مجاهدون
11-19-2004, 02:31 PM
كتب زهير الدجيلي:
تداولت كتب التراث أخبار العيارين بمزيج من السخط والإعجاب والتبرؤ منهم، باعتبارهم فئة خارجة على الدولة والنظام، فهم في العراق العيارون والشطار والشقاوات، وفي مصر الحرافيش والعياق والزعار والفتوات، وفي الشام القبضايات، وفي بلدان شتى يأخذون ما يشبه هذه الأوصاف. ويقوى ساعدهم ويشتد عودهم أيام انحلال الدول والأنظمة وغياب القانون والنظام. ويقوى شأنهم في أوقات الحروب وضعف الحكومات القائمة. وترافق ظهورهم الفتن المذهبية والقلاقل السياسية والاضطرابات العنصرية (1).
وحصر الباحثون تاريخهم في أواخر القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي) حتى نهاية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، خصوصا ما بين الفترة التي شهدت الحرب والصراع على الحكم بين الأخوين العباسيين الأمين والمأمون إلى غاية عهد المستعصم بالله آخر خليفة عباسي.
وأول ذكر للعيارين في بغداد يوم حاصرت قوات المأمون بغداد بقيادة طاهر بن الحسين بجيوش فارسية في اغسطس عام 812 (196 هجرية) لمقاتلة أخيه الأمين وانتزاع الخلافة منه.
كانت قوات المأمون تحاصر بغداد من ثلاث جهات، وأدى الحصار والمعارك الطاحنة بين الجيشين الى انهيار الجيش النظامي الذي يعتمد عليه الأمين، فاضطر الى الاستعانة بالعيارين والشطار بعد ان أطلق المحابيس منهم ودعاهم لما عرفوا به من فتوة وحذاقة في الكر والفر لنجدته ولتثبيت حكمه ومساعدته في قتاله لأخيه المأمون، فسارعوا لتلبية ندائه، وأعلنوا المقاومة داخل بغداد المحاصرة، وقاتلوا ببأس شديد وأطلقوا على تنظيماتهم «القوات المحمدية» نسبة الى ابي موسى محمد الأمين ـ كما يقول المسعودي في مروج الذهب ـ فيما أطلق اصحاب المأمون على أنفسهم لقب «القوات المأمونية».
وتصف كتب التاريخ العيارين بأوصاف شتى حسب مجتمعاتهم وأماكنهم، تارة تصفهم بالغوغاء وتارة أخرى بالرعاع والطَغام والسفلة، لكنهم ظلوا على اختلاف أوصافهم الفئة المسحوقة تحت وطأة الفقر، الخارجة على النظام والقانون العام للدولة والمجتمع، التي لا تجد المأوى الا في الخرائب او الزرائب او على قارعة الطريق او في السجون.
ويصف الأبشيهي في المستطرف العيارين بأن واحدهم «ممن يعول على ذراعه وقراعه، وملاكمته وصراعه، وطول باعه، وصلابة طباعه، وسلاطة لسانه وامتزاج إساءته بإحسانه.. ومن اتسم بإذاعة الاسرار وصحبة الأشرار، واللسان المهذار».
وحسب وصف الامام علي بن ابي طالب لهم «أن الغوغاء اذا اجتمعوا ضرّوا واذا افترقوا نفعوا»، ومضرة اجتماعهم معلومة، أما منفعة تفرقهم وافتراقهم، فكما يقول الإمام علي: «يرجع أهل المهن الى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء الى بنائه والنساج الى منسجه والخباز الى مخبزه»(2) وبهذا شخص الإمام علي دور البطالة في تكوين ظاهرة العيارين والغوغاء والجريمة ودور العمل وتوفير الدخل والمعيشة للعاطلين لتجنب اضرارهم وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.
فئاتهم ونشأتهم
ويصف الطبري في تاريخه فئات العيارين ومنشأهم، أثناء الحرب بين الأمين والمأمون واحتلال بغداد من قبل قوات طاهر بن الحسين بعد ان نقب المسجونون في بغداد سجونهم وفروا منها، وسمح الخليفة الامين باطلاقهم للاستعانة بهم في حربه ضد أخيه، ولحق بهم الذين على شاكلتهم «من أهل الزعارة من الدعار والطرارين والنطافين والمقامرين والسوقة وباعة الطريق ممن يتجرون في محقرات البيوع (يتاجرون بالسلع المحرمة) وصغار الحرفيين الذين يعملون في الحرف الحقيرة وانضم اليهم الأفاقون والمتشردون والعاطلون والمكدون (الشحاذون) والمقامرون والمخمورون والمخدرون (من المخدرات) والفساق واللصوص، وأصحاب الفتن والخصومات وأصحاب اللطف والحانات ، وأهل الشكايات والنكالات».
