد، وفي تلك الفترة لقي العديد من نساء الخليفة المعتضد حتفهن بالسم، خصوصا من تلد منهم ذكرا، ومنهن قطر الندى بنت أحمد بن طولون، ومنهن دريرة التى استأثرت ردحا من الزمان بقلب الخليفة المعتضد، وقد أنشأ لها حمام سباحة، وحين ماتت بكاها الخليفة شعرا. وبالطريقة نفسها توفيت جيجك الزوجة التركية للخليفة وام ابنه المكتفي.
ومن ضحايا شغب بقبول أم الخليفة القاهر بالله. وقد اضطرت شغب لكفالة القاهر وتربيته مع ابنها، لكن القاهر لم ينس ثأر أمه عندما تولى الخلافة فانتقم من شغب انتقاما شديدا.
لم ينتبه الخليفة المعتضد للموت السريع لنسائه، وحين بحث في الأمر تحقق له ان شغب هي وراء حوادث الوفاة تلك، إلا أن الأدلة لم تكن كافية فقرر قطع أنفها ثم عدل عن الأمر إكراماً لابنه منها المقتدر بالله وابنه الآخر القاهر وهما تحت رعاية شغب وكفالتها، واكتفى بعزلها فى بيت أصبح لها كالسجن، حيث تربي ولدها المقتدر، ولم يكن يؤنس وحدتها إلا رفيقتها الجارية «ثمل» التي كانت تأتي لها بالأخبار وتساعدها في مؤامراتها.
وفاة المعتضد
كانت شغب تسعى وتدبر لتولية ابنها الخلافة بعد أبيه المعتضد. وبدأت خطتها بإحكام سيطرتها على ابنها بحيث أصبح لا يطيق فراقها ولا يستطيع التصرف بدون أمرها. ثم عملت من خلال ثمل رفيقتها وساعدها الأيمن على التخلص من الجارية الحسناء جيجك أم علي المكتفي أكبر أولاد الخليفة المعتضد والمرشح وليا للعهد بعده. مات المعتضد فجأة سنة 289، وتولى ابنه علي الخلافة باسم المكتفي. وكان من الخلفاء الأقوياء لكن عهده استمر 6 سنوات فقط.
فقد مات المكتفي فجأة وعمره إحدى وثلاثون سنة. ويروي ابن الجوزي في كتابه «المنتظم» تفاصيل انتقال الخلافة من المكتفي الى المقتدر فيقول «ولما اشتدت علة المكتفي في ذي القعدة سنة 295 هجري سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر، فصح عنده أنه بالغ فأحضر القضاة فأشهدهم أنه قد جعل العهد إليه وبويع بالخلافة بعد وفاة المكتفي».
والمفارقة أنه في الوقت نفسه الذي بلغ فيه المقتدر الحلم وأكمل عمره الثالثة عشرة، في اليوم نفسه مات الخليفة الشاب المكتفي فجأة مما يوحي بوجود مؤامرة.
تولي المقتدر ودولة النساء
بويع الفتى الصغير ابن شغب ولقب المقتدر بالله وكان عمره ثلاث عشرة سنة وشهرا واحدا وعشرين يومًا، ولم يكن ولي الخلافة قبله أحد أصغر منه. واستمر حكمه طوال ربع قرن تحكمت خلاله السيدة شغب بمقاليد السلطة وظلت تتحكم فيها ربع قرن من الزمان هي فترة خلافة ابنها المقتدر.
وفي ذلك العهد لعبت شغب دوراً كبيراً في تدبير امور الدولة وشؤون الحكم، بما في ذلك عزل وتعيين الوزراء وكبار المسؤولين، حتى أن عددا من المؤرخين المتأخرين والحديثين اعتبروا تلك الفترة «دولة النساء». وارجع المؤرخ الذهبي ذلك الى أن «والدة المقتدر كانت تأمر وتنهى لركاكة ابنها»، بينما فسر ذلك ابن طباطبا بان «دولة المقتدر كانت ذات تخليط كثير لصغر سنّه ولاستيلاء النساء عليه».
وتتحدث المصادر التاريخية عن الدور الذي لعبته بعض النساء في «دولة النساء»، وبالتحديد السيدة شغب والقهرمانة ثمل والقهرمانة أم موسى في تعيين وعزل الوزراء. وتتحدث المصادر التاريخية عن ثروات كبيرة للنساء في البلاط العباسي.