ويذكر الطبري أجناسهم بأنهم أجناس شتى من الاعراب والموالي والأحباش والسودان والنوبة والبرابرة والافارقة والصقالبة والسنود والهنود والنبط والفرس والترك والأكراد وغيرهم، ويشير الى ان من يبرز بينهم من القادة هم من الفرس والسنود (بلاد السند والأفغان) والهنود المتفرسين المختلطين بهم من الأحامرة (الموالي من فارس من حمراء الديلم) والأساورة وأصلهم من السند وبلوخستان، والسيابجة والزط، والأخيرون سيطروا وغلبوا على طريق البصرة (3) وأخافوا الناس وأهل السبيل.
وحسب قول ابن الأثير في الكامل ان أقواما من العرب انضموا الى العيارين بعد ان ضاعت هيبتهم وهزل حالهم أيام الخليفة المعتصم (220 هجرية/ 835) بعد ان اسقطهم من ديوان العطاء وأدرج مكانهم مستجلبين من مصر وآخرين من المغاربة والفراعنة من بلاد ما وراء النهر(4)، وهنا يذكر هذا التاريخ كيف يؤدي فقدان الجاه والسلطة الى التحاق أصحابها بالعيارين يستعينون بهم على استرداد ما فقدوه من سلطان.
تنظيماتهم وجماعاتهم ولباسهم وسلاحهم
رغم أن العيارين يصعب انضمامهم الى قيادة واحدة لسرعة اختلافهم وشدة افتراقهم بعضهم عن بعض وتنافسهم على القيادة والرئاسة، لكنهم في أغلب الاحوال مجتمعون على عدوهم في تنظيمات شبه عسكرية، فأجناسهم التأمت في تنظيم عسكري هرمي يتكون من وحدات عشرية عشرة ثم مائة ثم ألف ثم عشرة آلاف. ويأتمرهم بالتسلسل عريف ثم نقيب ثم مقدم أو قائد فيلق ثم أمير، والطاعة للأمير «ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده»، كما يقول المسعودي. وتشير حوادث سنة 197 هجرية حين تفوقت قوات المأمون على جيش الأمين وانهار حكمه، وجرت معركة في محلة الشماسية في الجانب الغربي من بغداد (شارع حيفا في الكرخ الآن).
بلغ عدد العيارين الذين تصدوا لقوات المأمون نحو مائة ألف، وبعض المؤرخين يشكّون في هذا العدد. لكن الواقعة اشارت الى ان عدد القتلى من العيارين في هذه المعركة وصل الى حد الإبادة (5). ويغطي العيارون رؤوسهم بخوذ أو قلانس سوداء مصبوغة اخفاء لوجوههم وبعضهم يظهرها. وتكسو الجزء العلوي من أبدانهم ثياب جرداء او قمصان من الخيش، والجزء السفلي من البدن يحيط به مئزر يشد في وسطه الهميان أو (التكة) وتحته سروال. ولا ينتعل العيارون شيئا بأرجلهم، فهم حفاة منذ ان يولدوا حتى يقتلوا. فالتحفي أسهل لهم في المقاتلة وسرعة الحركة. لكن أغلب الباحثين يعتقد ان لباسهم يدل على شدة فقرهم وفيهم من قاتل نصف عارٍ.
واستخدم العيارون شارات وعلائم غلب عليها اللونان الاحمر والاصفر وهي من جلائل وشارات وبيارق. وفي حالات الاستنفار يستخدمون أبواق القصب وقرون البقر ينفخون فيها للنفير، وحالما يسمعون اصواتها يجتمعون تحت رايات من خرق معقودة على رماح من قصب او من الطرفاء تميز فيالقهم.
واستخدم العيارون السلاح البدائي في مواجهة الجيوش النظامية. وكل عيار يستخدم يديه الاثنتين في الحرب. ولكل يد سلاح، ففي اليد اليمنى يستخدم رمحا حادا من القصب او مسنا من الفولاذ او يد مكنسة (عصا المكنسة) او هراوة او لجاما من الجلد او الحبال في مؤخرته قطعة حديد. وفي اليد اليسرى يستخدم المقلاع لرمي الحجارة على جيش العدو فتصيب جنوده إصابات بالغة. او بارية وهي أشبه بالدرع المحشو بالحصى والرمل مصنوعة من الحلفاء والخوص لتكون درعا وترسا يصد بها السهام والسيوف، ومن كثرة استخدام العيارين لهذا النوع من الدروع وصفوا بأصحاب البواري. أما تحت الابط فيضع العيار مخلاة مليئة بالحجر والحصى الصلب الكبير والآجر.
ويكمن العيارون ويختفون او يتربصون بأعدائهم في المساجد والحمامات وأزقة الأسواق والطرقات الضيقة والخرائب المهجورة والمقابر والدمن والأدغال والكهوف والبراري حتى يمكن استيعاب أعدادهم (6). فهم يجيدون حرب الشوارع في المدن.