نفوذ عظيم
وبدأت شغب سلطتها بتحريم النطق بلقب شغب الذي أطلقه عليها زوجها الخليفة المعتضد، وأصبح اسمها الرسمي «السيدة أم المقتدر»، وكان القرار التالى هو مصادرة الجواهر التي كان المعتضد يزين بها نساءه من منافساتها السابقات، وحصلت ثمل على النصيب الأكبر من جواهر الخلافة.
ثم أصدرت السيدة شغب قرارا بتحريم لقب ثمل وأعطتها لقبا جديدا هو أم موسى القهرمانة، وجعلتها وصيفتها الخاصة، وأوسعت لها فى نفوذها بحيث كانت تعزل الوزراء.
ثم اصدر ت قرار لا مثيل له ويعد سابقة فى التاريخ الإسلامي عندما أمرت سنة 306 هـ ثمل أو أم موسى القهرمانة أن تجلس للنظر في عرائض الناس، يوما في كل جمعة، فكانت تجلس ويحضر الفقهاء والقضاة والأعيان وتبرز التواقيع، وعليها خطها.
فأصبحت ثمل، أو أم موسى القهرمانة، تجلس في الرصافة في بغداد كل يوم جمعة لتنظر في شكاوى الناس وقضاياهم ويجلس معها القضاة والفقهاء وكبار الموظفين والحجاب لتنفيذ أحكامها.
وكان لهاتين المرأتين، شغب وام موسى نفوذ عظيم في أمور الخلافة، من كثرة تغيير الوزراء وشراء المناصب وبيع الاقطاعات.
قتل الجواري
وفي 299 هجري تغيرت شغب على خادمتها فاطمة القهرمانة، فصادرت أموالها وعثروا على جثتها غريقة في دجلة، ولحقت بفاطمة القهرمانة بقية الجواري اللاتى أصبحن وصيفات أو قهرمانات. ونال بعض الوزراء اضطهاد شغب ووصيفتها أم موسى، كما حدث للوزير ابن الجراح الذي لم يبد كبير احترام للقهرمانة فتعرض للطرد والمصادرة. والتفتت شغب إلى كبار القوم تصادرهم وتتلاعب بهم ومنهم الوزير حامد بن العباس وعلي بن عيسى، والوزير ين الجراح وكانت تتلاعب بالوزراء، تعين هذا ثم تعزله وتصادره.
وفاة المقتدر
في سنة 320 هـ ثار القائد التركي مؤنس الخادم على الخليفة المقتدر، فلما أراد المقتدر الخروج لمحاربة مؤنس طلب من امه مالا يستعين به على حرب مؤنس، فقالت له: قد أخذت مني يوم سار القرمطي إلى بغداد ثلاثة آلاف ألف دينار وما بقيت لي بعدها ذخيرة إلا ما ترى.
وأحضرته خمسين ألف دينار فقال المقتدر: وأي شيء تغني عني هذه الدنانير، وأي مقام تقوم لي في عظيم ما أستقبله.
ثم قال لها: أما أنا فخارج كيف كنت وعلى ما استطعت ولعلي أقتل فأستريح.
واصر قادة الجيش على أن يتقدم الخليفة بنفسه لبدء الهجوم، فاضطر الى الموافقة وقبل أن يصل الخليفة الى معسكر مؤنس فر الكثير من جنوده. فلما التقى الجمعان رمى احد الجند المقتدر بحربة سقط منها على الأرض، فقال المقتدر للجندي: أنا الخليفة. فقال له: لك أطلب.
ثم أضجعه وذبحه بالسيف وشيل رأسه على رمح وسلب ما عليه، وبقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له بالموضع ودفن. وخلف اثني عشر ولداً ذكراً وولي الخلافة من أولاده ثلاثة الراضي والمتقي والمطيع.
وقيل إنه دفن مع أبيه وقيل أيضا انه طرح في دجلة ولم يزل الناس يصلون في مصرعه ويدعون على قاتله وبني في الموضع مسجد وحظيرة كبيرة، وكان عمر المقتدر يوم قتل ثمانية وثلاثين سنة، وكانت ولايته الخلافة أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا.
وقيل ان المقتدر يومها سأل احد وزرائه: أي وقت هو؟
فاجابه الوزير: وقت الزوال.
فتشاءم المقتدر وهم بالرجوع، فأشرفت خيل المؤنس ونشبت الحرب ونجح الخليفة القاهر هذه المرة في تولي الخلافة بعد فشله في المرة السابقة.
مشهد النهاية
يورد القاضي التنوخي في كتابه «نشوان المحاضرة» مشهدا من مشاهد نهاية شغب فيقول: حدثني أبو الحسين بن عياش، قال: حدثني عمي أبو محمد، قال: أنفذني أبو الحسين بن أبي عمر القاضي وابن حباب الجوهري، إلى «الخليفة» القاهر، وكان قد طلب منه شاهدين، ليشهدا على أم المقتدر بتوكيلها في بيع أملاكها.
قال: فصرنا إلى دار الخلافة، واستؤذن لنا، فدخلنا إلى الخليفة القاهر وهو جالس في صحن كبير. فسلمنا عليه ووقفنا. ودفع إلينا أحد الخدم كتاباً أوله: «أقرت شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه».
فوقفنا عليه، فإذا الكتاب وكالة ببيع أملاكها في سائر الانحاء. فقلنا للخادم: فأين السيدة شغب؟
قال: وراء الباب.
فاستأذنا الخليفة في خطابها، فقال: افعلا.
فقلنا: أنت. عافاك. الله هاهنا حتى نقرأ عليك.؟
فقالت شغب: نعم.
فقرأنا عليها الكتاب وقرّرناها. ثم توقفنا عن كتابة الشهادة، فأومأ بعضنا إلى بعض، كيف نعمل في رؤيتها؟ وإلا لم يُمكنا إقامة الشهادة. وهبنا (أي خفنا) الخليفة.
فقال: ما لكم تتآمرون؟
فقلنا: يا أمير المؤمنين، هذه شهادة نحتاج أن نقيمها عند قاض من قضاة أمير المؤمنين؟
فقال: نعم.
قلنا: فإنها لا تصح لنا دون أن نرى المرأة بأعيننا، ونعرفها بعينها واسمها، وما تنسب إليه.
فقال: افعلوا.
قال: فسمعت من وراء الستارة بكاءً ونحيباً. ورُفعت الستارة. فقلت لها: أنت. شغب، مولاة أمير المؤمنين المعتضد بالله صلوات الله عليه، أم جعفر المقتدر رحمة الله عليه؟
فبكت ساعة، ثم قالت: نعم.
فقررناها على ما في الكتاب، وأسبل الستر، فتوقفنا عن الشهادة. فقال القاهر بضجر: فأي شيء بقي؟
فقلنا: يُعرّفنا أمير المؤمنين إنها هي.
فقال: نعم، هذه شغب مولاة أبي المعتضد بالله، أمير المؤمنين، وأم أخي جعفر المقتدر بالله.
ونهض. فأوقعنا خطوطنا في الكتاب، وانصرفنا.
قال: ولما رأيتها، وجدتها امرأة عجوزاً دقيقة الوجه والمحاسن، سمراء اللون إلى البياض والصفرة، عليها أثر ضرر شديد، وثياب غير فاخرة. فما انتفعنا بأنفسنا ذلك اليوم فكراً في تقلب الزمان وتصرف الحدثان.
عذاب القاهر لشغب
كانت وفاة الخليفة المقتدر نهاية حكم أمه شغب وتقلب أحوالها، وأفول عزها. فبعد وفاة المقتدر نصب العسكر أخاه محمد ولقب بالقاهر، سيئ الأخلاق شرير الفعل خبيث الطوية أساء لكل من ساعده وخان القريب والبعيد وكان شرهاً ومحباً للمال.
وصفه معاصره المؤرخ أبو بكر الصولي فقال عنه: «كان أهوج، سفاكا للدماء، كثير التلون، قبيح السيرة، مدمن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل». وكان قد صنع حربة يحملها فلا يطرحها حتى يقتل إنسانا، ورغم أن السيدة شغب كفلت القاهر في صغره بعد وفاة أمه، إلا انه كان يتهمها في داخله بأنها هي من قتلت أمه.
تشاغل القاهر في تتبع أموال المقتدر والفتك بأولاده وخواصه، وأحضر السيدة شغب وعذبها عذاباً شديداً حتى تعترف على مكان الأموال وكانت مريضة بشدة بسبب حزنها على ولدها المقتدر، قيل إنه علقها بثدييها يطالبها بالأموال، وحتى علقها منكسة، فبالت، فكان بولها يجري على وجهها. ولكنها لم تعترف بشيء فأجبرها على بيع كل أملاكها وأوقافها وقبض ذلك المال.
ثم نقلها الحاجب علي بن بليق إلى داره وجعلها عند والدته، وأكرمها ورفهها، إلا أن ع.لتها من عذاب القاهر اشتدت عليها، فتوفيت.
• الجواري كن يلعبن دورا كبيرا في العصر العباسي