معاشاتهم وغنائمهم
ويعتمد العيارون في معاشاتهم على غنائم الحرب والأتاوات والمكوس التي يفرضونها على أثرياء القوم أو على خصومهم، وعلى ما يحصلون عليه من السلب والنهب. وتشير وقائع الحرب بين الأخوين الأمين والمأمون عام 197 هجرية الى ان الأمين اثناء اعتماده على العيارين عجز عن تدبير النفقة والمعاشات لهم لعدم وجود مال يكفي للحرب. وكادوا ينفضون عنه ويتركون الدفاع عن بغداد. لكن أحد قواده (حاتم بن الصقر) المسؤول عنهم أباح لهم النهب (الفرهود كما حصل في بغداد أيام الحرب) وأباح النهب لكل من يلوذ بهم. فنهبوا كل شيء وأقبلوا على حرب جنود طاهر بن الحسين (جيش المأمون) في معركة محلة باب الشماسية وغنموا منهم الكثير من المتاع والخيل والسلاح كما يذكر الطبري.
وتشير أحداث ذاك الزمان الى انه بعد ان آلت الخلافة إلى المأمون تفاوض معهم لتجنب ضررهم وغض الطرف عن أعمالهم في أول سنة حكمه. ويقول الطبري: «ان فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا، واظهروا الفسق وقطع الطريق، وأخذ الغلمان والنساء (خطفهم) علانية من الطريق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل ان يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك.
ولا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن وعلى الظهر (الدواب) ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم. ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا الى قطريل (وهي ناحية في بغداد الغربية تقع قرب موقع أبو غريب الحالي) فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وادخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية (جعلوا لهم سوقا للمنهوبات كما هي الحال الآن في اسواق المنهوبات في بغداد) فجاء أهلها واستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه أعداؤه نصره عليهم، ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان (مارس 817).
يوم سيطروا على بغداد
ظل العيارون أوفياء للخليفة الأمين في أحلك فترات حياته ولم يتخلوا عنه كما فعل أقرب المقربين اليه(7). وعندما باتت العاصمة بغداد على وشك السقوط ليلة الخميس 25 محرم سنة 198 هجرية (5 سبتمبر 813 ميلادية) دخلوا عليه ونصحوه ـ كما يقول الطبري والمسعودي وابن الاثير ـ قالوا له: «يا أمير المؤمنين، ليس معك من ينصحك ونحن سبعة آلاف رجل مقاتلة، وفي اصطبلك سبعة آلاف فرس، يحمل كل منا على فرس، ونفتح بعض أبواب المدينة، ونخرج في هذه الليلة، فما يقدم علينا أحد الى ان نصير الى بلد الجزيرة وديار ربيعة (الموصل) فنجيء بالأموال ونجمع الرجال، ونتوسط الشام وندخل مصر، ويكثر الجيوش والمال، وتعود الدولة مقبلة جديدة». فقال الأمين لهم:
«هذا والله الرأي» فعزم على ذلك وهم به وجنح اليه. فبلغ الخبر الى طاهر بن الحسين قائد جند المأمون عن طريق جواسيسه فاستهوله لسداد الرأي الذي ظهر من العيارين. فبعث سرا الى سليمان بن أبي جعفر والى محمد بن عيسى والى السندي بن شاهك وهم من كبار رجال حاشية الأمين (لكنهم يلعبون على الحبلين، علنا مع الأمين وسرا مع المأمون) يهددهم بالانتقام اذا لم يثنوا الأمين عن عزمه ومنعه من تنفيذ رأي العيارين، فخشي هؤلاء انتقام طاهر بن الحسين وليؤمِّنوا مصالحهم. فذهبوا الى مولاهم الأمين يقنعونه بالتخلي عن رأيه وترك خطة العيارين.
فوافق ورضخ ومال لرأيهم فكانت بذلك نهاية حكمه، اذ بعد استسلامه واندحار جيشه وهزيمة العيارين ذبحه نفر من خونة جنده وأخذوا رأسه الى طاهر بن الحسين، فسير المأمون رأس أخيه المذبوح الى خراسان فنصبه على رمح هناك للفرجة وأمر الجند بلعنه فأفرطوا في لعن أخيه، ثم كفهم عن ذلك وأرجع الرأس الى بغداد فدفن مع الجثة! وبقي المأمون يحكم بغداد من مقر اقامته في مرو قاعدة إقليم خراسان، ولكن بعده هذا عن عاصمة الخلافة وعدم وجود حكومة قوية في بغداد جعلا مقاومة العيارين لحكمه تطول وينضم اليهم بعض عامة الناس.
ففي سنة 198 هجرية (يوليو 814 ميلادية) وكان قد مر عام على خلافته ثار العيارون مؤيدين جماعة الحسن الهرش التي كانت ترفع شعار «الرضى من آل محمد». لقد ساند العيارون حركة الهرش وسيطروا على أجزاء كبيرة من بغداد ثائرين على نائب المأمون الحسن بن سهل، وأغاروا تحت قيادة الهرش على النواحي والقرى وجمعوا الغنائم والأموال، ولكن المأمون سيَّر لهم حملة عسكرية بقيادة أزهر بن زهير بن المسيب الضبي ففتك بالهرش وبالعيارين وشتت شملهم.
لكن سياسة الحسن بن سهل نائب المأمون كانت سيئة جعلت أهل بغداد وعامة الشعب تنفر منه. فالفقر والغلاء والقحط كانت من صفات عهده، لا خدمات ولا معاشات ولا جرايات. فاستغل العيارون سخط العامة على حكومة بغداد آنذاك وحرضوا الناس على الثورة والتمرد وجعلوهم يطالبون بعزل المأمون ونائبه ومبايعة عمه ابراهيم بن المهدي (202 هجرية ـ 817 ميلادية) الذي كان من كبار الفنانين الموسيقيين في ذلك العصر. وبارك العيارون رغم كرههم للغناء والموسيقى هذه البيعة ليس حبا بالفنان الموسيقي انما نكاية بحكومة المأمون، ودام التمرد سنة، ولأن الفنان الموسيقي لا يصلح للحكم ولا للسياسة فقد هرب ابراهيم بن المهدي واختفى في بيت احد العيارين، بعد ان سير المأمون جيشه لاسترداد عاصمته من العيارين وابتاعهم من عامة الناس.
ورجع الى العاصمة وجعلها مقرا له من ذلك اليوم بدلا من مرو عاصمة خراسان. وأعلن عن جائزة مقدارها ألف دينار ذهبا (تساوي مليون دولار في هذا الزمان) لمن يقبض على عمه ابراهيم بن المهدي الذي لقبه العيارون بلقب «المبارك». لكن العيارين رفضوا الجائزة رغم الاغراء ولم يسلموا العم الى المأمون. ودخل المأمون بغداد في 16 صفر عام 204 هجرية (سبتمبر 819) ونكل بالعيارين وسجن البعض منهم وقتل البعض الآخر. لكن حركات العيارين لم تهدأ. وظلت تختفي وتعود أكثر قوة. كلما ضعفت الدولة واصبحت الحكومات بيد السماسرة والمرتشين والضامنين أموال الخاصة من حكام بغداد في الزمن العباسي.
فكان العيارون يعتاشون على السخط وعلى تأييد العامة لكل معارضة للحكومات التي تتجاهل خدمات الناس. فكانوا يزيدون الاحوال سوءا. ويجعلون الناس كمن يستجير من الرمضاء بالنار. وتوالت حركاتهم وأصبحوا في سياق لعبة السلطة حين دخل الأتراك والفرس في بطانة الدولة العباسية وسيطروا على مقدراتها فكان العيارون مرة مع هذا الجانب ومرة مع ذاك تستغلهم قوى النفوذ السياسي. فمن مفارقات تاريخهم انهم وقفوا في بداية قتالهم لجيش المأمون ضد قائده طاهر بن الحسين وفي مرة أخرى في زمن المستعين بالله (248 هجرية ـ 862 ميلادية) وقفوا مع حفيده محمد بن عبدالله بن طاهر بن الحسين حاكم بغداد في عهد المستعين، في غمار الصراع على السلطة بين المعتز بالله والمستعين بالله!.
وسيطر العيارون على بغداد التي خضعت لحصار امتد اكثر من عام، وأعطاهم حاكم بغداد السلاح والمعاشات ليدافعوا عن بغداد، وبرزوا تحت امرة قوادهم (أبو جعفر بتنويه ودونال ودمحال وأبو نملة وأبو عصارة)، واستعرضوا قواتهم بالتراس والسلاح وبعد معارك ذلك الحصار بين جيش العيارين وجيش المعتز بالله تمكن الاخير من النصر ودخول بغداد وبويع بالخلافة وتشتت جمع العيارين.
ترى ما أشبه اليوم بالبارحة رغم اختلاف الزمان ومتغيرات المكان، لكن الناس ظلوا على طباعهم. وظلت بغداد تحت سطوة العيارين بين حين وآخر.
الهوامش:
(من 1 ـ 7) العيارون والشطار البغداديون في التاريخ العباسي ـ د. محمد أحمد عبدالمولى. > تاريخ الطبري ـ ابو جعفر محمد بن جرير. > المستطرف من كل فن مستظرف ـ شهاب الدين أبو الفتح الأبشيهي. > الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير.
تداولت كتب التراث أخبار العيارين بمزيج من السخط والإعجاب والتبرؤ منهم، باعتبارهم فئة خارجة على الدولة والنظام، فهم في العراق العيارون والشطار والشقاوات، وفي مصر الحرافيش والعياق والزعار والفتوات، وفي الشام القبضايات، وفي بلدان شتى يأخذون ما يشبه هذه الأوصاف. ويقوى ساعدهم ويشتد عودهم أيام انحلال الدول والأنظمة وغياب القانون والنظام. ويقوى شأنهم في أوقات الحروب وضعف الحكومات القائمة. وترافق ظهورهم الفتن المذهبية والقلاقل السياسية والاضطرابات العنصرية (1).
وحصر الباحثون تاريخهم في أواخر القرن الثاني الهجري (التاسع الميلادي) حتى نهاية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، خصوصا ما بين الفترة التي شهدت الحرب والصراع على الحكم بين الأخوين العباسيين الأمين والمأمون إلى غاية عهد المستعصم بالله آخر خليفة عباسي.
وأول ذكر للعيارين في بغداد يوم حاصرت قوات المأمون بغداد بقيادة طاهر بن الحسين بجيوش فارسية في اغسطس عام 812 (196 هجرية) لمقاتلة أخيه الأمين وانتزاع الخلافة منه.
كانت قوات المأمون تحاصر بغداد من ثلاث جهات، وأدى الحصار والمعارك الطاحنة بين الجيشين الى انهيار الجيش النظامي الذي يعتمد عليه الأمين، فاضطر الى الاستعانة بالعيارين والشطار بعد ان أطلق المحابيس منهم ودعاهم لما عرفوا به من فتوة وحذاقة في الكر والفر لنجدته ولتثبيت حكمه ومساعدته في قتاله لأخيه المأمون، فسارعوا لتلبية ندائه، وأعلنوا المقاومة داخل بغداد المحاصرة، وقاتلوا ببأس شديد وأطلقوا على تنظيماتهم «القوات المحمدية» نسبة الى ابي موسى محمد الأمين ـ كما يقول المسعودي في مروج الذهب ـ فيما أطلق اصحاب المأمون على أنفسهم لقب «القوات المأمونية».
وتصف كتب التاريخ العيارين بأوصاف شتى حسب مجتمعاتهم وأماكنهم، تارة تصفهم بالغوغاء وتارة أخرى بالرعاع والطَغام والسفلة، لكنهم ظلوا على اختلاف أوصافهم الفئة المسحوقة تحت وطأة الفقر، الخارجة على النظام والقانون العام للدولة والمجتمع، التي لا تجد المأوى الا في الخرائب او الزرائب او على قارعة الطريق او في السجون.
ويصف الأبشيهي في المستطرف العيارين بأن واحدهم «ممن يعول على ذراعه وقراعه، وملاكمته وصراعه، وطول باعه، وصلابة طباعه، وسلاطة لسانه وامتزاج إساءته بإحسانه.. ومن اتسم بإذاعة الاسرار وصحبة الأشرار، واللسان المهذار».
وحسب وصف الامام علي بن ابي طالب لهم «أن الغوغاء اذا اجتمعوا ضرّوا واذا افترقوا نفعوا»، ومضرة اجتماعهم معلومة، أما منفعة تفرقهم وافتراقهم، فكما يقول الإمام علي: «يرجع أهل المهن الى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء الى بنائه والنساج الى منسجه والخباز الى مخبزه»(2) وبهذا شخص الإمام علي دور البطالة في تكوين ظاهرة العيارين والغوغاء والجريمة ودور العمل وتوفير الدخل والمعيشة للعاطلين لتجنب اضرارهم وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.
فئاتهم ونشأتهم
ويصف الطبري في تاريخه فئات العيارين ومنشأهم، أثناء الحرب بين الأمين والمأمون واحتلال بغداد من قبل قوات طاهر بن الحسين بعد ان نقب المسجونون في بغداد سجونهم وفروا منها، وسمح الخليفة الامين باطلاقهم للاستعانة بهم في حربه ضد أخيه، ولحق بهم الذين على شاكلتهم «من أهل الزعارة من الدعار والطرارين والنطافين والمقامرين والسوقة وباعة الطريق ممن يتجرون في محقرات البيوع (يتاجرون بالسلع المحرمة) وصغار الحرفيين الذين يعملون في الحرف الحقيرة وانضم اليهم الأفاقون والمتشردون والعاطلون والمكدون (الشحاذون) والمقامرون والمخمورون والمخدرون (من المخدرات) والفساق واللصوص، وأصحاب الفتن والخصومات وأصحاب اللطف والحانات ، وأهل الشكايات والنكالات».
ويذكر الطبري أجناسهم بأنهم أجناس شتى من الاعراب والموالي والأحباش والسودان والنوبة والبرابرة والافارقة والصقالبة والسنود والهنود والنبط والفرس والترك والأكراد وغيرهم، ويشير الى ان من يبرز بينهم من القادة هم من الفرس والسنود (بلاد السند والأفغان) والهنود المتفرسين المختلطين بهم من الأحامرة (الموالي من فارس من حمراء الديلم) والأساورة وأصلهم من السند وبلوخستان، والسيابجة والزط، والأخيرون سيطروا وغلبوا على طريق البصرة (3) وأخافوا الناس وأهل السبيل.
وحسب قول ابن الأثير في الكامل ان أقواما من العرب انضموا الى العيارين بعد ان ضاعت هيبتهم وهزل حالهم أيام الخليفة المعتصم (220 هجرية/ 835) بعد ان اسقطهم من ديوان العطاء وأدرج مكانهم مستجلبين من مصر وآخرين من المغاربة والفراعنة من بلاد ما وراء النهر(4)، وهنا يذكر هذا التاريخ كيف يؤدي فقدان الجاه والسلطة الى التحاق أصحابها بالعيارين يستعينون بهم على استرداد ما فقدوه من سلطان.
تنظيماتهم وجماعاتهم ولباسهم وسلاحهم
رغم أن العيارين يصعب انضمامهم الى قيادة واحدة لسرعة اختلافهم وشدة افتراقهم بعضهم عن بعض وتنافسهم على القيادة والرئاسة، لكنهم في أغلب الاحوال مجتمعون على عدوهم في تنظيمات شبه عسكرية، فأجناسهم التأمت في تنظيم عسكري هرمي يتكون من وحدات عشرية عشرة ثم مائة ثم ألف ثم عشرة آلاف. ويأتمرهم بالتسلسل عريف ثم نقيب ثم مقدم أو قائد فيلق ثم أمير، والطاعة للأمير «ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده»، كما يقول المسعودي. وتشير حوادث سنة 197 هجرية حين تفوقت قوات المأمون على جيش الأمين وانهار حكمه، وجرت معركة في محلة الشماسية في الجانب الغربي من بغداد (شارع حيفا في الكرخ الآن).
بلغ عدد العيارين الذين تصدوا لقوات المأمون نحو مائة ألف، وبعض المؤرخين يشكّون في هذا العدد. لكن الواقعة اشارت الى ان عدد القتلى من العيارين في هذه المعركة وصل الى حد الإبادة (5). ويغطي العيارون رؤوسهم بخوذ أو قلانس سوداء مصبوغة اخفاء لوجوههم وبعضهم يظهرها. وتكسو الجزء العلوي من أبدانهم ثياب جرداء او قمصان من الخيش، والجزء السفلي من البدن يحيط به مئزر يشد في وسطه الهميان أو (التكة) وتحته سروال. ولا ينتعل العيارون شيئا بأرجلهم، فهم حفاة منذ ان يولدوا حتى يقتلوا. فالتحفي أسهل لهم في المقاتلة وسرعة الحركة. لكن أغلب الباحثين يعتقد ان لباسهم يدل على شدة فقرهم وفيهم من قاتل نصف عارٍ.
واستخدم العيارون شارات وعلائم غلب عليها اللونان الاحمر والاصفر وهي من جلائل وشارات وبيارق. وفي حالات الاستنفار يستخدمون أبواق القصب وقرون البقر ينفخون فيها للنفير، وحالما يسمعون اصواتها يجتمعون تحت رايات من خرق معقودة على رماح من قصب او من الطرفاء تميز فيالقهم.
واستخدم العيارون السلاح البدائي في مواجهة الجيوش النظامية. وكل عيار يستخدم يديه الاثنتين في الحرب. ولكل يد سلاح، ففي اليد اليمنى يستخدم رمحا حادا من القصب او مسنا من الفولاذ او يد مكنسة (عصا المكنسة) او هراوة او لجاما من الجلد او الحبال في مؤخرته قطعة حديد. وفي اليد اليسرى يستخدم المقلاع لرمي الحجارة على جيش العدو فتصيب جنوده إصابات بالغة. او بارية وهي أشبه بالدرع المحشو بالحصى والرمل مصنوعة من الحلفاء والخوص لتكون درعا وترسا يصد بها السهام والسيوف، ومن كثرة استخدام العيارين لهذا النوع من الدروع وصفوا بأصحاب البواري. أما تحت الابط فيضع العيار مخلاة مليئة بالحجر والحصى الصلب الكبير والآجر.
ويكمن العيارون ويختفون او يتربصون بأعدائهم في المساجد والحمامات وأزقة الأسواق والطرقات الضيقة والخرائب المهجورة والمقابر والدمن والأدغال والكهوف والبراري حتى يمكن استيعاب أعدادهم (6). فهم يجيدون حرب الشوارع في المدن.
معاشاتهم وغنائمهم
ويعتمد العيارون في معاشاتهم على غنائم الحرب والأتاوات والمكوس التي يفرضونها على أثرياء القوم أو على خصومهم، وعلى ما يحصلون عليه من السلب والنهب. وتشير وقائع الحرب بين الأخوين الأمين والمأمون عام 197 هجرية الى ان الأمين اثناء اعتماده على العيارين عجز عن تدبير النفقة والمعاشات لهم لعدم وجود مال يكفي للحرب. وكادوا ينفضون عنه ويتركون الدفاع عن بغداد. لكن أحد قواده (حاتم بن الصقر) المسؤول عنهم أباح لهم النهب (الفرهود كما حصل في بغداد أيام الحرب) وأباح النهب لكل من يلوذ بهم. فنهبوا كل شيء وأقبلوا على حرب جنود طاهر بن الحسين (جيش المأمون) في معركة محلة باب الشماسية وغنموا منهم الكثير من المتاع والخيل والسلاح كما يذكر الطبري.
وتشير أحداث ذاك الزمان الى انه بعد ان آلت الخلافة إلى المأمون تفاوض معهم لتجنب ضررهم وغض الطرف عن أعمالهم في أول سنة حكمه. ويقول الطبري: «ان فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا، واظهروا الفسق وقطع الطريق، وأخذ الغلمان والنساء (خطفهم) علانية من الطريق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل ان يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك.
ولا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن وعلى الظهر (الدواب) ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم. ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا الى قطريل (وهي ناحية في بغداد الغربية تقع قرب موقع أبو غريب الحالي) فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وادخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية (جعلوا لهم سوقا للمنهوبات كما هي الحال الآن في اسواق المنهوبات في بغداد) فجاء أهلها واستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه أعداؤه نصره عليهم، ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان (مارس 817).
يوم سيطروا على بغداد
ظل العيارون أوفياء للخليفة الأمين في أحلك فترات حياته ولم يتخلوا عنه كما فعل أقرب المقربين اليه(7). وعندما باتت العاصمة بغداد على وشك السقوط ليلة الخميس 25 محرم سنة 198 هجرية (5 سبتمبر 813 ميلادية) دخلوا عليه ونصحوه ـ كما يقول الطبري والمسعودي وابن الاثير ـ قالوا له: «يا أمير المؤمنين، ليس معك من ينصحك ونحن سبعة آلاف رجل مقاتلة، وفي اصطبلك سبعة آلاف فرس، يحمل كل منا على فرس، ونفتح بعض أبواب المدينة، ونخرج في هذه الليلة، فما يقدم علينا أحد الى ان نصير الى بلد الجزيرة وديار ربيعة (الموصل) فنجيء بالأموال ونجمع الرجال، ونتوسط الشام وندخل مصر، ويكثر الجيوش والمال، وتعود الدولة مقبلة جديدة». فقال الأمين لهم:
«هذا والله الرأي» فعزم على ذلك وهم به وجنح اليه. فبلغ الخبر الى طاهر بن الحسين قائد جند المأمون عن طريق جواسيسه فاستهوله لسداد الرأي الذي ظهر من العيارين. فبعث سرا الى سليمان بن أبي جعفر والى محمد بن عيسى والى السندي بن شاهك وهم من كبار رجال حاشية الأمين (لكنهم يلعبون على الحبلين، علنا مع الأمين وسرا مع المأمون) يهددهم بالانتقام اذا لم يثنوا الأمين عن عزمه ومنعه من تنفيذ رأي العيارين، فخشي هؤلاء انتقام طاهر بن الحسين وليؤمِّنوا مصالحهم. فذهبوا الى مولاهم الأمين يقنعونه بالتخلي عن رأيه وترك خطة العيارين.
فوافق ورضخ ومال لرأيهم فكانت بذلك نهاية حكمه، اذ بعد استسلامه واندحار جيشه وهزيمة العيارين ذبحه نفر من خونة جنده وأخذوا رأسه الى طاهر بن الحسين، فسير المأمون رأس أخيه المذبوح الى خراسان فنصبه على رمح هناك للفرجة وأمر الجند بلعنه فأفرطوا في لعن أخيه، ثم كفهم عن ذلك وأرجع الرأس الى بغداد فدفن مع الجثة! وبقي المأمون يحكم بغداد من مقر اقامته في مرو قاعدة إقليم خراسان، ولكن بعده هذا عن عاصمة الخلافة وعدم وجود حكومة قوية في بغداد جعلا مقاومة العيارين لحكمه تطول وينضم اليهم بعض عامة الناس.
ففي سنة 198 هجرية (يوليو 814 ميلادية) وكان قد مر عام على خلافته ثار العيارون مؤيدين جماعة الحسن الهرش التي كانت ترفع شعار «الرضى من آل محمد». لقد ساند العيارون حركة الهرش وسيطروا على أجزاء كبيرة من بغداد ثائرين على نائب المأمون الحسن بن سهل، وأغاروا تحت قيادة الهرش على النواحي والقرى وجمعوا الغنائم والأموال، ولكن المأمون سيَّر لهم حملة عسكرية بقيادة أزهر بن زهير بن المسيب الضبي ففتك بالهرش وبالعيارين وشتت شملهم.
لكن سياسة الحسن بن سهل نائب المأمون كانت سيئة جعلت أهل بغداد وعامة الشعب تنفر منه. فالفقر والغلاء والقحط كانت من صفات عهده، لا خدمات ولا معاشات ولا جرايات. فاستغل العيارون سخط العامة على حكومة بغداد آنذاك وحرضوا الناس على الثورة والتمرد وجعلوهم يطالبون بعزل المأمون ونائبه ومبايعة عمه ابراهيم بن المهدي (202 هجرية ـ 817 ميلادية) الذي كان من كبار الفنانين الموسيقيين في ذلك العصر. وبارك العيارون رغم كرههم للغناء والموسيقى هذه البيعة ليس حبا بالفنان الموسيقي انما نكاية بحكومة المأمون، ودام التمرد سنة، ولأن الفنان الموسيقي لا يصلح للحكم ولا للسياسة فقد هرب ابراهيم بن المهدي واختفى في بيت احد العيارين، بعد ان سير المأمون جيشه لاسترداد عاصمته من العيارين وابتاعهم من عامة الناس.
ورجع الى العاصمة وجعلها مقرا له من ذلك اليوم بدلا من مرو عاصمة خراسان. وأعلن عن جائزة مقدارها ألف دينار ذهبا (تساوي مليون دولار في هذا الزمان) لمن يقبض على عمه ابراهيم بن المهدي الذي لقبه العيارون بلقب «المبارك». لكن العيارين رفضوا الجائزة رغم الاغراء ولم يسلموا العم الى المأمون. ودخل المأمون بغداد في 16 صفر عام 204 هجرية (سبتمبر 819) ونكل بالعيارين وسجن البعض منهم وقتل البعض الآخر. لكن حركات العيارين لم تهدأ. وظلت تختفي وتعود أكثر قوة. كلما ضعفت الدولة واصبحت الحكومات بيد السماسرة والمرتشين والضامنين أموال الخاصة من حكام بغداد في الزمن العباسي.
فكان العيارون يعتاشون على السخط وعلى تأييد العامة لكل معارضة للحكومات التي تتجاهل خدمات الناس. فكانوا يزيدون الاحوال سوءا. ويجعلون الناس كمن يستجير من الرمضاء بالنار. وتوالت حركاتهم وأصبحوا في سياق لعبة السلطة حين دخل الأتراك والفرس في بطانة الدولة العباسية وسيطروا على مقدراتها فكان العيارون مرة مع هذا الجانب ومرة مع ذاك تستغلهم قوى النفوذ السياسي. فمن مفارقات تاريخهم انهم وقفوا في بداية قتالهم لجيش المأمون ضد قائده طاهر بن الحسين وفي مرة أخرى في زمن المستعين بالله (248 هجرية ـ 862 ميلادية) وقفوا مع حفيده محمد بن عبدالله بن طاهر بن الحسين حاكم بغداد في عهد المستعين، في غمار الصراع على السلطة بين المعتز بالله والمستعين بالله!.
وسيطر العيارون على بغداد التي خضعت لحصار امتد اكثر من عام، وأعطاهم حاكم بغداد السلاح والمعاشات ليدافعوا عن بغداد، وبرزوا تحت امرة قوادهم (أبو جعفر بتنويه ودونال ودمحال وأبو نملة وأبو عصارة)، واستعرضوا قواتهم بالتراس والسلاح وبعد معارك ذلك الحصار بين جيش العيارين وجيش المعتز بالله تمكن الاخير من النصر ودخول بغداد وبويع بالخلافة وتشتت جمع العيارين.
ترى ما أشبه اليوم بالبارحة رغم اختلاف الزمان ومتغيرات المكان، لكن الناس ظلوا على طباعهم. وظلت بغداد تحت سطوة العيارين بين حين وآخر.
الهوامش:
(من 1 ـ 7) العيارون والشطار البغداديون في التاريخ العباسي ـ د. محمد أحمد عبدالمولى. > تاريخ الطبري ـ ابو جعفر محمد بن جرير. > المستطرف من كل فن مستظرف ـ شهاب الدين أبو الفتح الأبشيهي. > الكامل في التاريخ ـ ابن الأثير.